نظريات الترجمة
تعريف ومفهوم النظرية:
النظرية هي نوع من التفسير لشرح كيفية حدوث ظاهرة طبيعية، بشرط تحقق حدوث هذه الظاهرة وعدم وجود نزاع في حدوثها، فالنظرية تشرح آلية حدوث الظواهر، وتكون بشكل عام عرضة للصواب والخطأ،ويدعم النظرية ما تعكسه من التماسك المنطقي والرياضي والقابلية للتجربة، ويتزايد التأكد من صحة النظرية عندما تقدم تنبؤات بشأن ظواهر غير مثبتة ثم يثبت صحتها بعد ذلك، وبشكل عام يقصد بكلمة نظرية ( رأي ) أو (فرضية )،وفي هذا المجال لا يتوجب أن تكون النظرية مبنية على حقائق، أما الاستخدام العلمي فيشير إلى أن النظرية هي نموذج مقترح لشرح ظاهرة، أو ظواهر معينة بإمكانها التنبؤ بأحداث مستقبلية، ويمكن نقدها، وهناك عدد من التعريفات التي تناولت مصطلح ( النظرية) مشيرة إلى أنها: فرض أو مجموعة فروض مرت بمرحلة التحقيق عن طريق التجريب، ويمكن تطبيقها على عدد من الظواهر المتصلة، ولها القدرة على وصف و تفسير الأحداث، والتنبؤ بها واستبصار المعرفة الجديدة المحتملة، ومن بين تعريفات النظرية أنها:
• مجموعة من الفروض التي يمكن أن يشتق منها مجموعة من القوانين التطبيقية باستخدام المنطق الرياضي.
• مجموعة من المعتقدات التي يقبلها الفرد كموجهات في طريقة حياته.
• مجموعة من الفروض التي يمكن أن يستخلص منها قوانين ومبادئ تجريبية قابلة للاختيار.
تأتي أهمية النظرية من أنه يمكننا قراءتها، وفهمها، وتحليلها، ونقدها، وقبولها، أو رفضها، وتطويرها، ولأنها تمثل أحد الوسائل المعرفية، وهي أساس الانطلاق عند القيام بعمليات التفسير والتحليل والنقد.
نظريات الترجمة...بين شيشرون والجاحظ
لقد تركزت نظريات الترجمة منذ عهد شيشرون Cicéron حتى بدايات القرن العشرين حول التساؤل عن الترجمة الحرفية (كلمة بكلمة)Word for Word، أو حرة (معنى بمعنى)Sense for Sense وأسهم في طرح هذه الآراء الاهتمام بترجمة نصوص الكتاب المقدس والمؤلفات الدينية، ومع مطلع الخمسينات، وبداية ظهور العلوم اللسانية ظهرت نظريات جديدة، وطرحت مفاهيم ومصطلحات مثل مفهومي المعنى و التكافؤ Meaning & Equivalence، والأثر المكافئ equivalent effect، والتكافؤ الشكلي والتكافؤ الديناميكي، Formal Equivalence and Dynamic Equivalence، ثم أتبع ذلك نظريات الترجمة الوظيفية، و التواصلية التي اهتمت بوظيفة اللغة، ونوع النص، ورافق هذه النظريات مفاهيم ومصطلحات جديدة مثل اللسانيات الوظيفية النظمية Systemic functional linguistics، لتتطور هذه النظريات حتى تصل إلى نظريات توطين الترجمة domesticating، وتغريب الترجمة foreignising، ونظريات الترجمة الفلسفية الهرمنيوطيقية.
