علَّمنى طه حسين (1889- 1973) أن أنشغل دائمًا بمفهوم الثقافة، وكان يكرر اهتمامه بمعنى المثقف والثقافة، وذلك بقدر ما كان يلح على تعريف المثقف بأنه الإنسان الذى يأخذ من المعرفة بكل شىء، ويحاول أن يعرف كل شىء، وأن يكون له وجهة نظر فى الحياة والأحياء. ومع مرور الزمان، وتحوُّل الأزمان، وتغير الأعوام، وكِبَرى فى العمر، تعرفتُ على المفكر الفرنسى لوسيان جولدمان (1913ــ1970)، ومنه تعلمتُ أن المثقف هو الذى يهتم بتحويل العالم من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وأنه ــ فضلًا عن ذلك ــ هو الذى يسعى إلى تحويل الحرية من واقع الفكرة المــجـردة إلى واقع العمل المُتجسِّد فعليًّا فى الحياة مع الثمن الذى لا بد أن يدفعه الإنسان فى سبيل ذلك.
هكذا كبرتُ مع تغير تعريفات الثقافة ما بين طه حسين ولوسيان جولدمان، أو ما بين انتقالى من ثقافة الشباب إلى ثقافة النضج. وازددتُ نُضجًا مع تكرار ما عرفته عن لوسيان جولدمان من ارتباط الثقافة برؤية العالم عند الإنسان. وكانت رؤية العالم تتوزع على ثلاث دوائر: دائرة الطبيعة، ودائرة الإنسان، ودائرة الحيوان. وكانت هذه الثلاثية للعالم تقود إلى ثلاثية أركان الرؤية، فتحدث نوعًا من التثليث فى النظر عند كل شاعر أو أديب، وهو ما تعودتُ عليه فى النظر إلى أركان رؤية العالم المثلثة دائمًا والتى لا تخلو من وجود الإنسان المجرد، ومن وجود الحيوان ومن وجود الطبيعة عند كل مبدع.
هكذا صرتُ أبحث عن هذه الثلاثية فى شِعر أى شاعرٍ أو حتى أديب، ولكن هذه الثلاثية الخاصة تختلط بتحديد الرؤية العامة. ولذلك عندما كنتُ أفكر فى رؤية العالم عند أى مبدعٍ كنتُ أفكر فى هذه الزوايا الثلاث، وأبحث عنها، فإذا اكتملت فقد اكتملت معها رؤيا العالم عند هذا المبدع أو ذاك. وشمول رؤية العالم الإنسان، الطبيعة، الحيوان، لا تخلو ــ على هذا النحو ــ من عمقها النوعى، وخصوصيتها الكيفية، كما تتميز بتعقيداتها، وتعدد مستوياتها، وتنوّع علاقاتها، وذلك جنبًا إلى جنب جذريتها الإبداعية، التى تهدف إلى أن ترتقى بالإنسان من مستوى الضرورة إلى أُفق الحرية، سواء فى حوار الإنسان مع نفسه، أو حواره مع غيره من بنى الإنسان، أو حواره مع الطبيعة، أو حواره مع المطلق فى دائرة تأملاته الميتافيزيقية، هكذا قرأتُ صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى، وعبد الوهاب البياتى وغيرهم من الشعراء أو كتّاب القصة. وكانت النتيجة دائمًا، هذه الثلاثية التى لا أخرج عنها. وإلى اليوم ما زلتُ أسير على هذه الثلاثية التى تعلمتها من لوسيان جولدمان، والتى أحسب نفسى أسيرًا لها بشكل أو بآخر. الطريف أن هذه الرؤية مصدرها ثلاثية موازية عند جولدمان الذى جعل العالم: طبيعة وإنسانًا (أو بشرًا) أو حيوانًا، ومن ثم صنع ثلاثيته الخاصة التى أصبحت مصدر العديد من الثلاثيات فى النقد الأدبى بشكلٍ ظاهرٍ أو باطن. أحيانًا أقرأ ما يشبه هذه الثلاثية عند طه حسين أو غيره، فأتأكد من الصلة بينه وبين لوسيان جولدمان، خصوصًا أننى أصبحتُ أعرف أن طه حسين قد عاصره، ومن المحتمل أن كليهما قد اتصل معرفيًّا بالآخر.
