محمد باسل سليمان - المثاقفة.. تفاعلات واستيعابات

تلاقيات وتفاعلات واستيعابات
تعّرف المثاقفة على أنها التغيير الثقافي في الظواهر التي تنشأ، حيث تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة في إتصال مباشر، مما يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الاصلية السائدة في إحدى الجماعتين او فيهما معاً.
وترى كل امة المثاقفة رافداً معرفياً تسعى من خلاله لتنمية كيانها الثقافي، واستثمار ما لدى الآخرين من مآثر وحكم كانت نتاج تجربة ملهمة.
ويرى المؤرخون أن المثاقفة دخلت إلى الثقافة العربية بشكل تلقائي كأحد الإستحقاقات التي ترتبت على الحروب التي شنتها الدولة العربية ـ الإسلامية على دول الشعوب والأمم الأخرى داعية إياها للتخلي عن دينها وإعتناق الدين المحمدي. ودخلت المثقافة إلى الثقافة العربية في سياق ممنهج إبتداءاً بحركة "الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية" على يدي خالد بن يزيد بن معاوية الأموي في القرن الهجري الأول، ومروراً بمرحلة الإزدهار على يدي الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد؛ ثم بما حدث بعد ذلك في حالات الشقاق السياسي والدويلات المتناحرة في القرن الرابع الهجري.( )
والمثاقفة في الثقافة العربية المعاصرة ترسمت كنتيجة لنجاح الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م. وكانت تأثيرات الثقافة الغربية على الثقافة العربية كثيرة ومميزة، بسبب وهن وتخلف الواقع الثقافي العربي يومذاك، واقتصار تكويناته على ما تركته صراعات دويلات الطوائف والمماليك من آثار في التراث الثقافي العربي.
فحص التعريف
إقتبس الواقع وقبله التاريخ مفهوم المثاقفة من علمي الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، وخصوصاً عندما ابتدع الأنثروبيولوجيون الأمريكيون المثتقفة كمدلول في حدود عام 1880م وأطلقوا عليه مصطلح Acculturation، ورأى له الإنجليز مصطلحاً آخر هو التبادل الثقافي Cultural Exchange. واما الإسبان فرأوه على انه التحول الثقافي Transculturation. وفضل الفرنسيون مفهوم تداخل الحضارات Interpenetration des civilisation.
والمثاقفة في الأصل تفاعل خياري طوعي ومباشر لا يتم ولا يثمر إلا برغبة تبادلةي بين المتثاقفين. وهي في حالات الإختلاط القهري الناتج عن الحروب والإستعمار لا يمكن أن تتحقق. وتكون نتيجة الإختلاط الناجم عن ذلك "تشوهات ثقافية" لا يمكن أن تترك نتائج تأصيلية تتمتع بأي سمة من المثاقفة.
وبمعنى آخر، فإن المثاقفة تضادية الغزو الثقافي، لأنه يتضمن في طياته الرغبة الجامحة في هزيمة الآخر وقهره، ثم محوه وإلحاقه وفرض التبعية عليه؛ ومعاملته بنظرة فوقية عدوانية ومتغطرسة. وأما المثاقفة فتقوم على التساوي والإحترام والتسامح والإعتراف بالآخر، وحقه في الإختلاف.
والمثاقفة ترعى التواصل والتفاعل بين المتثاقفين، بهدف الإغتناء المتبادل، وتوفير شروط الثقة والرغبة لتحقيق التفاعل ولضمان التقدم والتطور المتبادلين وإكتساب المعارف والعلوم والتجارب والخبرات الإنسانية.
إن فحص المفاهيم وتدقيق مدلولاتها المتصلة بالمثاقفة، بما في ذلك تحديد المصطلحات يساعد على فهم أفضل للفرضيات والإستنتاجات، ويغني عن التأويل الخاطئ والوقوع في إشكاليات الإلتباس؛ ويضع إطاراً محدداً ودقيقاً وواضحاً لمفهوم المثاقفة كواقع تعايش وتلاقح ثقافات مختلفة.
والمثاقفة وهي تقوم على المكونات البنيوية التكوينية للثقافات. وقابليات وآليات تفاعلها مع بعضها البعض، وتتصل من جانب آخر وبوثاقة متينة بفاعل الثقافة أي المثقف، فهي تحمل سماتهما (أي الثقافة والمثقف) وخصائهما، والصيغ التعريفية لكل منهما وما يمكن أن يكتشف فيهما من مظاهر توصيف تخدم دقة فحص التعريف، فإن المثاقفة كما الثقافة ظاهرة إنسانية وإجتماعية متعددة الأبعاد، وتتمتع بمستوى محدد تاريخياً في تطور الإنسان والمجتمع. وهي من جانب آخر طريقة في التطور والسلوك، وأحد مظاهر الحياة المادية والروحية أيضاً؛ والوعاء الواسع لما فيها من قيم.
وهي عند العرب لا يختلف تعريفها وتوصيفها عن ما هي عند الغرب. فالمثاقفة مثلاً عند طه حسين كانت في البداية تعني الأخذ والإقتباس من الحضارة المتفوقة وثمارها الثقافية بدءاً من طرق التعليم الحديثة إلى كل أشكال التعبير الأدبي الجديدة علينا كالرواية والمسرحية والمقالة. وأما وسيلة المثاقفة فهي تنحصر في الإتصال المتين بالحضارة الأوروبية في جميع مجالات الحياة ( ). والمثاقفة كما العولمة، وربما بالإقتباس منها أو نتيجة تأثير المباشر أو غير المباشر يرى في أيامنا الحاضرة أنه لا يليق بها الجمود والسكون في نطاق الحدود (الوطنية)، لأن الآيدولوجيا تطرح معها وتوفر حدوداً أخرى غير مرئية ترسمها شبكات الهيمنة العالمية على الإقتصاد والأذواق والثقافة، وتحديد ــــ وآفاق حركية آليتها، العلاقات الإنتاجية المشكلة عبر هذه الهيمنة.
وبرغم ما يقال عن افتراض تناقض المثاقفة مع العولمة، فإن مدلول المثاقفة يبلغ مفهوماً آخر يمكن وصفه بأنه "غير تقليدي" يتاسس على أن العولمة ليست نظاماً إقتصادياً فحسب وإنما هي نظام ثقافي أيضاً يمكن ان نطلق عليه مصطلح "ثقافة الإختراق"، ويجوز فيه إحلال كلمة "آيديولوجية" محل كلمة "ثقافة"، فتبدو مظاهر العولمة قادرة على الكشف عن هويتها الحقيقية، وتعين المرتكزات التي تقوم عليها كأيديولوجية، مثل شل الدولة الوطنية وبالتالي تفتيت العالم لتمكين الشركات الرأسمالية الجديدة والشركات متعددة الجنسية العملاقة من الهيمنة على الإقتصاد الدولي أولاً.
وأما الركيزة الثانية فهي توظيف الإعلام ووسائل الإتصال الحديثة في عملية الإختراق الثقافي والتأثير على الفكر وتوجيه الوعي. ويبدو هذا الفعل الهيمني خطيراً مجلجلاً ومرعباً عندما نراه يرسم صورة الركيزة الثالثة لأيديولوجية العولمة الثقافية التي توصّف كيفية التعامل مع الإنسان في أي مكان على الأرض، وتشترط بأنه يجب أن يكون تعاملاً لا إنسايناً يقوم على نظرية "البقاء للأصح".
وكان من الممكن ان تجعل مثل هذه التمتعات التي تطفح بها العولمة، التناقض الإفتراضي بين المثاقفة والعولمة تناقضاً حقيقياً، لولا تأثير المداخلات الناتجة عن تعامل الشعوب الإيجابي مع العولمة، بما يمنع سحق ثقافتها الوطنية، وتمكنها عبر هذا التعامل من صوغ صيغة خاصة من "الإستقلال الثقافي " لها داخل جدران إحاطات العولمة( ).