بينما نجد أن التنظير للترجمة قد جاء في مرحلة متأخرة من القرن العشرين إلا أن الحقيقة تثبت أن العرب كان لهم السبق حتى في هذا المجال وكانوا أول من وضع أطراً نظرية للترجمة، ولعل خير مثال على ذلك هو ما أسهم به الجاحظ والذي من خلال إسهاماته تلك يمكننا أن نشير إلى قدم علم الترجمة ونظرياته إلا أن اكتشاف هذه النظريات لم يتم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتتحدد نظرية الترجمة عند الجاحظ فيما أورده بقوله:
"وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر.....وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم، وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها، فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر، من البُنيان والشعر.ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ، على خصائِص معانيه، وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته، وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها، ويؤدِّيَ الأمانة فيها، ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ، وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصدقها، إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها، واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها، وتأويلاتِ مخارجِها، ومثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه، فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق، وابن ناعمة، وابن قُرَّة، وابن فِهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفَّع، مثلَ أرِسطاطاليس؟ ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون؟، ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة، في وزْن علمه في نفسِ المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية، ومتى وجدناه أيضاً قد تكلّم بلسانين، علمنا أنَّه قد أدخلَ الضيمَ عليهما، لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها، وتعترضُ عليها، وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوَّةٌ واحدة، فَإنْ تكلّمَ بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات، وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجِم، وأجدرَ أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء. هذا قولُنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دينٍ وإخبار عن اللّه عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه ممَّا لا يجوز عليه، حتىَّ يريد أنْ يتكلَّم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد، ويتكلَّمَ في وجِوه الإخبار واحتمالاته للوُجوه، ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على اللّه تعالى، ممَّا لا يجوز، وبما يجوزُ على الناس مما لا يجوز، وحتَّى يعلمَ مستقرَّ العامِّ والخاصّ، والمقابلاتِ التي تَلقَى الأخبارَ العامِّيةَ المخرَج فيجعلَها خاصيَّة، وحتى يعرفَ من الخبر ما يخصُّه الخبر الذي هو أثر، ممََّا يخصُّه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصُّه العقل مما تخصُّه العادة أو الحال الرادَّةُ له عن العموم، وحتَّى يعرفَ ما يكونُ من الخبر صِدقاً أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمَّى بصدقٍ ولا كذب؛ وحتَّى يعرفَ اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أيِّ معنًى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المُحالِ من الصحيح، وأيّ شيءٍ تأويلُ المحال؛ وهل يسمَّى المحال كذباً أم لا يجوز ذلك، وأيّ القولين أفحشُ: المُحال أم الكذب، وفي أيِّ موضع يكون المحالُ أفْظَع، والكذب أشنع؛ وحتَّى يعرف المثلَ والبديع، والوحي والكناية، وفصْل ما بين الخطَلِ والهَذْر، والمقصورِ والمبسوط والاختصار، وحتَّى يعرف أبنيةَ الكلام، وعاداتِ القوم، وأسبابَ تفاهمهِم، والذي ذكرنا قليلٌ من كثير، ومتى لم يعرفْ ذلك المترجم أخطأَ في تأويل كلامِ الدين، والخطأُ في الدين أضرُّ من الخطأَ في الرياضة والصناعة، والفلسفةِ والكَيْمِياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم....وإذا كان المترجِم الذي قد تَرجَم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدْرِ نقصانه من الكمال، وما عِلْمُ المترجِم بالدليل عن شبه الدليل؟ وما علْمه بالأخبار النجوميّة؟ وما علمه بالحدود الخفيّة؟ وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب؟ وما علمُه ببعض الخطرفة لبعض المقدَّمات؟ وقد علمنا أنَّ المقدَّمات لا بدَّ أنْ تكون اضطراريّة، ولا بدَّ أن تكون مرتَّبةً، وكالخيط الممدود، وابنُ البِطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفاً منزَّلاً، ومرتَّباً مفصَّلاً، من معلِّمٍ رفيقٍ، ومن حاذقٍ طَبٍّ فكيف بكتابٍ قد تداولتْه اللغاتُ واختلافُ الأقلام، وأجناسُ خطوطِ المِلل والأمم؟! ولو كان الحاذقُ بلسان اليونانيِّين يرمي إلى الحاذق بلسان العربيّة، ثم كان العربيُّ مقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ، لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يَجِد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربيّة بُدّاً من الاغتفار والتجاوز، ثمّ يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين، وذلك أن نسختَه لا يَعدَمها الخطأ، ثمَّ ينسخُ له من تلك النسخة مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثمّ لا ينقص منه؛ ثم يعارِض بذلك مَن يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي لا يجدُه في نسخته".
