تابع٢
(16)
في أول اجتماع لجماعة الصحافة دخلتُ حجرة مكتب الأستاذ الدكتور بقسم النحو المشرف على الجريدة، واتخذت مكاني وسط عدد قليل ممن حضر من أعضاء الجماعة. كنا نجلس بغير انتظام أمامه على طاقم مقاعد الجلوس الجلدي. جميعهم من طلاب وطالبات لم أكن أعرفهم من قبل, ولم تصادفني وجوههم- مرة - أثناء التنقل بين المدرجات والقاعات والطرقات. ولم يكن هذا مهمًا عندي وقتها، فعمل كل واحد منا منفصل عن الآخر، المهم هو التركيز مع الدكتور لفهم طبيعة العمل والاستفادة من التوجيهات في إعداد المادة الصحفية للجريدة.
على يمين الدكتور كانت تجلس- بثقة - امرأة لا يبدو عليها اضطراب أو شرود أو قلق بما يحيط بنا من تجربة جديدة ونحن في هذا المقام من التجمع والتحلق حول الدكتور. بدا لي أنها ربما تكون سكرتيرة لمكتبه، أو مندوبة من جريدة الجمهورية التي ستقوم بطبع جريدة (الدار)، أو... أو... فحين دخلتُ وجدتها تجلس على طرف المكتب في وضع استعداد لتسجيل ما قد يمليه الدكتور عليها. كفها الأيمن ملفوف بضمادة لكسر أو شرخ أو ما شابه، وفي إصبع كفها الأيسر دبلة زواج.
بعد انتهاء الاجتماع جمعني بها وبطالبة من نفس دفعتي- لم أكن أعرفها أيضًا- لقاء وحديث، فكان هذا اللقاء إيذانًا ببداية صداقة متينة وعلاقة طويلة امتدت بيننا لسنوات، حتى صارتا أثمن ما خرجتُ به من جماعة الصحافة بل من الكلية. عرفت أثناء الحديث ما أثار دهشتي غاية الدهشة، حيث كانت المفاجأة والمفارقة أن هذه السيدة طالبة بالفرقة الأولى، فظننت أنها ربما تكون في الفرقة الأولى لكنها تكبرنا بأعوام لأسباب خاصة تسببت في تأخرها الدراسي، لكنها أخبرتني عن عمرها وسنينها التي تصغرني بها فعليًا بسنتين. عرفت – أيضًا – أنها تسكن معي في المدينة الجامعية، فاندهشت مجددًا لكونها تسكن المدينة وهي متزوجة، على الأقل لأن لوائح المدينة تمنع هذا، فزادتني من المفاجآت التي ظلت تتوالى عليّ وأخبرتني أنها ليست متزوجة، وفسرت وضع الدُبلة في أصبع كفها الأيسر كالمتزوجات بأنها اضطرت إلى نقل دُبلة الخطوبة إلى إصبع كفها الأيسر بسبب الإصابة التي في كفها الأيمن، من يومها لم نفترق.
بدأتْ تزورني في حجرتي على فترات ما لبثت أن تطورت بفعل توطد علاقتنا إلى زيارة شبه يومية، ثم إقامة لا ينقصها سوى المبيت رغم عدم وجود ما يمنع هذا، فهي لم تلق من شريكاتيّ في الحجرة إلا كل الرحب والسعة. مرت الأيام وقد صارت الصديقة التي تربطني بها علاقة متميزة جدًا وفريدة جدًا لا تشبهها علاقة أخرى. كان أهم ما يميز علاقتنا أنها كانت على درجة تشبع داخلنا الجوانب العقلية والإنسانية والفكرية، فكان لأحاديثنا طابع خاص ومغاير. كانت الأحاديث تمتد بنا إلى ساعات لا نشعر معها بالوقت؛ لذلك كنا نخرج في كثير من الليالي إلى حديقة المدينة لنبدأ سهرتنا وأمسيتنا مع وجبة دسمة من الأحاديث التي تتفرع بنا في أمور شتى، فلم يكن من اللائق القيام بهذا في الحجرة تحاشيًا لإزعاج شريكاتي، تحكي لي عن كل ما يمر بها في يومها، داخل الكلية وخارجها. لم يمنعنا برد الشتاء عن مواصلة أمسياتنا، وقد كنا نستعين عليه بارتداء الروب الشتوي الثقيل وغطاء الرأس. كنا نجلس على خضرة الأرض أحيانًا، وعلى المقاعد الحجرية أحيانًا أخرى. كنت بعد انتهاء أحاديثنا التي كانت تمتد بنا إلى ساعات متأخرة لا أدخل المبنى الخاص بي- المبنى السابع- قبل أن أراها تدخل مبناها – المبنى الثامن – كي أطمئن عليها، وكنت أقف لها وأدعوها إلى التحرك إلى مبناها أولًا أمام عيني، وكنت أقوم بتسليتها وهي تسير وحدها في سكون الليل متجهة إلى مبناها بأن أغني لها: (اتبختري واتميلي يا خيل وارقصي وايا عرايس الليل) وهي- بدورها- كانت تتمايل في مشيتها وتتبختر، حتى إذا ما بلغت باب مبناها تقوم بعمل إشارة مَرِحة بأن تطلق زغرودة عالية ثم تدخل المبنى، وأدخل أنا مبنايا الذي كان مقابلًا لمبناها.
كنت نادرًا ما أزورها في حجرتها، فلم نكن في حاجة إلى ذلك، لكن أحيانًا كانت تمسكها عن المجيء إلينا عوارض، فكنت أذهب إليها وأمكث عندها وقتًا قصيرًا، ولم يكن غرضي من زيارتها رؤيتها فحسب، لكن لكي أطمئن على وضعها في حجرتها مع شريكاتها. زرتها مرة في حجرتها في مبنى الفرقة الأولى – المبنى الثامن-فوجدت أنها ليست مع من يناسبها تمامًا، أخلاقهن كانت بادية عليهن. واحدة منهن أخبرتني أنها شاعرة، وعندما تلت علينا شيئًا مما تكتب، عرفت وقتها كيف يمكن للأدب أن يكون قلة أدب، بل لم يكن يمثل الشعر في شيء، والفتاة –مع ذلك- كانت تشارك في ندوات، ومعروفة لدى الآخرين أنها شاعرة. كانت فيما تلت علينا تصف شعورها تجاه أحدهم من واقع تصور فتى الأحلام، فجاء كلامها منحطًا غاية الانحطاط وسافلًا غاية السفالة، كانت تقوله بلا حياء أو خجل. وأنا وصديقتي نتبادل نظرات التحسر على الشعر والأخلاق معًا، نتابع ما تقول بتقزز لا يلحظه غيرنا. فماذا يمكنني أن أقول بعد أن تنتهي؟
في مثل هذه الحالات أصمت، فالصمت هنا أفضل من مجاملة تخالف الذوق والضمير، ويمكنني أيضًا التعليق بكلام عام ثم أدخل في موضوع آخر. وعندما قمت بزيارة صديقتي في العام التالي في المبنى الثاني الخاص بالفرقة الثانية، تعرفت على شريكتها في الحجرة، كانت فتاة مرحة ضحوكة لطيفة، تتحدث بحماس وسرعة، أخبرتني صديقتي وهي تقدمها لي أنها تكتب الشعر، فأسمعتنا بعضًا منه، فوجدته شعرًا رائقًا بديعًا، ينبىء عن شاعرة جيدة، أثنيت عليه، فكانت هذه الفتاة هي نفسها –الآن- شاعرة مصر الشهيرة الدكتورة شيرين العدوي.
