عباس حسان خضر - حرفة الأدب

ألممت في مقال (نظرات في أدب المتأخرين) المنشور في عدد مضى من (الرسالة) بحرفة الأدب إلماماً وجيزاً. وقد رأيت أن أجيل القلم في نواح من هذا الموضوع أوجزت القول في بعضها بالمقال السابق، ثم رأيت أنها تحتاج إلى شيء من البسط والنواحي الأخرى جال بها الفكر بعد.

قلت في ذلك المقال: (وكثيراً ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت حرفة الأدب مجلبة للبؤس وشؤماً على من أدركته).

فقد سارت كلمة (أدركته حرفة الأدب) مسير المثل، تقال في كل أديب يناله شر، وعند كل حالة يمنى فيها بالخيبة والإخفاق. وكل أمر يقترن بالمحن والرزايا معدود في المشئمات، مرمى بجرائره دون نظر إلى الملابسات؛ فالأديب إنسان له حاسة سادسة إلى حواسه الخمس، هي طبيعته الفنية التي تستعمل الحواس الأخرى في إحساسها بنواحي الحياة إحساساً ينفرد به الأديب كما ينفرد ببيان لا يتأتى لغيره من سائر الناس، وهو بفنه هذا مشغول، مستهلك جل قواه، مصروف عن مقومات حياته وضرورات عيشه، فإذا مسه ضر عد أدبه شؤماً وقيل: (أدركته حرفة الأدب).

فلست أرى الشؤم من واقع الأمور، وإنما هو حالة نفسية تنشأ عن اقتناع بأن المتشائم منه يجلب الشر والأذى، ومن مقتضيات هذه الحالة تهيب المتطير منه والإعراض عنه أو الإقبال عليه مع الكره وتوقع الشر، وكأن المتطير يستدعي بذلك ما يخشاه، وكأنه يهيئ نفسه ليكون مهبطاً له؛ فتستجيب له النوائب وتنزل بساحته الكوارث وقد أعد لها.

ولست أرى بأساً على من ينحى عنه خاطر التشاؤم ولا يدع له إلى نفسه سبيلاً؛ وقد اقتنع بذلك ابن الرومي (وهو رأس المتشائمين والقائل: الفأل لسان الزمان، والطيرة عنوان الحدثان) لما أنشده أحد الشعراء وقد علم أنه يتطير:

ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب

رجعت على نفسي فوطنتها على ... ركوب جميل الصبر عند النوائب

ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائ فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب

ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح ... تطير دار أو تفاؤل صاحب

راقت هذه الأبيات ابن الرومي، وتأثر بها، فحلف ألا يتطير أبداً (من هذا ولا من ذاك) وأومأ إلى جاره الأعور، وكان يتشاءم منه. فقال له أحد الحاضرين: (وهذا الخاطر من التطير) فهو وإن كان اقتنع رأيه بفساد مذهب التطير فقد غلبته طبيعته فأخطرت له التطير وهو يحلف ألا يتطير!

على أنني أعود من هذا لأشاطرك ما لا بد أنه يجول بذهنك وهو أن الأدب لم يكن دائماً قريناً للبؤس والحرمان، وليس كل أديب كيعقوب الخزيمي القائل:

ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم

ويخطر لك هذا لأنك تعلم أن الأدب نفع ورفع كثيرين، فأنالهم المال، وأبلغهم المناصب. وقد اختلفت حظوظ الأدباء من حيث انتفاعهم بأدبهم أو (إدراك الحرفة إياهم) باختلاف أسباب، بعضها من ذات أنفسهم، وبعضها خارج عن ذواتهم؛ فالنوع الأول كاباء الأديب واستنكافه أن يسلك مسلكاً يراه غير لائق، وليس في المجتمع الذي يعيش فيه غيره من طرق الانتفاع بالأدب، على حين لا يتحرج أديب آخر من ذلك؛ أو أن يكون الأديب واسع الحيلة أو ضيقها، أو حسن التدبير أو سيئه. والنوع الثاني من تلك الأسباب كظروف الزمان والمكان، فهذه دولة يشجع رجالها الأدباء، على مختلف بواعث التشجيع، وبمختلف وسائله؛ وتلك أخرى يحتجن أصحابها البر عن الأدباء، أياً كانت أسباب هذا الاحتجان. وقد لا يكون الأديب بحاجة إلى الانتفاع بأدبه، لأن له من ثرائه أو كسبه من طرق أخرى ما يغنيه عن ذلك، فيتنقل بين زهر الآداب ويغرد على أفنانها لا لشيء إلا ليرضي حاجة نفسه، ويمكن (حاسته السادسة) من القيام بوظيفتها.