صحيح ان مفهوم الهيمنة في عصر العولمة حداثي جدّاً، ويتمثل كل أشكال الحداثة في العولمة نفسها، ولكنه من حيث تجلياته التطبيقية يبدو وكانه لم يتجاوز مفهوم الطريقة الإمبراطورية التقليدي للهيمنة، برغم ما يكتنف طابعها الأيديولوجي من نوازع شمولية. وهذا الامر يجوز معه النظر إلى هذا الطابع من زاوية جيوبولبتيكية تؤهل مفهوم العولمة لإحتمال الهيمنة "العالمية"، التي تتوفر فيها إستطاعات عالية وفعالة لمراقبة " السلطة اللامادية " بما فيها سلطة تكنولوجيا الإعلام التي ترسم اليوم الحدود لكل مجالات البث والتلقي، وتحدد مديات التأثر والتاثير والتفاعل والتظهير، وذلك على صعيدي الإقتصاد والسياسة التي ترسمها وسائل الإتصال الإلكترونية المتطورة. ولذا يغدو من المنطقي أن يتأهل مفهوم المثاقفة لتغطية أشد أنواع النظريات والمصالح الإجتماعية تبايناً، ويحيط بكل أنواع وتمظهرات الطيف السياسي من اليمين إلى اليسار وما بينهما. وتصبح المثاقفة في الوقت نفسه مقبولة في شتى أنواع العلوم بسبب إتسامها بما يجعلها واحدة من تكوينات العملية التاريخية المستمرة التي تعني الإندماج بين الشعوب والأمم، وكسر الحواجز والحدود بين الدول، وفق مفهوم يجب أن يكون بالضرورة ديمقراطياً تفاعلياً وتكاملاً، ولا إستلابياً إزاحياً حتى عندما تكون وسيلة الإتصال والتفاعل بين الجماعات السكانية في عالم بلا أوهام( ).
ويتمتع هذا الإفتراض (!!) بقدر كبير من وقائع الواقع، بما يجعله أهلاً لأن يطلق عيه مصطلح "الإفتيقي" أي (الإفتراضي – الحقيقي)؛ لأن العملية التاريخية لولادة ونمو وتطور العولمة بالكيفيات التي يمدحها ويقبلها وينتظرها بلهفة شديدة ويطمان لها البعض؛ في حين يذمها ويرفضها ويقاومها ويخاف منها البعض الآخر، فإنه قد صاحب مراحل حياتها المختلفة إنشاء مؤسسات جديدة إتحدث مع مؤسسات أخرى بعضها كان قائماً والآخر جديداً لأجل التعاون عبر الحدود. وفي المجتمع المدني الدولي قامت تجمعات وتكتلات ومنظمات جديدة، غير حكومية تهتم بالحقوق المدنية والحريات العامة عبر الحدود. وأنشأت جبهات مشتركة مع منظمات قائمة من أجل خلق بنية وشروط تثاقف عالمية جديدة أكثر تنوعاً وأيسر وسائلاً، تتجاوز الحدود السياسية للدول، وتتجاوز الهويات والأثنيات والولاءات التحتية للشعوب.
وفي معطيات التكيف التعاوني والتشاركي المطلوب وفق شروط العملية التاريخية الجديدة، وجدت الجبهات المشتركة الجديدة نفسها في تشارك وتشبيك تلقائي إفترضته طبيعة المهام مع المؤسسات الأممية التي كانت قائمة وورثت من العصر السابق. ولذلك فقد أخذ يصحب أي ضعف في مكانة الحكومات عند المواطنين، زيادة في فاعلية المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني التي اصبحت تشكل شبكة عنكبوتية عالمية تتجاوز الحواجز وتخترق الحدود.
وبرغم ما أخذت تبدو عليه المثاقفة من قوة إندفاع تفاعلية، بدأت الشعوب الضعيفة والامم الفقيرة والجماعات السكانية في الجنوب عموماً الخوف على الهوية الثقافية والقيم المجتمعية التي تقارب درجة المعتقدات عند الناس؛ فإن ايقاعات التفاعل الجديدة وتزايد الأشواق لمعرفة المزيد من إنجازات الثقافة الكونية، بدت المخاوف الطاغية حول "الجماعة الوطنية" و "الإستقرار من عدمه في الدول ومدلولاته على صعيد الهوية"؛ غبر مبررة لإن الثقافة الوطنية متعها التلاقح مع الثقافات الأخرى بعوامل رقي كثيرة وبمعاملات قياس صحيحة وفرت معطيات آمان وبرهنت على ان المثاقفة في عصر العولمة ليست بـ "الغزو الثقافي" وليست صيغة سحق أو إستلاب للثقافة الوطنية. ورغم تاثر الثقافات الوطنية بشكل ظهر وكأنه مضبوط برغم هياج عواصف التغيير التي إحدثتها العولمة في المجال الثقافي وكذلك في مجال تطور اللغات، فقد تغيرت مدلولات مصطلحات وحلت محلها أخرى. وحتى بعض المفردات أصبحت لها معان جديدة مختلفة عن معانيها القديمة وكانت أحياناً متناقضة معها. ويكفي ان نذكر مثلاً أن مصطلح "الإشتراكيون الأمميون" سحقته الثقافة المعولمة وحل محله مصطلح "العولميون المحدثون". كما انه قد ترسخت فكرة تحديد بداية العولمة وتجلياتها القطاعية بعد ذلك، بنجاح الإكتشافات الجغرافية وظهور الدولة القومية والثورة الصناعية.
وفي هذا السياق يمكننا القول أيضاً أن إحتفاظ مصطلح "الإفتر- قيقي" على قابليات تَمَثّل وصيرورة لا يجيز إحتمالية القدرة على "الإستقلال الثقافي" بالمعايير الإطلاقية التقليدية فحسب، ولكنه لا ينفي إمكانيات الإستفادة من التفاعل التلاقحي الذي توفره المثاقفة العولمية في التماهي مع الحداثية بمفهومها الجديد التي تتطلبها شروط العولمة؛ في الوقت الذي لا يغفل فيه النتائج الفظيعة التي يمكن أن تترتب على نتائج ما جاء به العولميون المحدثون من أفكار ومعتقدات حول الإقتصاد الأممي وفكرة "حكومة عالمية واحدة".
إن الخوف على المصير والهوية، والذات قبل كل ذلك محق في ظل رؤية التبديلات الجارفة والعميقة التي تحدثها العولمة في كل الأمصار وعند كل الشعوب، لا سيما وانها تفتخر بإعتماد أسلوب "اللاإنساني" في عمليات بناء هيمنة العولمة "العالمية". ووفق هذا المنطق يمكننا فهم أسباب المواجهة التي تضطلع بها بعض الشعوب حتى عندما تبلغ درجة الإرهاب برغم رفضنا وإدانتنا لها، وذلك لأن العولمة لم تعط شعوب العالم الأمان الذي تريده، وتقنعهم بأنها لا تستهدفه بإعتباره ثقافي وإنما تستهدف أشياء أخرى غيره عندهم. وإلى مثل هذه الأسس التي قامت عليها هذه الظواهر السوداء في ثقافات الشعوب خصوصاً العربية والإسلامية المعاصرة، يمكن أن نعيد وجود الأشكال المشوهة لقيم ومضامين ثقافية دخلت إلى الثقافات العربية والإسلامية عن طريق المثاقفة أيضاً. وكانت المثاقفة الإسترجاعية والسلفية الأصولية في التأثر والتأثير المتبادلين، وبالتحديد مظهراً رئيساً للعلاقات الإنتاجية الثقافية في أقاليم واسعة في الشرق، ولها اصداء عميقة احياناً عند بعض جماعات الأقلية الدينية الإسلامية في معظم أقطار الغرب والولايات المتحدة الامريكية.
وكان يمكن أن تُحدث نتائج المثاقفة الإسترجاعية تشويشاً وإرتكاساً في قابليات التفاعل العولمي لجماعات السكان في هذه الأقاليم، لولا كونها أفواهاً مفتوحة لا يتجاوز دورها وظيفة المستهلك في العملية الإنتاجية، فإقتصر تأثيرها الوعيوي على إذكاء النزعات الدينية في الفكر لديها، في حين حافظت الجوانب العولمية الأخرى على قابلياتها التناقضية، فإتسمت ثقافتها بما يجوز تسميته بالإنفصام الفكري الذي تبدو تعبيراته صارخة اليوم في سلوك هذه الجماعات.