***
(17)
لن أصف صديقتي بالشخصية الفريدة؛ فقد يضيق بها هذا الوصف، والأقرب إلى الصواب وصفها بالكائن أو المخلوق العجيب، فقد رأيتها نسيج وحدها في كل من عرفتهن دون انشغال بتحليل هذا النسيج وفهم دقائقه ومكوناته، ودون فتح أى مجال للحديث بيننا عن أنفسنا، وعن ماذا يرى كل منا في الآخر وكيف يراه. فقد كنا نتحدث في كل شيء إلا عن أنفسنا. لكني أستطيع الآن وبعد مرور هذه العقود من الزمن التغلغل داخلها ووصفها بدقة وصفًا يطابق رؤيتي لها وما وقع في نفسي عنها، وليس من الضروري أن تطابق رؤيتي هذه الحقيقة؛ يكفيني أنني رأيتها هكذا. هي مزيج من ثلاثة مكونات؛ أولها إنها تنتمي إلى بيت عريق في الأصول والتقاليد والحَسَبْ، عرفتُ ذلك دون أن يتطرق بنا الحديث إلى أهلها - أو أهلي - إلا بالقشور التي لا تتعدى الأسماء وبعض الكلمات عن هذا أو ذاك، لكن شكلها ومضمونها أخبراني بذلك في وضوح. مهذبة غاية التهذيب، راقية غاية الرقي، ليس فيها طمع أو جشع أو مكر أو خبث. عندما تتعامل معها تشعر أنها انحدرت من بيئة مشبعة بالخير والعز والتقاليد. فهي لم توافق على الإقامة الكاملة معنا تحاشيًا للإثقال علينا أو مزاحمتنا في الحجرة، رغم ترحابنا وتشجيعنا لها على ذلك. وكان يزعجها عدم مشاركتنا في الإنفاق على ما نجلبه من السوق من طعام أو لوازم، وكنت أشدد في المنع من ذلك لأنها ضيفتنا. وكم من مرة أدخل الحجرة ولا أجد البوتجاز، ثم أراها بعد قليل تدخل علينا وهو معها في شنطته التي نهربه فيها من الحارس في أجواء مليئة بالمغامرات المضحكة، فقد كانت تأبى إلا أن تأخذ دورًا في تناوبنا - نحن أصحاب الحجرة - على تزويده بالغاز من السوق.
ملابسها رغم أناقتها التي تساير الأزياء العصرية محتشمة فضفاضة، تغطي رأسها وجميع جسدها ما عدا الوجه والكفين. وحسنًا قد فعلت، فقد أبقت على الرجال - والنساء - عقولهم أن تُذهل وحفظت بصرهم أن يغشى، إذ كيف يكون حالهم إن هي ظهرت أمامهم دون احتشام؟! بل كيف تتحمل الأرض ألا تتزلزل بخطوها عليها؟!
نعم، صديقتي جميلة، وهذا هو المكون الثاني في تركيبتها. وكان من الممكن أن تميل إلى التباهي بما حباها الله به من تفاصيل جسمانية لا مثيل لها لولا أنها من بيت أصيلٍ عالٍ. تستطيع أن تعرف معها أهمية وضرورة احتشام المرأة وسترها، وكيف أنه يقي المجتمع من فوضى سوء الخلق.
بعد أن تفرقت بنا السبل سافرتْ مع زوجها إلى الكويت، أرسلت لي صورة لابنتها – ما زلت أحتفظ بها إلى الآن –التُقطت وصديقتي بجوارها، لم يظهر منها سوى كف اليد. الصورة كانت مبهجة جدًا بجمال وجه الطفلة وابتسامتها اللطيفة وبما وراءها من خلفية لمنزل فاخر.
لقد سرني كل هذا حقًا، لكن أكثر ما سرني هو عدم ظهور صديقتي في الصورة؛ فأنا أفهم أنها -رغم الثقة- لا تعرف من ستقع في يده الصورة، وتدرك أنه يصح ألا تظهر في الصورة. وهي – بذلك عندي- قد سلكت سلوك الأكابر.
لم يكن من العجب أنها بيضاء شديدة البياض، ولا أن عينيها زرقاوان، ولا أن ابتسامتها وردٌ وعُناب، فهي من المنصورة، وكنت أحيانًا أمازحها بالتعليق على ملامحها هذه بالإشارة إلى الطُرفة الشهيرة التي تُروى عن إقامة ملك فرنسا لويس التاسع في المنصورة. لكن كان العجب في ضخامتها وضخامة أطرافها العلوية والسفلية، فقد كانت زائدة عن الحد. كانت - حقيقةً - مدهشة وبخاصةٍ حين تتخلى عن احتشامها بيننا في المدينة. حتى إن جارتنا حين دخلت حجرتنا مرة لحاجة، ورأتها مستغرقة في النوم على سريري وناموسة تحوم حول جسدها، أخذت تهش الناموسة معلقة بأن مثل صديقتي يجب ألا تترك هكذا، فلا بد لمثلها أن يوضع في محمية طبيعية.
عندما عرفتها أكثر زال العجب من هذه الضخامة الزائدة، وهو نفسه المكون الثالث والأهم في تركيبة صديقتي. فمنذ أن عرفتها وإلى الآن ينتابني إحساس بأن (الدنيا ليست على مقاسها)، أو كأنها جاءت إلى الدنيا رغمًا عنها، وكنت أتصور القَابِلة كيف كانت تشدها من بطن أمها شدًا وتجرها جرًا وهي ترفض النزول، فلما لم تجد من المجيء بدًا نزلت. لكنها عاشت تساير أيامها وتساير البشر، تحاول الاندماج وتحاول العمل، تصنع كل شيء مثل الناس لا لشيء سوى أنها مضطرة أن تشببهم لتعيش بينهم. منحها الله وفرة في أشياء كثيرة، منحها بسطة في الجمال وحجم الجسم، حتى في الاسم، فلم يكن على منوال أسمائنا المعتادة، أعطوها اسم جدتها ذا الفخامة والعراقة فجاء من نظم الشعر على وزن (عظيمة)، لكنها آثرت أن نناديها بغيره، اسم نحتتْه من اسمها على سبيل (الدلع) فجاء غاية في الدلع. وعلى الرغم من أننا ونحن زميلات الدراسة يصعب علينا إلا مناداتها باسمها الرسمي، فإننا قد نسينا تمامًا اسمها الأصلي وأصبحنا كأننا لم نعرفها إلا باسمها الآخر الخفيف، على الرغم أيضًا من أنني أرى أن اسمها الرسمي يتناسب في فخامته مع فخامة تكوينها وأنه هو الأليق. وما لبثتْ أن أضفت صديقتي على اسم الدلع هذا مسحة من الفخامة والأصالة والقبول على غير المعتاد.
