يسوق دريدا في نصه "هل من داع للترجمة"، في لحظة حديثه عن تاريخ اللغة الفرنسية، كيف أن السوربون أصدرت مرسوما، في مطلع القرن السادس عشر (1525م) يقضي بمنع الترجمة الكلية أو الجزئية للكتاب المقدس. وقد انتشرت في هذه الأثناء أغنية شعبية في الأوساط البروتستانتية تقول: "هل من المقبول ألا يوافق الأمير/ أن تُحكى وقائع المسيح للجميع/ وأن تترجم للغة الجميع."[1] إن هذه الأغنية لتطرح إشكالات كثيرة، متعلقة بالخصوص بإمكانية ترجمة النص المقدس إلى اللغة العامية واللغات الأخرى، وتعالي النص على النقل ومقاومته لأية إمكانية للظهور بحرف آخر غير الحرف الذي كُتب به. وليس هذا حال الكتب المقدسة وحدها، بل إنه طبع عام لنصوص كثيرة، والتي يحدث أن تكون مقاومتها مُنبنية على تمثل لاهوتي ترى بسببه أنها أصل ولا تتصور أن تكون نُسخة "شوهاء" عن هذا الأصل؛ كما قد يكون مؤسسا على فكرة استنفاذ إمكانات اللغة المكتوب بها، وإبراز الحذق في امتلاكها. فهل هنالك إذن نصوص قابلة للترجمة وأخرى متعذرة عليها؟ وهل بمكنة الترجمة إذن أن تيُسّر الولوج إلى المعنى أم أنها تزيد من إبهامه؟ وما العلاقات التي تحكم سياسة الترجمة بما هي فعل يعبر جسد الكتابة واللغة والثقافة؟
1. الكتابة: الجرح والطلسم
1.1- في انغلاق النص:
يرتبط اختراع الكتابة حسب أفلاطون بمقاومة النسيان، لكون غرضها الأول هو حفظ القول.[2] فهي تقوم مقام الذاكرة، من جهة سعيها إلى تلافي ما قد يعتري الحفظ من نقص، كما أنها تؤرشف النص، وتتيح إمكانية العودة الدائمة له.[3] بخلاف القول الذي قد يتعذر إعادته حتى بُعيد اللحظة التي ينتهي فيها إلى الأذن.
وفي "صيدلية أفلاطون" يستغل دريدا وحدة الجدر اللغوي بين النص (text) والنسيج (texture)، ليقيس الأول على الثاني، واسما إياه بالانكفاء، والتخفي، والانطواء على بنيته الداخلية. فالنص حسب دريدا يتسم بطابع زئبقي، فمهما حاولنا الإمساك به، يعاود الاختفاء، وكلما حاولنا حل نسيجه، كلما أمعن في التعقيد والانكماش. كتب يقول: "لا يكون النص نصا إن لم يُخفِ على النظرة الأولى، وعلى القادم الأول قانون تأليفه وقاعدة لعبه."[4]
فدريدا يرى أنه في محاورة فايدروس، يصف سقراط كيف أن فعل الكتابة فعل خروج عن الذات، وارتهان إلى المتعة، التي تجعل النفس تموت من اللذة، لذة أن تكون بالخارج، منظورا إليها؛ هذه النظرة تجعل من الكتابة ضربا من "الترتيب المشهدي" الذي يتوضح من خلاله، عدم الاتفاق بين فعل الكتابة والحقيقة.[5] فالكتابة كالفارمكون (السم والدواء)، لأن التعلم من المنقوش والاستعمال الأعمى للدواء سيان.[6] إذ إن الفارمكون بقدر ما قد يكون دواء شافيا، بقدر ما قد يفضي إلى مُفاقمة الداء.[7] هذه المقابلة تحيل إلى تكتم النصوص وخفائها، وتشويشها على المعرفة الحقة المستمدة رأسا من الذات.[8] وبصرف النظر عن موقف أفلاطون المعرفي، فإنه يسم الكتابة بسمات الإرجاء والإخلاف وعدم القدرة على نقل المعنى.
فالكتابة كما يشير الخطيبي "انكفاءٌ استراتيجي للذاكرة النصية" إذ إن النص لا يعدو أن يكون تدوينا للجرح الشخصي -أي لهوية المضطلع بالكتابة، على شكل مقاطع (عبارات/ جمل) داخل هذا النسيج الذي تتمسرح فوقه الذات.[9] وقد لا يقف الأمر عند التدوين والإفصاح الأوتوبيوغرافي. وإنما تتجاوز بعض النصوص ذلك، إلى الاستفراد بالدليل، وتيتيم النص ونفيه داخل هوية مؤلفه.[10] فالقرآن كنص أصلي يشكل حسب الخطيبي "نظرية جدرية في الدليل"[11] ففي ذات الوقت الذي يقدم الله كتابه كبيان[12]، يتبدى هذا البيان أعجما، غير قادر عن الإبانة عن نفسه بالشكل الكافي، كأن الله يؤثر أن يستبد لوحده بالأدلة؟[13] خصوصا وأن المعنى لصيق الصلة بالكتابة، والأدلة لا تنعطي إلا باسم الله (الله هنا بوصفه اسم عَلَم). وقد يكون هذا هو سر إعلان الله لاسمه في بداية كل سورة من سور القرآن، ليس هذا فقط بل إن حركات المسلم وسكناته، لا تُبتدأ إلا باسم الله [الرحمن الرحيم]، في ا(ستـ)سلام عنيف للنص. فمنذ لحظة "اقرأ" والاسم الشخصي لله يخترق جسد المؤمن حتى لتغدو "أليافه [...] كمثل مقدار من الأوراق البلورية للنص."[14]
فالنص يرفض أن يسلم نفسه، ويمعن في تعقيد قواعد لعبه. فبدايات بعض السور، تتشكل من أحرف غير ذات معنى (ألم/ يس/ ألر/ كهيعص...) فالسؤال عن طبيعة النص غير ذات معنى والحالة هذه، فهو غير قابل للتسمية والتصنيف وفق معايير الأنواع الأدبية[15]، إذ إنه لا يستند إلى معيار خارجي ينضبط له ويتحدد به، بل إن معياره الوحيد هو في ذاته، في المنطق الداخلي الذي يُجري عليه الله قوله.[16] وتبعا لذلك، فإن الاسم الوحيد الذي يدل عليه هو الاسم الذي آثر الله أن يطلقه عليه: الكتاب. فهو الكتاب بإطلاق، وتتجلى إطلاقيته في الزمان والمكان وفي الدلائل الممتنعة عن الانكشاف، يقول أدونيس: "وهو بوصفه مطلقا يتجلى في زمان ومكان، متحرك الدلالة، مفتوح بلا نهاية. إنه الأبدية المتزمنة. إنه ما وراء التاريخ الذي نستشفه ونقرؤه عبر التاريخ."[17]
إن جرح الاسم الشخصي يفضل مناطق الصمت، يؤثر إبهام الأدلة، لئلا يظهر عاريا أمام الآخرين. فالإخفاء سمة الكتابة الأولى، ونزوعها الدائم. يورد عبد الفتاح كيليطو في كتابه "أبو العلاء المعري ومتاهات القول" بيتا للمعري يقول فيه: "ولدي سر ليس يمكن ذكره/ يخفى على البصراء وهو نهار".[18] فالكتابة عند شاعرنا، بقدر ما تعني الإفصاح والقول، بقدر ما تعني الصمت، وعدم الإفصاح عما يجول في الخاطر.[19] لكن لما هذا النزوع نحو إيثار مناطق الظلال؟ هل يتعلق الأمر باتقاء شر اللسان وعاقبة الكلام أم أن من صميم الكلام أن يكون همسا لا يكاد يسمع؟
يفضل المعري ألا يُبين عما في طويته، لأن الكلام هلاك، كتب يقول: "واصمت فإن كلام المرء يهلكه/وإن نطقت فإفصاح وإيجاز".[20] فاختيار المعري يرتبط من جهة بالرغبة في اتقاء سوء الكلام الناجم عن المحيط الاجتماعي والسياسي، كي لا يتحامل عليه الناس، ويرموه بالزندقة كما فهل ابن الجوزي وغيره.[21] كما يرتبط هذا الاختيار من جهة أخرى بمفهومه عن الكتابة، فهو يضفي عليها طابعا صراعيا، ذلك أنها "لا تهدف إلى القول بقدر ما ترمي إلى صد القول، إنها صراع عنيد مع ما لا تجوز كتابته، وما لا ينبغي قوله" كما يقول عبد السلام بنعبد العالي.[22] فالكتابة لا تقتضي الإفصاح، بل إنها مسكونة بالغموض، ممتلئة بالمجاز.[23] إنها "كتابة ماكرة" تخفي أكثر مما تُظهر.[24]