إستبدالات المفاهيم والدلالات
يتوافق المفكرون والمؤرخون الحداثيون من مدارس التاريخ المختلفة على أن العولمة تشكلت في حضن الإمبريالية عندما وصلت الرأسمالية أعلى درجات تمرحلها، وأنها قد تبلورت تدريجياً كظاهرة متعددة الأوجه والجوانب. وهي قيمة حقيقية لأفكار جديدة شقت طريق تكونها بحيوية شديدة نحو صيغة التجلي التي اخذت تتمتع بها في نهاية القرن العشرين، بعد أن مرت بمراحل مختلفة على هذا السبيل؛ ولم يكن ذلك المرور سهلاً في جميع محطات هذه المراحل. ويفضل أتباع المدارس التاريخية بدءاً من "مدرسة المدونّات" وحتى "مدرسة التاريخ الجديد" على التنويه بأن المثاقفة العربية مع الغرب مرت بمعظم هذه المراحل، وخصوصاً المعاصرة منها التي تلخصت بمرحلة الإنبهار والتقليد اولاً، ثم مرحلة التساؤل التي اشتمل عليها عنوان "مساءلة مفهوم المثاقفة" بعد ذلك.
واقتضت ضرورات التطور استدعاء المفاهيم السائدة ومدلولات إستعمالها وفحص قدراتها التمثيلية والتعبيرية عن حقائق ووقائع المتغيرات الجديدة، بكل وسائل الإختبار المعروفة بما في ذلك مقابلتها ودلالاتها على المفاهيم والمدلولات التي تستحضر إفتراضياً. ومع أن بعض المفاهيم والدلالات ظلت تشير على الدوام إلى أقدمية العولمة التاريخية حيث أراد المؤرخون إعادتها إلى لماضي التاريخي السحيق بدءاً من بزوغ الحضارة الإنسانية في الصين والهند وباد الرافدين ومصر القديمة وفارس وكنعان، ثم حضارة الأديان السماوية (اليهودية والمسيحية) وبعدها الحضارة الإسلامية كحلقة وصل بين حضارات الشرق والغرب؛ فإن المفهوم العام للعولمة وثقافتها المباشرة والتثاقفية لم تقبل بمثل هذا الإفتراض عن الأقديمة التاريخية، برغم أن العناصر التكوينية لهذا المفهوم تشير إلى قدمه عندما يتصل بإزدياد العلاقات التبادلية بين الأمم بما في ذلك التبادل السلعي والخدماتي، وفي إنتقال رؤوس الأموال، وفي إنتشار المعلومات والأفكار؛ التي كانت معروفة ورائجة عند شعوب العالم منذ الإكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر. ويعتقد بأن فكرة المثاقفة كأحد تكوينات العولمة وشكل من أشكال تمظهرها، قد بلغت ذورتها إبان المد الإستعماري في القرن التاسع عشر برغم ما بدت عليه من حالة إنحسار في الربع الأول من القرن العشرين ثم في مرحلة التحرر الوطني بعد ذلك.
وعادت فكرة العولمة لى تدفقية إندفاعها الشمولي بعد تراجع حركة التحرر الوطني والتحول من الثورة إلى الدولة، حيث عاد الإستعمار من جديد بصورة الإمبرايالية السياسية والإقتصادية والثقافية، ووفق أفكار ومفاهيم مكنت من صوغ آلية صورة العولمة ومؤسساتها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وكانت النتيجة التلقائية لذلك إكتساح مبدأ التبعية السياسية، ثم تجاوز مفهوم الدولة القومية.
وتمظهرت العولمة عبر مسيرتها بصيغ مختلفة ولكنها ذات طبيعة ديمومتيه وتواصلية في آن واحد معاً، حتى وصلت مرحلة عدم اليقين التي يراها المؤرخون بصيغتها النهائية، حيث إستكملت كل مؤشرات تحديد تعريفها، مثل: المجتمع المدني، المواطنة العالمية، نظام الإعلام الكوني، البيئة الكونية، التشييك الأدائي، حقوق الإنسان.... إلخ.
وإذ يرى بعض المؤخين أن عولمة الفكر قد بدأت مع فجر الرسالات السماوية بما جعل إمكانية إعتبار فكر العولمة إلاهياً (أي دينياً) يتمتع بأقدمية تأثيرية مباركة بسبب من قداسة منبتها، فإن علماء ومؤرخين آخرين رأوا أن هناك تطوراً فكرياً مقابل يتمتع بمزايا عولمية معاصرة بدأ مع نشوء وتمكن أفكار "ما فوق الوطنية" تمثل في الفكر الإشتراكي الطوباوي، ثم الفكر السياسي الماركسي – اللينيني.
ومع أن كلا الفكرين صاغ أنظمة ودولاً واقتصاداً ومجتمعات وثقافات في مراحل متزامنة او متعاقبة وفي أكثر من إقليم في قارة واكثر، فإن انظمة ومجتمعات هذين الفكرين برغم ما كان لهما من إنجازات؛ إنهارت كتجسيدات في حين ظل فكرها قائماً ويحظى بإحترام من قبل كثير من الجماعات البشرية، إلا أنه في تاهله مستقبلاً لإقامة نظم ومجتمعات مشابهة. ومن بين أوابد تجسيدات الفكر الديني الماضوية وأطلال أنظمة الفكر الإشتاركي الأممي جاء العولميون المحدثون بأفكار جديدة حول الإقتصاد الأممي وفكرة "حكومة عالمية واحدة".
وكثرت المقاربات الفكرية في تداولية الأيديولوجيا عند التغيرات السياسية العاصفة وحلول نظم إقتصادية جديدة محل أخرى قديمة كانت قائمة، وتاثيرات ذلك في تغيير صورة الثقافة واتصالاتها التفاعلية وتمظهرات المثاقفة التي تنتج عنها. وكانت هناك إجابات شافية كثيرة على مساءلات المثاقفة وإنتقالياتها. ولعل ما أتى عليه المفكر العراقي الدكتور حسيب عارف العبيدي كان تأصيلياً، حين رأى أنه "مع كل إنقلاب سياسي دولي جديد نرى المنتصرين يلجأون فقط إلى تغيير الغطاء الأيديولوجي للإصلاحات الجارية في حين ان جوهر هذه الأخيرة يظل هو ذاته: (السيطرة) ما فوق الحكومية، وما فوق الوطنية، والكاملة للأقلية على شعب بلد معين ومن ثم على شعوب كل العالم. والهدف دوماً السيطرة الإقتصادية الشاملة على العالم، إنما اللحظة التاريخية فقط هي التي تفرض من حين لآخر التوجهات السياسية اللازمة لتحقيق ذات الهدف أولاً وأخيراً. فمن اجل الإستيلاء على بلد ما يتوجب بداية تأسيس وصيانة ومن ثم زرع الغطاء الأيديولوجي اللازم لمثل هذه الحالة. ولهذا يتم اليوم الإستيلاء على الصحف وقنوات التلفزة والفضائيات، كما كانوا سابقاً يسعون ولو عبر المعارك والقتال للسيطرة على محطات القطارات ومراكز البريد والهاتف....( ).
ووفق المفاهيم الجديدة التي تتجلى عن آليات إنتاج وحركيات إقتصاد العولمة، ودلالات معطيات التحول والتغيير فيها، بعد أن يتراجع رأس المال الوطني إلى حد التلاشي ليحل محله أو ليتحول إلى رأس مال عابر الحدود، ويتغير مع ذلك بشكل تدريجي هوية ملكية رأس المال بتحوله أو إندماجه في الشركات الفوق – قومية المتعددة الجنسيات. ويصاحب ظهور وطغيان المفاهيم الجديدة التي ترسم صورتها الكونية هيمنة العولمة. وللمثاقفة العولمية معاني ودلالات وأحياناً مفردات وإصطلاحات تعبير كونية وبنفس اللفظ تؤدي ذات الدلالة والمعنى على امتداد الكوكب الأرضي حتى الآن.