كنت أرى في سرها العميق الذي ربما لم تدركه هي أنها لم تحظ في الدنيا بما يليق بها، ولا يوجد ما يليق بها، فترضى صاغرةً بما يأتي في طريقها على سبيل الاستسلام، فلا هدف ولا طموح ولا رغبة في شيء محدد. لم تكن تهتم بدروسها ولم تنشغل بنتيجة أخر العام، فلم أرها تعكف على دروسها إلا ليلة الامتحان. وكان لهذه الليلة طقوس خاصة، حيث كانت ليلة امتحانها هي الليلة الوحيدة التي تؤثر أن تقضيها معنا في الحجرة. حيث نكون قد عدنا من امتحاننا في فرقتنا الأعلى منها، فكانت تنام على سريري من بعد العصر إلى دخول المساء، فتقوم لتراجع المقرر الذي ستمتحنه في الغد والذي تتعرف عليه للمرة الأولى، واصلة الليل بالصباح، ثم تذهب إلى الامتحان. وكان هذا السلوك يزعجني جدًا؛ لأني كنت أشفق عليها من السهر والمواصلة إلى عصر اليوم التالي. وفشلت معها في تغيير هذا السلوك. كانت تهتم بغذاء العقل والفكر أكثر من غذاء المعدة. فلم أسمعها -إلا فيما ندر- تصرح بأنها جوعى. كانت عندما نجلس على الأرض لتناول الطعام، تتكيءعلى يد وتأكل بالأخرى. تأكل بيد واحدة، تأكل لأنها لا بد أن تأكل. كانت عندما تحضر ندوة شعرية تعود وهي تحفظ أبياتًا كثيرة مما أعجبها، تتلوها علىّ وهي تحكي لي كعادتها عن كل شيء. لكن لم يكن لخطيبها نصيب من حكاياتها أو أحاديثها، نعرف أنه ابن عمها وكفى. حتى في هذا وقع في نفسي أن هذا الارتباط إنما تم تحت عباءة انصياع ابنة الأصول إلى تقاليد بيت الأصول، وباستسلام الزاهدة في هذه الدنيا.
لست أدري ما الذي يمكن أن يجعل صديقتي راضية عن وجودها في الدنيا؟ لست أدري ما الذي يكفيها ويوازي قدراتها التي أرى فيها بها شخصية الملكة كليو باترا؟ هي تشبه -عندي- كليو باترا غير أن صديقتي جميلة.
***
(18)
لم تكن علاقاتي في المرحلة الجامعية تقتصر على رفيقاتي الثلاثة اللائي كن معي في المدينة الجامعية . فقد كانت لي صديقة من الكلية أيضًا، عرفتها في الاجتماع الأول لجماعة الصحافة تزامنًا مع صديقتي المنصورية ، حيث جمعنا حديث عقب الاجتماع دون سابق معرفة بين ثلاثتنا. كانت من نفس فرقتي . صحيح أنها لم تكن تسكن معنا في المدينة الجامعية ، لكنها كانت مثلنا مغتربة . كان لها وضع خاص وطبيعة خاصة أيضًا، تختلف عني وعن شِلتي. جاءت من الأسكندرية مخلفة وراءها الأم وإخوة ليسوا أشقاء ؛ ذلك لأن الأم تزوجت عقب وفاة الزوج بأخيه . لم تكن تتحدث عنهم ، المرات القليلة التي كان يرد فيها ذكرهم يهيئ لي أنه كان يمر باقتضاب وسرعة ومسحة من الاضطراب تثير انتباهي . كانت تسكن مع جدتها وعمها في بيت للعائلة بالمهندسين . المستوى المادي والاجتماعي عالٍ بشكل ملحوظ .أستطيع أن أتبين أنها من طبقة اجتماعية تختلف عن طبقتي. يبدو هذا في ملابسها وهيئتها وأسلوب معيشتها وطبيعة أحاديثها ، لكنها كانت إنسانة بسيطة جدًا مثلما كانت صديقتي المنصورية متواضعة جدًا . لست أدري إلى الآن ما الذي جذبني إليها وشجعني على مصاحبتها والائتناس بها؟ هل خفة ظلها ومرح حديثها ؟ أم رجاحة عقلها ورزانتها ؟ أم إحساسي الغالب بخبرتها الواسعة وكأنها قد سبقتني إلى الدنيا بعشر سنوات ؟ أم تعاطفي مع مسحة الحزن والتمزق والشعور بالوحدة التي آراها من طرف خفي ، رغم أنها تخفي كل هذا خلف ابتسامة لا تفارق وجهها ورغم ضحكاتها الرنانة ؟ لست أدري ولم أحاول البحث عن جواب .
كانت مزيجًا عجيبًا من المتناقضات . فهي حزينة وكأنها تخفي أسرارًا تمس صميم حياتها الأسرية ومع ذلك نرى جميعًا أن أبرز ما يميزها ضحكها ومرحها . كانت محتشمة ترتدي ملابس كاسية وغطاء للرأس والصدر أي كما نقول : محجبة ، لكن كانت ملابسها لافتة بألوانها الزاهية وشبابيتها وعصريتها ، تشمر دائمًا أكمامها قليلًا إلى المعصم ، كاشفة عن حُليّها وزينتها. لم تكن جميلة لكنها ترغمك أن تراها جميلة ، ممتلئة عريضة دون أن ينقص هذا من رشاقتها وخفتها. لا يمكن أن أتصور أن مثلها يمكن أن تكون من شلتي، فضلًا عن أن تكون صديقتي . كانت متحركة لكن رزينة ، جريئة لكن متحفظة ، وحيدة لكن كثيرة بنفسها ، ماهرة ذكية لكنها ليست متفوقة في الدراسة. فيها طفولة وشباب وكهولة . تفرض تميزها وخصوصيتها –دون وعي ودراية- بين أفراد الشلة . نستطيع أن ننحي كل ما سبق في جانب لنفسح لتميزها بصوتها الجميل جانبًا وحده ، وبخاصة حين كانت تضحك. صوتها رائع ساحر فيه شقاوة وخفة روح وجدية في آن. كان صوتها العالي برنته الجميلة وأسلوب كلامها يهدد أحيانًا هيبة شلتي بين ردهات الكلية . حين كنا نعرض على الدكتور المشرف على الجريدة الموضوعات والتحقيقات التي نفكر أن نكتبها ، اختارت أن تكتب عن : الابتسامة الغائبة..إلى متى؟! . أتذكر وقتها نشب خلاف وجدل واسع حول هذا الموضوع بين الدكتور المشرف وصديقتي وممثل الجماعة الإسلامية قي اتحاد الطلاب ، الذي كان معترضًا على هذا الموضوع ، ويرى أن مساحة الجريدة جديرة بموضوعات أهم من البحث عن الابتسامة الغائبة .وكأن الدنيا ستنقلب بهذا الموضوع . وكان مما طرحه هذا الممثل من مسوغات الاعتراض تشبيهه الموقف بإنسان عارٍ، ثم يتساءل: أيهما أهم لهذا الإنسان وأولى ؟ هل يصح أن أتركه هكذا وأعطيه جوربًا يرتديه في قدمه ؟! هنا ردت صديقتي المنصورية باستنكار واستخفاف : هل خلت قريحتك إلا من هذا التشبيه السخيف؟ !
