لعل أهم ما أقصد إليه في هذا البحث هو تمحيص رواية حماد (أعني روايته للشعر)؛ فقد أكثرت كتب الطبقات من ذكر أخباره والأحداث التي تقلبت عليه، ولكنها لم تعرض لروايته كما يعرض العلماء لمواضيع بحثهم، ولم تمحصها كما يجب أن تمحص الأشياء، وكل ما فعلته أنها اتهمته بالوضع والانتحال وذكرت من أخبار انتحاله الشيء الكثير.
أقول: لعل أهم ما أقصد إليه في هذا البحث هو تمحيص رواية حماد، ولكنني قبل أن أمحص هذه الرواية، يجب أن أعرض لحياة هذا الراوية في عصره وللراوية هذا العصر؛ فلعل اكتناه حياته والرواية في عصره يأخذ بيدنا عند تمحيص روايته؛ ولعله يكشف لنا منها جوانب ما كنا لنفطن لها لولاه؛ ولعله يكشف لنا عن الدواعي التي حدت به إلى أن يضع إن كان قد وضع حقا، أو الدواعي التي جعلت الرواة يتحاملون عليه إن كان هو من الوضع براء.
هذا منهج البحث لا أشك في أنه سيصل بي إلى النتيجة الحق. ذلك لأنه منهج قائم على أساس صحيح؛ فهو يربط بين حماد راوية وبينه إنسانا في ذاته وإنسانا في مجتمع، وهو يربط بين روايته ومجرى الرواية في عصره. والدراسات الأدبية لا يمكن أن تؤدي إلى الحقيقة ما لم تربط بين من تدرسه وبين نفسه وبيئته.
2 - حياة حماد
يقول ابن قتيبة في كتاب المعارف (ص 183): هو حماد بن هرمز؛ وكان هرمز من سبى مكنف بن زيد الخيل، وكان ديلميا يكنى أبا ليلى. ويقول في كتاب الشعر والشعراء (ص 157 وحماد الراوية مولى مكنف.
وفي الأغاني (ج 5 ص 164 ط بولاق) أن الأصمعي سأل حمادا: ممن أنتم؟ فقال حماد: كان أبي من سبى سلمان بن ربيعة، فطرحتنا سلمان لبني شيبان، فولاؤنا لهم.
ويقول ابن النديم في الفهرست (ص 91 ط فلوجل) إنه: أبو القاسم حماد بن سابور بن المبارك بن عبيد؛ وكان سابور يكنى أبا ليلى، من سبى الديلم، سباه ابن عروة بن زيد الخيل ووهبه لابنته ليلى يخدمها خمسين سنة، ثم ماتت، فبيع بمائتي درهم، فاشتراه عامر بن مطر الشيباني وأعتقه.
ويقول ياقوت في معجم الأدباء (ج 4 ص 137 ط مرجليوث) إنه حماد بن ميسرة بن المبارك بن عبيد الديلمي؛ مولى بني بكر بن وائل، وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل الكوفي المعروف بالراوية
ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان (ص 240 ط باريس) إنه أبو القاسم حماد بن أبي ليلى سابور، وقيل ميسرة ابن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي.
فظاهر من هذه الروايات الخمس أن حمادا ديلمي الأصل؛ وأنه من الموالي، وإن كان قد اختلف في ولائه: لمن. على أن هذا اختلاف في الظاهر. فنحن إذا أخذنا برواية ابن النديم استبان لنا أن ولاء حماد كان لابن زيد الخيل (ابن عروة كما يقول ابن النديم، أو مكنف كما يقول ابن قتيبة وياقوت، ثم كان لعامر بن مطر الشيباني. وشيبان بن ثعلبة، وثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر. وهكذا نفهم تردد ولاء حماد بين ابن زيد الخيل وبني شيبان وبني بكر بن وائل. ولكننا لا نجد بعد هذا تفسيرا لما يقوله حماد من أن أباه كان من سبى سلمان بن ربيعة، فنحن لا نعرف من هم بنو سلمان هؤلاء.
والديلم - كما يقول هيار في كتابه: (ص 58) - هم ذلك الجنس الهائل الذي كان يحتقر العرب؛ والذي كان يسكن جبال جيلان الوعرة مستقلا غير خاضع لسلطة ما؛ والذي استولى على بغداد باسم بني بويه، فجرد الخلافة من سلطتها الزمنية، ولم يبق لها إلا سلطة روحية محضا، وكان لحق حماد ينم عن أصله الأعجمي.