تلك إذن معضلة الكتابة الأساسية، الصمت. يقول أفلاطون على لسان سقراط: "وللكتابة يا فايدروس تلك الصفة العجيبة التي توجد أيضا في التصوير، وذلك لأن الصور المرسومة تبدو كما لو كانت كائنات حية، ولكنها تظل صامتة لو أننا وجهنا إليها سؤالا، وكذلك الحال في الكلام المكتوب."[25] فالكلام لا يبين عن نفسه كما الصوت. ولما كان المكتوب متاحا للجميع -لمن يفهم ولمن لا يفهم- فإنه يستدعي العودة الأبدية للمؤلف، ليرفع عن نصه سوء الفهم، وينبري للدفاع عنه.[26]
ذلك ما قام به المعرّي، ففي مغبة الهجوم عليه وتزايد المتهمين له، عمد إلى شرح أغراضه ومعاني نصوصه في أكثر من نص، في تصريح جلي بعدم التطابق بين النية والقول، بين الكتابة وما يعتمل في دخيلة الكاتب. وكأن النص مهما اجتهد القارئ في الوصول إلى معانيه، ومهما ادعت القراءات النقدية تعريته، فهو يظل ملتبسا ومنغلقا على ذاته.[27] فلئن كان المعري خصص كتابيه "زجر النابح" و"نجر الزجر" لشرح اللزوميات (أو ترجمتها بمعنى آخر) فهل يحتاج القارئ أو المترجم إلى إيقاظ البقية من تحت قبورهم ليجلوا لهم معاني نصوصهم ومراميها؟
2.1- مسح الأثر: أو الماء الذي يعقب الانغلاق
ليس كل الكتاب كأبي العلاء؛ فمنهم من يسلك منحى آخر لتلافي سوء الفهم، كلما خاف أن يُضلّ نصه غير الحاذقين من القراء، في ظل عدم قدرته على ترجمته لهم، بسبب الضجر من شرح المقاصد أو المرض أو غيره من الأسباب؛ ذلك حال الفقيه أبو زكريا الذي ترد قصته في "رسالة آدم" على الشكل الآتي:
"وحدثني عنه المؤذن يوسف بن عبد الله المَدِّيفني، وكان يخدمه أيضا، قال: مرض الفقيه أبو زكريا مرضاً شديدا، فأمرني بإحضار كتاب من كتبه، فأحضرته: فأمرني بجله في الماء فقلت له: لِمَ؟ يا سيدي؟ فقال: أخاف ألا يفهم أحدٌ يأتي بعدي فيكون سببا في ضلاله."[28]
يختار الفقيه أن يغرق الكتاب خشية أن يساء فهمه، أو يكون سببا في ضلالة القراء أيا كان نوع القراء. دون أن يأبه لسؤال المؤذن، الذي يبدو أنه سؤال استنكاري يحمل في جوهره الدهشة بإزاء إغراق نص معرفي، وحمل المؤلف على إعادة النظر في قراره ذاك.[29] ويرى كيليطو أن الممارسة الكتابية في الأزمنة السابقة، كانت تقوم على تحميل الكتاب معنيين، أولها يتوجه لغير الفطنين من القراء أو السطحيين، والثاني، وهو المعنى العميق (والذي يكون غرض الكاتب الأساس) وهو الذي لا يدركه إلا الحاذقون من القراء.[30] وهو إذ يقرر حله في الماء، فإن السبب لا بد أن يكون، الخوف من الفئة الأولى من القراء وعليها.
إن طبيعة النص الملغزة وجرأته ربما، هي السبب وراء الاقدام على اتلاف الكتاب. كأن الكتابة إثم يثير ندم المؤلف، فقرر أن يعود إلى مناطق الصمت عملا بنصيحة المعري؛ إيثار الصمت على الكلام المُهلك. ولما كانت عودة الكلام إلى اللسان مستحيلة، فإن أبا زكريا قرر قُبيل موته إسكات النص، ودفع صوته المنقوش في صفحات الكتاب إلى الذوبان والتبخر في الماء، في مشهد تراجيدي يحتضر فيه القول والقائل. يقول كيليطو: "إن أبا زكريا قبل أن يفقد النطق يمحو كل علامة لسانية من كتابه الذي سيكون محكوما عليه، مثله، بالصمت."[31]
إن للماء في الحكاية القدرة على المحو، والتطهير، والإسكات، وجعل الأشياء تتفسخ، ألا يمكن بهذا المعنى اعتبار الترجمة تقوم بنفس عمل الماء بجعل النص يفقد جوهره الأصلي؟ أم أن الإغراق في الماء الذي يقوم به المترجم هو طقس عبور لا بد منه حتى يتكلم النص أكثر من لغة؟
2. في مقاومة الترجمة:
1.2- الميت والغسال: النص/ الترجمة والفقدان
في "الكتابة والتناسخ"، وبالضبط في النص الموسوم بـ "رسالة من وراء القبر" يورد عبد الفتاح كيليطو حكاية شاعرٍ يدعى أبو القاسم بن ناقيا.[32] وتتلخص أحداث الحكاية، في أن يد الشاعر وُجدت مضمومة لحظة موته، كأنه يحفظ سرا لا يريد أن يطّلع عليه أحد. إلا أن الغسال أبى إلا أن يكشف عما تختزن طوية الأخير، فدارت بينهما معركة انتهت بخسارة الميت –والموتى لا يخسرون دائما. فانكشف سره الذي كان يبتغي الإبقاء عليه محفوظا. والمُثير في القصة هو أن السر كتابةٌ، كان ينوي الشاعر أخذها معه إلى حيث لم يتوقع أحد، فقد كان المكتوب بيتين، يتقصد صاحبهما نقلهما إلى الله: "نزلت بجار لا يخيب ضيفه/ أرجى نجاتي من عذاب جهنم"[33].
إن الصراع بين الميت والغسال هو صراع من أجل الكتابة، يسعى الأول أن يحافظ عليها خاصا بها موجودا غير بشري هو الله، في حين كان هم الثاني –وقد لا يكون هذا الهم همه فعليا بالمعنى القصدي- هو جعل اليد تكشف عن نفسها، وتكشف عن العالم حتى وهي ميتة، والحفاظ على هذا الإنتاج البشري في مستواه الأرضي.
لندع جانبا طبقات الكتابة (من جهة أن التأويل كتابة على الكتابة) التي تراكمت حول القصة من ابن الجوزي إلى عبد الفتاح كيليطو مرورا بصاحب "وفيات الأعيان". ولنعد إلى قراءة القصة بدلالة مفهوم اليد –في القراءة الهايدغرية له بالخصوص. يرى مارتن هايدغر أن التفكير هو من صميم عمل اليد.[34] فاليد وإن كانت من جملة الأعضاء المُشكلة للجسم، إلا أن ماهيها وكينونتها تمنع عنا حدها بالجسمية وحدها، فوحده "الكائن الذي يتكلم؛ أي يفكر، يمكن أن يمتلك اليد."[35] أما الحيوان (وهو في مثال هايدغر القرد) ولأنه لا يفكر فإنه لا يمتلك يدا. إذ إن حد اليد هو الإظهار، وهو خاصية من خصائص الإنسان بوصفه كائنا يظهر.[36] والإنسان بوصفه إظهارا، يتحدد في عمليته التواصلية مع الآخرين (العطاء، الهبة، التبادل) من خلال اليد فهي كما يذهب دريدا "تحتفظ وتحمل وترسم علامات تظهر".[37] فحد الإنسان هو البيان/ الإظهار، من خلال علاقة مع العالم قوامها المكاشفة، وفضح أسراره عبر اللغة. ولما كان هذا الفضح ينقل عبر الكلام، فإنه يُصاب بعدوى الألغاز التي تكتنف موضوع الكشف (العالم). فما السر وراء عدم قدرة اللغة على قول العالم؟ هل لأن أسرار العالم لا تكشف بيسر أمام الذات أم لعجز اللغة عن الإحاطة الكلية بأشياء العالم؟
لنعد الآن إلى حكاية اليد التي لم تعد يدا، إلا أنها أصرت مع ذلك على الانطواء على آخر علاقة لها بالعالم: النص. لقد كان ابن ناقيا يعتزم لقاء الله بحجة مرسومة على اليد، حتى يغفر له الأخير سوء صنيعه في الدنيا، إذا ما كانت هناك إساءة فعلا.[38] لكن هل يستطيع ابن ناقيا أخد دليله (sign) إلى الآخرة، حيث الأدلة المطلقة؟ ألا يُفترض أن يذهب إلى الحضرة الإلهية بلسانه فقط، ليجد الكتاب/ اللوح بانتظاره؟ ليس هذا موضوعنا الآن. فلنقف فقط عند العلاقة الثلاثية: الميت والغسال والنص.
