تقديم
هناك إجماع حول أهمية الترجمة في حياة الشعوب والأمم، ودورها في التقريب بين الحضارات والثقافات وتفاهمها. لذلك نلاحظ تزايد الإهتمام بالترجمة، سواء من طرف أفراد ذاتيين أو مؤسسات رسمية. لكن عملية الترجمة تطرح إشكالات حقيقية حول دوافعها ومقتضياتها وغاياتها، الشيء الذي جعل منها قضية فلسفية. تجلى ذلك في النقاشات والجدالات التي ركزت حول أسئلة الأمانة والخيانة أثناء الترجمة، و الترجمة النهائية والنسخة طبق الأصل، واستعداد لغات لاستضافة نصوص ومتون لغات أجنبية متعددة ومختلفة. لكن ما يثير في قضية الترجمة، هو الهوة الفاصلة بين إعداد نصوص وكتب، وطبيعة التفاعل معها والتفكير بها، لا أقصد هنا القارئ فقط، بل المترجم ذاته. لهذا لا أستسيغ مقدمات وإهداءات وتعليقات عدد من المترجمين، التي تستبق عزيمة القارئ، لتذكره بهويته وثقافته وأخلاقه، وبتفوق حضارته وأبطالها، وبالتالي تقطع الطريق أمام قيام أي تفاعل أو توظيف أو إعمال فكر.
سأحاول في مقالتي هذه، إثارة ثلاث مواقف من الترجمة، وهي كالتالي: موقف الكاتب المترجم عبد السلام بنعبد العالي من المغرب، وموقف الأستاذ المترجم فتحي المسكيني من تونس، وموقف الأديب المترجم فيليكس فارس من لبنان.
عبد السلام بنعبد العالي: زهو الفكر في ازدهار الترجمة
في كل مرة يتناول فيها عبد السلام بعبد العالي قضية الترجمة، تجده متحمسا لسرد فضائلها البيداغوجية والتربوية والفلسفية، بل يجعل من الترجمة قضية الفلسفة. ففي كتابه "في الترجمة"، يؤكد على أن قضية الترجمة هي بلا منازع قضية الفلسفة...، هي هم الفكر في محاولته لإعادة قراءة تراثه وتجاوزه(1). فبالترجمة يتم تحويل النصوص والمتون، الشئ الذي يضمن حياتها وحياة اللغة والفكر في نفس الآن. وهي ما ينفخ الحياة في النصوص وينقلها من ثقافة إلى أخرى، من لغة إلى أخرى(2). وبهذا المعنى، تصير الترجمة استراتيجية لتوليد الفوارق، وإقحام الآخر في الذات، ووسيلة انفتاح وتحرر(3).
لكن حماسة بنعبد العالي تفتر في لحظات بحثه عن آثار هذه النصوص والمتون المترجمة في سوق التبادل المعرفي، حيث يؤكد على أنها لا تدخل في شبكات فكرية وعلاقات أخرى، ولا تثير انتقادا ولا تستثمر ولا توظف(4). لهذا يدعو إلى ضرورة التفاعل معها، وإذكاء حدة التوتر بيننا وبينها، والتفكير بها رغبة في مواكبة الجدال الثقافي والمخاض الفلسفي والفكري. لا يلمس عبد السلام بنعبد العالي اليوم هذا الجدال عند من ينقلون نصوص هيغل أو هوسرل أو هايدغر(5)، إذ لا يتم هذا النقل في سياق استثمار فكري لنصوصهم ومتونهم. بخلاف ما حدث سابقا مع نصوص ديكارت وفرويد وماركس؛ فقد كانت ترجمات نصوصهما، على علاتها، تواكب جدالا ثقافيا عاما. فقد ترجمنا –يقول بنعبد العالي- بعض نصوص ديكارت، إلا أن ذلك كان يدخل في سياق انشغال ثقافي لم يكن ينحصر في مجال الفلسفة وإنما كان يطال ميدان الأدب ومنهج دراسته. نقلنا بعض نصوص ماركس وفرويد عن الفرنسية والأنجليزية، إلا أننا تجادلنا كثيرا وترددنا طويلا في توظيف كلمات وفي ترجمة مفهومات ونقل مصطلحات(6).