ومن خلال ما أورده الجاحظ يمكننا أن نلخص نظريته في النقاط التالية:
• الشعر غير قابل للترجمة حتى لا يتأثر نظمه وحسنه.
• يمكن ترجمة النثر بأنواعه دون ضمان لجودة الترجمة.
• الترجمة من لغة غير لغة النص الأصلي تؤثر على المعنى وجودة الترجمة.
• لا يمكن للمترجم أن يعبر عن محتوى النص بصورة تامة التطابق مع ما قصده صاحب النص إلا إذا كان دارساً للعلم الذي يتضمنه النص.
• على المترجم أن يعرف مصطلحات وصيغ الكتابة في العلم الذي يترجم.
• ينبغي أن يكون المترجم أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها.
• تنتج أخطاء الترجمة نتيجة لعدم المعرفة الكافية بعلم أو مجال النص.
اللسانيات ونظريات الترجمة:
إن الترجمة ظاهرة فريدة ومعقدة، وهذا ما دفع الكثير من الباحثين والمنظرين إلى تناولها وفق أسس العلوم المختلفة، وتبعاً لمناهج مختلفة، وقد مرت عملية التنظير للترجمة بمراحل ثلاث رئيسية هي:
• مرحلة ما قبل اللسانيات: يشار بها إلى النظريات التي ظهرت قبل القرن العشرين، وكانت هذه النظريات تطرح نظريات فلسفية، تتناول تجارب المترجمين بهدف التعريف بالترجمة، وفتح آفاق لدراستها، وتمتد من ظهور علم اللسانيات حتى بدايات السبعينات من القرن الماضي، وتمتاز هذه المرحلة بالتناول العلمي التحليلي للترجمة بوصفها ظاهرة يمكن تناولها بصورة علمية وفق علم اللسانيات وأسسه.
• مرحلة اللسانيات: ظهرت مع مطلع القرن العشرين، وامتدت حتى الستينات منه متضمنة نظريات تقوم على التحليل العلمي لظاهرة الترجمة وفق قواعد اللسانيات، وفي هذه المرحلة تركز تناول الترجمة على أسس لغوية وفلسفية، وشهدت اجتهادات استنتاجية أوردها المترجمون أنفسهم نتيجة لخبراتهم، وتعاملهم مع النصوص التي ترجموها، وتمتد هذه الفترة من بدايات طرح قضية الترجمة، وحتى بدايات القرن العشرين وظهور الأسس المؤطرة لعلم اللسانيات.
• مرحلة ما بعد اللسانيات: تبدأ من سبعينات القرن العشرين حتى وقتنا هذا، وقد ظهرت خلالها نظريات تمزج بين النظريات السابقة، وتطرح نظريات للعلاقة بين الترجمة واللسانيات، وظهرت خلالها اجتهادات وطروحات حاولت أن تمزج أو تقارب أو تقارن بين التوجهات المختلفة التي شهدتها المرحلتين السابقتين، وظهرت نظريات جديدة لتأطير ظاهرة الترجمة من بينها النظرية النصية، ونظرية التواصل والنظرية التقاربية.