وحُسم الجدل لصالح الموضوع . وجاء في افتتاحيته : لقد أغفل الإنسان الجانب المعنوي في حياته، وجعل الماديات هي التي تسيطر وتهيمن على حواسه ،ومن ثم امتلأت حياتنا بالمشاكل التي كثيرًا ما نقف أمامها وعلى وجوهنا ترتسم علامات استفهام. ولعل أبسط شيء يميز الجانب المعنوي ويعكس ما بداخل الإنسان من أحاسيس هو الوجه وتعبيراته من بشاشة وابتسام أو عبوس. ومما يلفت الأنظار ويثير الانتباه أن معظم الوجوه تختفي وراء ستار من الكآبة لا داعي له خاصة وأننا نعيش في ظل ظروف صعبه تتطلب من الإنسان أن يقابلها بهدوء وابتسام حتى يجتازها بسلام، لكن الغريب أن معظم الناس يتعمد إظهار تلك الكآبة وكأنهم سيدفعون ضريبة لو ابتسموا؛ لهذا رأيت أنه لابد من وقفة مع الوجوه لنعرف ...
فهل كانت صديقتي تتحدث عن نفسها؟
وللحديث بقية ...
***
(19)
صارت الصديقة السكندرية -في وقت وجيز- واحدة من أفراد شلتي ، فسرعان ما حدث تعارف وانسجام . كانت تجمعنا وتفرقنا طرقات الكلية والمحاضرات ، حيث كان تقسيم الفرقة إلى شعب ، وحيث لم تكن الصديقة المنصورية في نفس فرقتنا . لكن كنا حين نلتقي بعضًا أو كلًا نشعر بالألفة . وقتها اكتشفتُ أن صديقتي السكندرية لم يكن لها شلة من قبل ، ولم تكن لها علاقات أو صُحبة رغم أنها كانت في الفرقة الثالثة. كانت هذه الشلة المكونة من خمسة أفراد هي خلاصة مكتسباتي ، وزاد الطريق الذي أعانني على تحمل سنوات الاغتراب وأيامه، بل أضفى على أيامي حياةً وجمالًا وأُنسًا. ظل القدر يمنحني كل فترة واحدة منهن -منذ أول عهدي بالمدينة – حتى اكتمل لدي عقد الماس في هذه الصحبة ، وكنت أنا واسطة العقد التي تربط حباته . فقد كانت لي علاقة خاصة بصديقتي السويسية متفردة عن باقي الشلة ، ثم علاقة أخرى تجمعني بها مع الشريكة الدمياطية ، حتى ضممتُ إليهما المنصورية ؛ فجمعتنا نحن الثلاثة علاقة ، في حين كانت تجمعني بالمنصورية وحدها علاقة أخرى خاصة ومتفردة . ثم ضممتُ الصديقة السكندرية إلى شلة المدينة ، وكانت تربطني أنا وهي والصديقة المنصورية علاقة خاصة من جهة، و تربطني بالسكندرية وحدها علاقة خاصة متفردة من جهة أخرى. كانت شلة عجيبة في طبيعة تكوينها . أستطيع القول بلغة الرياضة الحسابية : كنت أنا القاسم المشترك بينهن . وبلغة الكيمياء : كنت العامل المساعد .
الأكثر عجبًا أن الشيء الذي كان يجمعني بإحداهن يختلف تمامًا عما كان يجمعني بغيرها من أفراد الشلة . كنت أشعر مع كل واحدة بطبيعة مغايرة ، وروح مغايرة، وشكل مغاير للعلاقة ؛ فكنت بذلك الوحيدة التي فازت بالنصيب الأكبر من الصداقة ، و تكوين علاقات كثيرة من شلة واحدة ، مما أضفى على سنواتي الأربع اتساعًا في التجارب ورحابة في الود والائتناس .
دعتني صديقتي المنصورية ذات مساء إلى حضور سيمنار في قسم علم النفس بكلية الآداب بجامعتنا . وتلك كانت من الاهتمامات والهوايات التي تجمعنا ، حيث كنا نحب حضور الندوات ولا سيما التي موضوعها علم النفس وما شابه. ثم دعتْ للحضور معنا الصديقة السكندرية ؛ فكانت دعوتها وأيضًا حضورها على سبيل التنزه وتغيير الجو . أخذتُ أنا وهي إذن تأخير من المدينة ، وجاءت السكندرية – ليلًا -من سكنها بالمهندسين . وكانت الصديقة المنصورية نفسها مدعوة إلى هذا السيمنار من أحد أساتذة كلية الآداب أثناء إجرائها تحقيقًا صحفيًا معه.
لم نكن نعلم –وقتها- الفارق بين السيمنار والندوة . دخلنا مدرجًا كبيرًا وسط حضور قليل ، اقتصر -بطبيعة الحال مع السيمنار- على أساتذة وأهل التخصص من هيئة التدريس ؛ فكان هذا المشهد هو أول صدمة تُلقى علينا ، ولم نبال . جلسنا في آخر المدرج هيبةً وربما رهبةً . الصدمة الثانية أننا لم نفهم شيئًا مطلقًا مما كان يدار من كلام ومناقشات . و كانوا –بالنسبة إلينا- كمن يتحدث اللغة اليابانية أو الصينية ، لم نفهم شيئًا حقيقةً . كنت أرى الواحد منهم يقف أمام منصة صغيرة يتحدث عن شيئ غير مفهوم . لا أعلم إذا كان يسأل أم يجيب ، حتى أتهمه بيني وبين نفسي أنه يقول أى كلام ، وحتمًا الجالسون لا يفهمونه أيضًا . ثم أتفاجأ من خلال المتحدث التالي أنه قد فهم ، بل ويرد عليه . وياللعجب أنني أيضًا لم أفهم رده . بعد مرور حوالي نصف الساعة الأولى نظرتُ إلى جارتيّ فوجدتُ على وجوههما علامات الذهول و التوهان واستشعار الغباء ، نسخة أصلية من الحالة التي انتابتني، كأن على رؤوسنا الطير . ثم بدأتُ أرمي بنظراتٍ من الوعيد لصديقتي التي ورطتني ، ثم أنظر إلى الصديقة السكندرية أجدها تتبادل معها نفس النظرات . وبين حين و آخر ترد علينا بنظراتٍ يملؤها الحرج أو الخوف من ردود أفعالنا عندما نستفرد بها . وكلما استفحل الغموض علينا نظرنا إليها ، وكلما وقف أحدهم ليتكلم ويخيب –مجددًا-أملنا في الفهم نظرنا إليها . ثم اتفقنا -بالإشارة –على الانصراف بل الهروب . وما إنْ خرجنا إلى ساحة الجامعة - حيث الليل والسكون والهدوء لخلو المكان من الطلاب والمارة –حتى انفجرنا بالضحك . أما الصديقة السكندرية فقد كنا نلملمها من الأرض من هستريا الضحك التي انتابتها. فصارت هذه الليلة من أجمل ما نختفظ به في ذاكرتنا و ذكرياتنا .