هكذا أصبح مصطلح رؤيا العالم مصطلحًا أساسيًّا فى تفكيرى، وفى بحثى عن رؤيا العالم وأصبح بحثًا أوليًّا عندما أقرأ الناقد أو المبدع، وأحيانًا ما يصيب هذا البحث أو يخيب، لكنى فى كل الأحوال أخرج وافر الصيد على رؤيا عالم ما فى كل حالةٍ، وعلى تعريفٍ خاص لكل أديب، ومن ثم على ما يميز الأديب من الأديب، ومن ثم التمييز بين الأديب وغير الأديب، وبين الإنسان الذى يتلهب بنار بروميثيوس، والإنسان الذى يمضى فى الدنيا خالى الوفاض. هكذا أمضى بهذه الأفكار الأولية التى هى أول مقياس لى فى عالم النقد، والتى هى أولى أفكارى فى الحياة. هل أنا على حق فى ذلك؟ قد أعرف أو لا أعرف لكن المؤكد أن ثقافتى العربية تمتزج مع ثقافتى الأجنبية فى تشكيل إجابتى وبحثى عن سؤال رؤيا العالم، ولذلك فإن جوابى عن: ماذا يميز المثقف؟ فإنه الإنسان الذى يمتلك رؤية للعالم، وهذا دليلى إلى تعريف الأديب من حيث هو الإنسان الذى يصنع رؤية خاصة للعالم، ولذلك ما إن أقرأ أديبًا حتى أبدأ بالبحث عن هذه العناصر الثلاثة التى تتشكل منها رؤيته للعالم، ومن التفاصيل الأولية لهذه الرؤية أنطلقُ لغيرها الذى هو منها أو الذى يتفرع منها، وهكذا أنتقلُ من الظاهر إلى الباطن، أو من الكبير إلى الصغير.
هل يعنى هذا كله أن مفهوم الثقافة عند أى أديب ــ أو عندى شخصيًّا ــ هو رؤية العالم سواء أكانت عندى بالخصوص أو عند غيرى بالعموم؟ أعتقد أن الإجابة هى: نعم، فرؤية العالم تبدأ من الخاص إلى العام، ومن الداخل إلى الخارج، ومن الطبيعة إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الكون، ومن الكون إلى ما حوله، ومن ما حوله إلى المُطلق، ولذلك تبدأ رؤية العالم من أصغر الأشياء وتنتهى إلى أكبر الأشياء، فكأنها النقطة التى تتسع كلما مضينا فى التحديق فيها إلى أن تشمل كل ما حولها، ولا تكتفى بذلك، بل تمتد إلى أن تشمل هذا الثلاثى الذى يضم ما فى الكون كله من إنسان أو حيوان أو طبيعة.
هكذا كبرتُ مع تغير تعريفات الثقافة ما بين طه حسين ولوسيان جولدمان، أو ما بين انتقالى من ثقافة الشباب إلى ثقافة النضج. وازددتُ نُضجًا مع تكرار ما عرفته عن لوسيان جولدمان من ارتباط الثقافة برؤية العالم عند الإنسان. وكانت رؤية العالم تتوزع على ثلاث دوائر: دائرة الطبيعة، ودائرة الإنسان، ودائرة الحيوان. وكانت هذه الثلاثية للعالم تقود إلى ثلاثية أركان الرؤية، فتحدث نوعًا من التثليث فى النظر عند كل شاعر أو أديب، وهو ما تعودتُ عليه فى النظر إلى أركان رؤية العالم المثلثة دائمًا والتى لا تخلو من وجود الإنسان المجرد، ومن وجود الحيوان ومن وجود الطبيعة عند كل مبدع.