قدمت اللسانيات مساهمات مهمة في صياغة نظريات الترجمة، ويعود الفضل إلى اللسانيات في ظهور التعريفات الأولى الموضحة لعمليات الترجمة، بينما لم تتجه أي علوم أو دراسات سابقة لعلم اللسانيات لتناول موضوع الترجمة وقضاياها وكان المطروح بعض نصائح وتوجيهات مثل شيشرون Cicéron الذي نصح بالاهتمام بترجمة المعنى وليس الكلمات، أو درايدن Dryden الذي تحدث عن الترجمة الأنيقة القائمة على ألا يقوم المترجم بترجمة الكلمة بكلمة، وقد أشار رومان ياكوبسونRoman Jakobson إلى أن التكافؤ في الاختلاف هو المسألة الأساسية في اللغة، وموضوع اللسانيات الوحيد، فأصبحت الترجمة مجالا يتعلق باللسانيات العامة، ثم أصدر كاتفورد Catford كتابه نظرية لسانية في الترجمة A Linguistic Theory of Translation، موضحاً أن الترجمة مسألة تتعلق باللغة، واللسانيات تدرس اللغة، وبالتالي فإن الترجمة موضوع من موضوعات اللسانيات، وتبعاً لذلك وضع مؤلفه تحت عنوان: دراسة في اللسانيات التطبيقية An Essay in Applied Linguistics عام 1964، ليبدأ التعامل مع الترجمة بوصفها علم يخضع لقواعد علوم اللسانيات، وبينما كان التعامل مع الترجمة لا يزال في طور التنظير حتى أعوام قليلة قبل أن يطرح كاتفورد ونيدا مؤلفيهما عام 1964، لكن خضوع الترجمة المطلق لعلم اللسانيات لم يلق الترحيب بين المنخرطين في دراسات الترجمة وتطبيقاتها، فأصدر ادمون كيري Edmond Caryكتابه (كيف ينبغي أن نترجم؟) عام 1958 موضحاً أن الترجمة الأدبية ليست عملية لسانية، إنما عملية أدبية، وأيده في ذلك فيني وداربلنت J.-P. Vinay et J. Darbelnet في كتابهما الأسلوبية المقارنة للفرنسية والإنجليزية حيث أوردا: "أننا غالبا ما نقرأ لمترجمين مجربين أن الترجمة فن، وهذه العبارة تنطوي على جزء من الحقيقة، تهدف مع ذلك إلى تحديد طبيعة موضوعنا تحديدا تعسفيا، فالترجمة في الواقع نسق دقيق، له تقنياته ومشكلاته الخاصة"، ويؤكد جورج شتاينرGeorges Steiner في كتابه (بعد بابل Après Babel) عام 1975، أن الترجمة (لاسيما ترجمة النصوص الأدبية) لا تختزل إلى البعد اللساني فقط.
كما أن هناك من حاول أن يمزج بين النظريات المتعددة التي وصفت الترجمة مثل جورج مونان Georges Mounin، حيث تحدث في كتابه (المشكلات النظرية في الترجمة) 1963 موضحاً أن" الترجمة تبقى فنا كالطب، ولكنه فن يقوم على علم"، ويرجع تاريخ أول المصنفات التجريبية إلى عام 1944 حيث وضع ألفرد مالبلان Alfred Malblanc كتابه (الأسلوبية المقارنة للفرنسية والألمانية)، ويفترض هنري ميشونيك Henri Meschonnic في كتابه (من أجل الشعرية) بوجود شعرية للمترجم وأشار إلى أن: " نظرية الترجمة ليست لسانيات تطبيقية، إنها حقل جديد في نظرية الأدب وممارسته، وتقوم أهميتها المعرفية على مساهمتها في ممارسة نظرية للاتحاد بين دال ومدلول خاص بالممارسة الاجتماعية التي تمثلها الكتابة، وقد تناول هنري ميشونيك التمييز بين "أهل المصدر" و"أهل الهدف " منكراً لأي تمييز بين اللغة المصدر واللغة الهدف، وأشار إلى أن الترجمة لا تعرَّف بأنها انتقال من نص الانطلاق إلى أدب الهدف، أو بالعكس انتقال قارئ الهدف إلى نص الانطلاق، وإنما بأنها عمل في اللغة، وإزاحة، وقد أدت الطروحات الكلاسيكية التي تناولت قضية الترجمة، وطرحت أطر نظرية متضمنة ثنائيات تقليدية مثل: المصدر والهدف، و الحرفية والجوهر، والشكل والمضمون، والأسلوب والمعنى، والأصل والترجمة، والمؤلف والمترجم.