***
(16)
في أول اجتماع لجماعة الصحافة دخلتُ حجرة مكتب الأستاذ الدكتور بقسم النحو المشرف على الجريدة، واتخذت مكاني وسط عدد قليل ممن حضر من أعضاء الجماعة. كنا نجلس بغير انتظام أمامه على طاقم مقاعد الجلوس الجلدي. جميعهم من طلاب وطالبات لم أكن أعرفهم من قبل, ولم تصادفني وجوههم- مرة - أثناء التنقل بين المدرجات والقاعات والطرقات. ولم يكن هذا مهمًا عندي وقتها، فعمل كل واحد منا منفصل عن الآخر، المهم هو التركيز مع الدكتور لفهم طبيعة العمل والاستفادة من التوجيهات في إعداد المادة الصحفية للجريدة.
على يمين الدكتور كانت تجلس- بثقة - امرأة لا يبدو عليها اضطراب أو شرود أو قلق بما يحيط بنا من تجربة جديدة ونحن في هذا المقام من التجمع والتحلق حول الدكتور. بدا لي أنها ربما تكون سكرتيرة لمكتبه، أو مندوبة من جريدة الجمهورية التي ستقوم بطبع جريدة (الدار)، أو... أو... فحين دخلتُ وجدتها تجلس على طرف المكتب في وضع استعداد لتسجيل ما قد يمليه الدكتور عليها. كفها الأيمن ملفوف بضمادة لكسر أو شرخ أو ما شابه، وفي إصبع كفها الأيسر دبلة زواج.
بعد انتهاء الاجتماع جمعني بها وبطالبة من نفس دفعتي- لم أكن أعرفها أيضًا- لقاء وحديث، فكان هذا اللقاء إيذانًا ببداية صداقة متينة وعلاقة طويلة امتدت بيننا لسنوات، حتى صارتا أثمن ما خرجتُ به من جماعة الصحافة بل من الكلية. عرفت أثناء الحديث ما أثار دهشتي غاية الدهشة، حيث كانت المفاجأة والمفارقة أن هذه السيدة طالبة بالفرقة الأولى، فظننت أنها ربما تكون في الفرقة الأولى لكنها تكبرنا بأعوام لأسباب خاصة تسببت في تأخرها الدراسي، لكنها أخبرتني عن عمرها وسنينها التي تصغرني بها فعليًا بسنتين. عرفت – أيضًا – أنها تسكن معي في المدينة الجامعية، فاندهشت مجددًا لكونها تسكن المدينة وهي متزوجة، على الأقل لأن لوائح المدينة تمنع هذا، فزادتني من المفاجآت التي ظلت تتوالى عليّ وأخبرتني أنها ليست متزوجة، وفسرت وضع الدُبلة في أصبع كفها الأيسر كالمتزوجات بأنها اضطرت إلى نقل دُبلة الخطوبة إلى إصبع كفها الأيسر بسبب الإصابة التي في كفها الأيمن، من يومها لم نفترق.
بدأتْ تزورني في حجرتي على فترات ما لبثت أن تطورت بفعل توطد علاقتنا إلى زيارة شبه يومية، ثم إقامة لا ينقصها سوى المبيت رغم عدم وجود ما يمنع هذا، فهي لم تلق من شريكاتيّ في الحجرة إلا كل الرحب والسعة. مرت الأيام وقد صارت الصديقة التي تربطني بها علاقة متميزة جدًا وفريدة جدًا لا تشبهها علاقة أخرى. كان أهم ما يميز علاقتنا أنها كانت على درجة تشبع داخلنا الجوانب العقلية والإنسانية والفكرية، فكان لأحاديثنا طابع خاص ومغاير. كانت الأحاديث تمتد بنا إلى ساعات لا نشعر معها بالوقت؛ لذلك كنا نخرج في كثير من الليالي إلى حديقة المدينة لنبدأ سهرتنا وأمسيتنا مع وجبة دسمة من الأحاديث التي تتفرع بنا في أمور شتى، فلم يكن من اللائق القيام بهذا في الحجرة تحاشيًا لإزعاج شريكاتي، تحكي لي عن كل ما يمر بها في يومها، داخل الكلية وخارجها. لم يمنعنا برد الشتاء عن مواصلة أمسياتنا، وقد كنا نستعين عليه بارتداء الروب الشتوي الثقيل وغطاء الرأس. كنا نجلس على خضرة الأرض أحيانًا، وعلى المقاعد الحجرية أحيانًا أخرى. كنت بعد انتهاء أحاديثنا التي كانت تمتد بنا إلى ساعات متأخرة لا أدخل المبنى الخاص بي- المبنى السابع- قبل أن أراها تدخل مبناها – المبنى الثامن – كي أطمئن عليها، وكنت أقف لها وأدعوها إلى التحرك إلى مبناها أولًا أمام عيني، وكنت أقوم بتسليتها وهي تسير وحدها في سكون الليل متجهة إلى مبناها بأن أغني لها: (اتبختري واتميلي يا خيل وارقصي وايا عرايس الليل) وهي- بدورها- كانت تتمايل في مشيتها وتتبختر، حتى إذا ما بلغت باب مبناها تقوم بعمل إشارة مَرِحة بأن تطلق زغرودة عالية ثم تدخل المبنى، وأدخل أنا مبنايا الذي كان مقابلًا لمبناها.
كنت نادرًا ما أزورها في حجرتها، فلم نكن في حاجة إلى ذلك، لكن أحيانًا كانت تمسكها عن المجيء إلينا عوارض، فكنت أذهب إليها وأمكث عندها وقتًا قصيرًا، ولم يكن غرضي من زيارتها رؤيتها فحسب، لكن لكي أطمئن على وضعها في حجرتها مع شريكاتها. زرتها مرة في حجرتها في مبنى الفرقة الأولى – المبنى الثامن-فوجدت أنها ليست مع من يناسبها تمامًا، أخلاقهن كانت بادية عليهن. واحدة منهن أخبرتني أنها شاعرة، وعندما تلت علينا شيئًا مما تكتب، عرفت وقتها كيف يمكن للأدب أن يكون قلة أدب، بل لم يكن يمثل الشعر في شيء، والفتاة –مع ذلك- كانت تشارك في ندوات، ومعروفة لدى الآخرين أنها شاعرة. كانت فيما تلت علينا تصف شعورها تجاه أحدهم من واقع تصور فتى الأحلام، فجاء كلامها منحطًا غاية الانحطاط وسافلًا غاية السفالة، كانت تقوله بلا حياء أو خجل. وأنا وصديقتي نتبادل نظرات التحسر على الشعر والأخلاق معًا، نتابع ما تقول بتقزز لا يلحظه غيرنا. فماذا يمكنني أن أقول بعد أن تنتهي؟
في مثل هذه الحالات أصمت، فالصمت هنا أفضل من مجاملة تخالف الذوق والضمير، ويمكنني أيضًا التعليق بكلام عام ثم أدخل في موضوع آخر. وعندما قمت بزيارة صديقتي في العام التالي في المبنى الثاني الخاص بالفرقة الثانية، تعرفت على شريكتها في الحجرة، كانت فتاة مرحة ضحوكة لطيفة، تتحدث بحماس وسرعة، أخبرتني صديقتي وهي تقدمها لي أنها تكتب الشعر، فأسمعتنا بعضًا منه، فوجدته شعرًا رائقًا بديعًا، ينبىء عن شاعرة جيدة، أثنيت عليه، فكانت هذه الفتاة هي نفسها –الآن- شاعرة مصر الشهيرة الدكتورة شيرين العدوي.