هكذا صرتُ أبحث عن هذه الثلاثية فى شِعر أى شاعرٍ أو حتى أديب، ولكن هذه الثلاثية الخاصة تختلط بتحديد الرؤية العامة. ولذلك عندما كنتُ أفكر فى رؤية العالم عند أى مبدعٍ كنتُ أفكر فى هذه الزوايا الثلاث، وأبحث عنها، فإذا اكتملت فقد اكتملت معها رؤيا العالم عند هذا المبدع أو ذاك. وشمول رؤية العالم الإنسان، الطبيعة، الحيوان، لا تخلو ــ على هذا النحو ــ من عمقها النوعى، وخصوصيتها الكيفية، كما تتميز بتعقيداتها، وتعدد مستوياتها، وتنوّع علاقاتها، وذلك جنبًا إلى جنب جذريتها الإبداعية، التى تهدف إلى أن ترتقى بالإنسان من مستوى الضرورة إلى أُفق الحرية، سواء فى حوار الإنسان مع نفسه، أو حواره مع غيره من بنى الإنسان، أو حواره مع الطبيعة، أو حواره مع المطلق فى دائرة تأملاته الميتافيزيقية، هكذا قرأتُ صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى، وعبد الوهاب البياتى وغيرهم من الشعراء أو كتّاب القصة. وكانت النتيجة دائمًا، هذه الثلاثية التى لا أخرج عنها. وإلى اليوم ما زلتُ أسير على هذه الثلاثية التى تعلمتها من لوسيان جولدمان، والتى أحسب نفسى أسيرًا لها بشكل أو بآخر. الطريف أن هذه الرؤية مصدرها ثلاثية موازية عند جولدمان الذى جعل العالم: طبيعة وإنسانًا (أو بشرًا) أو حيوانًا، ومن ثم صنع ثلاثيته الخاصة التى أصبحت مصدر العديد من الثلاثيات فى النقد الأدبى بشكلٍ ظاهرٍ أو باطن. أحيانًا أقرأ ما يشبه هذه الثلاثية عند طه حسين أو غيره، فأتأكد من الصلة بينه وبين لوسيان جولدمان، خصوصًا أننى أصبحتُ أعرف أن طه حسين قد عاصره، ومن المحتمل أن كليهما قد اتصل معرفيًّا بالآخر.
هكذا أصبح مصطلح رؤيا العالم مصطلحًا أساسيًّا فى تفكيرى، وفى بحثى عن رؤيا العالم وأصبح بحثًا أوليًّا عندما أقرأ الناقد أو المبدع، وأحيانًا ما يصيب هذا البحث أو يخيب، لكنى فى كل الأحوال أخرج وافر الصيد على رؤيا عالم ما فى كل حالةٍ، وعلى تعريفٍ خاص لكل أديب، ومن ثم على ما يميز الأديب من الأديب، ومن ثم التمييز بين الأديب وغير الأديب، وبين الإنسان الذى يتلهب بنار بروميثيوس، والإنسان الذى يمضى فى الدنيا خالى الوفاض. هكذا أمضى بهذه الأفكار الأولية التى هى أول مقياس لى فى عالم النقد، والتى هى أولى أفكارى فى الحياة. هل أنا على حق فى ذلك؟ قد أعرف أو لا أعرف لكن المؤكد أن ثقافتى العربية تمتزج مع ثقافتى الأجنبية فى تشكيل إجابتى وبحثى عن سؤال رؤيا العالم، ولذلك فإن جوابى عن: ماذا يميز المثقف؟ فإنه الإنسان الذى يمتلك رؤية للعالم، وهذا دليلى إلى تعريف الأديب من حيث هو الإنسان الذى يصنع رؤية خاصة للعالم، ولذلك ما إن أقرأ أديبًا حتى أبدأ بالبحث عن هذه العناصر الثلاثة التى تتشكل منها رؤيته للعالم، ومن التفاصيل الأولية لهذه الرؤية أنطلقُ لغيرها الذى هو منها أو الذى يتفرع منها، وهكذا أنتقلُ من الظاهر إلى الباطن، أو من الكبير إلى الصغير.
هل يعنى هذا كله أن مفهوم الثقافة عند أى أديب ــ أو عندى شخصيًّا ــ هو رؤية العالم سواء أكانت عندى بالخصوص أو عند غيرى بالعموم؟ أعتقد أن الإجابة هى: نعم، فرؤية العالم تبدأ من الخاص إلى العام، ومن الداخل إلى الخارج، ومن الطبيعة إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الكون، ومن الكون إلى ما حوله، ومن ما حوله إلى المُطلق، ولذلك تبدأ رؤية العالم من أصغر الأشياء وتنتهى إلى أكبر الأشياء، فكأنها النقطة التى تتسع كلما مضينا فى التحديق فيها إلى أن تشمل كل ما حولها، ولا تكتفى بذلك، بل تمتد إلى أن تشمل هذا الثلاثى الذى يضم ما فى الكون كله من إنسان أو حيوان أو طبيعة.