كانت الملاحظات التي أبداها النقاد على كتابي (عبقرية الإمام) قليلة فيما كتب عنه حتى الآن
وأقل منها الملاحظات التي تشتمل على وجه نظر في التاريخ أو التحليل النفسي تقوم على الدرس وتستحق المناقشة
ومن هذه ملاحظات الزميل الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك في كلمته الموجزة بصحيفة (الثقافة)
وخلاصتها:
1 - أنني اعتمدت على بعض الروايات من غير كبير نقد، كاعتمادي على رواية نهج البلاغة في وصف الخفاش والطاووس ونحو ذلك
2 - وأنني اعتمدت على ما روي في حديث سوءة عمرو ابن العاص، وهي رواية لم يقرأها الأستاذ الفاضل في الطبري ويذكرها المؤرخون الإثبات بصيغة (التمريض). فيقول المسعودي: وقد قيل في بعض الروايات، ويشير إليها ابن عبد البر في الاستيعاب فيقول. . . (فيما ذكروا) وكلها عبارات تدل على التشكيك
3 - وأن تقسيم الكلمة الذي نسب إلى الإمام في علم النحو أشبه بالتقسيم المنطقي اليوناني. وهذا كله ناب عن طبيعة العصر
4 - وعلى الجملة كنت في (العبقريات) السابقة فناناً وقاضياً فمضيت في كتابي هذا على نهج أقرب إلى نهج المحامي والفنان، فتعرضت للدفاع عن الإمام في مواقف النزاع أكثر مما تعرضت لرسم شخصيته. ولعل جو الكتابة في علي نفسه قضى بذلك، لأنه حياته السياسية كانت نزاعاً لم ينته حتى بالموت
وهذه الملاحظات كلها يصح أن تلخص في أمر واحد وهو اختلاف مقياس الترجيح والنفي والإثبات
وخلاصة هذا المقياس عندي هو أن نجزم بدليل قاطع أو ننفي بدليل قاطع، وأما الترجيح فالمعول في قوته وضعفه على مشابهة القول المرجح للمعهود والمعقول، فإن كان هذا القول مشابهاً لهما فلا ضير من الأخذ به على أية حال، كأن نعلم أن فلاناً رجل محسن فلا يضير بعد ذلك أن يقال إنه أحسن بدينار في يوم من الأيام، وهو في ذلك اليوم نفسه لم يحسن بدينار ولا بدرهم، أو يقال إن آخر لص معروف فلا يضير أن يتهم بسرقة رجل بعينه وهو لم يسرق منه بل سرق من رجال آخرين
وعلى هذا المقياس نرجع إلى اختلاف وجهة النظر بيننا وبين الأستاذ الفاضل في موضوع الملاحظات التي أبداها، فلا نرى أننا تجاوزنا القدر اللازم من الترجيح، أو أننا قررنا شيئاً يحتاج تقريره إلى برهان أقوى من البرهان الذي اعتمدنا عليه
فأما نهج البلاغة فقد تشككنا في نسبة بعضه إلى الإمام كما تشكك غيرنا من قبلنا، ودعانا إلى الشك في تعض عباراته كما قلنا في عبقرية الإمام (. . . غلبة الصيغة الفلسفية عليها وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الإغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات)
ولكن لا يدخل في هذا ما جاء في نهج البلاغة من الكلام على الطاووس والخفاش وما إليه، لأنه لا يشتمل على شيء يستغرب صدوره من الإمام علي أو يستغرب صدوره من العصر الذي عاش فيه
لأن الإمام علياً عربي أصيل، والعرب مشهورون بوصف الأحياء الآبدة والأنيسة التي رأوها، ولهم في الخيل والإبل وبقر الوحش والظباء والكلاب والطير أوصاف لا يدق عنها دقيق من خلائق تلك الأحياء
ولأن الإمام علياً مسلم فقيه دارس للقرآن، والمسلمون مأمورون بالنظر في خلق الله، ولا سيما الفقيه الدارس المطيل للدراسة
ولأن الإمام علياً عرف بالنزعة الصوفية التي جعلت كثيراً من علماء الكلام ورجال الطريق ينسبون أنفسهم إليه