وظاهر من هذه الروايات أيضاً أن هناك خلافاً حول اسم أبي حماد. فابن قتيبة يقول إنه هرمز، وهو في هذا يوافق الجاحظ فيما يحكيه عنه السيوطي في المزهر (ج 2 ص 206) وابن النديم يقول إنه سابور؛ ويتابعه في هذا هيار (ص 58)، وتشارلز ليال في كتابه: (المقدمة: هامش ص 39) وفي مقدمته لترجمة المفضليات (هامش ص 13): وياقوت يقول إنه ميسرة، وهو في هذا يوافق الهيثم بن عدي فيما يحكيه عنه أبو الفرج في الأغاني (ج 5 ص 164) والبغدادي في خزانة الأدب (ج 4 ص 129 ط بولاق).
وقد ولد حماد بالكوفة. واختلف في تاريخ ميلاده؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 75هـ، وينقل عنه في هذا بروكلمان في كتابه: (ج 1 ص 63) وهو عند ياقوت (ص 140) سنة 95هـ، ويتابعه في هذا ابن خلكان (ص 241). كذلك اختلف في تاريخ وفاته؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 156هـ، وهو عند ياقوت (ص 140) وابن خلكان (ص 241) سنة 155هـ.
وحماد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. فتشارلز ليال يقول في كتابه الأول: (المقدمة، هامش ص 39): (علا ذكر حماد الراوية بن سابور الفارسي الأصل وجامع المعلقات ومعظم شعر امرئ القيس في دولة بني أمية خاصة، منذ عهد يزيد الثاني (يعني يزيد بن عبد الملك) (101 - 105) حتى سقوطها سنة 132، وبعد ذلك عاش في عصري المنصور والمهدي). فالذي يؤخذ من قول هذا المستشرق أن حمادا لم يدرك عصرا بعد عصر المهدي، وهو في هذا يتابع ما يرويه ابن خلكان إذ يقول (ص 241): (وقيل إنه توفى في خلافة المهدي). على أننا نجد في الأغاني (ج 3 ص 80) هذه الرواية: (ذكر أبو أيوب المدني أن حمادا الراوية حدثه، قال: رأيت عبد الرحيم الدفاف أيام هرون الرشيد بالرقة. . .)، وهي رواية صريحة الإشارة إلى أن حمادا أدرك عصر الرشيد، ولكننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نرجحها على سائر الروايات التي تقف بحياة حماد قبل عصر المهدي، أو عن هذا العصر، بل إننا لا نظن حمادا قد أدرك عصر المهدي، كما تقول الرواية التي أشار إليها ابن خلكان. فحماد قد توفى سنة 156هـ كما يقول ابن النديم، أو سنة 155هـ كما يقول ياقوت وابن خلكان؛ بينما المهدي تولى الخلافة سنة 158هـ. والرواية التي يشير إليها ابن خلكان غير صريحة النسبة، وهي لا تذكر تاريخا معينا. وقد رجع تشارلز ليال عما قاله في كتابه الأول (المقدمة، هامش ص 39) من أن حمادا توفى سنة 160هـ، وجعل يشك في أن حمادا أدرك عصر المهدي، وهذا في مقدمته لترجمة المفضليات (ص 18). ويبدو لنا أنه في الكتاب الأول قد أخذ بمفهوم الرواية التي يشير إليها ابن خلكان، فافترض سنة 160هـ تاريخاً لوفاة حماد، أي بعد ولاية المهدي الخلافة. وهذا افتراض محض، لأن المراجع العربية لم تذكر هذا التاريخ.
وقال ابن النطاح (الأغاني ج 5 ص 171، وخزانة الأدب ص 131): (كان حماد الراوية في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك، وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ). وهذه الرواية - إن صحت - تدلنا على طور من أطوار حياة حماد، لا بد أنه خلف في نفسه أثراً، ولا بد أنه كيف مزاجه تكييفا خاصا.