يلاحظ بنعبد العالي توفر ترجمات لنصوص ومتون فلسفية مختلفة، لكن حضور بعضها لا يدوم طويلا، إذ لا تتمكن من فرض نفسها وإعادة نشرها. كما أنها لا تساهم بشكل فعال في زحزحة الصورة الوثوقية للفكر ونظام الأحكام الأخلاقية، ولا إبداع إمكانات جديدة للتفكير.
فتحي المسكيني: الترجمة بين الإيجاب والسلب
يعتبر فتحي المسكيني الترجمة كمهمة فلسفية قائمة بذاتها، فهي صداقة فلسفية مع المعاني الكونية، وتسريح للممكنات الكونية التي استضافتها لغة دون أخرى، واستعادة للجزء الضائع من أنفسنا الذي قيل في لغة أخرى. وهذا يعني أن الترجمة لا تقرب بين الشعوب فحسب، بل تقرب كل لغة من نفسها وكل قائل إلى نفسه العميقة، أي إلى إنسانيته. كما يعتبر الكاتب الترجمة كطريقة جذرية للتحرر من أب روحي أو فلسفي، بل وسيلة للتحرر من "هيمنة الغرب"(7).
دفعت حماسة فتحي المسكيني إلى الرد عن أصحاب الموقف السلبي من الترجمة، ونخص بالذكر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. فرغم الأفكار المتميزة التي كتبها هذا الأخير حول الترجمة، فقد كان يشك في إمكانية "الحوار" بين العقول المنتمية إلى عوالم تاريخية متباعدة. لكن المسكيني ثمن الموقف القائل بتعدد منازل الكينونة بحكم تعدد اللغات والثقافات والعوالم، واعتبرهذا التعدد، الأفق الوحيد المناسب للإقدام على ترجمة هايدغر إلى العربية. واستند في ذلك على توافق معجم هايدغر السري مع شعور المترجم العربي(8)، لكنه أخذ على هايدغر غفله للوسيط التاريخاني في تكون التجربة الأوربية، ألا وهو اللغة العربية. لذلك ألح على ذاك الإرتباط المضاعف مع الحدث التاريخاني للقول الفلسفي في الكينونة؛ أولا من جهة اللغة العربية، وثانيا من جهة القارة الروحية التي تحمل إسم "الإسلام"(9). على هذا الأساس التاريخاني، أكد على ضرورة تجاوز مفهوم التسامح في أية علاقة مع الآخر، والأخذ ب"أحد الآداب القديمة لأنفسنا"، ويعني أدب "الضيافة" الذي قال به فيلسوف ألماني آخر، وهو إيمانويل كانط. هكذا ستصير الترجمة "ضرب من الضيافة إزاء تراث ما". وفي هذا السياق، نوه فتحي المسكيني بمجموعة من المترجمين المنتمين لجنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، كعبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا ومحمد مفتاح، وعبد الغفار مكاوي وعبد الرحمان بدوي وفؤاد زكريا وبسام حجار ومحمد محجوب ...، ومن شمال المتوسط، كهوسرل وسارتر وريكور.... لكن هذا التنويه، سيصبح استثنائيا مع مارتن هايدغر، إذ وجد المسكيني نفسه قريبا جدا من لغته ومصطلحاته وتعابيره وفنياته، ومقتنع بشطر واسع من إشكاليته الفلسفية. لذلك أكد على أن السبب في عدم القدرة على فهم مقاصده، لا يرجع إلى " أننا لسنا غربيين"، بل إلى عدم تطويرنا أشكالا مناسبة من اللقاء الروحي والنظري مع ما تشير إليه أسئلته، وما تقود إليه طرق التفكير التي رسمها لأجيال من المتفلسفة في الفكر المعاصر(10). رغم دفاع المسكيني عن الترجمة، وعن ترجمته لمؤلف هايدغر " الكينونة والزمان "، فقد اكد على أن نقد هايدغر مثله مثل نقود أخرى، لا علاقة لها بما يحدث لنا، يقول:
" إن كل المكاسب التفكيكية لجيل فوكو-تفكيك الذات والإله والمعرفة والسلطة والقانون والسيادة والحرية...- هي ترف فكري لا يمكن أن يعني شعوبا لم تصبح مجتمعات بعد فحيثما يوجد نزاعات هووية لا يمكن لأن تندلع معارك تفكيكية. ويبدو لي أنه من المراهقة الفلسفية أن نواصل نقد ماهية السلطة أو نقد ماهية العقل أو نقد الحداثة أو الذاتية...وكأننا «غربيون»".