ولأن العبارات التي وصف بها الخفاش والطاووس في نهج البلاغة لا تنافر بينها وبين عبارات الإمام أو عبارات عصره
فترجيح نسبتها إليه لا ضير فيه وإذا بطلت نسبتها إليه بطلاناً جازماً - وهي لم تبطل قط - فالحقيقة المعهودة المعقولة باقية كما كانت قبل نسبتها إليه، وهي أنه كان ينظر في خلق الله وينزع في تأمله نزعة المتصوفين
أما حديث سوءة عمرو، فقد رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربه في العقد الفريد، ورواه الذين ذكرهم الأستاذ الفاضل بصيغة التمريض
فإبطال هذه الروايات إنما يقوم على تنافر بين العمل وبين طبيعة عمرو بن العاص أو طبيعة علي بن أبي طالب
ولا تنافر بين العمل وبين طبيعة الرجلين
فعمرو بن العاص في عنفوان شبابه سمع رجلاً يطلب قبلة من امرأته فحقد عليه وأضمر الكيد له، ولكنه لم يمنعها أن تقبله بل أمرها بذلك قائلاً: (قبلي ابن عمك) ثم انتقم منه بعد أن خرج من المأزق الذي كان فيه
فليس بمستغرب من معهوده ومعقوله أن يخرج من مأزق الموت في وقعت صفين بمثل تلك الحيلة، وقد بلغ الشيخوخة التي تهدأ فيها عرامة النفوس
وليس بمستغرب كذلك من الإمام أن يعرض عنه، لأنه كان لا يتبع مولياً ولا ينظر إلى عورة، وكان ينهى جنده أن يتبعوا المولين ويهتكوا العورات
وليس بناقض لهذه الروايات أن الطبري لم يحفل بها ولم يثبتها، لأن الطبري في تاريخ عمرو بن العاص خاصة مخل أيما إخلال. وقد نبه إلى هذه الحقيقة كتاب بطلر الذي طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر فقال بحق: (. . . ولكن من أكبر ما يدعو للأسف أن كتابه ناقص نقصاً عظيماً في أخبار فتح مصر، فإن روايته في ذلك قليلة قلة شديدة، وزيادة على قلتها قد دخلها خلط كبير في كل ما يتعلق بوصف البلدان وتواريخ الحوادث وذلك يدعو إلى كثير من التضليل)
فليس الطبري بالمرجع الوافي المقنع في تاريخ عمرو وما ينسب إليه، لأنه قليل الاحتفال بمعظم تفصيلات هذا التاريخ
ونعود إلى قاعدتنا في القياس الترجيح فنسأل: ترى لو لم يثبت حديث الرواة في هذه المسألة فماذا يبطل من صفاتنا للإمام؟ إننا جئنا بها مع غيرها للدلالة على نخوة الإمام
ونخوة الإمام صفة ثابتة له على كل فرض من الفروض التي تحوم حول هذه الرواية
فهي إذن شيء لا يجزم بنفيه
وهي إذا جزم بنفيها لا تغير الحقيقة النفسية التي أثبتناها للإمام أقل تغيير
وقد عرضنا نحن لرواية من قال إن الإمام علياً وضع أساس علم النحو فقلنا: (. . . وتواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب فقال له: اكتب ما أملي عليك، ثم أملاه أصولاً منها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف. . . إلى آخر ما جاء في تلك الرواية
والى هنا نحن نقرر الواقعة التاريخية ولا نزيد عليها، لأن المتواتر في كتب العرب هو هذا بلا مراء
ثم نعقب في عبقرية الإمام فنقول: (وهذه رواية تخالفها روايات شتى تستند إلى المقابلة بين اللغات الأخرى في اشتقاق أصولها النحوية ولا سيما السريانية واليونانية)
إلى أن نقول: (ولا يمنع عقلاً أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي من مذاكرة العلماء بهذه الأصول بين أبناء الأمم التي كانت تخشى الكوفة وحواضر العراق والشام، وهم هنالك غير قليل، ولا سيما السريان الذين سبقوا إلى تدوين نحوهم وفيه مشابهة كبيرة لنحو اللغة العربية)