وكان خلفاء بني أمية يقدمون حمادا ويؤثرونه، وكثيرا ما كانوا يستحضرونه لينشدهم وليسألوه، فكان يفد عليهم فيجزلون صلته. ويروى أنه كان منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك في خلافته، فأسخط هذا هشاما أخا الخليفة وولي عهده؛ فلما تولى هذا الخلافة خاف حماد على نفسه، فلزم بيته سنة لا يبرحه؛ ولكن هشاما لم يلبث أن استدعاه إلى دمشق ليسأله عن بيت من الشعر: من قاله؟ فلما أجابه وأنشده أجازه وأحسن صلته. وهذه القصة مذكورة في معظم المراجع التي بين يدينا؛ وهي مذكورة على سبيل المثال في الأغاني (ج 5 ص 166 - 167)، وقد استغرق ذكرها جل ما كتبه صاحب نزهة الألباء عن حماد (ص 44 - 50)، وذكرها السيوطي في تحفة المجالس ونزهة الجالس (ص 69 - 71 ط مطر السعادة). ولكن الأستاذ أرندنك كاتب مادة حماد الراوية في الموسوعة الإسلامية، يشك في صحة هذه القصة فهو يرى أنها لا يمكن أن تقع في مثل هذا التاريخ، وأن سماتها تشبه سمات قصة تروى عن الوليد الثاني (يعني الوليد بن يزيد) الذي كان خاصة يستمع إلى حماد كثيرا. ويشك أبو الفرج (ج 5 ص 167) في صحة جانب من هذه القصة، وهو أمر هشام الجاريتين المذكورتين في القصة بسقي حماد الخمر؛ لأن هشاما - كما يقول أبو الفرج - لم يكن يشرب ولا يسقي أحد بحضرته مسكرا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه. كما أن ابن خلكان يشك في جانب آخر من القصة، وهو أمر هشام يوسف بن عمر الثقفي باستدعاء حماد؛ فهو يقول (ص 241): (وما يمكن أن تكون هذه الواقعة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن واليا بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه خالد بن عبد الله القسري). وفي اعتراض ابن خلكان تفسير للشطر الأول من اعتراض أرندنك.
ويبدو لنا أن قصة حماد مع الوليد بن يزيد التي يشير إليها أرندنك في الشطر الثاني من اعتراضه هي التي رواها أبو الفرج في الأغاني (ج 6 ص 128) حيث قال: (. . . قال (أي حماد): دخلت يوماً على الوليد، وكان آخر يوم لقيته فيه، فاستنشدني، فأنشدته كل ضرب من شعر الجاهلية والإسلام، فما هش لشيء منه، حتى أخذت في السخف فأنشدته لعماد بن ذي كنانة مجتبذاً. . . فضحك حتى استلقى، وطرب ودعا بالشراب، فشرب، وجعل يستعيدني الأبيات، فأعيدها حتى سكر، وأمر لي بجائزة، فعلمت أن أمره قد أدبر. ثم دخلت على أبى مسلم، فاستنشدني، فأنشدته قول الأخوة:
لنا معاشر لم ينبوا لقومهم
فلما بلغت إلى قوله:
تُهدى الأمورُ بأهل الرشد ما صلحت ... وإن تولَّت فبالأشرار تنقاد
قال: أنا ذلك الذي تنقاد به الناس، فأيقنت حينئذ أن أمره مقبل).
على أن هذه القصة غير صحيحة فيما يبدو لنا. فإن أبا مسلم الخراساني لم يبرز إلى الميدان السياسي إلا سنة 129هـ، أي بعد وفاة الوليد بن يزيد بثلاث سنين. وأغلب الظن أنها من وضع دعاة العباسيين وضعوها تشهيراً بالوليد وإظهاراً لما كانت عليه دولة بني أمية من انحلال وما كانت عليه الدعوة العباسية من فتوة. وهكذا يسقط الشطر الثاني من اعتراض أرندنك.
ومهما يكن من شيء، فقد كان حماد ذا حظوة لدى يزيد ابن عبد الملك، ثم لدى الوليد بن يزيد من بعده. وتفسير هذه الخطوة يسير. فقد كان الخليفتان يحبان اللهو والمجون، وكانا يجدان في حماد ما يوائم ذينك اللهو والمجون من شعر سافر ومذهب داعر.