يزيد:" ولا يغرننا استعمال نفسها التسميات: إن «حق الإختلاف» مثلا، تحت قلم فوكو أو دريدا، ليس له نفس معنى متى استعملناه نحن في ثقافة «مختلفة» بطبعها.... كل هذه النقود الجذرية للبنى العميقة للمجتمع الغربي الحديث، هي لا تمس ما يحدث لنا، وليس من شأنها"(11).
هل بإمكاننا الآن، أن نقول أن الجهد الذي قام به فتحي المسكيني خلال أكثر من ست سنوات لترجمة مؤلف الكينونة والزمان، إضافة إلى ترجمات أخرى، كانت فقط عبارة عن ترف فكري ومراهقة فلسفية؟ أم نؤكد معه، على أن أمر الترجمة يتعلق باستدعاء العقول المعاصرة إلى مشاكلنا، ومحاولة الإستضاءة بها في بناء ورشات عمل داخلية تساعد ثقافتنا على الإنخراط في سياسة حقيقة من نوع جديد؟(12).
فيليكس فارس: ترجمة تحت الطلب
لا أعرف الأسباب التي دفعت فيليكس فارس إلى تعريب كتاب فريديريك نيتشه "هكذا تكلم زرادشت"، لكني أعلم جيدا عدم تحمله لفكر مختلف، غير مهموم بالتعالي. لذلك لم يشرع في هذا العمل الغير المرغوب فيه، إلا بعدما عقد -في التمهيد الطويل الذي خص به الكتاب- محاكمة لنيتشه، وأصدر أحكامه الأخلاقية القطعية حول شخصيته وأفكاره وطموحه. كما استغل هوامش العديد من صفحات الكتاب لسرد أخلاق نيتشه الغير الحميدة، كالجحود والكفر والإلحاد، ونبه "القارئ الكريم" إلى اختلاف إله نيتشه وعالمه الثاني عن إله المترجم وعالمه الروحي(13). وذكر بموقفه المناقض لموقف نيتشه من الجسد والروح والخلود والإيمان، وأكد على صحة إيمان الشرق الذي لن يتزحزح بترجمة كتاب نيتشه، وتساءل:
" وهل لنيتشه أن يدعي أنه أتي بشئ جديد في فلسفته عند تصويره مبادئ الحياة، أفليس كل ما أصاب فيه مستمدا مما أوحي إلى رسل الله وأنبيائه الأطهار، أفليس كل ما ضل فيه ناشئا من محاولته الإستغناء عن أنوار هذا الوحي..."(14).
لم يتوقف فيليكس فارس عند هذا النفي ، بل أكد على أن كل ما كتبه نيتشه هو عبارة عن " بيان شعري يتلبس الفلسفة " لا أثر فيه لأي استقراء أو تعليل بل هو فقط ثرثة وجنون، وأن عضات زرادشت ليس فيها ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا. لذلك كان يذكر "قارئه الكريم" بما كتبه في التمهيد، ويحرص في الهوامش على توجيه انتباهه إلى نيتشه الجاحد(15)، المزدري لقيمة الروح والمتخبط في الدفاع عن الضعفاء. والغاية من كل ذلك، هو دفع القارئ إلى عدم الأخذ بأفكار نيتشه وفلسفته، ونسج شباك مضاد حتى لا يقع أبناء الشرق في شرك هذا الرجل "العبقري" كما ينعته.
يشير فيليكس فارس إلى أن ثلاثة أعلام في الشرق العربي أهابوا له بترجمة كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، وهم السيد مصطفي صادق الرافعي، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة، والأستاذ أحمد حسن الزيات(16). كما أن ترجمته هي وفاء لحلم رآه الأستاذ أسعد باسيلي باشا، ورفيقه القديم فرح أنطوان(17).
خاتمة
أؤكد أخيرا، على الدور الكبير الذي قام به فيليكس فارس وعبد السلام بنعبد العالي وفتحي المسكيني، ومترجمين آخرين، في إغناء مكتباتنا بكتب ونصوص مختلفة، وتهييئنا للقاء فلاسفة ومفكرين وفنانين وروائيين وشعراء من مختلف "منازل الكينونة". وأثناء كل لقاء، كنا مفعمين بالطيبة تجاه عملهم الإبداعي وجهدهم لقهر المسافة التي تفصل بين لغات وثقافات وشعوب. إن ملاحظاتنا حول مواقف هؤلاء المترجمين، هي تأكيد على ضرورة الشروع في إعادة النظر في قضية الترجمة وفلسفتها، ودعوة لجعل نصوصهم "تحيا في ترجماتها حياة لامتناهية"، ولن يتأتى ذلك إلا بتجاوز "الفضول المعرفي" نحو استثمار فعال لمتونهم، غاية في تخصيب الفكر والحياة معا.