__________________
حسام الدين مصطفى
مترجم وباحث وكاتب
* منقول للفائدة
تعريف ومفهوم النظرية:
النظرية هي نوع من التفسير لشرح كيفية حدوث ظاهرة طبيعية، بشرط تحقق حدوث هذه الظاهرة وعدم وجود نزاع في حدوثها، فالنظرية تشرح آلية حدوث الظواهر، وتكون بشكل عام عرضة للصواب والخطأ،ويدعم النظرية ما تعكسه من التماسك المنطقي والرياضي والقابلية للتجربة، ويتزايد التأكد من صحة النظرية عندما تقدم تنبؤات بشأن ظواهر غير مثبتة ثم يثبت صحتها بعد ذلك، وبشكل عام يقصد بكلمة نظرية ( رأي ) أو (فرضية )،وفي هذا المجال لا يتوجب أن تكون النظرية مبنية على حقائق، أما الاستخدام العلمي فيشير إلى أن النظرية هي نموذج مقترح لشرح ظاهرة، أو ظواهر معينة بإمكانها التنبؤ بأحداث مستقبلية، ويمكن نقدها، وهناك عدد من التعريفات التي تناولت مصطلح ( النظرية) مشيرة إلى أنها: فرض أو مجموعة فروض مرت بمرحلة التحقيق عن طريق التجريب، ويمكن تطبيقها على عدد من الظواهر المتصلة، ولها القدرة على وصف و تفسير الأحداث، والتنبؤ بها واستبصار المعرفة الجديدة المحتملة، ومن بين تعريفات النظرية أنها:
• مجموعة من الفروض التي يمكن أن يشتق منها مجموعة من القوانين التطبيقية باستخدام المنطق الرياضي.
• مجموعة من المعتقدات التي يقبلها الفرد كموجهات في طريقة حياته.
• مجموعة من الفروض التي يمكن أن يستخلص منها قوانين ومبادئ تجريبية قابلة للاختيار.
تأتي أهمية النظرية من أنه يمكننا قراءتها، وفهمها، وتحليلها، ونقدها، وقبولها، أو رفضها، وتطويرها، ولأنها تمثل أحد الوسائل المعرفية، وهي أساس الانطلاق عند القيام بعمليات التفسير والتحليل والنقد.
نظريات الترجمة...بين شيشرون والجاحظ
لقد تركزت نظريات الترجمة منذ عهد شيشرون Cicéron حتى بدايات القرن العشرين حول التساؤل عن الترجمة الحرفية (كلمة بكلمة)Word for Word، أو حرة (معنى بمعنى)Sense for Sense وأسهم في طرح هذه الآراء الاهتمام بترجمة نصوص الكتاب المقدس والمؤلفات الدينية، ومع مطلع الخمسينات، وبداية ظهور العلوم اللسانية ظهرت نظريات جديدة، وطرحت مفاهيم ومصطلحات مثل مفهومي المعنى و التكافؤ Meaning & Equivalence، والأثر المكافئ equivalent effect، والتكافؤ الشكلي والتكافؤ الديناميكي، Formal Equivalence and Dynamic Equivalence، ثم أتبع ذلك نظريات الترجمة الوظيفية، و التواصلية التي اهتمت بوظيفة اللغة، ونوع النص، ورافق هذه النظريات مفاهيم ومصطلحات جديدة مثل اللسانيات الوظيفية النظمية Systemic functional linguistics، لتتطور هذه النظريات حتى تصل إلى نظريات توطين الترجمة domesticating، وتغريب الترجمة foreignising، ونظريات الترجمة الفلسفية الهرمنيوطيقية.