إن العلاقة بين الغسال والميت أشبه ما تكون بعلاقة القارئ بالكتابة. فالسعي الدؤوب الذي لا يعرف الكلل لامتلاك النص هو سعي لإبراز المطوي، لما لم تُظهره اليد. فالقراءة حركة، قد تكون عنيفة أحيانا، وقد تلجأ للّيّ، لي اليد والعنق، وجرت العادة أن ينعت من يقتطع آي القرآن من سياقاتها بأنه "يلوي عنق النص". وما أن ينجح القارئ/ الغسال في كشف ما تضم اليد، حتى يفضح السر.[39] لكنه هل يفضح السر فعلا؟ هل يعيد تشكيل ما مسحه الماء؟ تلك قضية الفهم والترجمة.
يشير هايدغر إلى وجود علاقة تعالق بين الفهم والترجمة، حيث لا يوجد الواحد منها بمعزل عن الآخر، يقول: "يجب أن نترجم حتى نفهم، وأن نفهم كي نترجم."[40] فترجمة المفاهيم من اليونانية وفهمها هي ذات الشيء: أن تفهمها مما تقوله وتُفصح به.[41] لنعد إلى حكاية الشاعر الميت، فلئن كانت القراءة في الحكاية هي عملية انتزاع النص من سلطة صاحبه/ يده؛ فإن الترجمة يمكن أن نمثل لها بعملية قول هذه الضميمة (الكتابة) بشكل مختلف، بعد الغسل بالماء، بعد أن ينسى الغسال/ المترجم النص، ففقدان النص هو أثر الترجمة.
2.2- في مقاومة الترجمة:
يعود سؤال الأصل الذي يُطرح مع الترجمة إلى كون كينونتها ليست بالذات، بل بالغير. فلولا وجود الأصل لما وجدت النسخة، فهي تحتل في العادة مرتبة ثنائية قياسا إلى الأصل.[42] لكن بعض الترجمات تحتل وضعا متميزا قد يضاهي أو يفوق النص الأصلي؛ فمقام الترجمة من جهة سعيها إلى تقريب النص إلى اللسان المترجم له، فإنها تحول دونه وتحجبه.[43] لكن النص حينما تهبه الترجمة حق الكلام بأكثر من لغته، فهي تخرجه من مناطق الظل، وتمنعه عنه الاغتراب الذي قد يلحقه في لسانه الأم.[44]
يفترض عبد الفتاح كيليطو وجود علاقات قوة موجودة بين اللغات، الشيء الذي يجعل عملية التعامل مع اللغة الخارجية/ الأجنبية علاقة متصلة بوضعية "اللغة الأم". فلئن كان الأوروبي المستعرب/ المستشرق ينظر للكتاب العربي في مختلف حقبه التاريخي بناءً على وشائج القربى التي تربط هذا الأدب بالأدب الأوروبي، في موقف استعلائي، لا يقرأ الجاحظ أو المعري أو الشدياق.. إلخ إلا على ضوء المشابهة والتلاقي بينهم جميعا، وبين مونتيني وإيرازم ودانتي ورابلي...[45] فهؤلاء لا قيمة معرفية لهم ولا فرادة إلا إذا كان فيهم شيء من أولئك، وإن كان هذا الموقف المتغطرس يضرب بعرض الحائط الأسبقية الزمنية للأدباء العرب.
ونفس الأمر ينطبق على السياق العربي الكلاسيكي، ففي لحظة "التفوق الحضاري" العربي لم يكن أي أحد من الفلاسفة المسلمين مهتما بلسانٍ آخر.[46] فلقد كان اشتباك ابن رشد ومن قبلِه ابن سينا والفارابي، بالنص اليوناني مترجما إلى العربية، ومن مترجمين لم يُعلم عنهم اشتغال بقضايا الفكر الفلسفي. ولم يعرض لهم جميعا مشكل الترجمة - باستثناء ابن رشد في الواقعة الشهيرة مع أبي يعقوب يوسف المنصور وابن طفيل حينما طلب منه الأول رفع قلق العبارة عن متن أرسطو. ولا كانت لهم الرغبة في تعلم اللغة الأصلية (اليونانية) بدعوى أن الترجمة مجال للاشتباه وسوء الفهم، بل إنهم حتى لم يفكروا يوما أن مؤلفاتهم يمكن أن يحدث وتترجم لألسن شعوب أخرى. كما أنهم لم يقفوا عند الاستهانة بفعل النقل إلى لغة أخرى، وإنما أبى البعض منهم إلا أن يعقد مهمة المُترجم، بأن يكتب نصا يندرج ضمن ما بات يعرف بما لا يترجم. كأن لسان حال الواحد منهم يقول: "لن يستطيع أحد ترجمتي"[47] أو كأنه خوف من أن يضيع بهاء النص البلاغي لحظة الترجمة، ويخرج النص خاسرا من عملية النقل هذه.[48] أو لربما يكون فعل الكتابة تحديا لإمكانات الترجمة.[49] ذلك الحال مع الكتابات القديمة التي رغبت في امتلاك اللغة، وتأبيد هذا الامتلاك بأن تظهر في شكل مستعصٍ على الترجمة. أما بعد أن تحولت علاقات القوة، فقد صار هذا الأدب يقرأ -حتى من قبل "أصحابه"- كما سبقت الإشارة بنظّارات الأدب الأوروبي، فكلما تحقق في أحد نصوصه بعض المجاورة والتشابه، مهما كان إشاريا أو شذريا يُحتفى به، يقول كيليطو: "كلما اقترب كتاب عربي من هذا الأدب تضاعفت حظوظ تثمينه والإعجاب به، وازدادت فُرص ترجمته."[50]
ولقد كان تعامل العرب في نقل الفلسفة اليونانية مبنيا في أحايين كثيرة على عدم الاهتمام باللغة، معتبرين أنها أداة ثانوية، ليست لها أهمية كبيرة، إذ الأهم هو أفكار النص ومضامينه.[51] فكثيرا ما تصادف في النصوص التراثية أن فلانا أضاف على متون غيره، أو حذف منها، أو شذبها، أو أعاد سبكها. ولربما يكون هذا ما عبر عنه شليغل -بصرف النظر عن سياقات القول ودواعيه- بعدم حفظ العرب للأصول وإتلافها، والقول بأن هذا الأمر هو ما جعلهم لا يبرحون حدود الذات، وهو كلام نجد مثيلا له عند عبد الكبير الخطيبي الذي اعتبر أن الحضارة العربية الإسلامية ابتكرت لاهوت أرسطو، بأن أزالت الحدود والتعارضات الأصلية الموجودة بينها وبين الثقافة اليونانية، حيث انتزعوا من هذه الجماعة الثقافية اختلافها الأصلي.[52]
وفي ذات السياق، ينقل كيليطو أيضا حكاية عن الجاحظ، يروي فيها هذا الأخير، عن قاص يُدعى سيار الأسوري، حيث كان في مجلسه يقرأ آي القرآن فيفسره بلغتين، بالعربية للعرب الذين كانوا يقتعدون عن يمينه، وبلسان فارسي، للفرس الذين كانوا يقتعدون عن يساره. يقول الجاحظ: "كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية"[53] هذا التعبير الذي يحيل على أن معيار الفصاحة هو العربية، كما أن لعبة تبديل المواقع، والانتقال بين لسانين، وبين موضعين، يحملان دلالة واسعة. فاللغة ههنا تخرج عن المستوى الخطابي واللساني إلى مستوى آخر فضائي/ جغرافي، فتصبح دالة على موقع في الخريطة، ولعل هذا ما يدعوه دريدا بالبنية المجالية للغة (structure territorial)، التي تجعل الكتابة بها منطبعة بجغرافية ما.[54] وأن تكون مزدوج اللسان، فهو يعني أن تتحرك في فضاءين، وألا تعرف هدأة في أحدهما، يقول كيليطو: "أن تتحدث بهذه اللغة أو تلك معناه أن تكون جهة اليمين أو جهة اليسار. أما مزدوج اللغة، فإنه دائم الحركة، دائم الالتفات، وبما أنه ينظر إلى جهتين، فإن له وجهين."[55]
فالجاحظ ينتصر للثبات، للوفاء لجهة واحدة، والمرء عنده لا يمكن أن يعدد ألسنته ويكثرها، من جهة كون اللغة ضرة اللغة. ولا يقع أن تجتمعا في لسان واحد دون أن يقع بينهما الشقاق والتنازع، وعدم الاتفاق. وكلما حدث واجتمعتا في لسان واحد، إلا "وأدخلت كل واحدة منهما الضيم على الأخرى"[56] والترجمة في هذا المقام ليست مجرد خيانة فحسب، بل إنها تصير متعذرة بل ومستحيلة.