على أنه لم يكن ذا حظوة لدى العباسيين. يظهر هذا مما يرويه أبو الفرج (ج 12 ص 102) إذ يقول: (. . . كان مطيع بن إياس منقطعاً إلى جعفر بن المنصور، فطالت صحبته له من غير فائدة، فاجتمع يوماً مطيع وحماد عجرد ويحيى بن زياد، فتذاكروا أيام بني أمية وسعتها ونضرتها وكثرة ما أفادوا فيها وحسن ملكهم وطيب دارهم بالشام وما هم فيه ببغداد من القحط في أيام المنصور وشدة الحر وخشونة العيش وشكوا الفقر فأكثروا. . .)؛ ومما يرويه أبو الفرج (ج 5 ص 169 - 170) والبغدادي (ص 130 - 131) من أن جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكريه كان يستخف مطيع بن إياس ويحبه، وكان منقطعاً إليه، وله منه منزلة حسنة، فذكر حماداً وكان صديقه وكان مطرحا مجفواً في أيامهم، فقال له: ائتنا به لنراه، فأتى مطيع حماداً فأعلمه بذلك وأمره بالمصير إليه ومعه، فقال حماد: دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية ومالي مع هؤلاء خير، فأبى مطيع إلا الذهاب به، فلما أتيا جعفر استنشد هذا حماداً فأنشده قصيدة جرير التي مطلعها:
بان الخليط برامتين فودّعوا ... أَوَ كلما اعتزموا لبيْن تجزعُ
فلما وصل إلى قول جرير:
وتقول بوزع قد دببت على العصا ... هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
أبدى جعفر نفوره من لفظ بوزع، وأمر غلمانه بصفع حماد وجر رجله. ويقول أرندنك إنه (كان أحد الشعراء الذين خرجوا عن بغداد في عهد المنصور في طلب المعاش فذهب إلى الكوفة؛ ولكن يقال إن المنصور استدعاه ثانية إلى بغداد من البصرة).
ومن اليسير علينا أن نفسر إعراض العباسيين عن حماد ورفاقه. فقد كان العباسيون في أول أمرهم يأخذون الحياة مأخذ الجد، ويصطنعون الصرامة والقسوة، ويعملون على تدعيم ملكهم الوليد. وما كان لمثل هؤلاء أن يقبلوا على حماد ورفاقه، وأن يسوغوا لهوهم ومجونهم. هذا إلى أن حماداً ورفاقه كانوا من المقربين إلى بني أمية، وما كان للعباسيين أن يقربوا من كان هواهم مع أعدائهم.
وقد اشتهر حماد بمجونه واستهتاره وفسقه وسكره. وتجد في الأغاني (ج 5 ص 169) قصة من قصص استهتاره، كما تجد صورة من صور فسقه في (ص 170).
ويقول ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 302 المكتبة التجارية): (وكان بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمادون: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان النحوي؛ وكانوا يتعاشرون، ويتنادمون، وكانوا يرمون بالزندقة كلهم؛ وكان حماد بن الزبرقان عتب على حماد الراوية في شيء فقال:
نعم الفتى لو كان يعرف قدرَه ... ويقيمُ وقت صلاته حمادُ
هدلت مشافره الدنانُ فأنفه ... مثل القدوم يسنُّها الحداد
وابيضّ من شُرب المدامة وجهُه ... فبياضُه يوم الحساب سواد)
على أن نسبة هذه الأبيات إلى حماد بن الزبرقان في هجاء حماد الراوية يحوطها الشك؛ فأبو الفرج (ج 5 ص 171) ينسبها وثلاثة أبيات أخرى بعدها إلى أبي الغول الطهوي في هجاء حماد، والبغدادي (ص 132) ينسبها - مغيرة قليلا - إلى أبي الغول الطهوي أيضاً، وابن خلكان (ج 1 ص 295 ط مصر) ينسب البيتين الأول والأخير منها إلى بشار في هجاء حماد عجرد وكانا يتهاجيان، والمرتضى في أماليه (ص 92 ط صبيح) يذكر رواية يؤخذ منها أن أبا الغول النهشلي قال هذه الأبيات - مع اختلاف في صدر البيت الثاني - وبيتاً رابعاً في هجاء حماد عجرد.
ولما توفي حماد رثاه محمد بن كناسة بقوله:
أبعدْت من نومك الفرارَ فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدرُ
لو كان يُنجي من الردى حذرٌ ... نجّاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخٍ يا أبا ... القاسم ما في صفاته كدر
فهكذا يفسد الزمان ويفنى الع ... لم فيه ويدرس الأثر
وهذه الأبيات يذكرها ابن النديم (ص 92)، ويذكرها ياقوت (ج 4 ص 140 ط مرجليوث) وابن خلكان (ص 242 ط باريس) الأبيات الثلاثة الأخيرة منها مغيرة بعض التغيير.