بينما نجد أن التنظير للترجمة قد جاء في مرحلة متأخرة من القرن العشرين إلا أن الحقيقة تثبت أن العرب كان لهم السبق حتى في هذا المجال وكانوا أول من وضع أطراً نظرية للترجمة، ولعل خير مثال على ذلك هو ما أسهم به الجاحظ والذي من خلال إسهاماته تلك يمكننا أن نشير إلى قدم علم الترجمة ونظرياته إلا أن اكتشاف هذه النظريات لم يتم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتتحدد نظرية الترجمة عند الجاحظ فيما أورده بقوله:
"وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر.....وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم، وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها، فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر، من البُنيان والشعر.ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ، على خصائِص معانيه، وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته، وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها، ويؤدِّيَ الأمانة فيها، ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ، وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصدقها، إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها، واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها، وتأويلاتِ مخارجِها، ومثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه، فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق، وابن ناعمة، وابن قُرَّة، وابن فِهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفَّع، مثلَ أرِسطاطاليس؟ ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون؟، ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة، في وزْن علمه في نفسِ المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية، ومتى وجدناه أيضاً قد تكلّم بلسانين، علمنا أنَّه قد أدخلَ الضيمَ عليهما، لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها، وتعترضُ عليها، وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوَّةٌ واحدة، فَإنْ تكلّمَ بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات، وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجِم، وأجدرَ أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء. هذا قولُنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دينٍ وإخبار عن اللّه عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه ممَّا لا يجوز عليه، حتىَّ يريد أنْ يتكلَّم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد، ويتكلَّمَ في وجِوه الإخبار واحتمالاته للوُجوه، ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على اللّه تعالى، ممَّا لا يجوز، وبما يجوزُ على الناس مما لا يجوز، وحتَّى يعلمَ مستقرَّ العامِّ والخاصّ، والمقابلاتِ التي تَلقَى الأخبارَ العامِّيةَ المخرَج فيجعلَها خاصيَّة، وحتى يعرفَ من الخبر ما يخصُّه الخبر الذي هو أثر، ممََّا يخصُّه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصُّه العقل مما تخصُّه العادة أو الحال الرادَّةُ له عن العموم، وحتَّى يعرفَ ما يكونُ من الخبر صِدقاً أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمَّى بصدقٍ ولا كذب؛ وحتَّى يعرفَ اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أيِّ معنًى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المُحالِ من الصحيح، وأيّ شيءٍ تأويلُ المحال؛ وهل يسمَّى المحال كذباً أم لا يجوز ذلك، وأيّ القولين أفحشُ: المُحال أم الكذب، وفي أيِّ موضع يكون المحالُ أفْظَع، والكذب أشنع؛ وحتَّى يعرف المثلَ والبديع، والوحي والكناية، وفصْل ما بين الخطَلِ والهَذْر، والمقصورِ والمبسوط والاختصار، وحتَّى يعرف أبنيةَ الكلام، وعاداتِ القوم، وأسبابَ تفاهمهِم، والذي ذكرنا قليلٌ من كثير، ومتى لم يعرفْ ذلك المترجم أخطأَ في تأويل كلامِ الدين، والخطأُ في الدين أضرُّ من الخطأَ في الرياضة والصناعة، والفلسفةِ والكَيْمِياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم....وإذا كان المترجِم الذي قد تَرجَم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدْرِ نقصانه من الكمال، وما عِلْمُ المترجِم بالدليل عن شبه الدليل؟ وما علْمه بالأخبار النجوميّة؟ وما علمه بالحدود الخفيّة؟ وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب؟ وما علمُه ببعض الخطرفة لبعض المقدَّمات؟ وقد علمنا أنَّ المقدَّمات لا بدَّ أنْ تكون اضطراريّة، ولا بدَّ أن تكون مرتَّبةً، وكالخيط الممدود، وابنُ البِطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفاً منزَّلاً، ومرتَّباً مفصَّلاً، من معلِّمٍ رفيقٍ، ومن حاذقٍ طَبٍّ فكيف بكتابٍ قد تداولتْه اللغاتُ واختلافُ الأقلام، وأجناسُ خطوطِ المِلل والأمم؟! ولو كان الحاذقُ بلسان اليونانيِّين يرمي إلى الحاذق بلسان العربيّة، ثم كان العربيُّ مقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ، لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يَجِد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربيّة بُدّاً من الاغتفار والتجاوز، ثمّ يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين، وذلك أن نسختَه لا يَعدَمها الخطأ، ثمَّ ينسخُ له من تلك النسخة مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثمّ لا ينقص منه؛ ثم يعارِض بذلك مَن يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي لا يجدُه في نسخته".