الهوامش
1-عبد السلام بنعبد العالي: في الترجمة، سلسلة شراع، عدد40، ص8.
2-عبد السلام بنعبد العالي: في الترجمة، ص32 و33.
3-عبد السلام بنعبد العالي، فضيلة الترجمة، مؤسسة مومنون بل حدود، 29 ماي 2014.
4-عبد السلام بنعبد العالي: الكتابة بيدين، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2009، ص75.
5-عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة أداة للحوار، ص37.
6-عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة أداة للحوار، ص36.
7-فتحي المسكيني: التفكير بعد هايدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، مارس 2011، ص10.
8-يقول فتحي المسكيني:"نحن نأخذ مسألة "تعدد" منازل الكينونة بوصفخا الأفق الوحيد المناسب للإقدام على "ترجمة" هيدغر إلى العربية، متأولة في معنى "العبور" إلى الضفة الميتافيزيقية الأخرى التي يقف عليها، وإن كنا لا نشعر أن ما يفصلنا عنها هو "نهر عريض". فما يشعر به المترجم الصيني مثلا من افتقار الثقافة الصينية إلى دين توحيدي مثل المسيحية، وجد أن معجم هيدغر السري ما فتئ ينهل منه أو يقاومه، هو شعور لا يمكن أن ينتاب المترجم العربي"، مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2012، ص32.
9-مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2012، ص32.
10-أحمد الزين: : فتحي المسكيني: هيدغر قريب منا ...لكن ترجمته مغامرة. ويرى المسكيني أن الإشكالية الفلسفية عند هيدغر مهمة بالنسبة إلى الثقافة العربية، " من جهة علاقتها بتراثها العميق، من لغة وقرآن وكلام وفلسفة وتصوف. ويستند في ذلك على كون هايدغر " قريب منا ، من جهة أنه هو من وضع أسس نوع من "نقد العقل الـتأويلي" الذي يصلح تماما لمساعدة ثقافتنا على طرح المشكلات التأويلية الخاصة بها بالإعتماد على على أفضل حال تأويلية أنتجتها الفلسفة المعاصرة. هو يوفر أدوات تفكير طريفة جدا، تساعدنا على تمثل نمط الصعوبات التي تمنعنا إلى حد الآن من طرح بعض القضايا ومعالجتها بشكل ناجع (قضايا المعنى، النحو، اللغة، الفهم، الجمهور، الهوية البشرية، الأصالة، بنى المكان، العالم، الموت، الوعي بالزمان وبالتاريخ...)، http://alhayat.com/Details/507302
11-فتحي المسكيني: ينبغي الدفاع عن الدولة....!، موقع الأوان، 28يوليو 2014. يقول فتحي المسكيني في نفس المقالة:" إلا أن "أفول الأصنام" (نيتشه) مثلها مثل "تحطيم الأنطولوجيا"(هيدغر) أو "الجدلية السالبة (أدورنو) أو "أركيولوجيا المعرفة"(فوكو) أو "تفكيك النص"(دريدا) أو " نقد العقل الأداتي" (تقليد مرسة فرانكفورت بمختلف أجيالها) أو "الفرازيولوجيا ما بعد الحديثة"(ليوتار) أو "التهكم الليبرالي" (رورتي) أو "تعرية الحياة"( أغمبن)...إلخ، كل هذه النقود الجذرية للبنى العميقة للمجتمع الغربي الحديث، هي لا تمس ما يحدث لنا، وليس من شأنها".
12-حوار خاص مع الفيلسوف فتحي المسكيني: أنجزه نور الدين عيوش، نشر في موقع أنفاس نت من أجل الثقافة والإنسان، 20 يونيو 2012.
13-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، مطبعة جريدة البصرة، الأسكندرية،1948، الهامش رقم 1، ص24.
14-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، الهامش رقم 1، ص60.
15-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، أنظر الهامش رقم1، ص23 و24.
16-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، أنظر تمهيد الكتاب.
17-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، أنظر الإهداء الذي خص به أسعد باسيلي باشا في نهاية التمهيد.