كما ينقل كيليطو عن الجاحظ أيضا ذمه للترجمة، معتبرا أنه يتعذر أن يبلغ المترجم نبوغ الفيلسوف، وأن يفهمه كما أبان هو عن نفسه في لسانه الأم. كتب يقول: "الترجمة ناقصة لأن علم الترجمان، دون علم الفيلسوف عمقا، فمهما بلغ من سعة المعرفة ومن الإحاطة بمادة الكتاب الذي يترجمه، فإنه يظل عاجزا عن اللحاق بمؤلفه."[57] فلعبة الجري وراء المعنى، تفرض ههنا تخلف المترجم. وتجعل النص المُترجم أعجما، وغير قادر عن الافصاح عن أغراض صاحبه. كما أن الشعر متعذر الترجمة أيضا لما يلحقه بعد الترجمة من تبدل الوزن فيصير مسخا، وليس هذا راجع لعدم حذق المترجم، بقدر ما يرجع لبنية الشعر نفسه.[58] فكونه نظما يجعل اللغات الأخرى غير قادرة على نقله.[59]
نفس الحكاية باختلاف الشخوص وبعض التفاصيل الصغيرة، يحكيها لنا راوٍ آخر، هو جاك دريدا، عن رجل آخر برع في الحديث بلسانين، هو ديكارت الذي تجرأ على تحدي اللغة الرسمية، ليكتب بعامية قومه. تكمن ثورية ديكارت حسب دريدا في القدرة على الحديث بلسانين، لصنفين من الجمهور[60]، بل وتحويل الكلام إلى كتابة، في محاولة منه "لتسهيل الولوج إلى السهولة"[61]؛ أي إلى البساطة التي تنشأ عن البداهة لا التعقيد المدرسي (السكولائي)، وهي حكاية مفادها أنه بعد سنوات من صدور "خطاب في المنهج" قررت الترجمة أن تسقط جزءا من نصه، وبموافقة من ديكارت نفسه. فبأي معنى يمكن للنسخة أن تشوه الأصل؟ أم أن اللاتينية لم تقبل فقط بلعبة تغير الأدوار فانتقمت بالتالي من الأصل بإنقاصه؟
إن النص المُسقط من الترجمة اللاتينية هو النص الذي عدد فيه ديكارت تبريراته للكتابة بالفرنسية -التي لم تكن بعد قد صارت لغة كتابة بالفعل. لقد قال صراحة ودون مواربة بأن الكتابة بلغة "مبتذلة" حسب تعبيره، عوض اللاتينية، نوع من الرغبة في التواصل مع الذين لم تكدر الكتب المدرسية صفو حسهم السليم. وبقبوله إسقاط جزء من النص يكون هيء نصه الأصلي للانتحار بواسطة الترجمة، انتحارٌ بالنار يفضي به إلى الامحاء كلية من بنية الملفوظات المترجم إليها داخل النص المستقبل كما يقول دريدا[62]، إذ لا تدرُ منه الترجمة بقية في المتن. لكنها في ذات الآن تسمح بقراءة هذه اللغة في امحاءها -أي في علاقة كل من الكتابة والترجمة بالسلطة[63]، إذ لا يمكن أن نفهم هذا الإذعان الديكارتي إلا بعلاقات القوة التي تفرضها سياسة اللغة. فطريق الترجمة "يمر فوق وفيما وراء طريق اللغة."[64] فليس وضع النص المُسقط من حساب الترجمة اللاتينية، بذات الوضع الذي قد تلقاه قصيدة أو نص أدبي مستعص، يعبر عن نفسه كنص غير قابل للترجمة.[65]
إن الحكايتين معا لا تقفان عند القول باستحالة الترجمة، وأن هذه الأخيرة مسكونة باللاتماثل. وإنما تؤشران على وجود علاقات أخرى تقع فيما وراء إشكالات الفهم والخصوصية الصوتية والتركيبية للغات في حوارها عبر الترجمة. إنها تستحضر وتفكك ههنا العلاقات غير اللغوية (non langagier) وغير اللسانية (non linguistique) بتعبير دريدا.[66] هذه العلاقات هي الحائل أمام التضايف بين اللغات، وهي التي تبث التباعد (espacement) بينها. تباعدٌ يخترق جسد الكتابة، ويمتدح تباث الأصل في بنيات نحوية، مدعية عجز لغة الآخر عن استيعابه.
في الختام يقول جاك دريدا: "بمعنى ما ليس هنالك شيء غير قابل للترجمة لكن في نفس الآن كل شيء غير قابل للترجمة، إن الترجمة اسم آخر للمستحيل."[67] إن هذه المفارقة هي أساس إشكالية مقاومة النصوص للترجمة، فلئن كانت الكتابة عملية إخفاء مستمرة للصوت، فإن الترجمة هي السعي الذي لا ينفك يحاول امتلاك هذا الصوت، بجعله يتكلم أكثر من لغة. وبالرغم من كونها تسقط أحيانا في فقدان صوتها، في اللحظة التي تنزلق الأدلة إلى مناطق اللبس ويصبح فيها المُترجم متعذر الفهم –ولنا في ترجمة النصوص الفلسفية والشعرية خير مثال على ذلك. غير أن هذا الفقدان ضروري في هذه الحركة الجدلية بين الالسن: التباعد والتقارب.
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
العربية:
أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة (دار الآداب، بيروت، لبنان، 2010)
أفلاطون، محاورة فايدروس أو عن الجمال، ترجمة أميرة حلمي مطر (دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2000)
جاك دريدا، استراتيجية تفكيك الميتافيزيقا، ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي (إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2013)
جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد (دار الجنوب للنشر، تونس، 1998)
عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا: دراسات في أعمال عبد الفتاح كيليطو (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2009
عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2000)
عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار توبقال للنشر، الرباط، المغرب، 2013)
عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2013)
عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في مقامة الحريري (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007)
عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1985)
عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2001)
عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي (دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 2002)
عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس (منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2009)
عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج (منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، 2000)
القرآن الكريم.
الفرنسية:
Jacques Derrida, Du droit à la philosophie (Editions Galilée, Paris, 1990)
Jacques Derrida, Le monolinguisme de l’autre (Editions Galilée, 1996)
Martin Heidegger, Qu'appelle-t-on penser?, traduit de l’Allemand par Aloys Becker et Gérard Granel (Presse Universitaires de France, 1973)
[1]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie (Editions Galilée, Paris, 1990) 302
[2]- أفلاطون، محاورة فايدروس أو عن الجمال، ترجمة أميرة حلمي مطر (دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2000) 110-111.
[3]- عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في مقامة الحريري (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007) 66
[4]- جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد (دار الجنوب للنشر، تونس، 1998) 13
[5]- المرجع نفسه، ص 19
[6]- المرجع نفسه، ص 24
[7]- المرجع نفسه، ص 50
[8]- المرجع نفسه، ص 26
[9]- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس (منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2009) 20
[10]- المرجع نفسه، ص 23
[11]- المرجع نفسه، ص 24
[12]- ترد على لسان الله في القرآن آيات كثيرة في هذا الباب، من جملتها: هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴿١٣٨ آل عمران﴾ / وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴿٨٧ البقرة﴾ / قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿١١٨ البقرة﴾.
[13]- يمكن قراءة فكرة الخطيبي هذه على ضوء فكرة العلم، إذ إن الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلا كما ورد في الآية 85 من سورة الإسراء. كما من جهة ارتباطها بفكرة النبوة كامتناع من لدن الله عن كشف دلائل العالم والكتاب للمخلوقات الفانية.
[14]- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ص 24
[15]- أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة (دار الآداب، بيروت، لبنان، 2010) 29
[16]- المرجع نفسه، ص 29
[17]- المرجع نفسه، ص 29
[18]- عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2000) 47
[19]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[20]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[21]- المرجع نفسه، ص 59
[22]- عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا: دراسات في أعمال عبد الفتاح كيليطو (در توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2009) 37
[23]- عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول، ص 50
[24]- عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا، ص 38
[25]- أفلاطون، محاورة فايدروس أو عن الجمال، ص 111
[26]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[27]- عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول، ص 57
[28]- عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2001) 113
[29]- المرجع نفسه، ص ص 114- 115
[30]- المرجع نفسه، ص ص 116- 117
[31]- المرجع نفسه، ص 118
[32]- عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1985) 90- 103
[33]- المرجع نفسه، ص 92
[34]- Martin Heidegger, Qu'appelle-t-on penser ?, traduit de l’Allemand par Aloys Becker et Gérard Granel (Presse Universitaires de France, 1973) 90
[35]- Ibid.
[36]- جاك دريدا، استراتيجية تفكيك الميتافيزيقا، ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي (افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2013) 203
[37]- المرجع نفسه، ص 201
[38]- عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ، ص 93
[39]- ذلكم ما فعل الغسال في الحكاية، والمقصود هنا بإذاعة السر هو الكشف عن النص للآخرين، بالكتابة عنه وترجمته.
[40]- Martin Heidegger, Qu'appelle-t-on penser?, p. 03
[41]- Ibid.