***
(17)
لن أصف صديقتي بالشخصية الفريدة؛ فقد يضيق بها هذا الوصف، والأقرب إلى الصواب وصفها بالكائن أو المخلوق العجيب، فقد رأيتها نسيج وحدها في كل من عرفتهن دون انشغال بتحليل هذا النسيج وفهم دقائقه ومكوناته، ودون فتح أى مجال للحديث بيننا عن أنفسنا، وعن ماذا يرى كل منا في الآخر وكيف يراه. فقد كنا نتحدث في كل شيء إلا عن أنفسنا. لكني أستطيع الآن وبعد مرور هذه العقود من الزمن التغلغل داخلها ووصفها بدقة وصفًا يطابق رؤيتي لها وما وقع في نفسي عنها، وليس من الضروري أن تطابق رؤيتي هذه الحقيقة؛ يكفيني أنني رأيتها هكذا. هي مزيج من ثلاثة مكونات؛ أولها إنها تنتمي إلى بيت عريق في الأصول والتقاليد والحَسَبْ، عرفتُ ذلك دون أن يتطرق بنا الحديث إلى أهلها - أو أهلي - إلا بالقشور التي لا تتعدى الأسماء وبعض الكلمات عن هذا أو ذاك، لكن شكلها ومضمونها أخبراني بذلك في وضوح. مهذبة غاية التهذيب، راقية غاية الرقي، ليس فيها طمع أو جشع أو مكر أو خبث. عندما تتعامل معها تشعر أنها انحدرت من بيئة مشبعة بالخير والعز والتقاليد. فهي لم توافق على الإقامة الكاملة معنا تحاشيًا للإثقال علينا أو مزاحمتنا في الحجرة، رغم ترحابنا وتشجيعنا لها على ذلك. وكان يزعجها عدم مشاركتنا في الإنفاق على ما نجلبه من السوق من طعام أو لوازم، وكنت أشدد في المنع من ذلك لأنها ضيفتنا. وكم من مرة أدخل الحجرة ولا أجد البوتجاز، ثم أراها بعد قليل تدخل علينا وهو معها في شنطته التي نهربه فيها من الحارس في أجواء مليئة بالمغامرات المضحكة، فقد كانت تأبى إلا أن تأخذ دورًا في تناوبنا - نحن أصحاب الحجرة - على تزويده بالغاز من السوق.
ملابسها رغم أناقتها التي تساير الأزياء العصرية محتشمة فضفاضة، تغطي رأسها وجميع جسدها ما عدا الوجه والكفين. وحسنًا قد فعلت، فقد أبقت على الرجال - والنساء - عقولهم أن تُذهل وحفظت بصرهم أن يغشى، إذ كيف يكون حالهم إن هي ظهرت أمامهم دون احتشام؟! بل كيف تتحمل الأرض ألا تتزلزل بخطوها عليها؟!
نعم، صديقتي جميلة، وهذا هو المكون الثاني في تركيبتها. وكان من الممكن أن تميل إلى التباهي بما حباها الله به من تفاصيل جسمانية لا مثيل لها لولا أنها من بيت أصيلٍ عالٍ. تستطيع أن تعرف معها أهمية وضرورة احتشام المرأة وسترها، وكيف أنه يقي المجتمع من فوضى سوء الخلق.
بعد أن تفرقت بنا السبل سافرتْ مع زوجها إلى الكويت، أرسلت لي صورة لابنتها – ما زلت أحتفظ بها إلى الآن –التُقطت وصديقتي بجوارها، لم يظهر منها سوى كف اليد. الصورة كانت مبهجة جدًا بجمال وجه الطفلة وابتسامتها اللطيفة وبما وراءها من خلفية لمنزل فاخر.
لقد سرني كل هذا حقًا، لكن أكثر ما سرني هو عدم ظهور صديقتي في الصورة؛ فأنا أفهم أنها -رغم الثقة- لا تعرف من ستقع في يده الصورة، وتدرك أنه يصح ألا تظهر في الصورة. وهي – بذلك عندي- قد سلكت سلوك الأكابر.
لم يكن من العجب أنها بيضاء شديدة البياض، ولا أن عينيها زرقاوان، ولا أن ابتسامتها وردٌ وعُناب، فهي من المنصورة، وكنت أحيانًا أمازحها بالتعليق على ملامحها هذه بالإشارة إلى الطُرفة الشهيرة التي تُروى عن إقامة ملك فرنسا لويس التاسع في المنصورة. لكن كان العجب في ضخامتها وضخامة أطرافها العلوية والسفلية، فقد كانت زائدة عن الحد. كانت - حقيقةً - مدهشة وبخاصةٍ حين تتخلى عن احتشامها بيننا في المدينة. حتى إن جارتنا حين دخلت حجرتنا مرة لحاجة، ورأتها مستغرقة في النوم على سريري وناموسة تحوم حول جسدها، أخذت تهش الناموسة معلقة بأن مثل صديقتي يجب ألا تترك هكذا، فلا بد لمثلها أن يوضع في محمية طبيعية.
عندما عرفتها أكثر زال العجب من هذه الضخامة الزائدة، وهو نفسه المكون الثالث والأهم في تركيبة صديقتي. فمنذ أن عرفتها وإلى الآن ينتابني إحساس بأن (الدنيا ليست على مقاسها)، أو كأنها جاءت إلى الدنيا رغمًا عنها، وكنت أتصور القَابِلة كيف كانت تشدها من بطن أمها شدًا وتجرها جرًا وهي ترفض النزول، فلما لم تجد من المجيء بدًا نزلت. لكنها عاشت تساير أيامها وتساير البشر، تحاول الاندماج وتحاول العمل، تصنع كل شيء مثل الناس لا لشيء سوى أنها مضطرة أن تشببهم لتعيش بينهم. منحها الله وفرة في أشياء كثيرة، منحها بسطة في الجمال وحجم الجسم، حتى في الاسم، فلم يكن على منوال أسمائنا المعتادة، أعطوها اسم جدتها ذا الفخامة والعراقة فجاء من نظم الشعر على وزن (عظيمة)، لكنها آثرت أن نناديها بغيره، اسم نحتتْه من اسمها على سبيل (الدلع) فجاء غاية في الدلع. وعلى الرغم من أننا ونحن زميلات الدراسة يصعب علينا إلا مناداتها باسمها الرسمي، فإننا قد نسينا تمامًا اسمها الأصلي وأصبحنا كأننا لم نعرفها إلا باسمها الآخر الخفيف، على الرغم أيضًا من أنني أرى أن اسمها الرسمي يتناسب في فخامته مع فخامة تكوينها وأنه هو الأليق. وما لبثتْ أن أضفت صديقتي على اسم الدلع هذا مسحة من الفخامة والأصالة والقبول على غير المعتاد.