هناك إجماع حول أهمية الترجمة في حياة الشعوب والأمم، ودورها في التقريب بين الحضارات والثقافات وتفاهمها. لذلك نلاحظ تزايد الإهتمام بالترجمة، سواء من طرف أفراد ذاتيين أو مؤسسات رسمية. لكن عملية الترجمة تطرح إشكالات حقيقية حول دوافعها ومقتضياتها وغاياتها، الشيء الذي جعل منها قضية فلسفية. تجلى ذلك في النقاشات والجدالات التي ركزت حول أسئلة الأمانة والخيانة أثناء الترجمة، و الترجمة النهائية والنسخة طبق الأصل، واستعداد لغات لاستضافة نصوص ومتون لغات أجنبية متعددة ومختلفة. لكن ما يثير في قضية الترجمة، هو الهوة الفاصلة بين إعداد نصوص وكتب، وطبيعة التفاعل معها والتفكير بها، لا أقصد هنا القارئ فقط، بل المترجم ذاته. لهذا لا أستسيغ مقدمات وإهداءات وتعليقات عدد من المترجمين، التي تستبق عزيمة القارئ، لتذكره بهويته وثقافته وأخلاقه، وبتفوق حضارته وأبطالها، وبالتالي تقطع الطريق أمام قيام أي تفاعل أو توظيف أو إعمال فكر.
سأحاول في مقالتي هذه، إثارة ثلاث مواقف من الترجمة، وهي كالتالي: موقف الكاتب المترجم عبد السلام بنعبد العالي من المغرب، وموقف الأستاذ المترجم فتحي المسكيني من تونس، وموقف الأديب المترجم فيليكس فارس من لبنان.
عبد السلام بنعبد العالي: زهو الفكر في ازدهار الترجمة
في كل مرة يتناول فيها عبد السلام بعبد العالي قضية الترجمة، تجده متحمسا لسرد فضائلها البيداغوجية والتربوية والفلسفية، بل يجعل من الترجمة قضية الفلسفة. ففي كتابه "في الترجمة"، يؤكد على أن قضية الترجمة هي بلا منازع قضية الفلسفة...، هي هم الفكر في محاولته لإعادة قراءة تراثه وتجاوزه(1). فبالترجمة يتم تحويل النصوص والمتون، الشئ الذي يضمن حياتها وحياة اللغة والفكر في نفس الآن. وهي ما ينفخ الحياة في النصوص وينقلها من ثقافة إلى أخرى، من لغة إلى أخرى(2). وبهذا المعنى، تصير الترجمة استراتيجية لتوليد الفوارق، وإقحام الآخر في الذات، ووسيلة انفتاح وتحرر(3).
لكن حماسة بنعبد العالي تفتر في لحظات بحثه عن آثار هذه النصوص والمتون المترجمة في سوق التبادل المعرفي، حيث يؤكد على أنها لا تدخل في شبكات فكرية وعلاقات أخرى، ولا تثير انتقادا ولا تستثمر ولا توظف(4). لهذا يدعو إلى ضرورة التفاعل معها، وإذكاء حدة التوتر بيننا وبينها، والتفكير بها رغبة في مواكبة الجدال الثقافي والمخاض الفلسفي والفكري. لا يلمس عبد السلام بنعبد العالي اليوم هذا الجدال عند من ينقلون نصوص هيغل أو هوسرل أو هايدغر(5)، إذ لا يتم هذا النقل في سياق استثمار فكري لنصوصهم ومتونهم. بخلاف ما حدث سابقا مع نصوص ديكارت وفرويد وماركس؛ فقد كانت ترجمات نصوصهما، على علاتها، تواكب جدالا ثقافيا عاما. فقد ترجمنا –يقول بنعبد العالي- بعض نصوص ديكارت، إلا أن ذلك كان يدخل في سياق انشغال ثقافي لم يكن ينحصر في مجال الفلسفة وإنما كان يطال ميدان الأدب ومنهج دراسته. نقلنا بعض نصوص ماركس وفرويد عن الفرنسية والأنجليزية، إلا أننا تجادلنا كثيرا وترددنا طويلا في توظيف كلمات وفي ترجمة مفهومات ونقل مصطلحات(6).
يلاحظ بنعبد العالي توفر ترجمات لنصوص ومتون فلسفية مختلفة، لكن حضور بعضها لا يدوم طويلا، إذ لا تتمكن من فرض نفسها وإعادة نشرها. كما أنها لا تساهم بشكل فعال في زحزحة الصورة الوثوقية للفكر ونظام الأحكام الأخلاقية، ولا إبداع إمكانات جديدة للتفكير.