[42]- عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2013) 61
[43]- المرجع نفسه، ص 63
[44]- المرجع نفسه، ص 63-67
[45]- عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي (دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 2002) 19-21
[46]- نفس المصدر، ص 22
[47]- نفس المصدر، ص 24
[48]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار توبقال للنشر، الرباط، المغرب، 2013) 48
[49]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie, p.313
[50]- عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص 26
[51]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ص 48
[52]- عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج (منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، 2000) 33
[53]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ص 29
[54]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie, p.302
[55]- عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص29
[56]- نفس المصدر، ص 33
[57]- نفس المصدر، نفس الصفحة.
[58]- نفس المصدر، ص 35
[59]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ص 48
[60]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie, p.320
[61]- Ibid. p.317
[62]- Ibid. p.308
[63]- Ibid. p.309
[64]- Ibid. p.309
[65]- Ibid. p.312
[66]- Ibid. p.301
[67]- Jacques Derrida, Le monolinguisme de l’autre (Editions Galilée, 1996) 103
1. الكتابة: الجرح والطلسم
1.1- في انغلاق النص:
يرتبط اختراع الكتابة حسب أفلاطون بمقاومة النسيان، لكون غرضها الأول هو حفظ القول.[2] فهي تقوم مقام الذاكرة، من جهة سعيها إلى تلافي ما قد يعتري الحفظ من نقص، كما أنها تؤرشف النص، وتتيح إمكانية العودة الدائمة له.[3] بخلاف القول الذي قد يتعذر إعادته حتى بُعيد اللحظة التي ينتهي فيها إلى الأذن.
وفي "صيدلية أفلاطون" يستغل دريدا وحدة الجدر اللغوي بين النص (text) والنسيج (texture)، ليقيس الأول على الثاني، واسما إياه بالانكفاء، والتخفي، والانطواء على بنيته الداخلية. فالنص حسب دريدا يتسم بطابع زئبقي، فمهما حاولنا الإمساك به، يعاود الاختفاء، وكلما حاولنا حل نسيجه، كلما أمعن في التعقيد والانكماش. كتب يقول: "لا يكون النص نصا إن لم يُخفِ على النظرة الأولى، وعلى القادم الأول قانون تأليفه وقاعدة لعبه."[4]
فدريدا يرى أنه في محاورة فايدروس، يصف سقراط كيف أن فعل الكتابة فعل خروج عن الذات، وارتهان إلى المتعة، التي تجعل النفس تموت من اللذة، لذة أن تكون بالخارج، منظورا إليها؛ هذه النظرة تجعل من الكتابة ضربا من "الترتيب المشهدي" الذي يتوضح من خلاله، عدم الاتفاق بين فعل الكتابة والحقيقة.[5] فالكتابة كالفارمكون (السم والدواء)، لأن التعلم من المنقوش والاستعمال الأعمى للدواء سيان.[6] إذ إن الفارمكون بقدر ما قد يكون دواء شافيا، بقدر ما قد يفضي إلى مُفاقمة الداء.[7] هذه المقابلة تحيل إلى تكتم النصوص وخفائها، وتشويشها على المعرفة الحقة المستمدة رأسا من الذات.[8] وبصرف النظر عن موقف أفلاطون المعرفي، فإنه يسم الكتابة بسمات الإرجاء والإخلاف وعدم القدرة على نقل المعنى.
فالكتابة كما يشير الخطيبي "انكفاءٌ استراتيجي للذاكرة النصية" إذ إن النص لا يعدو أن يكون تدوينا للجرح الشخصي -أي لهوية المضطلع بالكتابة، على شكل مقاطع (عبارات/ جمل) داخل هذا النسيج الذي تتمسرح فوقه الذات.[9] وقد لا يقف الأمر عند التدوين والإفصاح الأوتوبيوغرافي. وإنما تتجاوز بعض النصوص ذلك، إلى الاستفراد بالدليل، وتيتيم النص ونفيه داخل هوية مؤلفه.[10] فالقرآن كنص أصلي يشكل حسب الخطيبي "نظرية جدرية في الدليل"[11] ففي ذات الوقت الذي يقدم الله كتابه كبيان[12]، يتبدى هذا البيان أعجما، غير قادر عن الإبانة عن نفسه بالشكل الكافي، كأن الله يؤثر أن يستبد لوحده بالأدلة؟[13] خصوصا وأن المعنى لصيق الصلة بالكتابة، والأدلة لا تنعطي إلا باسم الله (الله هنا بوصفه اسم عَلَم). وقد يكون هذا هو سر إعلان الله لاسمه في بداية كل سورة من سور القرآن، ليس هذا فقط بل إن حركات المسلم وسكناته، لا تُبتدأ إلا باسم الله [الرحمن الرحيم]، في ا(ستـ)سلام عنيف للنص. فمنذ لحظة "اقرأ" والاسم الشخصي لله يخترق جسد المؤمن حتى لتغدو "أليافه [...] كمثل مقدار من الأوراق البلورية للنص."[14]
فالنص يرفض أن يسلم نفسه، ويمعن في تعقيد قواعد لعبه. فبدايات بعض السور، تتشكل من أحرف غير ذات معنى (ألم/ يس/ ألر/ كهيعص...) فالسؤال عن طبيعة النص غير ذات معنى والحالة هذه، فهو غير قابل للتسمية والتصنيف وفق معايير الأنواع الأدبية[15]، إذ إنه لا يستند إلى معيار خارجي ينضبط له ويتحدد به، بل إن معياره الوحيد هو في ذاته، في المنطق الداخلي الذي يُجري عليه الله قوله.[16] وتبعا لذلك، فإن الاسم الوحيد الذي يدل عليه هو الاسم الذي آثر الله أن يطلقه عليه: الكتاب. فهو الكتاب بإطلاق، وتتجلى إطلاقيته في الزمان والمكان وفي الدلائل الممتنعة عن الانكشاف، يقول أدونيس: "وهو بوصفه مطلقا يتجلى في زمان ومكان، متحرك الدلالة، مفتوح بلا نهاية. إنه الأبدية المتزمنة. إنه ما وراء التاريخ الذي نستشفه ونقرؤه عبر التاريخ."[17]
إن جرح الاسم الشخصي يفضل مناطق الصمت، يؤثر إبهام الأدلة، لئلا يظهر عاريا أمام الآخرين. فالإخفاء سمة الكتابة الأولى، ونزوعها الدائم. يورد عبد الفتاح كيليطو في كتابه "أبو العلاء المعري ومتاهات القول" بيتا للمعري يقول فيه: "ولدي سر ليس يمكن ذكره/ يخفى على البصراء وهو نهار".[18] فالكتابة عند شاعرنا، بقدر ما تعني الإفصاح والقول، بقدر ما تعني الصمت، وعدم الإفصاح عما يجول في الخاطر.[19] لكن لما هذا النزوع نحو إيثار مناطق الظلال؟ هل يتعلق الأمر باتقاء شر اللسان وعاقبة الكلام أم أن من صميم الكلام أن يكون همسا لا يكاد يسمع؟
يفضل المعري ألا يُبين عما في طويته، لأن الكلام هلاك، كتب يقول: "واصمت فإن كلام المرء يهلكه/وإن نطقت فإفصاح وإيجاز".[20] فاختيار المعري يرتبط من جهة بالرغبة في اتقاء سوء الكلام الناجم عن المحيط الاجتماعي والسياسي، كي لا يتحامل عليه الناس، ويرموه بالزندقة كما فهل ابن الجوزي وغيره.[21] كما يرتبط هذا الاختيار من جهة أخرى بمفهومه عن الكتابة، فهو يضفي عليها طابعا صراعيا، ذلك أنها "لا تهدف إلى القول بقدر ما ترمي إلى صد القول، إنها صراع عنيد مع ما لا تجوز كتابته، وما لا ينبغي قوله" كما يقول عبد السلام بنعبد العالي.[22] فالكتابة لا تقتضي الإفصاح، بل إنها مسكونة بالغموض، ممتلئة بالمجاز.[23] إنها "كتابة ماكرة" تخفي أكثر مما تُظهر.[24]
تلك إذن معضلة الكتابة الأساسية، الصمت. يقول أفلاطون على لسان سقراط: "وللكتابة يا فايدروس تلك الصفة العجيبة التي توجد أيضا في التصوير، وذلك لأن الصور المرسومة تبدو كما لو كانت كائنات حية، ولكنها تظل صامتة لو أننا وجهنا إليها سؤالا، وكذلك الحال في الكلام المكتوب."[25] فالكلام لا يبين عن نفسه كما الصوت. ولما كان المكتوب متاحا للجميع -لمن يفهم ولمن لا يفهم- فإنه يستدعي العودة الأبدية للمؤلف، ليرفع عن نصه سوء الفهم، وينبري للدفاع عنه.[26]
ذلك ما قام به المعرّي، ففي مغبة الهجوم عليه وتزايد المتهمين له، عمد إلى شرح أغراضه ومعاني نصوصه في أكثر من نص، في تصريح جلي بعدم التطابق بين النية والقول، بين الكتابة وما يعتمل في دخيلة الكاتب. وكأن النص مهما اجتهد القارئ في الوصول إلى معانيه، ومهما ادعت القراءات النقدية تعريته، فهو يظل ملتبسا ومنغلقا على ذاته.[27] فلئن كان المعري خصص كتابيه "زجر النابح" و"نجر الزجر" لشرح اللزوميات (أو ترجمتها بمعنى آخر) فهل يحتاج القارئ أو المترجم إلى إيقاظ البقية من تحت قبورهم ليجلوا لهم معاني نصوصهم ومراميها؟
2.1- مسح الأثر: أو الماء الذي يعقب الانغلاق
ليس كل الكتاب كأبي العلاء؛ فمنهم من يسلك منحى آخر لتلافي سوء الفهم، كلما خاف أن يُضلّ نصه غير الحاذقين من القراء، في ظل عدم قدرته على ترجمته لهم، بسبب الضجر من شرح المقاصد أو المرض أو غيره من الأسباب؛ ذلك حال الفقيه أبو زكريا الذي ترد قصته في "رسالة آدم" على الشكل الآتي:
"وحدثني عنه المؤذن يوسف بن عبد الله المَدِّيفني، وكان يخدمه أيضا، قال: مرض الفقيه أبو زكريا مرضاً شديدا، فأمرني بإحضار كتاب من كتبه، فأحضرته: فأمرني بجله في الماء فقلت له: لِمَ؟ يا سيدي؟ فقال: أخاف ألا يفهم أحدٌ يأتي بعدي فيكون سببا في ضلاله."[28]
يختار الفقيه أن يغرق الكتاب خشية أن يساء فهمه، أو يكون سببا في ضلالة القراء أيا كان نوع القراء. دون أن يأبه لسؤال المؤذن، الذي يبدو أنه سؤال استنكاري يحمل في جوهره الدهشة بإزاء إغراق نص معرفي، وحمل المؤلف على إعادة النظر في قراره ذاك.[29] ويرى كيليطو أن الممارسة الكتابية في الأزمنة السابقة، كانت تقوم على تحميل الكتاب معنيين، أولها يتوجه لغير الفطنين من القراء أو السطحيين، والثاني، وهو المعنى العميق (والذي يكون غرض الكاتب الأساس) وهو الذي لا يدركه إلا الحاذقون من القراء.[30] وهو إذ يقرر حله في الماء، فإن السبب لا بد أن يكون، الخوف من الفئة الأولى من القراء وعليها.