وفي ثقافة العولمة وآليات إنتشارها الخرافية التسارع، تفرض المثاقفة بوظائفها الجديدة تكسير قيم وتحطيم تابوت، كان مسها بسوء لعنة أبدية، خصوصاً عندما لن يَعدُ هناك مفهوم "إنتماء وطني" لأن "الوطن العولمي" إستوعبه، عندما تشطب "المواطنة الوطنية أو القومية" ليحل محلها "المواطنة العولمية". وكذلك عندما لن يَعُد هناك مفهوم "الخيانة الوطنية " بالنسبة للمواطن العولمي بعد أن إستبدل الإنتماء من "الوطن" إلى "الكون"، وبعد أن أًصبح مفهوم "الوطن" بحدوده المعروفة سابقاً لا وجود له بالنسبة للمواطن المعولم، وبعد أن أخذ يستعاض عنه بمفهوم أخذ ينشأ من جديد، وهو " البيت" الذي يبنيه أو يشتريه المواطن المعولم حيث يجد الراحة والآمان في مكان ما في لحظة ما. ولا تقف المفاهيم المستبدلة أو الملغاة عند هذا الحد، لأن هذه نتاجات الإشتراطات الجديدة للمثاقفة في عصر العولمة. حيث تصاغ وظائف وأداءات المثاقفة بنفس الخصائص والمواصفات والآليت التي تتمتع العولمة بهما وتعمل بموجبهما وتهدف تحقيقها. ومن هنا يمكننا فهم المثاقفة إنطلاقاً من طبيعتها كعملية مستمرة تستمد قوة ديمومتها من وظيفتها الأدائية المعروفة ودورها التقليدي في الإتصال والتواصل والتأثر والتأثير المتبادلين، وكذلك من كونها (وفق وظيفتها المتصلة في عصرالعولمة) ليست مفهوماً مجرداً وإنما كينونة وظائفية تجسديه يمكن رصدها وملاحظتها بإستخدام مؤشرات كمية وكيفية في مجالات السياسة والإقتصاد والثقافة والإتصال، وما تتمتع به هذه المجالات في عالم اليوم من بعد كوني متزايد.
المثاقفة ضرورة عصرية
تشكل معاركة الحياة اليومية بنية معرفية ذات تمتعات جمعية لدى الأفراد والجماعات والشرائح الطبقية في كل مجتمع، وتعكس بوجه عام ملامح الصورة الثقافية السائدة له. تكون في العادة بنية معرفيه تقوم على الإحتكاك الإجتماعي وعلى ما ينتج من تفاعلاته من حراكات معرفيةٍ عرفت عند الاشتراكيين والماركسيين خصوصاً باسم الديالكتيك، وعند العلمانيين بشكل عام بما يعبر عن مصطلح "الثقافة الإجتماعية". وتكون هذه الثقافة في العادة غير مقتصرة على الأكاديميين وأساتذة الجامعات وذوي الإختصاصات وأرباب الفلسفة والمفكرين، وذلك لأنها نابعة من حراك مفاصل الحياة اليومية ومجرياتها ( ).
وتعتبر الثقافة الإجتماعية أن ركيزة بنيتها، تراكم جمعي لجملة الإنفعالات والتساؤلات والمعارف المستحصل عليها بمختلف الطرق وبعموم الأساليب والوسائل وفي جميع المجالات. ويقوم تشكلها البنائي على مجموعة المنجزات والمكتسبات الحضارية التي تمكن المجتمع من تحقيقها في مختلف مجالات الحياة. وتكون هذه الثقافة في البداية أحادية الرافد أو محلية إنغلاقية لا تتمتع بالنضرة حتى وهي في ذروة الخصب والحيوية لأنها محدودة التنوع والقابليات، وغير مؤهلة لبلوغ درجات أرقى من التطور بالسرعة التي يجب أن تكون عليها.
وأثبتت تجارب الشعوب منذ بدايات القرن العشرين أن هذه اللوكاليزمية لم تقف حجر عثرة أمام تطور المجتمعات وجمودها خلال القرن الماضي فحسب، وإنما أوقعت ثقافتها تحت قبضة الإستلاب والتبعية لثقافات الدول المستعمرة لجملة من الأسباب كان في المقدمة منها عجزها عن توفير الشروط والمتطلبات التي إقتضتها التغييرات الجارفة التي عصفت بسواكن مسلمات دول الجنوب وفشل توقعها في الحصول على حماية من التبعية، يمكن أن يوفر لها تشابهها الثيوقراطي مع دول الشمال. وكذك عدم استشرافها لأهمية المثاقفة كضرورة عصرية تعطي الثقافة المحية عناصر قوة وتماثلية تؤهلها للإنخراط في مسار الثقافة العولمية. فوقعت بسبب ذلك ضحية، لأنها استقبلت وقبلت المثاقفة كغزو ثقافي أجنبي أوقعها تدريجياً في أغلال الإستلاب، واستحقاقاته التي أملت على مجتعات هذه الثقافة القبول المستمر بكل ما يطلب منه إستقباله حتى لو لم يكن واعياً لمعنى ومدلول ما يستقبله.
وإن قراءة مثاقفاتية لوقائع وأشكال الصراع في عالم اليوم ودوافعه وأهدافه ومرامي صوغ آلياته بهذه المواصفات، وخوضه بهذه الكيفيات، يرينا أن الأسباب الحقيقة لكل ذلك، التنافس بين القوى ذات المصالح المتناقضة. وعادة ما تتخفى هذه القوى وراء قناع تنافس الثقافات. وهذا يعني أن خارطة الثقافة في عالم الويم ليست سوى صورة من خارطة السياسة. ولكن هل يجب أن يتحول تنافس الثقافات إلى صراعات؟! تحتوي ثنايا وبواطن المراجع التاريخية على ما يشير إلى أقدمية العولمة ومعها الثقافة العولمية، وكذلك إلى ما يشير على أن التنافس بين الثقافات في عصور مختلفة ضمن هذه الأقدمية كان قد تفاقم حتى وصل إلى درجة الحرب، وكذلك أشكال أخرى من درجات اصراع.وقد عانت البشرية من جراء ذلك كثيراً، برغم لبوس "الفكرية" لا "الحربية" التي إرتدتها العولمة منذ ظهور الرسالات السماوية كأرقى صيغة لتطور الفكر الثيوقراطي، ومرورواً بالتطور الفكري الذي ظهر في مقابل المفهوم الفكري الإلاهي؛ الذي بدافع نشوء وتطور الأفكار ما فوق الوطنية لمفكرين إشتراكيين طوباويين أو لمفكرين شيوعيين. فقد حلت سلطة البروليتاريا " كمركز موحد لعمال العالم محل "سلطة الله" كمركز واحد جامع للعالم في الفكر الديني – النبوي، وإنطلقت أضخم تجربة سياسية أممية في التاريخ. واليوم بدلاً من الإشتراكيين الأمممين جاء العولميون بموجة جديدة من أفكارهم لتحل محل الأفكار الأخرى، ويبدون وكأنهم لن يتورعوا عن استخدام نفس الأساليب التي إستخدمها الفكر الاشتراكي وقبله الثيوقراطي إذا كانت الضرورة تقتضي ذلك.