(للبحث بقية)
السيد يعقوب بكر
مجلة الرسالة - العدد 643
بتاريخ: 29 - 10 - 1945
أقول: لعل أهم ما أقصد إليه في هذا البحث هو تمحيص رواية حماد، ولكنني قبل أن أمحص هذه الرواية، يجب أن أعرض لحياة هذا الراوية في عصره وللراوية هذا العصر؛ فلعل اكتناه حياته والرواية في عصره يأخذ بيدنا عند تمحيص روايته؛ ولعله يكشف لنا منها جوانب ما كنا لنفطن لها لولاه؛ ولعله يكشف لنا عن الدواعي التي حدت به إلى أن يضع إن كان قد وضع حقا، أو الدواعي التي جعلت الرواة يتحاملون عليه إن كان هو من الوضع براء.
هذا منهج البحث لا أشك في أنه سيصل بي إلى النتيجة الحق. ذلك لأنه منهج قائم على أساس صحيح؛ فهو يربط بين حماد راوية وبينه إنسانا في ذاته وإنسانا في مجتمع، وهو يربط بين روايته ومجرى الرواية في عصره. والدراسات الأدبية لا يمكن أن تؤدي إلى الحقيقة ما لم تربط بين من تدرسه وبين نفسه وبيئته.
2 - حياة حماد
يقول ابن قتيبة في كتاب المعارف (ص 183): هو حماد بن هرمز؛ وكان هرمز من سبى مكنف بن زيد الخيل، وكان ديلميا يكنى أبا ليلى. ويقول في كتاب الشعر والشعراء (ص 157 وحماد الراوية مولى مكنف.
وفي الأغاني (ج 5 ص 164 ط بولاق) أن الأصمعي سأل حمادا: ممن أنتم؟ فقال حماد: كان أبي من سبى سلمان بن ربيعة، فطرحتنا سلمان لبني شيبان، فولاؤنا لهم.
ويقول ابن النديم في الفهرست (ص 91 ط فلوجل) إنه: أبو القاسم حماد بن سابور بن المبارك بن عبيد؛ وكان سابور يكنى أبا ليلى، من سبى الديلم، سباه ابن عروة بن زيد الخيل ووهبه لابنته ليلى يخدمها خمسين سنة، ثم ماتت، فبيع بمائتي درهم، فاشتراه عامر بن مطر الشيباني وأعتقه.
ويقول ياقوت في معجم الأدباء (ج 4 ص 137 ط مرجليوث) إنه حماد بن ميسرة بن المبارك بن عبيد الديلمي؛ مولى بني بكر بن وائل، وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل الكوفي المعروف بالراوية
ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان (ص 240 ط باريس) إنه أبو القاسم حماد بن أبي ليلى سابور، وقيل ميسرة ابن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي.
فظاهر من هذه الروايات الخمس أن حمادا ديلمي الأصل؛ وأنه من الموالي، وإن كان قد اختلف في ولائه: لمن. على أن هذا اختلاف في الظاهر. فنحن إذا أخذنا برواية ابن النديم استبان لنا أن ولاء حماد كان لابن زيد الخيل (ابن عروة كما يقول ابن النديم، أو مكنف كما يقول ابن قتيبة وياقوت، ثم كان لعامر بن مطر الشيباني. وشيبان بن ثعلبة، وثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر. وهكذا نفهم تردد ولاء حماد بين ابن زيد الخيل وبني شيبان وبني بكر بن وائل. ولكننا لا نجد بعد هذا تفسيرا لما يقوله حماد من أن أباه كان من سبى سلمان بن ربيعة، فنحن لا نعرف من هم بنو سلمان هؤلاء.
والديلم - كما يقول هيار في كتابه: (ص 58) - هم ذلك الجنس الهائل الذي كان يحتقر العرب؛ والذي كان يسكن جبال جيلان الوعرة مستقلا غير خاضع لسلطة ما؛ والذي استولى على بغداد باسم بني بويه، فجرد الخلافة من سلطتها الزمنية، ولم يبق لها إلا سلطة روحية محضا، وكان لحق حماد ينم عن أصله الأعجمي.