إن طبيعة النص الملغزة وجرأته ربما، هي السبب وراء الاقدام على اتلاف الكتاب. كأن الكتابة إثم يثير ندم المؤلف، فقرر أن يعود إلى مناطق الصمت عملا بنصيحة المعري؛ إيثار الصمت على الكلام المُهلك. ولما كانت عودة الكلام إلى اللسان مستحيلة، فإن أبا زكريا قرر قُبيل موته إسكات النص، ودفع صوته المنقوش في صفحات الكتاب إلى الذوبان والتبخر في الماء، في مشهد تراجيدي يحتضر فيه القول والقائل. يقول كيليطو: "إن أبا زكريا قبل أن يفقد النطق يمحو كل علامة لسانية من كتابه الذي سيكون محكوما عليه، مثله، بالصمت."[31]
إن للماء في الحكاية القدرة على المحو، والتطهير، والإسكات، وجعل الأشياء تتفسخ، ألا يمكن بهذا المعنى اعتبار الترجمة تقوم بنفس عمل الماء بجعل النص يفقد جوهره الأصلي؟ أم أن الإغراق في الماء الذي يقوم به المترجم هو طقس عبور لا بد منه حتى يتكلم النص أكثر من لغة؟
2. في مقاومة الترجمة:
1.2- الميت والغسال: النص/ الترجمة والفقدان
في "الكتابة والتناسخ"، وبالضبط في النص الموسوم بـ "رسالة من وراء القبر" يورد عبد الفتاح كيليطو حكاية شاعرٍ يدعى أبو القاسم بن ناقيا.[32] وتتلخص أحداث الحكاية، في أن يد الشاعر وُجدت مضمومة لحظة موته، كأنه يحفظ سرا لا يريد أن يطّلع عليه أحد. إلا أن الغسال أبى إلا أن يكشف عما تختزن طوية الأخير، فدارت بينهما معركة انتهت بخسارة الميت –والموتى لا يخسرون دائما. فانكشف سره الذي كان يبتغي الإبقاء عليه محفوظا. والمُثير في القصة هو أن السر كتابةٌ، كان ينوي الشاعر أخذها معه إلى حيث لم يتوقع أحد، فقد كان المكتوب بيتين، يتقصد صاحبهما نقلهما إلى الله: "نزلت بجار لا يخيب ضيفه/ أرجى نجاتي من عذاب جهنم"[33].
إن الصراع بين الميت والغسال هو صراع من أجل الكتابة، يسعى الأول أن يحافظ عليها خاصا بها موجودا غير بشري هو الله، في حين كان هم الثاني –وقد لا يكون هذا الهم همه فعليا بالمعنى القصدي- هو جعل اليد تكشف عن نفسها، وتكشف عن العالم حتى وهي ميتة، والحفاظ على هذا الإنتاج البشري في مستواه الأرضي.
لندع جانبا طبقات الكتابة (من جهة أن التأويل كتابة على الكتابة) التي تراكمت حول القصة من ابن الجوزي إلى عبد الفتاح كيليطو مرورا بصاحب "وفيات الأعيان". ولنعد إلى قراءة القصة بدلالة مفهوم اليد –في القراءة الهايدغرية له بالخصوص. يرى مارتن هايدغر أن التفكير هو من صميم عمل اليد.[34] فاليد وإن كانت من جملة الأعضاء المُشكلة للجسم، إلا أن ماهيها وكينونتها تمنع عنا حدها بالجسمية وحدها، فوحده "الكائن الذي يتكلم؛ أي يفكر، يمكن أن يمتلك اليد."[35] أما الحيوان (وهو في مثال هايدغر القرد) ولأنه لا يفكر فإنه لا يمتلك يدا. إذ إن حد اليد هو الإظهار، وهو خاصية من خصائص الإنسان بوصفه كائنا يظهر.[36] والإنسان بوصفه إظهارا، يتحدد في عمليته التواصلية مع الآخرين (العطاء، الهبة، التبادل) من خلال اليد فهي كما يذهب دريدا "تحتفظ وتحمل وترسم علامات تظهر".[37] فحد الإنسان هو البيان/ الإظهار، من خلال علاقة مع العالم قوامها المكاشفة، وفضح أسراره عبر اللغة. ولما كان هذا الفضح ينقل عبر الكلام، فإنه يُصاب بعدوى الألغاز التي تكتنف موضوع الكشف (العالم). فما السر وراء عدم قدرة اللغة على قول العالم؟ هل لأن أسرار العالم لا تكشف بيسر أمام الذات أم لعجز اللغة عن الإحاطة الكلية بأشياء العالم؟
لنعد الآن إلى حكاية اليد التي لم تعد يدا، إلا أنها أصرت مع ذلك على الانطواء على آخر علاقة لها بالعالم: النص. لقد كان ابن ناقيا يعتزم لقاء الله بحجة مرسومة على اليد، حتى يغفر له الأخير سوء صنيعه في الدنيا، إذا ما كانت هناك إساءة فعلا.[38] لكن هل يستطيع ابن ناقيا أخد دليله (sign) إلى الآخرة، حيث الأدلة المطلقة؟ ألا يُفترض أن يذهب إلى الحضرة الإلهية بلسانه فقط، ليجد الكتاب/ اللوح بانتظاره؟ ليس هذا موضوعنا الآن. فلنقف فقط عند العلاقة الثلاثية: الميت والغسال والنص.
إن العلاقة بين الغسال والميت أشبه ما تكون بعلاقة القارئ بالكتابة. فالسعي الدؤوب الذي لا يعرف الكلل لامتلاك النص هو سعي لإبراز المطوي، لما لم تُظهره اليد. فالقراءة حركة، قد تكون عنيفة أحيانا، وقد تلجأ للّيّ، لي اليد والعنق، وجرت العادة أن ينعت من يقتطع آي القرآن من سياقاتها بأنه "يلوي عنق النص". وما أن ينجح القارئ/ الغسال في كشف ما تضم اليد، حتى يفضح السر.[39] لكنه هل يفضح السر فعلا؟ هل يعيد تشكيل ما مسحه الماء؟ تلك قضية الفهم والترجمة.
يشير هايدغر إلى وجود علاقة تعالق بين الفهم والترجمة، حيث لا يوجد الواحد منها بمعزل عن الآخر، يقول: "يجب أن نترجم حتى نفهم، وأن نفهم كي نترجم."[40] فترجمة المفاهيم من اليونانية وفهمها هي ذات الشيء: أن تفهمها مما تقوله وتُفصح به.[41] لنعد إلى حكاية الشاعر الميت، فلئن كانت القراءة في الحكاية هي عملية انتزاع النص من سلطة صاحبه/ يده؛ فإن الترجمة يمكن أن نمثل لها بعملية قول هذه الضميمة (الكتابة) بشكل مختلف، بعد الغسل بالماء، بعد أن ينسى الغسال/ المترجم النص، ففقدان النص هو أثر الترجمة.