فتحي المسكيني: الترجمة بين الإيجاب والسلب
يعتبر فتحي المسكيني الترجمة كمهمة فلسفية قائمة بذاتها، فهي صداقة فلسفية مع المعاني الكونية، وتسريح للممكنات الكونية التي استضافتها لغة دون أخرى، واستعادة للجزء الضائع من أنفسنا الذي قيل في لغة أخرى. وهذا يعني أن الترجمة لا تقرب بين الشعوب فحسب، بل تقرب كل لغة من نفسها وكل قائل إلى نفسه العميقة، أي إلى إنسانيته. كما يعتبر الكاتب الترجمة كطريقة جذرية للتحرر من أب روحي أو فلسفي، بل وسيلة للتحرر من "هيمنة الغرب"(7).
دفعت حماسة فتحي المسكيني إلى الرد عن أصحاب الموقف السلبي من الترجمة، ونخص بالذكر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. فرغم الأفكار المتميزة التي كتبها هذا الأخير حول الترجمة، فقد كان يشك في إمكانية "الحوار" بين العقول المنتمية إلى عوالم تاريخية متباعدة. لكن المسكيني ثمن الموقف القائل بتعدد منازل الكينونة بحكم تعدد اللغات والثقافات والعوالم، واعتبرهذا التعدد، الأفق الوحيد المناسب للإقدام على ترجمة هايدغر إلى العربية. واستند في ذلك على توافق معجم هايدغر السري مع شعور المترجم العربي(8)، لكنه أخذ على هايدغر غفله للوسيط التاريخاني في تكون التجربة الأوربية، ألا وهو اللغة العربية. لذلك ألح على ذاك الإرتباط المضاعف مع الحدث التاريخاني للقول الفلسفي في الكينونة؛ أولا من جهة اللغة العربية، وثانيا من جهة القارة الروحية التي تحمل إسم "الإسلام"(9). على هذا الأساس التاريخاني، أكد على ضرورة تجاوز مفهوم التسامح في أية علاقة مع الآخر، والأخذ ب"أحد الآداب القديمة لأنفسنا"، ويعني أدب "الضيافة" الذي قال به فيلسوف ألماني آخر، وهو إيمانويل كانط. هكذا ستصير الترجمة "ضرب من الضيافة إزاء تراث ما". وفي هذا السياق، نوه فتحي المسكيني بمجموعة من المترجمين المنتمين لجنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، كعبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا ومحمد مفتاح، وعبد الغفار مكاوي وعبد الرحمان بدوي وفؤاد زكريا وبسام حجار ومحمد محجوب ...، ومن شمال المتوسط، كهوسرل وسارتر وريكور.... لكن هذا التنويه، سيصبح استثنائيا مع مارتن هايدغر، إذ وجد المسكيني نفسه قريبا جدا من لغته ومصطلحاته وتعابيره وفنياته، ومقتنع بشطر واسع من إشكاليته الفلسفية. لذلك أكد على أن السبب في عدم القدرة على فهم مقاصده، لا يرجع إلى " أننا لسنا غربيين"، بل إلى عدم تطويرنا أشكالا مناسبة من اللقاء الروحي والنظري مع ما تشير إليه أسئلته، وما تقود إليه طرق التفكير التي رسمها لأجيال من المتفلسفة في الفكر المعاصر(10). رغم دفاع المسكيني عن الترجمة، وعن ترجمته لمؤلف هايدغر " الكينونة والزمان "، فقد اكد على أن نقد هايدغر مثله مثل نقود أخرى، لا علاقة لها بما يحدث لنا، يقول:
" إن كل المكاسب التفكيكية لجيل فوكو-تفكيك الذات والإله والمعرفة والسلطة والقانون والسيادة والحرية...- هي ترف فكري لا يمكن أن يعني شعوبا لم تصبح مجتمعات بعد فحيثما يوجد نزاعات هووية لا يمكن لأن تندلع معارك تفكيكية. ويبدو لي أنه من المراهقة الفلسفية أن نواصل نقد ماهية السلطة أو نقد ماهية العقل أو نقد الحداثة أو الذاتية...وكأننا «غربيون»".