صحيح أنه ربما لن تتحول أيلولة تنافس الثقافات في عالم اليوم إلى صراع تطاحني بنفس كيفيات حروب الإشتراكية والثيوقراطية قبلها، وربما لن تعتمد نفس الأسلحة، ولكنها بالقطع ستستخدم أقصى الإستطاعات السياسية من أجل تأكدها وسيطرتها وإذا كان لا بد من اللجوء إلى الحرب بإعتبارها الشكل العنيف للسياسة فستلجأ إلى ذلك وقد لجأت في العقود الأخيره من القرن العشرين، وكذلك منذ إستهلالية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في إطار ما اصطلح على تسميته بمحاربة "الإرهاب الإسلامي". ومن هنا حيث تبرز السياسة أولاً، وتظهر الثقافة وكأنها في كنفها، فإن تناقض السياسة وما يضيفه من تلاوين على الثقافة يختم المثاقفة. ولئن كان طرح صراع الثقافات اليوم من أشد أشكال التحدي المعاصرة التي تواجه كل مثقفي العالم والنخب النيّرة فيه، فإن النجاح في رسم تعددية ثقافية يبقى رهين بالمساهمة في إشاعة قيم التسامح والتآخي البشري وحق الإختلاف وضرورته كعامل حوار وتقارب وإثراء. وأن مثل هذا الأمر صعب المنال بدون المثاقفة بإعتبارها ضرورة وحاجة عصرية لانسان عالم اليوم؛ وكذلك بإعتبارها ضمانة أكيدة للنجاح في رسم معالم تعددية ثقافية منفتحة متكاملة، وترفض النمطية والتطويع والتدجين باسم التماثل بين البشر في الرؤى والطموحات والآمال، وتكون تحقيق ذلك هو الرافد الحقيقي للديمقراطية وحرية الافراد والشعوب، والسلم في العالم فَسرُّ قوة المعطى الثقافي، هي قدرته على صنع الألفة في زمن السلم، وغرس بذور الفرقة عند إحتداد الصراع وتضارب المصالح وتنامي نزعات الهيمنة والنفوذ( ).
وإذا كان لا بد من استعادات التاريخ لتحديد ملامح بعض الصور المطلوبة في الواقع، فإن ذلك يشي بسهولة إلى أن هذه الوظائف لا يمكن تحققها إلا بالمثاقفة، وذلك عندما ترى كضرورة إجتماعية وحاجة عصرية.
الترجمة آلية متناقضة
إحتفظت الترجمة تاريخياً بدور ثقافي وحضاري رئيس عبر النشاط الإنساني المنتج من عملية تجسير الإتصال والتواصل والتفاعل والتلاقح بين لغات أمم وشعوب العالم وثقافاتها، وفق مبدأ وآليات "التبادلية الإيجابية"؛ التي تقوم على الأخذ والعطاء والإقتباس والإبداع والإستيعاب والإنتاج لكل المظاهر الفكرية والمعرفية والثقافية التي تعكس تصورات مختلفة ورؤى متباينة بين أمة وأخرى.
ووفق ما يستدل عليه من المعطيات والمعلومات التاريخية الثقافية فإن الترجمة عرفت في بلادنا منذ القدم. وقد تاهت وظيفتها يومذاك مع مدلولات مهمام ووظائف المثاقفة اليوم، حيث كان من نتائجها المباشرة إنتقال الألفبائية الكنعانية إلى الهلينيّة بعد أن تمكن الفنيقيون من الإتصال باليونانيين. وكذلك وصول وإستمرار الأمازيغية كلغة وثقافة إلى مناطق شمال إفريقية عندما وصلها الفنيقيون وأقاموا دولة قرطاج فيها( ).
وإن متابعة تاريخ الثقافة العربية يدل على أن الترجمة ظلت تحتفل بدور المثاقفة التفصيلي، خصوصاً بعد قيام الدولة العربية – الإسلامية حيث أزدهرت حركة الترجمة "إبتداءً على يدي خالد بن يزيد بن معاوية الأموي في القرن الهجري الأول، ومروراً بمرحلة الإزدهار على يدي الخليفة المأمون بن هارون الرشيد العباسي، ثم بما حدث بعد ذلك في حالات الإنشقاق السياسي والدويلات المتأخرة في القرن الرابع الهجري... (وبلوغاً إلى ما آل إليه) المشهد الثقافي في مثاقفتنا الجديدة مع الغرب عقب دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 198م..."( )
وتجلت المثاقفة في أرقى صيغها وأوسع حضورها، بالكميات الهائلة من حجم المترجمات من كتب العلوم والفلسفة والفن والعمارة وغيرها من اللغة اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية. وإزدادت أهمية مثاقفة الترجمة، في الحفاظ على التراث الفلسفي والأدبي والعلمي الأوروبي، عندما غرقت أوروبا في دياجير ظلمة الإرهاب الديني واستبدادية الكنيسة ومحاكم التفتيش في العصور الوسطى، حيث أحرق الفكر الديني المتخلف كل ما خزنة أوروبا من كتب علمية وفكرية وعمرانية وثقافية وحتى دينية ليست على شبهه، فظلت المترجمات إلى اللغة العربية نسخة إحتياطية لثقافة وحضارة اوروبا، استند إليها بشكل رئيس في إستعادة اوروبا لثقافتها وحضارتها بعد أن إنتصر فكر التنوير العلماني على الفكر الظلامي الديني في عصر النهضة الحديثة.
وما هو أكثر من ذلك أنه بسبب وجود هذه المترجمات التثاقفية إستعادت الثقافة الأوربية المعاصرة ثلاثية مرتكزها التشكيلي البنيوي أي اليونانية، والرومانية، والفكر الديني اليهودي المسيحي.
ويتأسس على هذا النشاط التثاقفي وما يماثله من جهود ترجمة أنجزت في العهود السابقة نفسها من الفارسية والحبشية والعبرية إلى اللغة العربية، ما يساعد على تعريف وتوصيف الترجمة بشكل محدد على إعتبار أنها جسر التواصل بين اللغات المتعددة والثقافات المختلفة والحضارات المتمايزة، وكيفية تعرّف الشعوب والأمم على الآليات التي إعتمدتها المجتمعات منذ بداية تشكلها وحتى اليوم، وعلى نمط عيشها وآدابها وفلسفتها وتلقاليدها وغير ذلك.
وحيث إضطلعت الترجمة قديماً وحديثاً بهذا الدور والنجاح في القيام بهذه المهمة فقد تاهلت لأن تكون واحدة من اهم وسائل خلق التلاقح الحضاري بين الأمم والشعوب. وشكلت في الوقت نفسه آلية لتربيط التواصل الكوني بإنسيابية سلسلة تراضية الإرتباط اللا إنفكالي، وكذلك لإحداث عملية التفاعل بين الثقافات القومية والحضارات المختلفة بإعتبارها ضرورة إنسانية أملتها شروط الإختلاف والتعدد القائمة بين الأمم. وذلك بما يعني أن إحتفاظ الترجمة بوظيفتها الإنسانية منوط بقدرتها على التجسير، وضمان ديمومة التنوع والإختلاف والتعدد، وذلك لأن وجود الترجمة كضرورة، مقرون بوجود هذا التعدد على مستوى اللغات والثقافات والحضارات؛ لأنه "يجب أن لا تهدف الترجمة إلى أن تطابق الأصل وتحاكيه وأن تماثله، بل أن تكرس ثقافة الإختلاف، وان تصبح استراتيجيته لتوليد الفوارق. وبهذا المعنى لا تكون الترجمة علامة تبعية ونقل وتجمد وموت، وإنما علاقة إنفتاح وغليان وتلاقح وحياة( )". وعندما استطاعت الترجمة، وفق ما يستدل عليه من معطيات الوقائع التاريخية، القيام بمهام التلاقح بين الحضارات والحوار بين الأمم رغم التباينات العرفية والدينية واللغوية والمعرفية، ولعبت داخل العبور الثقافي والحضاري الذي يزخر به التراث الإنساني دوراً هاماً في إثراء وإغناء الحضارات بما تختزنه سابقاتها من خبرة وتقدم في مجالات وحقول معرفية وفكرية وعلمية وثقافية مهمة؛ فقد تأهلت الترجمة لأن تحمل صفة ولقب "رديف المثاقفة"، لأن كلاً منهما عبارة عن بحث وسعي نحو إرتياد آفاق مغايرة لأشكال الثقافة المختلفة وأسئلة الوجود المتعددة في ظل التعايش الحضاري والتنوع الثقافي. كما ان كلتاهما تختزلان واقع تعايش الحضارات المختلفة في لحظة من لحظات الإبداع التي يتمخض عنها تجدد الحضارات ونماؤها.