2.2- في مقاومة الترجمة:
يعود سؤال الأصل الذي يُطرح مع الترجمة إلى كون كينونتها ليست بالذات، بل بالغير. فلولا وجود الأصل لما وجدت النسخة، فهي تحتل في العادة مرتبة ثنائية قياسا إلى الأصل.[42] لكن بعض الترجمات تحتل وضعا متميزا قد يضاهي أو يفوق النص الأصلي؛ فمقام الترجمة من جهة سعيها إلى تقريب النص إلى اللسان المترجم له، فإنها تحول دونه وتحجبه.[43] لكن النص حينما تهبه الترجمة حق الكلام بأكثر من لغته، فهي تخرجه من مناطق الظل، وتمنعه عنه الاغتراب الذي قد يلحقه في لسانه الأم.[44]
يفترض عبد الفتاح كيليطو وجود علاقات قوة موجودة بين اللغات، الشيء الذي يجعل عملية التعامل مع اللغة الخارجية/ الأجنبية علاقة متصلة بوضعية "اللغة الأم". فلئن كان الأوروبي المستعرب/ المستشرق ينظر للكتاب العربي في مختلف حقبه التاريخي بناءً على وشائج القربى التي تربط هذا الأدب بالأدب الأوروبي، في موقف استعلائي، لا يقرأ الجاحظ أو المعري أو الشدياق.. إلخ إلا على ضوء المشابهة والتلاقي بينهم جميعا، وبين مونتيني وإيرازم ودانتي ورابلي...[45] فهؤلاء لا قيمة معرفية لهم ولا فرادة إلا إذا كان فيهم شيء من أولئك، وإن كان هذا الموقف المتغطرس يضرب بعرض الحائط الأسبقية الزمنية للأدباء العرب.
ونفس الأمر ينطبق على السياق العربي الكلاسيكي، ففي لحظة "التفوق الحضاري" العربي لم يكن أي أحد من الفلاسفة المسلمين مهتما بلسانٍ آخر.[46] فلقد كان اشتباك ابن رشد ومن قبلِه ابن سينا والفارابي، بالنص اليوناني مترجما إلى العربية، ومن مترجمين لم يُعلم عنهم اشتغال بقضايا الفكر الفلسفي. ولم يعرض لهم جميعا مشكل الترجمة - باستثناء ابن رشد في الواقعة الشهيرة مع أبي يعقوب يوسف المنصور وابن طفيل حينما طلب منه الأول رفع قلق العبارة عن متن أرسطو. ولا كانت لهم الرغبة في تعلم اللغة الأصلية (اليونانية) بدعوى أن الترجمة مجال للاشتباه وسوء الفهم، بل إنهم حتى لم يفكروا يوما أن مؤلفاتهم يمكن أن يحدث وتترجم لألسن شعوب أخرى. كما أنهم لم يقفوا عند الاستهانة بفعل النقل إلى لغة أخرى، وإنما أبى البعض منهم إلا أن يعقد مهمة المُترجم، بأن يكتب نصا يندرج ضمن ما بات يعرف بما لا يترجم. كأن لسان حال الواحد منهم يقول: "لن يستطيع أحد ترجمتي"[47] أو كأنه خوف من أن يضيع بهاء النص البلاغي لحظة الترجمة، ويخرج النص خاسرا من عملية النقل هذه.[48] أو لربما يكون فعل الكتابة تحديا لإمكانات الترجمة.[49] ذلك الحال مع الكتابات القديمة التي رغبت في امتلاك اللغة، وتأبيد هذا الامتلاك بأن تظهر في شكل مستعصٍ على الترجمة. أما بعد أن تحولت علاقات القوة، فقد صار هذا الأدب يقرأ -حتى من قبل "أصحابه"- كما سبقت الإشارة بنظّارات الأدب الأوروبي، فكلما تحقق في أحد نصوصه بعض المجاورة والتشابه، مهما كان إشاريا أو شذريا يُحتفى به، يقول كيليطو: "كلما اقترب كتاب عربي من هذا الأدب تضاعفت حظوظ تثمينه والإعجاب به، وازدادت فُرص ترجمته."[50]
ولقد كان تعامل العرب في نقل الفلسفة اليونانية مبنيا في أحايين كثيرة على عدم الاهتمام باللغة، معتبرين أنها أداة ثانوية، ليست لها أهمية كبيرة، إذ الأهم هو أفكار النص ومضامينه.[51] فكثيرا ما تصادف في النصوص التراثية أن فلانا أضاف على متون غيره، أو حذف منها، أو شذبها، أو أعاد سبكها. ولربما يكون هذا ما عبر عنه شليغل -بصرف النظر عن سياقات القول ودواعيه- بعدم حفظ العرب للأصول وإتلافها، والقول بأن هذا الأمر هو ما جعلهم لا يبرحون حدود الذات، وهو كلام نجد مثيلا له عند عبد الكبير الخطيبي الذي اعتبر أن الحضارة العربية الإسلامية ابتكرت لاهوت أرسطو، بأن أزالت الحدود والتعارضات الأصلية الموجودة بينها وبين الثقافة اليونانية، حيث انتزعوا من هذه الجماعة الثقافية اختلافها الأصلي.[52]
وفي ذات السياق، ينقل كيليطو أيضا حكاية عن الجاحظ، يروي فيها هذا الأخير، عن قاص يُدعى سيار الأسوري، حيث كان في مجلسه يقرأ آي القرآن فيفسره بلغتين، بالعربية للعرب الذين كانوا يقتعدون عن يمينه، وبلسان فارسي، للفرس الذين كانوا يقتعدون عن يساره. يقول الجاحظ: "كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية"[53] هذا التعبير الذي يحيل على أن معيار الفصاحة هو العربية، كما أن لعبة تبديل المواقع، والانتقال بين لسانين، وبين موضعين، يحملان دلالة واسعة. فاللغة ههنا تخرج عن المستوى الخطابي واللساني إلى مستوى آخر فضائي/ جغرافي، فتصبح دالة على موقع في الخريطة، ولعل هذا ما يدعوه دريدا بالبنية المجالية للغة (structure territorial)، التي تجعل الكتابة بها منطبعة بجغرافية ما.[54] وأن تكون مزدوج اللسان، فهو يعني أن تتحرك في فضاءين، وألا تعرف هدأة في أحدهما، يقول كيليطو: "أن تتحدث بهذه اللغة أو تلك معناه أن تكون جهة اليمين أو جهة اليسار. أما مزدوج اللغة، فإنه دائم الحركة، دائم الالتفات، وبما أنه ينظر إلى جهتين، فإن له وجهين."[55]
فالجاحظ ينتصر للثبات، للوفاء لجهة واحدة، والمرء عنده لا يمكن أن يعدد ألسنته ويكثرها، من جهة كون اللغة ضرة اللغة. ولا يقع أن تجتمعا في لسان واحد دون أن يقع بينهما الشقاق والتنازع، وعدم الاتفاق. وكلما حدث واجتمعتا في لسان واحد، إلا "وأدخلت كل واحدة منهما الضيم على الأخرى"[56] والترجمة في هذا المقام ليست مجرد خيانة فحسب، بل إنها تصير متعذرة بل ومستحيلة.