ومن خلال ما أورده الجاحظ يمكننا أن نلخص نظريته في النقاط التالية:
• الشعر غير قابل للترجمة حتى لا يتأثر نظمه وحسنه.
• يمكن ترجمة النثر بأنواعه دون ضمان لجودة الترجمة.
• الترجمة من لغة غير لغة النص الأصلي تؤثر على المعنى وجودة الترجمة.
• لا يمكن للمترجم أن يعبر عن محتوى النص بصورة تامة التطابق مع ما قصده صاحب النص إلا إذا كان دارساً للعلم الذي يتضمنه النص.
• على المترجم أن يعرف مصطلحات وصيغ الكتابة في العلم الذي يترجم.
• ينبغي أن يكون المترجم أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها.
• تنتج أخطاء الترجمة نتيجة لعدم المعرفة الكافية بعلم أو مجال النص.
اللسانيات ونظريات الترجمة:
إن الترجمة ظاهرة فريدة ومعقدة، وهذا ما دفع الكثير من الباحثين والمنظرين إلى تناولها وفق أسس العلوم المختلفة، وتبعاً لمناهج مختلفة، وقد مرت عملية التنظير للترجمة بمراحل ثلاث رئيسية هي:
• مرحلة ما قبل اللسانيات: يشار بها إلى النظريات التي ظهرت قبل القرن العشرين، وكانت هذه النظريات تطرح نظريات فلسفية، تتناول تجارب المترجمين بهدف التعريف بالترجمة، وفتح آفاق لدراستها، وتمتد من ظهور علم اللسانيات حتى بدايات السبعينات من القرن الماضي، وتمتاز هذه المرحلة بالتناول العلمي التحليلي للترجمة بوصفها ظاهرة يمكن تناولها بصورة علمية وفق علم اللسانيات وأسسه.
• مرحلة اللسانيات: ظهرت مع مطلع القرن العشرين، وامتدت حتى الستينات منه متضمنة نظريات تقوم على التحليل العلمي لظاهرة الترجمة وفق قواعد اللسانيات، وفي هذه المرحلة تركز تناول الترجمة على أسس لغوية وفلسفية، وشهدت اجتهادات استنتاجية أوردها المترجمون أنفسهم نتيجة لخبراتهم، وتعاملهم مع النصوص التي ترجموها، وتمتد هذه الفترة من بدايات طرح قضية الترجمة، وحتى بدايات القرن العشرين وظهور الأسس المؤطرة لعلم اللسانيات.
• مرحلة ما بعد اللسانيات: تبدأ من سبعينات القرن العشرين حتى وقتنا هذا، وقد ظهرت خلالها نظريات تمزج بين النظريات السابقة، وتطرح نظريات للعلاقة بين الترجمة واللسانيات، وظهرت خلالها اجتهادات وطروحات حاولت أن تمزج أو تقارب أو تقارن بين التوجهات المختلفة التي شهدتها المرحلتين السابقتين، وظهرت نظريات جديدة لتأطير ظاهرة الترجمة من بينها النظرية النصية، ونظرية التواصل والنظرية التقاربية.