والترجمة بشكل أوضح، بقدر ما هي آلية مثاقفة، فهي من وجهة نظر سويولوجية عملية مثاقفة فعلية، وذلك لما تكتنف عليه من قوة تتأسس على وجود التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من اشكال الإتصال بين الثقافات المختلفة: كالتأثير والتأثر، والإستيراد، والحوار، والرفض، والتمثل وغير ذلك؛ مما يؤدي إلى ظهور عناصر جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل الإشكاليات؛ وذلك لأن التركيبة الثقافية والمفاهيمية لا يمكن أن تبقى او تعود بحال من الأحوال إلى ما كانت عليه قبل علمية المثاقفة.
وتشير تجارب ثقافية كتيرة إلى ان الترجمة مثلت على الدوام مع كل مثاقفة أو تلاقح ثقافي أو حضاري، إضافة لكل حضارة وثقافة وليس إستلاباً لها، أمدّتها بقوة الحيوية ودينامية الإغتناء. وهذا الأمر في غاية الأهمية لأنهمن المعروف أن قابلية الإغتناء ليست تلقائية ذاتية بل إستيعابية من عناصر ثقافية أجنبية وإدماجها في تركيبها وتحويلها إلى فعل ثقافي مغاير دون أن تتنازل عن ثوابت مبدأيتها.
والدور الأساسي الذي تقوم به الترجمة كقيمة إضافية فعلية وهامة نراه واضحاً من خلال النظرية التي تقول: "إن للحضارة أطواراً ومراحل، وأن لكل طور ومرحلة شعباً من الشعوب يحمل مشعل الحضارة.... إذ ليس بإستطاعة أي شعب أن يحمل هذا المشعل إلى الأبد.... بل هو يأخذه من شعب سابق ويسلمه إلى شعب لاحق... مستفيداً من مجمل الإنجازات التي توصلت إليها الشعوب الأخرى قبله( )".
إن ثقافات الشعوب مختلفة، ولكل ثقافة ما يميزها عن الأخرى ولكن تمايز أي ثقافة عن الأخرى لا يعني إمتيازاً. كما أن إختلاف الثقافات عن بعضها البعض لا يلغي وجود أواصر إنسانية مشتركة بينها.
وحيث أصبح الكون في عصر العولمة " قرية صغيرة" تأخذ طريقها نحو مفاهيم جديدة من الثقافة العولمية، فهل ستتوحد الثقافات في "واحدة عولمية"، وهل ستنتهي الترجمة كمثاقفة أو كجسر تواصل بين الثقافات؟!.
لقد حفلت سنوات القرن العشرين الأخيرة وكذلك سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسعة هائلة من حجم المعلومات الكونية في مختلف مجالات حياة الإنسان. وتميزت أيضاً بسرعة انسياب وتدفق مذهلة للمعلومات والمعارف، وفرتّها مستويات التطور الشامخة في تكنولوجيا وسائل الإتصال. ولكن هذا التطور لم يجسر كثيراً هوة اللا تكافئ بين تملك واستفادة سكان الجنوب مع سكان الشمال من هذه التكنولوجيا، التي تعمدت العولمة Globalization بواسطتها كأيديولوجيا عصر ما فوق الامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية وفق ما تفول به الأيديولوجيا الماركسية –اللينينية. والأسوء من كل ذلك أنه كرس اللاتكافئ التكنولوجي والإعلامي بين الشعوب والامم، وسعى إلى دفعها في إتجاه تقليص الهوة بين ثقافاتها المتنوعة، في محاولة لصهرها في بوتقة "الثقافة العولمية"، التي أصبحت بعد إنحدار "الثقافة العالمية" عقب سقوط الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي؛ "ثقافة القطب الواحد". وقد أخذت هذه الثقافة تتساوق مع خصائص وسمات ومواصفات العولمة، ويتمثل دورها الأدائي ووظيفتها بإعتبار العولمة حصيلة المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بدونه إلى دمج سكان العالم في مجتمع عولمي واحد يسعى إلى إلغاء خصوصيات الثقافات. أي إلغاء الهوية التي تميز شعباً عن الآخر، عبر إلغاء الحضارة والفكر واللغة لصالح ثقافة ولغة الولايات المتحدة الامريكية. وبسبب ذلك بدت العولمة على نحو "الأمركة"، ويرى أن لغتها العولمية هي "اللغة الإنجليزية".
وسبب هذا لإعتبار تخوّفت شعوب الجنوب، وبضمنها الشعوب العربية، على هويتها وثقافتها ولغتها أيضاً. واكثر من ذلك أن هذا التخوف طاول البلدان الأوربية، بما فيها كبريائها كفرنسا، حيث دعا الرئيس شيراك لدى إفتتاحه منتدى حول تحديات العولمة في آذار (مارس) 2001م للتصدي لهيمنة "اللغة الإنجليزية".
وفي حضور الرؤية الإفتيقية لهيمنة "اللغة الإنجليزية" بإعتبارها اللغة العولمية على لغات العالم الاخرى الملحقة بالعولمة، يبدو الدور المتوقع للترجمة تراجعياً، تبدو وظيفتها التثاقفية إنحسارية. وأما بالنسبة للغة والثقافة العربية فالأمر يزداد سوءاً نظراً لتقلص دورها في السياق الحضاري. ويعزى ذلك إلى ما هو مرتبط بالثقافة العربية ذاتها، وعجزها عن مواكبة التراكم العلمي والفكري الإنساني؛ نظراً لتقلص الترجمة (بإعتبارها مفتاح المثاقفة) في المساهمة في تطعيم اللغة والثقافة العربية بما أصبح يختزنه التراث الإنساني. كما أن إقصاء اللغة العربية من آليات الترجمة الفورية لا سيما الترجمة في شبكات الانترنت( ).حيث حضورها محدود جداً، لأنه لا مجال في هذه الآليات العولمية إلا للغات العولمية التي لها حضور قوي في المشهد الدولي. وهذا يكرس بالطبع التوجه الذي أخذته العولمة في تكريس سيادة بعض اللغات والثقافات على المشهد العام وإنحدار بعض اللغات والثقافات الاخرى خصوصاً عندما تكون من لغات وثقافات دون الجنوب؛ وذلك وفق ما أشارت إليه دراسة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في سنة 2001م حين ذكرت ان 50 % من اللغات المحلية في العالم في طريقها للزوال. وان 90 % من اللغات المحلية سوف تختفي في القرن الحادي والعشرين( ).
ومن منظور هذه المعطيات ربما تفقد الترجمة حيويتها التثاقفية كرديف للمثاقفة في بعض السياقات، وكآلية مثاقفة في سياقات أخرى. فتتقلص بشكل تدريجي أهميتها إذا إستطاعت النزعات الإستبدادية للعولمة من التحقق والتأثير في رسم صورة المثاقفة ضمن إطار التعايش.
كما أن المثاقفة نفسها ربما تفقد دورها وخصائصها وكيفيات بينتها عندما تصبح اللغات، بفعل هذه الإستبداية هامشية، ولا تتمثل تعبيرات الهوية والثقافة الوطنية. وتصبح من جانب آخر غير مؤهلة للدلالة على التعددية بأوجهها المختلفة: التعدد الثقافي، والتعدد الدلالائي، وتعدد اللغات، وتعدد المعاني، وتعدد التأويلات والقراءات... الخ، فنجدها وكأنها أصبحت على طرفي تفيض مع منطق العولمة الرامي إلى تأليف ثقافة ذات بعد( ) واحد.
إن إتجاهات الطغيان والإستبدادية التي ترى اليوم في كل مظاهر العولمة بما فيها الثقافة العولمية تطرح أسئلة حول الإستقلال الثقافي، وحول المثاقفة، وحول العلاقات التثاقفية المستقبلية بين الأمم والشعوب، وكذلك حول إستمرار صلاحية آليات ووسائل المثاقفة التقليدية لتمتعها بنفس الأهلية الإستعمالية في عصر العولمة. وإن الإجابات على هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة ذات الصلة بجوانب العولمة الأخرى مرهون بكيفيات تعامل الشعوب والأمم مع أشكال تمظهر العولمة الحالي، وخصوصاً موقف الإتجاه الدولي الذي يرفض العولمة ويدعو لمقاومتها إنطلاقاً من مفهوم الهوية الثقافية، لكنه يطمح إلى خلق التكامل بين الثقافات وذلك في أفقٍ إسقاط الحواجز الثقافية بين البشر، وتجاوز اعتبارات (الإفتخار الحضاري) وصولاً إلى بناء مستقبل إنساني أفضل يسوده الحس الجماعي والتكامل والتعاطف في مواجهة كل الأخطار التي تهدد التقاليد الإنسانية.