وظاهر من هذه الروايات أيضاً أن هناك خلافاً حول اسم أبي حماد. فابن قتيبة يقول إنه هرمز، وهو في هذا يوافق الجاحظ فيما يحكيه عنه السيوطي في المزهر (ج 2 ص 206) وابن النديم يقول إنه سابور؛ ويتابعه في هذا هيار (ص 58)، وتشارلز ليال في كتابه: (المقدمة: هامش ص 39) وفي مقدمته لترجمة المفضليات (هامش ص 13): وياقوت يقول إنه ميسرة، وهو في هذا يوافق الهيثم بن عدي فيما يحكيه عنه أبو الفرج في الأغاني (ج 5 ص 164) والبغدادي في خزانة الأدب (ج 4 ص 129 ط بولاق).
وقد ولد حماد بالكوفة. واختلف في تاريخ ميلاده؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 75هـ، وينقل عنه في هذا بروكلمان في كتابه: (ج 1 ص 63) وهو عند ياقوت (ص 140) سنة 95هـ، ويتابعه في هذا ابن خلكان (ص 241). كذلك اختلف في تاريخ وفاته؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 156هـ، وهو عند ياقوت (ص 140) وابن خلكان (ص 241) سنة 155هـ.
وحماد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. فتشارلز ليال يقول في كتابه الأول: (المقدمة، هامش ص 39): (علا ذكر حماد الراوية بن سابور الفارسي الأصل وجامع المعلقات ومعظم شعر امرئ القيس في دولة بني أمية خاصة، منذ عهد يزيد الثاني (يعني يزيد بن عبد الملك) (101 - 105) حتى سقوطها سنة 132، وبعد ذلك عاش في عصري المنصور والمهدي). فالذي يؤخذ من قول هذا المستشرق أن حمادا لم يدرك عصرا بعد عصر المهدي، وهو في هذا يتابع ما يرويه ابن خلكان إذ يقول (ص 241): (وقيل إنه توفى في خلافة المهدي). على أننا نجد في الأغاني (ج 3 ص 80) هذه الرواية: (ذكر أبو أيوب المدني أن حمادا الراوية حدثه، قال: رأيت عبد الرحيم الدفاف أيام هرون الرشيد بالرقة. . .)، وهي رواية صريحة الإشارة إلى أن حمادا أدرك عصر الرشيد، ولكننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نرجحها على سائر الروايات التي تقف بحياة حماد قبل عصر المهدي، أو عن هذا العصر، بل إننا لا نظن حمادا قد أدرك عصر المهدي، كما تقول الرواية التي أشار إليها ابن خلكان. فحماد قد توفى سنة 156هـ كما يقول ابن النديم، أو سنة 155هـ كما يقول ياقوت وابن خلكان؛ بينما المهدي تولى الخلافة سنة 158هـ. والرواية التي يشير إليها ابن خلكان غير صريحة النسبة، وهي لا تذكر تاريخا معينا. وقد رجع تشارلز ليال عما قاله في كتابه الأول (المقدمة، هامش ص 39) من أن حمادا توفى سنة 160هـ، وجعل يشك في أن حمادا أدرك عصر المهدي، وهذا في مقدمته لترجمة المفضليات (ص 18). ويبدو لنا أنه في الكتاب الأول قد أخذ بمفهوم الرواية التي يشير إليها ابن خلكان، فافترض سنة 160هـ تاريخاً لوفاة حماد، أي بعد ولاية المهدي الخلافة. وهذا افتراض محض، لأن المراجع العربية لم تذكر هذا التاريخ.
وقال ابن النطاح (الأغاني ج 5 ص 171، وخزانة الأدب ص 131): (كان حماد الراوية في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك، وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ). وهذه الرواية - إن صحت - تدلنا على طور من أطوار حياة حماد، لا بد أنه خلف في نفسه أثراً، ولا بد أنه كيف مزاجه تكييفا خاصا.