وبالطبع كانت تروج كلمة (أدركته حرفة الأدب) كلما توافرت معوقات الاكتساب، وأنت تراها قد قلت في عصرنا هذا فإن التأليف والصحافة قد أصبحا سوقاً نافقة للكتاب وخاصة المعروفين منهم لدى جمهور القراء، وقد ربح بعضهم في السنوات الأخيرة ما يعد من جملة أسباب (التضخم النقدي) ومما يؤسف له أن هذا الربح الوفير قد أغرى الكثيرين بكثرة الإنتاج التي لا تتم إلا باللهوجة والسلق، ولا سيما سلق البقول التي تجمع من حقول الأسفار، فتصنف المؤلفات كما تصنف (شربة الخضار) كأن الأذواق قد اعتلت، فهم يصنعون لها هذا اللون من الحساء. . .!

وقد عمد مديرو بعض المجلات الشعبية إلى بعض الكبار من الكتاب يستكتبونهم بأجور مغرية، ومفهوم أن أصحاب هذه المجلات يقصدون ترويجها أو ازدياد رواجها بأسماء المشهورين من الأدباء، ولكن بعض هؤلاء الكتاب الفحول أسفوا في كتاباتهم لأنهم قصدوا إلى الدنو من ذهن القارئ العادي، وطلبوا طرائف الموضوعات فلم يوفقوا، وتكلفوا الظرف ومسايرة روح تلك المجلات؛ وذلك ليس في طبعهم، فجاء إنتاجهم في هذا المضمار بائخاً لا غناء فيه.

وأن تدرك حرفة الأدب هؤلاء وأولئك خير من إفساد السوق الأدبية برديء المنتجات، وإفساد السوق الاقتصادية بتضخم النقد واستمرار الغلاء.

وإن من حق الكتاب الناضجين - بلا شك - أن يستثمروا فنهم ويجنوا ثمرته، ولذلك أثره حفز الهمم وشحذ القرائح، ولكن من حق الأدب ومن حق (مستهلكيه) إجادة الإنتاج وألا يزاول الكاتب من أنواع الكتابة إلا ما يحسنه، وإذا كانت المصانع المشهورة تحرص على جودة مصنوعاتها لأنها تحمل أسماءها، أفلا يجدر بهؤلاء الكتاب المشهورين أن يتعهدوا أسماءهم بالجلاء والصقل؟

أما الشعراء فلم يعد لهم سبيل لائق بكرامة الأدب في العصر الحديث إلى الاكتساب من فنهم، وكم كان ظريفاً ذلك الشاعر - وهو من أساتذة اللغة العربية - الذي قال: إنني أتكسب بالشعر ولكن لا بشعري أنا وإنما بألفية ابن مالك!

وممن أدركتهم حرفة الأدب في عصرنا أفراد معرفون بالانتحال، ينشئون المقال أو الخطبة أو القصيدة أو الكتاب، وينحلونه من لم تدركهم الحرفة لقاء قروش أو جنيهات معدودات فيتسلق هؤلاء المجدودون أولئك الحرفاء، لأنهم لا سيقان لهم في الأدب يقومون عليها. وهؤلاء وأولئك يرتكبون التدليس والتزوير في الأدب، حتى ليصح أن يقال إن الأدب أدركته حرفتهم! فنكبته بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .

ونخلص من كل ذلك إلى ما قررناه وهو أن الأدب لم يكن دائماً مجلبة للشقاء والحرمان، بل كثيراً ما كان سبباً إلى النعمة والرفاهة، فلا يصح أن نقرنه بالشؤم، لأنه يتخلف عنه، وما بالذات لا يتخلف، كما يقول الفلاسفة.

على أن فن الأدب نفسه متعة؛ فإن لم يصل صاحبه إلى الأعراض الأخرى فحسبه إمتاع فنه والحياة الرفيعة التي يضطرب فيها بفكره وصفاء روحه، والله المستعان.

عباس حسان خضر


مجلة الرسالة - العدد 674
بتاريخ: 03 - 06 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...