ويرى المؤرخون والمفكرون التنويريون والحداثيون في مثل هذا الطرح الإجابة الأوفى حتى الآن، إلا أنه ليس هناك من أداة كفاحية ناحجة لدى أصحاب هذه الإتجاه سوى مفهوم التنوع الثقافي، والذي لا يمكن تحقيقه إلى عن طريق "العمل على حماية الثقافة نفسها ومنع إحتضارها. وهنا بالذات سيكون للإستقلال الثقافي معنى آخر جديد مختلف عن السابق، وهو إستقلال الحيز الثقافي عن علاقات السوق الطاغية، ومقاومة كل المساعي الرامية إلى تسليع الثقافة وتنميطها على الطراز الأمريكي. وفي إطار هذه المقاومة يمكن أن تظهر وتلتقي تيارات ثقافية في الجنوب كما في الشمال، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. حيث صارت تبرز في السنوات الأخيرة ممارسات طليعية في حقلي الأدب والفنون، ويتزايد أنصار الفكر النقدي، وهو ما يعكسه بوجه خاص الإهتمام الذي لا سابق له بكارل ماركس وبالثقافة النابعة منه في الجامعات الامريكية"( ). ويجمع بين هذه التيارات المختلفة، إضافة إلى الرغبة في الحفاظ على الروح النقدية وإبعاد شبح الخواء الفكري وحماية الإبداع الثقافي، التطلع إلى بناء ما أسماه الإنثروبولوجي الفرنسي موريس غودولييه "ميتا – ثقافية" أي "رؤية ثقافية متسامية للإنسان على هذا الكوكب، ينطلق بناؤها من واقع التنوع الثقافي للإنسانية، ومن إدراك حقيقة أن أياً من هذه الثقافات المتنوعة لا يملك حقاً أكثر من غيره في أن يشيّد نفسه كمرجعية و قاعدة كونية"( ) .
إن الترجمة بمفهومها المعروف وبوظيفتها المشهورة لعدة قرون، وبإعتبارها الوجه الآخر للمثاقفة، نجدها اليوم على طرفي نقيض مع منطق العولمة، لأنه ينكر على الترجمة دورها وأهميتها، ويدعو إلى خلق ثقافة عولمية متماهية معه تماماً، وتتمتع بقابليات التسلع وبمزايا التسويق الهيمني، وتكون ثقافة ذات لون واحد.
لقد حققت الترجمة طيلة المراحل الماضية من حياة المثاقفة وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نجاحاً باهراً في وظائف أدائية ثقافية عديدة، وشقت أوتوسترادات إتصال بين ثقافات العالم، أسهمت في نشوء العولمة نفسها وفي خلق المثاقفة العولمية أيضاً. وقد مثلتها سلسلة الحوارات الحضارية بين الأمم وبين التكتلات الدولية( ). ومؤتمراتها وندواتها وإجتماعاتها الدورية أو الإستثنائية؛ وذلك عبر آلية المثاقفة. ولكن هذه النجاحات والمنجزات التي تسجل للترجمة كوسيلة وآلية مثاقفة لم تعد اليوم مؤهلة لمواصلة القيام بنفس الوظائف الثقافية ما دامت الأنساق التثاقفية التقليدية قد جرفتها أمواج التناقض العولمي التي تعصف بعالم اليوم. كما أن دورها بدأ في التقلص تدريجيا مع تقلص نفوذ وحضور ثقافات ولغات متعددة في المشهد الدولي العولمي، بفعل إملاءات التسلط العولمي التي تصادر حق التعددية والتنوع والإختلاف والتعايش في إطار ثقافة المثاقفة؛ وذلك لتحل محلها ثقافة أحادية النمطية تختزل التعددية إلى واحد توتاليتاري من نمط جديد. وتصبح الترجمة حينئذ لا تثاقفية وإنما هيمنية. وتصبح المثاقفة استلاباً لا مجال فيه لأي دور أو وظيفة من وظائف الترجمة بإعتبارها منافعة.
إن القبول بمفاهيم الثقافة العولمية التي يروج لها اليوم بأساليب فعالة وبكل وسائل الإتصال الممكنة، يعني القبول بثقافة الأحادية وبكل ما تنضج به من مخاطر جسيمة على الهويات والخصوصيات، وما تجسده من قابليات الإزاحة والإلغاء والطمس والإحلال، وما تفرضه من سلوك إذعاني يقطع الطريق على أي محاولات يمكن ان تفضي إلى ظهور تشكيلات تثاقفية في إطار فضاء العولمة تؤسس، للتنوع الثقافي. ويتأتى الخطر أيضاً مما يظهر في الثقافة العولمية من سمات وخصائص تسعى لفرض عدم التكافئ التكنولوجي والإعلامي والمعرفي، لكي تنخلق المثاقفة على الشكل الذي يتماثل معها، ولا يحقق التفاعل الثقافي بين الحضارات المختلفة والمتنوعة لإغناء الثقافة العالمية. وسيظل مثل هذا الخطر ماثلاً ويتهدد بشكل دائم هويات وثقافات الأمم والشعوب، حتى تستطيع الإتجاهات المساواتية على مستوى العالم من تحقيق الإعتراف بالتنوع الثقافي بديلاً للأحادية الثقافية. والقبول بضرورة التكافؤ الثقافي. وحينها ستستعيد المثاقفة إنسانيتها وتنشط في مجال إستمرار التفاعل الثقافي ورعايته وضمانه. وتستعيد الترجمة وظائفها وتلعب الدور المطلوب منها الإضطلاع به خصوصاً في مجال الإعتراف بالتفاعل الثقافي وما تنتجه وظائفه الأدائية من أشكال تجسير وتلاقح بين الثقافات المتنوعة، فتحول دون إقتدار العولمة على إلغائه وتحويله إلى ثقافة عالمية موحدة.
إن الثقافة التي تستطيع فيها الترجمة أن تكون رديفاً تثاقفياً وآلية مثاقفة هي التي تنشدها البشرية كمحرك للإنسانية ومبرر وجودها، لأن لديها دائماً قابلية تجاوز الهزات الظرفية وكذلك فترات الجنون اللحظية حتى عندما تطول، وتزرع النفي والإبادة لدى بني البشر.
إن تغوّل العولمة وما تطرحه من مواصفات للثقافة العولمية مخيف، ولكن التنوع الثقافي إذا امكن تجسيده كبديل لأحادية الثقافة، سيحد من شدة التعول وخطره وحتى تأثيره أيضاً، وسيحمى نضرة إنسانية الثقافة، وسيزيد آليات تشكيلها ومكونات بنيتها، حتى عندما تحتوي الإقتصاد وشروطه، وضرورة الإستيعاب والتماثل والتكيف. وذلك لأن من طبيعة الثقافة غير المنظورة أن تدفع الشعوب دائماً نحو الموازنة بين الخصوصية والشمولية، وبين المحافظة والتمتع. ولأن الثقافة ترفض أن تحصر في زمان بعينه او في مكان دون غيره. ولا تقبل التماهي الشامل والإنمحاء، كما ترفض الإنغلاق والتطرف.
إن مثاقفة التنوع الثقافي هي التي تجعل للترجمة دوراً رديفاً تبقيها حيوية الأداء، وليس في عصر العولمة فحسب وإنما في ما يمكن ان تتطور إليه البشرية. وتتطور ثقافات الشعوب وتغتني من دوافع تعضيد ومساعدة تمتعها بها مثاقفة التنوع، لأنها دائماً توفر دفيئة الأمان لهويات الشعوب: الوطنية والقومية والإثنية، وفي جميع المجالات بما فيها السياسية والثقافية.