وكان خلفاء بني أمية يقدمون حمادا ويؤثرونه، وكثيرا ما كانوا يستحضرونه لينشدهم وليسألوه، فكان يفد عليهم فيجزلون صلته. ويروى أنه كان منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك في خلافته، فأسخط هذا هشاما أخا الخليفة وولي عهده؛ فلما تولى هذا الخلافة خاف حماد على نفسه، فلزم بيته سنة لا يبرحه؛ ولكن هشاما لم يلبث أن استدعاه إلى دمشق ليسأله عن بيت من الشعر: من قاله؟ فلما أجابه وأنشده أجازه وأحسن صلته. وهذه القصة مذكورة في معظم المراجع التي بين يدينا؛ وهي مذكورة على سبيل المثال في الأغاني (ج 5 ص 166 - 167)، وقد استغرق ذكرها جل ما كتبه صاحب نزهة الألباء عن حماد (ص 44 - 50)، وذكرها السيوطي في تحفة المجالس ونزهة الجالس (ص 69 - 71 ط مطر السعادة). ولكن الأستاذ أرندنك كاتب مادة حماد الراوية في الموسوعة الإسلامية، يشك في صحة هذه القصة فهو يرى أنها لا يمكن أن تقع في مثل هذا التاريخ، وأن سماتها تشبه سمات قصة تروى عن الوليد الثاني (يعني الوليد بن يزيد) الذي كان خاصة يستمع إلى حماد كثيرا. ويشك أبو الفرج (ج 5 ص 167) في صحة جانب من هذه القصة، وهو أمر هشام الجاريتين المذكورتين في القصة بسقي حماد الخمر؛ لأن هشاما - كما يقول أبو الفرج - لم يكن يشرب ولا يسقي أحد بحضرته مسكرا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه. كما أن ابن خلكان يشك في جانب آخر من القصة، وهو أمر هشام يوسف بن عمر الثقفي باستدعاء حماد؛ فهو يقول (ص 241): (وما يمكن أن تكون هذه الواقعة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن واليا بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه خالد بن عبد الله القسري). وفي اعتراض ابن خلكان تفسير للشطر الأول من اعتراض أرندنك.
ويبدو لنا أن قصة حماد مع الوليد بن يزيد التي يشير إليها أرندنك في الشطر الثاني من اعتراضه هي التي رواها أبو الفرج في الأغاني (ج 6 ص 128) حيث قال: (. . . قال (أي حماد): دخلت يوماً على الوليد، وكان آخر يوم لقيته فيه، فاستنشدني، فأنشدته كل ضرب من شعر الجاهلية والإسلام، فما هش لشيء منه، حتى أخذت في السخف فأنشدته لعماد بن ذي كنانة مجتبذاً. . . فضحك حتى استلقى، وطرب ودعا بالشراب، فشرب، وجعل يستعيدني الأبيات، فأعيدها حتى سكر، وأمر لي بجائزة، فعلمت أن أمره قد أدبر. ثم دخلت على أبى مسلم، فاستنشدني، فأنشدته قول الأخوة:
لنا معاشر لم ينبوا لقومهم
فلما بلغت إلى قوله:
تُهدى الأمورُ بأهل الرشد ما صلحت ... وإن تولَّت فبالأشرار تنقاد
قال: أنا ذلك الذي تنقاد به الناس، فأيقنت حينئذ أن أمره مقبل).
على أن هذه القصة غير صحيحة فيما يبدو لنا. فإن أبا مسلم الخراساني لم يبرز إلى الميدان السياسي إلا سنة 129هـ، أي بعد وفاة الوليد بن يزيد بثلاث سنين. وأغلب الظن أنها من وضع دعاة العباسيين وضعوها تشهيراً بالوليد وإظهاراً لما كانت عليه دولة بني أمية من انحلال وما كانت عليه الدعوة العباسية من فتوة. وهكذا يسقط الشطر الثاني من اعتراض أرندنك.
ومهما يكن من شيء، فقد كان حماد ذا حظوة لدى يزيد ابن عبد الملك، ثم لدى الوليد بن يزيد من بعده. وتفسير هذه الخطوة يسير. فقد كان الخليفتان يحبان اللهو والمجون، وكانا يجدان في حماد ما يوائم ذينك اللهو والمجون من شعر سافر ومذهب داعر.