قدمت اللسانيات مساهمات مهمة في صياغة نظريات الترجمة، ويعود الفضل إلى اللسانيات في ظهور التعريفات الأولى الموضحة لعمليات الترجمة، بينما لم تتجه أي علوم أو دراسات سابقة لعلم اللسانيات لتناول موضوع الترجمة وقضاياها وكان المطروح بعض نصائح وتوجيهات مثل شيشرون Cicéron الذي نصح بالاهتمام بترجمة المعنى وليس الكلمات، أو درايدن Dryden الذي تحدث عن الترجمة الأنيقة القائمة على ألا يقوم المترجم بترجمة الكلمة بكلمة، وقد أشار رومان ياكوبسونRoman Jakobson إلى أن التكافؤ في الاختلاف هو المسألة الأساسية في اللغة، وموضوع اللسانيات الوحيد، فأصبحت الترجمة مجالا يتعلق باللسانيات العامة، ثم أصدر كاتفورد Catford كتابه نظرية لسانية في الترجمة A Linguistic Theory of Translation، موضحاً أن الترجمة مسألة تتعلق باللغة، واللسانيات تدرس اللغة، وبالتالي فإن الترجمة موضوع من موضوعات اللسانيات، وتبعاً لذلك وضع مؤلفه تحت عنوان: دراسة في اللسانيات التطبيقية An Essay in Applied Linguistics عام 1964، ليبدأ التعامل مع الترجمة بوصفها علم يخضع لقواعد علوم اللسانيات، وبينما كان التعامل مع الترجمة لا يزال في طور التنظير حتى أعوام قليلة قبل أن يطرح كاتفورد ونيدا مؤلفيهما عام 1964، لكن خضوع الترجمة المطلق لعلم اللسانيات لم يلق الترحيب بين المنخرطين في دراسات الترجمة وتطبيقاتها، فأصدر ادمون كيري Edmond Caryكتابه (كيف ينبغي أن نترجم؟) عام 1958 موضحاً أن الترجمة الأدبية ليست عملية لسانية، إنما عملية أدبية، وأيده في ذلك فيني وداربلنت J.-P. Vinay et J. Darbelnet في كتابهما الأسلوبية المقارنة للفرنسية والإنجليزية حيث أوردا: "أننا غالبا ما نقرأ لمترجمين مجربين أن الترجمة فن، وهذه العبارة تنطوي على جزء من الحقيقة، تهدف مع ذلك إلى تحديد طبيعة موضوعنا تحديدا تعسفيا، فالترجمة في الواقع نسق دقيق، له تقنياته ومشكلاته الخاصة"، ويؤكد جورج شتاينرGeorges Steiner في كتابه (بعد بابل Après Babel) عام 1975، أن الترجمة (لاسيما ترجمة النصوص الأدبية) لا تختزل إلى البعد اللساني فقط.
كما أن هناك من حاول أن يمزج بين النظريات المتعددة التي وصفت الترجمة مثل جورج مونان Georges Mounin، حيث تحدث في كتابه (المشكلات النظرية في الترجمة) 1963 موضحاً أن" الترجمة تبقى فنا كالطب، ولكنه فن يقوم على علم"، ويرجع تاريخ أول المصنفات التجريبية إلى عام 1944 حيث وضع ألفرد مالبلان Alfred Malblanc كتابه (الأسلوبية المقارنة للفرنسية والألمانية)، ويفترض هنري ميشونيك Henri Meschonnic في كتابه (من أجل الشعرية) بوجود شعرية للمترجم وأشار إلى أن: " نظرية الترجمة ليست لسانيات تطبيقية، إنها حقل جديد في نظرية الأدب وممارسته، وتقوم أهميتها المعرفية على مساهمتها في ممارسة نظرية للاتحاد بين دال ومدلول خاص بالممارسة الاجتماعية التي تمثلها الكتابة، وقد تناول هنري ميشونيك التمييز بين "أهل المصدر" و"أهل الهدف " منكراً لأي تمييز بين اللغة المصدر واللغة الهدف، وأشار إلى أن الترجمة لا تعرَّف بأنها انتقال من نص الانطلاق إلى أدب الهدف، أو بالعكس انتقال قارئ الهدف إلى نص الانطلاق، وإنما بأنها عمل في اللغة، وإزاحة، وقد أدت الطروحات الكلاسيكية التي تناولت قضية الترجمة، وطرحت أطر نظرية متضمنة ثنائيات تقليدية مثل: المصدر والهدف، و الحرفية والجوهر، والشكل والمضمون، والأسلوب والمعنى، والأصل والترجمة، والمؤلف والمترجم.
__________________
حسام الدين مصطفى
مترجم وباحث وكاتب
* منقول للفائدة