وفي اعتقادنا أن الحد الذي وقفنا عنده هو الحد المأمون في الشك والترجيح، وليس لنا أن نقول غير ما قلناه بغير دليل قاطع من الأسانيد الصحيحة
أما إذا اعتمدنا على المقاربة الترجيحية فالسريان أقرب إلى اللغة العربية والى الكوفة من اليونان، ومذاكرة الإمام لعلمائهم أقرب من مذاكرته لعلماء اليونان. ومن شاء بعد ذلك أن ينفي الروايات المتواترة نفياً قاطعاً فعليه الدليل
هذه أمثلة لمقياس الترجيح والتشكيك عندنا في مختلف الروايات وهو على ما نعتقد المقياس الوحيد المأمون؛ لأن الرواية التي نشك فيها لا تبطل شيئاً من الآراء التي نقررها سواء مضينا بالشك إلى التأييد أو إلى التفنيد. وليس لنا أن نتجاوز الشك إلى الجزم بغير برهان وثيق وسفد لا مطعن فيه وبعد فإننا نوافق الأستاذ الزميل على أننا قد اتخذنا موقف المحامي عن الإمام في كتابنا عن عبقريته، وأن جو الكتابة هو الذي قضى علينا باتخاذ هذا الموقف، لأن النزاع حول علي يوجب التعرض لوجوه هذا النزاع، كما يوجب إنصافه مما قيل فيه
ولكننا لا نوافقه على أن الدفاع يمنع (رسم الشخصية) على الوجه الأمثل، لأن تصحيح الأقوال التي يوصف بها رجل من الرجال هو المقدمة الأولى لتصحيح صفاته والتعريف بحقيقة شخصه، وليس من اللازم أن يكون حكم القضاء مخالفاً لبرهان الدفاع. بل كثيراً ما يعتمد عليه وينقله بنصه ويبطل كل ما عداه
وإن من الحق علينا لزميلنا الكبير أن نشكر له ملاحظاته القيمة، لأن الملاحظات التي تصدر عن وجهة نظر هي جلاء لوجهة نظرين بل لوجهات أنظار، ومنها الفائدة التي يبتغيها النقاد والقراء والمؤلفون.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 543
بتاريخ: 29 - 11 - 1943
وأقل منها الملاحظات التي تشتمل على وجه نظر في التاريخ أو التحليل النفسي تقوم على الدرس وتستحق المناقشة
ومن هذه ملاحظات الزميل الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك في كلمته الموجزة بصحيفة (الثقافة)
وخلاصتها:
1 - أنني اعتمدت على بعض الروايات من غير كبير نقد، كاعتمادي على رواية نهج البلاغة في وصف الخفاش والطاووس ونحو ذلك
2 - وأنني اعتمدت على ما روي في حديث سوءة عمرو ابن العاص، وهي رواية لم يقرأها الأستاذ الفاضل في الطبري ويذكرها المؤرخون الإثبات بصيغة (التمريض). فيقول المسعودي: وقد قيل في بعض الروايات، ويشير إليها ابن عبد البر في الاستيعاب فيقول. . . (فيما ذكروا) وكلها عبارات تدل على التشكيك
3 - وأن تقسيم الكلمة الذي نسب إلى الإمام في علم النحو أشبه بالتقسيم المنطقي اليوناني. وهذا كله ناب عن طبيعة العصر
4 - وعلى الجملة كنت في (العبقريات) السابقة فناناً وقاضياً فمضيت في كتابي هذا على نهج أقرب إلى نهج المحامي والفنان، فتعرضت للدفاع عن الإمام في مواقف النزاع أكثر مما تعرضت لرسم شخصيته. ولعل جو الكتابة في علي نفسه قضى بذلك، لأنه حياته السياسية كانت نزاعاً لم ينته حتى بالموت
وهذه الملاحظات كلها يصح أن تلخص في أمر واحد وهو اختلاف مقياس الترجيح والنفي والإثبات
وخلاصة هذا المقياس عندي هو أن نجزم بدليل قاطع أو ننفي بدليل قاطع، وأما الترجيح فالمعول في قوته وضعفه على مشابهة القول المرجح للمعهود والمعقول، فإن كان هذا القول مشابهاً لهما فلا ضير من الأخذ به على أية حال، كأن نعلم أن فلاناً رجل محسن فلا يضير بعد ذلك أن يقال إنه أحسن بدينار في يوم من الأيام، وهو في ذلك اليوم نفسه لم يحسن بدينار ولا بدرهم، أو يقال إن آخر لص معروف فلا يضير أن يتهم بسرقة رجل بعينه وهو لم يسرق منه بل سرق من رجال آخرين