كنت أرى في سرها العميق الذي ربما لم تدركه هي أنها لم تحظ في الدنيا بما يليق بها، ولا يوجد ما يليق بها، فترضى صاغرةً بما يأتي في طريقها على سبيل الاستسلام، فلا هدف ولا طموح ولا رغبة في شيء محدد. لم تكن تهتم بدروسها ولم تنشغل بنتيجة أخر العام، فلم أرها تعكف على دروسها إلا ليلة الامتحان. وكان لهذه الليلة طقوس خاصة، حيث كانت ليلة امتحانها هي الليلة الوحيدة التي تؤثر أن تقضيها معنا في الحجرة. حيث نكون قد عدنا من امتحاننا في فرقتنا الأعلى منها، فكانت تنام على سريري من بعد العصر إلى دخول المساء، فتقوم لتراجع المقرر الذي ستمتحنه في الغد والذي تتعرف عليه للمرة الأولى، واصلة الليل بالصباح، ثم تذهب إلى الامتحان. وكان هذا السلوك يزعجني جدًا؛ لأني كنت أشفق عليها من السهر والمواصلة إلى عصر اليوم التالي. وفشلت معها في تغيير هذا السلوك. كانت تهتم بغذاء العقل والفكر أكثر من غذاء المعدة. فلم أسمعها -إلا فيما ندر- تصرح بأنها جوعى. كانت عندما نجلس على الأرض لتناول الطعام، تتكيءعلى يد وتأكل بالأخرى. تأكل بيد واحدة، تأكل لأنها لا بد أن تأكل. كانت عندما تحضر ندوة شعرية تعود وهي تحفظ أبياتًا كثيرة مما أعجبها، تتلوها علىّ وهي تحكي لي كعادتها عن كل شيء. لكن لم يكن لخطيبها نصيب من حكاياتها أو أحاديثها، نعرف أنه ابن عمها وكفى. حتى في هذا وقع في نفسي أن هذا الارتباط إنما تم تحت عباءة انصياع ابنة الأصول إلى تقاليد بيت الأصول، وباستسلام الزاهدة في هذه الدنيا.
لست أدري ما الذي يمكن أن يجعل صديقتي راضية عن وجودها في الدنيا؟ لست أدري ما الذي يكفيها ويوازي قدراتها التي أرى فيها بها شخصية الملكة كليو باترا؟ هي تشبه -عندي- كليو باترا غير أن صديقتي جميلة.
***
(18)
لم تكن علاقاتي في المرحلة الجامعية تقتصر على رفيقاتي الثلاثة اللائي كن معي في المدينة الجامعية . فقد كانت لي صديقة من الكلية أيضًا، عرفتها في الاجتماع الأول لجماعة الصحافة تزامنًا مع صديقتي المنصورية ، حيث جمعنا حديث عقب الاجتماع دون سابق معرفة بين ثلاثتنا. كانت من نفس فرقتي . صحيح أنها لم تكن تسكن معنا في المدينة الجامعية ، لكنها كانت مثلنا مغتربة . كان لها وضع خاص وطبيعة خاصة أيضًا، تختلف عني وعن شِلتي. جاءت من الأسكندرية مخلفة وراءها الأم وإخوة ليسوا أشقاء ؛ ذلك لأن الأم تزوجت عقب وفاة الزوج بأخيه . لم تكن تتحدث عنهم ، المرات القليلة التي كان يرد فيها ذكرهم يهيئ لي أنه كان يمر باقتضاب وسرعة ومسحة من الاضطراب تثير انتباهي . كانت تسكن مع جدتها وعمها في بيت للعائلة بالمهندسين . المستوى المادي والاجتماعي عالٍ بشكل ملحوظ .أستطيع أن أتبين أنها من طبقة اجتماعية تختلف عن طبقتي. يبدو هذا في ملابسها وهيئتها وأسلوب معيشتها وطبيعة أحاديثها ، لكنها كانت إنسانة بسيطة جدًا مثلما كانت صديقتي المنصورية متواضعة جدًا . لست أدري إلى الآن ما الذي جذبني إليها وشجعني على مصاحبتها والائتناس بها؟ هل خفة ظلها ومرح حديثها ؟ أم رجاحة عقلها ورزانتها ؟ أم إحساسي الغالب بخبرتها الواسعة وكأنها قد سبقتني إلى الدنيا بعشر سنوات ؟ أم تعاطفي مع مسحة الحزن والتمزق والشعور بالوحدة التي آراها من طرف خفي ، رغم أنها تخفي كل هذا خلف ابتسامة لا تفارق وجهها ورغم ضحكاتها الرنانة ؟ لست أدري ولم أحاول البحث عن جواب .
كانت مزيجًا عجيبًا من المتناقضات . فهي حزينة وكأنها تخفي أسرارًا تمس صميم حياتها الأسرية ومع ذلك نرى جميعًا أن أبرز ما يميزها ضحكها ومرحها . كانت محتشمة ترتدي ملابس كاسية وغطاء للرأس والصدر أي كما نقول : محجبة ، لكن كانت ملابسها لافتة بألوانها الزاهية وشبابيتها وعصريتها ، تشمر دائمًا أكمامها قليلًا إلى المعصم ، كاشفة عن حُليّها وزينتها. لم تكن جميلة لكنها ترغمك أن تراها جميلة ، ممتلئة عريضة دون أن ينقص هذا من رشاقتها وخفتها. لا يمكن أن أتصور أن مثلها يمكن أن تكون من شلتي، فضلًا عن أن تكون صديقتي . كانت متحركة لكن رزينة ، جريئة لكن متحفظة ، وحيدة لكن كثيرة بنفسها ، ماهرة ذكية لكنها ليست متفوقة في الدراسة. فيها طفولة وشباب وكهولة . تفرض تميزها وخصوصيتها –دون وعي ودراية- بين أفراد الشلة . نستطيع أن ننحي كل ما سبق في جانب لنفسح لتميزها بصوتها الجميل جانبًا وحده ، وبخاصة حين كانت تضحك. صوتها رائع ساحر فيه شقاوة وخفة روح وجدية في آن. كان صوتها العالي برنته الجميلة وأسلوب كلامها يهدد أحيانًا هيبة شلتي بين ردهات الكلية . حين كنا نعرض على الدكتور المشرف على الجريدة الموضوعات والتحقيقات التي نفكر أن نكتبها ، اختارت أن تكتب عن : الابتسامة الغائبة..إلى متى؟! . أتذكر وقتها نشب خلاف وجدل واسع حول هذا الموضوع بين الدكتور المشرف وصديقتي وممثل الجماعة الإسلامية قي اتحاد الطلاب ، الذي كان معترضًا على هذا الموضوع ، ويرى أن مساحة الجريدة جديرة بموضوعات أهم من البحث عن الابتسامة الغائبة .وكأن الدنيا ستنقلب بهذا الموضوع . وكان مما طرحه هذا الممثل من مسوغات الاعتراض تشبيهه الموقف بإنسان عارٍ، ثم يتساءل: أيهما أهم لهذا الإنسان وأولى ؟ هل يصح أن أتركه هكذا وأعطيه جوربًا يرتديه في قدمه ؟! هنا ردت صديقتي المنصورية باستنكار واستخفاف : هل خلت قريحتك إلا من هذا التشبيه السخيف؟ !