يزيد:" ولا يغرننا استعمال نفسها التسميات: إن «حق الإختلاف» مثلا، تحت قلم فوكو أو دريدا، ليس له نفس معنى متى استعملناه نحن في ثقافة «مختلفة» بطبعها.... كل هذه النقود الجذرية للبنى العميقة للمجتمع الغربي الحديث، هي لا تمس ما يحدث لنا، وليس من شأنها"(11).
هل بإمكاننا الآن، أن نقول أن الجهد الذي قام به فتحي المسكيني خلال أكثر من ست سنوات لترجمة مؤلف الكينونة والزمان، إضافة إلى ترجمات أخرى، كانت فقط عبارة عن ترف فكري ومراهقة فلسفية؟ أم نؤكد معه، على أن أمر الترجمة يتعلق باستدعاء العقول المعاصرة إلى مشاكلنا، ومحاولة الإستضاءة بها في بناء ورشات عمل داخلية تساعد ثقافتنا على الإنخراط في سياسة حقيقة من نوع جديد؟(12).
فيليكس فارس: ترجمة تحت الطلب
لا أعرف الأسباب التي دفعت فيليكس فارس إلى تعريب كتاب فريديريك نيتشه "هكذا تكلم زرادشت"، لكني أعلم جيدا عدم تحمله لفكر مختلف، غير مهموم بالتعالي. لذلك لم يشرع في هذا العمل الغير المرغوب فيه، إلا بعدما عقد -في التمهيد الطويل الذي خص به الكتاب- محاكمة لنيتشه، وأصدر أحكامه الأخلاقية القطعية حول شخصيته وأفكاره وطموحه. كما استغل هوامش العديد من صفحات الكتاب لسرد أخلاق نيتشه الغير الحميدة، كالجحود والكفر والإلحاد، ونبه "القارئ الكريم" إلى اختلاف إله نيتشه وعالمه الثاني عن إله المترجم وعالمه الروحي(13). وذكر بموقفه المناقض لموقف نيتشه من الجسد والروح والخلود والإيمان، وأكد على صحة إيمان الشرق الذي لن يتزحزح بترجمة كتاب نيتشه، وتساءل:
" وهل لنيتشه أن يدعي أنه أتي بشئ جديد في فلسفته عند تصويره مبادئ الحياة، أفليس كل ما أصاب فيه مستمدا مما أوحي إلى رسل الله وأنبيائه الأطهار، أفليس كل ما ضل فيه ناشئا من محاولته الإستغناء عن أنوار هذا الوحي..."(14).
لم يتوقف فيليكس فارس عند هذا النفي ، بل أكد على أن كل ما كتبه نيتشه هو عبارة عن " بيان شعري يتلبس الفلسفة " لا أثر فيه لأي استقراء أو تعليل بل هو فقط ثرثة وجنون، وأن عضات زرادشت ليس فيها ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا. لذلك كان يذكر "قارئه الكريم" بما كتبه في التمهيد، ويحرص في الهوامش على توجيه انتباهه إلى نيتشه الجاحد(15)، المزدري لقيمة الروح والمتخبط في الدفاع عن الضعفاء. والغاية من كل ذلك، هو دفع القارئ إلى عدم الأخذ بأفكار نيتشه وفلسفته، ونسج شباك مضاد حتى لا يقع أبناء الشرق في شرك هذا الرجل "العبقري" كما ينعته.
يشير فيليكس فارس إلى أن ثلاثة أعلام في الشرق العربي أهابوا له بترجمة كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، وهم السيد مصطفي صادق الرافعي، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة، والأستاذ أحمد حسن الزيات(16). كما أن ترجمته هي وفاء لحلم رآه الأستاذ أسعد باسيلي باشا، ورفيقه القديم فرح أنطوان(17).
خاتمة
أؤكد أخيرا، على الدور الكبير الذي قام به فيليكس فارس وعبد السلام بنعبد العالي وفتحي المسكيني، ومترجمين آخرين، في إغناء مكتباتنا بكتب ونصوص مختلفة، وتهييئنا للقاء فلاسفة ومفكرين وفنانين وروائيين وشعراء من مختلف "منازل الكينونة". وأثناء كل لقاء، كنا مفعمين بالطيبة تجاه عملهم الإبداعي وجهدهم لقهر المسافة التي تفصل بين لغات وثقافات وشعوب. إن ملاحظاتنا حول مواقف هؤلاء المترجمين، هي تأكيد على ضرورة الشروع في إعادة النظر في قضية الترجمة وفلسفتها، ودعوة لجعل نصوصهم "تحيا في ترجماتها حياة لامتناهية"، ولن يتأتى ذلك إلا بتجاوز "الفضول المعرفي" نحو استثمار فعال لمتونهم، غاية في تخصيب الفكر والحياة معا.