وعلى هذا المقياس نرجع إلى اختلاف وجهة النظر بيننا وبين الأستاذ الفاضل في موضوع الملاحظات التي أبداها، فلا نرى أننا تجاوزنا القدر اللازم من الترجيح، أو أننا قررنا شيئاً يحتاج تقريره إلى برهان أقوى من البرهان الذي اعتمدنا عليه
فأما نهج البلاغة فقد تشككنا في نسبة بعضه إلى الإمام كما تشكك غيرنا من قبلنا، ودعانا إلى الشك في تعض عباراته كما قلنا في عبقرية الإمام (. . . غلبة الصيغة الفلسفية عليها وامتزاجها بالآراء والمصطلحات التي اقتبست بعد ذلك من ترجمة الكتب الإغريقية والأعجمية، ولا سيما الكلام على الأضداد والطبائع والعدم والحدود والصفات والموصوفات)
ولكن لا يدخل في هذا ما جاء في نهج البلاغة من الكلام على الطاووس والخفاش وما إليه، لأنه لا يشتمل على شيء يستغرب صدوره من الإمام علي أو يستغرب صدوره من العصر الذي عاش فيه
لأن الإمام علياً عربي أصيل، والعرب مشهورون بوصف الأحياء الآبدة والأنيسة التي رأوها، ولهم في الخيل والإبل وبقر الوحش والظباء والكلاب والطير أوصاف لا يدق عنها دقيق من خلائق تلك الأحياء
ولأن الإمام علياً مسلم فقيه دارس للقرآن، والمسلمون مأمورون بالنظر في خلق الله، ولا سيما الفقيه الدارس المطيل للدراسة
ولأن الإمام علياً عرف بالنزعة الصوفية التي جعلت كثيراً من علماء الكلام ورجال الطريق ينسبون أنفسهم إليه
ولأن العبارات التي وصف بها الخفاش والطاووس في نهج البلاغة لا تنافر بينها وبين عبارات الإمام أو عبارات عصره
فترجيح نسبتها إليه لا ضير فيه وإذا بطلت نسبتها إليه بطلاناً جازماً - وهي لم تبطل قط - فالحقيقة المعهودة المعقولة باقية كما كانت قبل نسبتها إليه، وهي أنه كان ينظر في خلق الله وينزع في تأمله نزعة المتصوفين
أما حديث سوءة عمرو، فقد رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربه في العقد الفريد، ورواه الذين ذكرهم الأستاذ الفاضل بصيغة التمريض
فإبطال هذه الروايات إنما يقوم على تنافر بين العمل وبين طبيعة عمرو بن العاص أو طبيعة علي بن أبي طالب
ولا تنافر بين العمل وبين طبيعة الرجلين
فعمرو بن العاص في عنفوان شبابه سمع رجلاً يطلب قبلة من امرأته فحقد عليه وأضمر الكيد له، ولكنه لم يمنعها أن تقبله بل أمرها بذلك قائلاً: (قبلي ابن عمك) ثم انتقم منه بعد أن خرج من المأزق الذي كان فيه
فليس بمستغرب من معهوده ومعقوله أن يخرج من مأزق الموت في وقعت صفين بمثل تلك الحيلة، وقد بلغ الشيخوخة التي تهدأ فيها عرامة النفوس
وليس بمستغرب كذلك من الإمام أن يعرض عنه، لأنه كان لا يتبع مولياً ولا ينظر إلى عورة، وكان ينهى جنده أن يتبعوا المولين ويهتكوا العورات
وليس بناقض لهذه الروايات أن الطبري لم يحفل بها ولم يثبتها، لأن الطبري في تاريخ عمرو بن العاص خاصة مخل أيما إخلال. وقد نبه إلى هذه الحقيقة كتاب بطلر الذي طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر فقال بحق: (. . . ولكن من أكبر ما يدعو للأسف أن كتابه ناقص نقصاً عظيماً في أخبار فتح مصر، فإن روايته في ذلك قليلة قلة شديدة، وزيادة على قلتها قد دخلها خلط كبير في كل ما يتعلق بوصف البلدان وتواريخ الحوادث وذلك يدعو إلى كثير من التضليل)