على أنه لم يكن ذا حظوة لدى العباسيين. يظهر هذا مما يرويه أبو الفرج (ج 12 ص 102) إذ يقول: (. . . كان مطيع بن إياس منقطعاً إلى جعفر بن المنصور، فطالت صحبته له من غير فائدة، فاجتمع يوماً مطيع وحماد عجرد ويحيى بن زياد، فتذاكروا أيام بني أمية وسعتها ونضرتها وكثرة ما أفادوا فيها وحسن ملكهم وطيب دارهم بالشام وما هم فيه ببغداد من القحط في أيام المنصور وشدة الحر وخشونة العيش وشكوا الفقر فأكثروا. . .)؛ ومما يرويه أبو الفرج (ج 5 ص 169 - 170) والبغدادي (ص 130 - 131) من أن جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكريه كان يستخف مطيع بن إياس ويحبه، وكان منقطعاً إليه، وله منه منزلة حسنة، فذكر حماداً وكان صديقه وكان مطرحا مجفواً في أيامهم، فقال له: ائتنا به لنراه، فأتى مطيع حماداً فأعلمه بذلك وأمره بالمصير إليه ومعه، فقال حماد: دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية ومالي مع هؤلاء خير، فأبى مطيع إلا الذهاب به، فلما أتيا جعفر استنشد هذا حماداً فأنشده قصيدة جرير التي مطلعها:
بان الخليط برامتين فودّعوا ... أَوَ كلما اعتزموا لبيْن تجزعُ
فلما وصل إلى قول جرير:
وتقول بوزع قد دببت على العصا ... هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
أبدى جعفر نفوره من لفظ بوزع، وأمر غلمانه بصفع حماد وجر رجله. ويقول أرندنك إنه (كان أحد الشعراء الذين خرجوا عن بغداد في عهد المنصور في طلب المعاش فذهب إلى الكوفة؛ ولكن يقال إن المنصور استدعاه ثانية إلى بغداد من البصرة).
ومن اليسير علينا أن نفسر إعراض العباسيين عن حماد ورفاقه. فقد كان العباسيون في أول أمرهم يأخذون الحياة مأخذ الجد، ويصطنعون الصرامة والقسوة، ويعملون على تدعيم ملكهم الوليد. وما كان لمثل هؤلاء أن يقبلوا على حماد ورفاقه، وأن يسوغوا لهوهم ومجونهم. هذا إلى أن حماداً ورفاقه كانوا من المقربين إلى بني أمية، وما كان للعباسيين أن يقربوا من كان هواهم مع أعدائهم.
وقد اشتهر حماد بمجونه واستهتاره وفسقه وسكره. وتجد في الأغاني (ج 5 ص 169) قصة من قصص استهتاره، كما تجد صورة من صور فسقه في (ص 170).
ويقول ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 302 المكتبة التجارية): (وكان بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمادون: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان النحوي؛ وكانوا يتعاشرون، ويتنادمون، وكانوا يرمون بالزندقة كلهم؛ وكان حماد بن الزبرقان عتب على حماد الراوية في شيء فقال:
نعم الفتى لو كان يعرف قدرَه ... ويقيمُ وقت صلاته حمادُ
هدلت مشافره الدنانُ فأنفه ... مثل القدوم يسنُّها الحداد
وابيضّ من شُرب المدامة وجهُه ... فبياضُه يوم الحساب سواد)
على أن نسبة هذه الأبيات إلى حماد بن الزبرقان في هجاء حماد الراوية يحوطها الشك؛ فأبو الفرج (ج 5 ص 171) ينسبها وثلاثة أبيات أخرى بعدها إلى أبي الغول الطهوي في هجاء حماد، والبغدادي (ص 132) ينسبها - مغيرة قليلا - إلى أبي الغول الطهوي أيضاً، وابن خلكان (ج 1 ص 295 ط مصر) ينسب البيتين الأول والأخير منها إلى بشار في هجاء حماد عجرد وكانا يتهاجيان، والمرتضى في أماليه (ص 92 ط صبيح) يذكر رواية يؤخذ منها أن أبا الغول النهشلي قال هذه الأبيات - مع اختلاف في صدر البيت الثاني - وبيتاً رابعاً في هجاء حماد عجرد.
ولما توفي حماد رثاه محمد بن كناسة بقوله:
أبعدْت من نومك الفرارَ فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدرُ
لو كان يُنجي من الردى حذرٌ ... نجّاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخٍ يا أبا ... القاسم ما في صفاته كدر
فهكذا يفسد الزمان ويفنى الع ... لم فيه ويدرس الأثر
وهذه الأبيات يذكرها ابن النديم (ص 92)، ويذكرها ياقوت (ج 4 ص 140 ط مرجليوث) وابن خلكان (ص 242 ط باريس) الأبيات الثلاثة الأخيرة منها مغيرة بعض التغيير.
(للبحث بقية)
السيد يعقوب بكر
مجلة الرسالة - العدد 643
بتاريخ: 29 - 10 - 1945