وحُسم الجدل لصالح الموضوع . وجاء في افتتاحيته : لقد أغفل الإنسان الجانب المعنوي في حياته، وجعل الماديات هي التي تسيطر وتهيمن على حواسه ،ومن ثم امتلأت حياتنا بالمشاكل التي كثيرًا ما نقف أمامها وعلى وجوهنا ترتسم علامات استفهام. ولعل أبسط شيء يميز الجانب المعنوي ويعكس ما بداخل الإنسان من أحاسيس هو الوجه وتعبيراته من بشاشة وابتسام أو عبوس. ومما يلفت الأنظار ويثير الانتباه أن معظم الوجوه تختفي وراء ستار من الكآبة لا داعي له خاصة وأننا نعيش في ظل ظروف صعبه تتطلب من الإنسان أن يقابلها بهدوء وابتسام حتى يجتازها بسلام، لكن الغريب أن معظم الناس يتعمد إظهار تلك الكآبة وكأنهم سيدفعون ضريبة لو ابتسموا؛ لهذا رأيت أنه لابد من وقفة مع الوجوه لنعرف ...
فهل كانت صديقتي تتحدث عن نفسها؟
وللحديث بقية ...
***
(19)
صارت الصديقة السكندرية -في وقت وجيز- واحدة من أفراد شلتي ، فسرعان ما حدث تعارف وانسجام . كانت تجمعنا وتفرقنا طرقات الكلية والمحاضرات ، حيث كان تقسيم الفرقة إلى شعب ، وحيث لم تكن الصديقة المنصورية في نفس فرقتنا . لكن كنا حين نلتقي بعضًا أو كلًا نشعر بالألفة . وقتها اكتشفتُ أن صديقتي السكندرية لم يكن لها شلة من قبل ، ولم تكن لها علاقات أو صُحبة رغم أنها كانت في الفرقة الثالثة. كانت هذه الشلة المكونة من خمسة أفراد هي خلاصة مكتسباتي ، وزاد الطريق الذي أعانني على تحمل سنوات الاغتراب وأيامه، بل أضفى على أيامي حياةً وجمالًا وأُنسًا. ظل القدر يمنحني كل فترة واحدة منهن -منذ أول عهدي بالمدينة – حتى اكتمل لدي عقد الماس في هذه الصحبة ، وكنت أنا واسطة العقد التي تربط حباته . فقد كانت لي علاقة خاصة بصديقتي السويسية متفردة عن باقي الشلة ، ثم علاقة أخرى تجمعني بها مع الشريكة الدمياطية ، حتى ضممتُ إليهما المنصورية ؛ فجمعتنا نحن الثلاثة علاقة ، في حين كانت تجمعني بالمنصورية وحدها علاقة أخرى خاصة ومتفردة . ثم ضممتُ الصديقة السكندرية إلى شلة المدينة ، وكانت تربطني أنا وهي والصديقة المنصورية علاقة خاصة من جهة، و تربطني بالسكندرية وحدها علاقة خاصة متفردة من جهة أخرى. كانت شلة عجيبة في طبيعة تكوينها . أستطيع القول بلغة الرياضة الحسابية : كنت أنا القاسم المشترك بينهن . وبلغة الكيمياء : كنت العامل المساعد .
الأكثر عجبًا أن الشيء الذي كان يجمعني بإحداهن يختلف تمامًا عما كان يجمعني بغيرها من أفراد الشلة . كنت أشعر مع كل واحدة بطبيعة مغايرة ، وروح مغايرة، وشكل مغاير للعلاقة ؛ فكنت بذلك الوحيدة التي فازت بالنصيب الأكبر من الصداقة ، و تكوين علاقات كثيرة من شلة واحدة ، مما أضفى على سنواتي الأربع اتساعًا في التجارب ورحابة في الود والائتناس .
دعتني صديقتي المنصورية ذات مساء إلى حضور سيمنار في قسم علم النفس بكلية الآداب بجامعتنا . وتلك كانت من الاهتمامات والهوايات التي تجمعنا ، حيث كنا نحب حضور الندوات ولا سيما التي موضوعها علم النفس وما شابه. ثم دعتْ للحضور معنا الصديقة السكندرية ؛ فكانت دعوتها وأيضًا حضورها على سبيل التنزه وتغيير الجو . أخذتُ أنا وهي إذن تأخير من المدينة ، وجاءت السكندرية – ليلًا -من سكنها بالمهندسين . وكانت الصديقة المنصورية نفسها مدعوة إلى هذا السيمنار من أحد أساتذة كلية الآداب أثناء إجرائها تحقيقًا صحفيًا معه.
لم نكن نعلم –وقتها- الفارق بين السيمنار والندوة . دخلنا مدرجًا كبيرًا وسط حضور قليل ، اقتصر -بطبيعة الحال مع السيمنار- على أساتذة وأهل التخصص من هيئة التدريس ؛ فكان هذا المشهد هو أول صدمة تُلقى علينا ، ولم نبال . جلسنا في آخر المدرج هيبةً وربما رهبةً . الصدمة الثانية أننا لم نفهم شيئًا مطلقًا مما كان يدار من كلام ومناقشات . و كانوا –بالنسبة إلينا- كمن يتحدث اللغة اليابانية أو الصينية ، لم نفهم شيئًا حقيقةً . كنت أرى الواحد منهم يقف أمام منصة صغيرة يتحدث عن شيئ غير مفهوم . لا أعلم إذا كان يسأل أم يجيب ، حتى أتهمه بيني وبين نفسي أنه يقول أى كلام ، وحتمًا الجالسون لا يفهمونه أيضًا . ثم أتفاجأ من خلال المتحدث التالي أنه قد فهم ، بل ويرد عليه . وياللعجب أنني أيضًا لم أفهم رده . بعد مرور حوالي نصف الساعة الأولى نظرتُ إلى جارتيّ فوجدتُ على وجوههما علامات الذهول و التوهان واستشعار الغباء ، نسخة أصلية من الحالة التي انتابتني، كأن على رؤوسنا الطير . ثم بدأتُ أرمي بنظراتٍ من الوعيد لصديقتي التي ورطتني ، ثم أنظر إلى الصديقة السكندرية أجدها تتبادل معها نفس النظرات . وبين حين و آخر ترد علينا بنظراتٍ يملؤها الحرج أو الخوف من ردود أفعالنا عندما نستفرد بها . وكلما استفحل الغموض علينا نظرنا إليها ، وكلما وقف أحدهم ليتكلم ويخيب –مجددًا-أملنا في الفهم نظرنا إليها . ثم اتفقنا -بالإشارة –على الانصراف بل الهروب . وما إنْ خرجنا إلى ساحة الجامعة - حيث الليل والسكون والهدوء لخلو المكان من الطلاب والمارة –حتى انفجرنا بالضحك . أما الصديقة السكندرية فقد كنا نلملمها من الأرض من هستريا الضحك التي انتابتها. فصارت هذه الليلة من أجمل ما نختفظ به في ذاكرتنا و ذكرياتنا .
***