فليس الطبري بالمرجع الوافي المقنع في تاريخ عمرو وما ينسب إليه، لأنه قليل الاحتفال بمعظم تفصيلات هذا التاريخ
ونعود إلى قاعدتنا في القياس الترجيح فنسأل: ترى لو لم يثبت حديث الرواة في هذه المسألة فماذا يبطل من صفاتنا للإمام؟ إننا جئنا بها مع غيرها للدلالة على نخوة الإمام
ونخوة الإمام صفة ثابتة له على كل فرض من الفروض التي تحوم حول هذه الرواية
فهي إذن شيء لا يجزم بنفيه
وهي إذا جزم بنفيها لا تغير الحقيقة النفسية التي أثبتناها للإمام أقل تغيير
وقد عرضنا نحن لرواية من قال إن الإمام علياً وضع أساس علم النحو فقلنا: (. . . وتواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب فقال له: اكتب ما أملي عليك، ثم أملاه أصولاً منها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف. . . إلى آخر ما جاء في تلك الرواية
والى هنا نحن نقرر الواقعة التاريخية ولا نزيد عليها، لأن المتواتر في كتب العرب هو هذا بلا مراء
ثم نعقب في عبقرية الإمام فنقول: (وهذه رواية تخالفها روايات شتى تستند إلى المقابلة بين اللغات الأخرى في اشتقاق أصولها النحوية ولا سيما السريانية واليونانية)
إلى أن نقول: (ولا يمنع عقلاً أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي من مذاكرة العلماء بهذه الأصول بين أبناء الأمم التي كانت تخشى الكوفة وحواضر العراق والشام، وهم هنالك غير قليل، ولا سيما السريان الذين سبقوا إلى تدوين نحوهم وفيه مشابهة كبيرة لنحو اللغة العربية)
وفي اعتقادنا أن الحد الذي وقفنا عنده هو الحد المأمون في الشك والترجيح، وليس لنا أن نقول غير ما قلناه بغير دليل قاطع من الأسانيد الصحيحة
أما إذا اعتمدنا على المقاربة الترجيحية فالسريان أقرب إلى اللغة العربية والى الكوفة من اليونان، ومذاكرة الإمام لعلمائهم أقرب من مذاكرته لعلماء اليونان. ومن شاء بعد ذلك أن ينفي الروايات المتواترة نفياً قاطعاً فعليه الدليل
هذه أمثلة لمقياس الترجيح والتشكيك عندنا في مختلف الروايات وهو على ما نعتقد المقياس الوحيد المأمون؛ لأن الرواية التي نشك فيها لا تبطل شيئاً من الآراء التي نقررها سواء مضينا بالشك إلى التأييد أو إلى التفنيد. وليس لنا أن نتجاوز الشك إلى الجزم بغير برهان وثيق وسفد لا مطعن فيه وبعد فإننا نوافق الأستاذ الزميل على أننا قد اتخذنا موقف المحامي عن الإمام في كتابنا عن عبقريته، وأن جو الكتابة هو الذي قضى علينا باتخاذ هذا الموقف، لأن النزاع حول علي يوجب التعرض لوجوه هذا النزاع، كما يوجب إنصافه مما قيل فيه
ولكننا لا نوافقه على أن الدفاع يمنع (رسم الشخصية) على الوجه الأمثل، لأن تصحيح الأقوال التي يوصف بها رجل من الرجال هو المقدمة الأولى لتصحيح صفاته والتعريف بحقيقة شخصه، وليس من اللازم أن يكون حكم القضاء مخالفاً لبرهان الدفاع. بل كثيراً ما يعتمد عليه وينقله بنصه ويبطل كل ما عداه
وإن من الحق علينا لزميلنا الكبير أن نشكر له ملاحظاته القيمة، لأن الملاحظات التي تصدر عن وجهة نظر هي جلاء لوجهة نظرين بل لوجهات أنظار، ومنها الفائدة التي يبتغيها النقاد والقراء والمؤلفون.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 543
بتاريخ: 29 - 11 - 1943