كما ينقل كيليطو عن الجاحظ أيضا ذمه للترجمة، معتبرا أنه يتعذر أن يبلغ المترجم نبوغ الفيلسوف، وأن يفهمه كما أبان هو عن نفسه في لسانه الأم. كتب يقول: "الترجمة ناقصة لأن علم الترجمان، دون علم الفيلسوف عمقا، فمهما بلغ من سعة المعرفة ومن الإحاطة بمادة الكتاب الذي يترجمه، فإنه يظل عاجزا عن اللحاق بمؤلفه."[57] فلعبة الجري وراء المعنى، تفرض ههنا تخلف المترجم. وتجعل النص المُترجم أعجما، وغير قادر عن الافصاح عن أغراض صاحبه. كما أن الشعر متعذر الترجمة أيضا لما يلحقه بعد الترجمة من تبدل الوزن فيصير مسخا، وليس هذا راجع لعدم حذق المترجم، بقدر ما يرجع لبنية الشعر نفسه.[58] فكونه نظما يجعل اللغات الأخرى غير قادرة على نقله.[59]
نفس الحكاية باختلاف الشخوص وبعض التفاصيل الصغيرة، يحكيها لنا راوٍ آخر، هو جاك دريدا، عن رجل آخر برع في الحديث بلسانين، هو ديكارت الذي تجرأ على تحدي اللغة الرسمية، ليكتب بعامية قومه. تكمن ثورية ديكارت حسب دريدا في القدرة على الحديث بلسانين، لصنفين من الجمهور[60]، بل وتحويل الكلام إلى كتابة، في محاولة منه "لتسهيل الولوج إلى السهولة"[61]؛ أي إلى البساطة التي تنشأ عن البداهة لا التعقيد المدرسي (السكولائي)، وهي حكاية مفادها أنه بعد سنوات من صدور "خطاب في المنهج" قررت الترجمة أن تسقط جزءا من نصه، وبموافقة من ديكارت نفسه. فبأي معنى يمكن للنسخة أن تشوه الأصل؟ أم أن اللاتينية لم تقبل فقط بلعبة تغير الأدوار فانتقمت بالتالي من الأصل بإنقاصه؟
إن النص المُسقط من الترجمة اللاتينية هو النص الذي عدد فيه ديكارت تبريراته للكتابة بالفرنسية -التي لم تكن بعد قد صارت لغة كتابة بالفعل. لقد قال صراحة ودون مواربة بأن الكتابة بلغة "مبتذلة" حسب تعبيره، عوض اللاتينية، نوع من الرغبة في التواصل مع الذين لم تكدر الكتب المدرسية صفو حسهم السليم. وبقبوله إسقاط جزء من النص يكون هيء نصه الأصلي للانتحار بواسطة الترجمة، انتحارٌ بالنار يفضي به إلى الامحاء كلية من بنية الملفوظات المترجم إليها داخل النص المستقبل كما يقول دريدا[62]، إذ لا تدرُ منه الترجمة بقية في المتن. لكنها في ذات الآن تسمح بقراءة هذه اللغة في امحاءها -أي في علاقة كل من الكتابة والترجمة بالسلطة[63]، إذ لا يمكن أن نفهم هذا الإذعان الديكارتي إلا بعلاقات القوة التي تفرضها سياسة اللغة. فطريق الترجمة "يمر فوق وفيما وراء طريق اللغة."[64] فليس وضع النص المُسقط من حساب الترجمة اللاتينية، بذات الوضع الذي قد تلقاه قصيدة أو نص أدبي مستعص، يعبر عن نفسه كنص غير قابل للترجمة.[65]
إن الحكايتين معا لا تقفان عند القول باستحالة الترجمة، وأن هذه الأخيرة مسكونة باللاتماثل. وإنما تؤشران على وجود علاقات أخرى تقع فيما وراء إشكالات الفهم والخصوصية الصوتية والتركيبية للغات في حوارها عبر الترجمة. إنها تستحضر وتفكك ههنا العلاقات غير اللغوية (non langagier) وغير اللسانية (non linguistique) بتعبير دريدا.[66] هذه العلاقات هي الحائل أمام التضايف بين اللغات، وهي التي تبث التباعد (espacement) بينها. تباعدٌ يخترق جسد الكتابة، ويمتدح تباث الأصل في بنيات نحوية، مدعية عجز لغة الآخر عن استيعابه.
في الختام يقول جاك دريدا: "بمعنى ما ليس هنالك شيء غير قابل للترجمة لكن في نفس الآن كل شيء غير قابل للترجمة، إن الترجمة اسم آخر للمستحيل."[67] إن هذه المفارقة هي أساس إشكالية مقاومة النصوص للترجمة، فلئن كانت الكتابة عملية إخفاء مستمرة للصوت، فإن الترجمة هي السعي الذي لا ينفك يحاول امتلاك هذا الصوت، بجعله يتكلم أكثر من لغة. وبالرغم من كونها تسقط أحيانا في فقدان صوتها، في اللحظة التي تنزلق الأدلة إلى مناطق اللبس ويصبح فيها المُترجم متعذر الفهم –ولنا في ترجمة النصوص الفلسفية والشعرية خير مثال على ذلك. غير أن هذا الفقدان ضروري في هذه الحركة الجدلية بين الالسن: التباعد والتقارب.
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
العربية:
أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة (دار الآداب، بيروت، لبنان، 2010)
أفلاطون، محاورة فايدروس أو عن الجمال، ترجمة أميرة حلمي مطر (دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2000)
جاك دريدا، استراتيجية تفكيك الميتافيزيقا، ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي (إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2013)
جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد (دار الجنوب للنشر، تونس، 1998)
عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا: دراسات في أعمال عبد الفتاح كيليطو (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2009
عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2000)
عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار توبقال للنشر، الرباط، المغرب، 2013)
عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2013)
عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في مقامة الحريري (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007)
عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1985)
عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2001)
عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي (دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 2002)
عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس (منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2009)
عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج (منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، 2000)
القرآن الكريم.
الفرنسية:
Jacques Derrida, Du droit à la philosophie (Editions Galilée, Paris, 1990)
Jacques Derrida, Le monolinguisme de l’autre (Editions Galilée, 1996)
Martin Heidegger, Qu'appelle-t-on penser?, traduit de l’Allemand par Aloys Becker et Gérard Granel (Presse Universitaires de France, 1973)
[1]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie (Editions Galilée, Paris, 1990) 302
[2]- أفلاطون، محاورة فايدروس أو عن الجمال، ترجمة أميرة حلمي مطر (دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2000) 110-111.
[3]- عبد الفتاح كيليطو، الغائب: دراسة في مقامة الحريري (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007) 66
[4]- جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد (دار الجنوب للنشر، تونس، 1998) 13
[5]- المرجع نفسه، ص 19
[6]- المرجع نفسه، ص 24
[7]- المرجع نفسه، ص 50
[8]- المرجع نفسه، ص 26
[9]- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس (منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2009) 20
[10]- المرجع نفسه، ص 23
[11]- المرجع نفسه، ص 24
[12]- ترد على لسان الله في القرآن آيات كثيرة في هذا الباب، من جملتها: هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴿١٣٨ آل عمران﴾ / وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴿٨٧ البقرة﴾ / قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿١١٨ البقرة﴾.
[13]- يمكن قراءة فكرة الخطيبي هذه على ضوء فكرة العلم، إذ إن الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلا كما ورد في الآية 85 من سورة الإسراء. كما من جهة ارتباطها بفكرة النبوة كامتناع من لدن الله عن كشف دلائل العالم والكتاب للمخلوقات الفانية.
[14]- عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ص 24
[15]- أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة (دار الآداب، بيروت، لبنان، 2010) 29
[16]- المرجع نفسه، ص 29
[17]- المرجع نفسه، ص 29
[18]- عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2000) 47
[19]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[20]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[21]- المرجع نفسه، ص 59
[22]- عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا: دراسات في أعمال عبد الفتاح كيليطو (در توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2009) 37
[23]- عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول، ص 50
[24]- عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا، ص 38
[25]- أفلاطون، محاورة فايدروس أو عن الجمال، ص 111
[26]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[27]- عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري ومتاهات القول، ص 57
[28]- عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2001) 113
[29]- المرجع نفسه، ص ص 114- 115
[30]- المرجع نفسه، ص ص 116- 117
[31]- المرجع نفسه، ص 118
[32]- عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1985) 90- 103
[33]- المرجع نفسه، ص 92
[34]- Martin Heidegger, Qu'appelle-t-on penser ?, traduit de l’Allemand par Aloys Becker et Gérard Granel (Presse Universitaires de France, 1973) 90
[35]- Ibid.
[36]- جاك دريدا، استراتيجية تفكيك الميتافيزيقا، ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي (افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2013) 203
[37]- المرجع نفسه، ص 201
[38]- عبد الفتاح كيليطو، الكتابة والتناسخ، ص 93
[39]- ذلكم ما فعل الغسال في الحكاية، والمقصود هنا بإذاعة السر هو الكشف عن النص للآخرين، بالكتابة عنه وترجمته.
[40]- Martin Heidegger, Qu'appelle-t-on penser?, p. 03
[41]- Ibid.
[42]- عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2013) 61
[43]- المرجع نفسه، ص 63
[44]- المرجع نفسه، ص 63-67
[45]- عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي (دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 2002) 19-21
[46]- نفس المصدر، ص 22
[47]- نفس المصدر، ص 24
[48]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي (دار توبقال للنشر، الرباط، المغرب، 2013) 48
[49]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie, p.313
[50]- عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص 26
[51]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ص 48
[52]- عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج (منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، 2000) 33
[53]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ص 29
[54]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie, p.302
[55]- عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي، ص29
[56]- نفس المصدر، ص 33
[57]- نفس المصدر، نفس الصفحة.
[58]- نفس المصدر، ص 35
[59]- عبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، ص 48
[60]- Jacques Derrida, Du droit à la philosophie, p.320
[61]- Ibid. p.317
[62]- Ibid. p.308
[63]- Ibid. p.309
[64]- Ibid. p.309
[65]- Ibid. p.312
[66]- Ibid. p.301
[67]- Jacques Derrida, Le monolinguisme de l’autre (Editions Galilée, 1996) 103