الهوامش
1-عبد السلام بنعبد العالي: في الترجمة، سلسلة شراع، عدد40، ص8.
2-عبد السلام بنعبد العالي: في الترجمة، ص32 و33.
3-عبد السلام بنعبد العالي، فضيلة الترجمة، مؤسسة مومنون بل حدود، 29 ماي 2014.
4-عبد السلام بنعبد العالي: الكتابة بيدين، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2009، ص75.
5-عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة أداة للحوار، ص37.
6-عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة أداة للحوار، ص36.
7-فتحي المسكيني: التفكير بعد هايدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، مارس 2011، ص10.
8-يقول فتحي المسكيني:"نحن نأخذ مسألة "تعدد" منازل الكينونة بوصفخا الأفق الوحيد المناسب للإقدام على "ترجمة" هيدغر إلى العربية، متأولة في معنى "العبور" إلى الضفة الميتافيزيقية الأخرى التي يقف عليها، وإن كنا لا نشعر أن ما يفصلنا عنها هو "نهر عريض". فما يشعر به المترجم الصيني مثلا من افتقار الثقافة الصينية إلى دين توحيدي مثل المسيحية، وجد أن معجم هيدغر السري ما فتئ ينهل منه أو يقاومه، هو شعور لا يمكن أن ينتاب المترجم العربي"، مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2012، ص32.
9-مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2012، ص32.
10-أحمد الزين: : فتحي المسكيني: هيدغر قريب منا ...لكن ترجمته مغامرة. ويرى المسكيني أن الإشكالية الفلسفية عند هيدغر مهمة بالنسبة إلى الثقافة العربية، " من جهة علاقتها بتراثها العميق، من لغة وقرآن وكلام وفلسفة وتصوف. ويستند في ذلك على كون هايدغر " قريب منا ، من جهة أنه هو من وضع أسس نوع من "نقد العقل الـتأويلي" الذي يصلح تماما لمساعدة ثقافتنا على طرح المشكلات التأويلية الخاصة بها بالإعتماد على على أفضل حال تأويلية أنتجتها الفلسفة المعاصرة. هو يوفر أدوات تفكير طريفة جدا، تساعدنا على تمثل نمط الصعوبات التي تمنعنا إلى حد الآن من طرح بعض القضايا ومعالجتها بشكل ناجع (قضايا المعنى، النحو، اللغة، الفهم، الجمهور، الهوية البشرية، الأصالة، بنى المكان، العالم، الموت، الوعي بالزمان وبالتاريخ...)، http://alhayat.com/Details/507302
11-فتحي المسكيني: ينبغي الدفاع عن الدولة....!، موقع الأوان، 28يوليو 2014. يقول فتحي المسكيني في نفس المقالة:" إلا أن "أفول الأصنام" (نيتشه) مثلها مثل "تحطيم الأنطولوجيا"(هيدغر) أو "الجدلية السالبة (أدورنو) أو "أركيولوجيا المعرفة"(فوكو) أو "تفكيك النص"(دريدا) أو " نقد العقل الأداتي" (تقليد مرسة فرانكفورت بمختلف أجيالها) أو "الفرازيولوجيا ما بعد الحديثة"(ليوتار) أو "التهكم الليبرالي" (رورتي) أو "تعرية الحياة"( أغمبن)...إلخ، كل هذه النقود الجذرية للبنى العميقة للمجتمع الغربي الحديث، هي لا تمس ما يحدث لنا، وليس من شأنها".
12-حوار خاص مع الفيلسوف فتحي المسكيني: أنجزه نور الدين عيوش، نشر في موقع أنفاس نت من أجل الثقافة والإنسان، 20 يونيو 2012.
13-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، مطبعة جريدة البصرة، الأسكندرية،1948، الهامش رقم 1، ص24.
14-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، الهامش رقم 1، ص60.
15-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، أنظر الهامش رقم1، ص23 و24.
16-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، أنظر تمهيد الكتاب.
17-فيليكس فارس: هكذا تكلم زرادشت، أنظر الإهداء الذي خص به أسعد باسيلي باشا في نهاية التمهيد.