إن الثقافة الأنسانية هي التي تطمأن شعوب الجنوب على واقع هوياتها ومستقبلها من خطر النهب الجشعي الذي تطفح به نوازع استبداد وهيمنة دول الشمال. وهي الثقافة التي يجب أن ينصب الإهتمام العالمي على توفيرها وضمان صيرورتها، لأنها ثقافة نظيفة وإيجابية وشفافة، وترفض دائماً أن تكون أداة طيعّة لنشر أي شكل من أشكال النفوذ بإسمها. وتأبى ولا تقبل الهيمنة عليها أو بعضها من أي كان، وفي أي مكان. وتكون طافحة على الدوام بمضامين الحرية وتتمثل الديمقراطية نهجاَ ومضموناً فعلياً وإيحائياً، تقوم في جوهرها على الإختلاف، وترفض الكيان الأوحد والنموذج الأوحد، والنمطية وحصانة المقدس والمحرم الديني النقلي.
وإن الثقافة المستديمة الإنسانية لا تكون إلا تجلياً للديمقراطية، وتفاعلاً مستمراً بين ثقافات الشعوب والحضارات تتوفر فيه دائماً إمكانيات تلاقح الرؤى والأفكار، وتكون الترجمة آلية رئيسة فيه. فتتأكد من خلال ذلك عملية المثاقفة كمظهر تجل من الديمقراطية بما تعنيه كثقافة قائمة على الإتصال والحوار والتفتح والتشارك.
المثقفون العرب والمثاقفة
يستفاد من جوجلة المعارف والمضامين السابقة بأنه يمكن التأكيد على أن المثاقفة عملية رفد ثقافي تقوم به كل أمة، وتسعى من خلاله تنمية كيانها الثقافي، وإستثمار ما لدى الآخرين من الحِكَم التي كانت نتاج عبقرية ملهمة وعمل دؤوب وإغناء ثقافتها الوطنية بها وبمفاعيل تثيرها وتأثرها في الإتجاهيين، وذلك بما يساعدها على أن تترسم وتعمّد كضرورة وجود يتمتع بقابليات التفاعل، وأهليات الفصل بين المطلق والنسبي والخاص، والمشترك والمؤقت والدائم من الموروث والمتبادل، فيكسب الثقافة الوطنية أو القومية المتثاقفة ما يجعلها حييّة ونضرة بقدر قابليتها لإستيعاب المطلق والمشترك الإنساني والدائم المستمر، وقدر إقتدارها على تجاوز الخاص والنسبي والمؤقت.
وأما المثقفة أو المثقف فهو من أحاط بالثقافة إهتماماً وإطلاعاً، ولم يقف بعلمه وإطلاعه عند حد معين لها، وهو كذلك من عمل فيها وأنتجها مباشرة و/ أو مثاقفة.
ويمكن القول أن المثقفة أو المثقف من أخذ من العلوم والفنون بأطراف تتيح له أن يحكم بواسطتها على الأشياء فهماً صحيحاً مقارباً، وتاهل من جانب آخر بقابلية البحث والإستكشاف والإقتناع بضرورة الإقبال على التعلم، مهما بلغ من عمره وقدره ودرجته ومستواه، لأن التعليم هو سبيل الثقافة.
والمثقفة والمثقف بمعنى أدق وأشمل، من ذاق المعرفة وأحبها وتاثر بها، فأصبح إنساناً بأوسع معنى للكلمة، ولا يحس بالغربة في أي وطن من أوطان الناس أو بيئة من بيئاتهم، ولا يجد القلق حين يسمع الناس يتحدثون في أي ضرب من ضروب الحديث. فالمثقفة والمثقف هو الذي يتمتع بقابليات التأهل لإكتساب عضوية الثقافة أو الحضارة بمعناها الإنثروغرافي (العرقي) الواسع والكلي التركيب بما يشتمل عليه من تكوينات: المعرفة، والفنون والقانون، والمعتقدات، والأخلاق، والأعراف، والقدرات، والعادات التي يكتسبها كعضو في المجتمع.
واليوم في عصر العولمة حيث تأخذ الثقافة ومعها المثاقفة أيضاً مفهوماً جديداً له مدلولات مختلفة عما كانت عليه في عصر ما قبل العولمة وجد مثقفوا العالم موقفاً وموقعاً بين تقابلات الأفكار وتوجهات الرؤى والمواقف من العولمة ومن المثاقفة أيضاً، فكيف رأهما المثقفون العرب؟ ووفق أي علاقة ترابط بينهما؟ ثم كيف تعامل المثقفون العرب مع المثاقفة في معركة مواجهة "فرض ثقافة العالم الواحدة" "وسحق الثقافات الوطنية" وإستبدال المثاقفة بالإستيلاب؟!.
لقد تدشن النظام العالمي الجديد بفعل توظيف المفكرين والفلاسفة الحداثيين لمفاهيمهم ومعتقداتهم الفكرية والفلسفية في تقديم هذا النظام، والتعريف به وترويجه كنسق فكري، ومعطى إقتصادي سياسي ثقافي وحضاري، ينطلق من التأكيد على حتمية نجاح الرأسمالية الليبرالية وإقصتاد السوق اللذان يقومان على العلوم والتكنولوجيا والتصنيع؛ بإعتبارها السبيل الأوحد لحرية وإستقلالية الفرد ورخائه، كما أنها الطريق المفتوح لقيام الحكم الديمقراطي الليبرالي الذي هو "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".
ورأى فوكوياما أبرز أيديولوجي النظام العالمي الجديد أن ثقافة هذا النظام ستكون عولمية "وذات نمط واحد" لا يجوز معه استمرار الأنماط الثقافية الأخرى ما دام العالم سائراً نحو تحوله إلى مجتمع واحد يتمتع بثقافة واحدة وعلى الطراز الامريكي. كما أن المثاقفة في هذا العصر ستتمتع بصفات التبعية ولا تكون إلا على شكل صيغة الإستلاب. وبرغم ما أصبحت عليه العولمة وتجلياتها الثقافية من مثولية لا زال حراك نقاشها والإختلاف أو الإتفاق معها وحولها، وكذلك مع المثاقفة الجديدة كواحدة من منتجاتها، محتدماً ويأخذ مظهر الممانعة حيناً وشكل المقاومة في بعض الأحايين؛ فإن المثقفين العرب إنخرطوا في معمعان هذا الحراك بنسبة ما، وبمساهمات لا تزال محدودة ومتفاوتة بين مفكر عربي وآخر. ولكنها بمجموعها لم تتأهل بعد لصوغ "موقف ثقافي عربي من المثاقفة في عصر العولمة"وكان كذلك حتى الآن دون مستوى "موقف ثقافي عربي من ثقافة العولمة"، ويرى كمنظومة فكرية وفلسفية ثقافية عربية تجد مطرحاً لها في تخوم مواجهات الثقافة والمثاقفة العولمية، تشاركات أو في ورش تشييد صرح ثقافة العالم الجديد، أي ثقافة العولمة، وذلك بما يجعلها مساهمة عربية ذات أثر في منجزات العالم الفكرية والفلسفية والثقافية المعاصرة.
لقد إندهشت الشعوب العربية كما باقي أمم وشعوب الجنوب من سرعة تشكل العولمة ومن إتساع حجم إحاطتها وشموليتها لجوانب حياة البشرية المختلفة. واحتاجت الشعوب والأمم إلى بعض الوقت لإستيعاب قدرتها الهائلة التي تحققت في فترة زمينة قصيرة جداً في مجالات الإقتصاد والتكنولوجيا والإتصالات. وبسبب إختلال التكافؤ الحضاري بين الدول العربية ودول العولمة وقف المثقفون لعرب مذهولون من قوة إندفاعتها التأثيرية وقدرتها على تكسير الحواجز وإختراق الحدود وبث المفاهيم الجديدة من ثقافة لم يعرفوها ولم يعرفوا من خصائصا إلا لماماً. فكان مدى تفاعلهم الإستقبالي معها محدوداً ومشوشاً وملتبساً في أحسن الأحوال. وكان مثل هذا طبيعياً لأنه لا دور ولا مكانة تشاركية لأحد في العولمة وثقافتها إلا بمقدار مساهمة هذا "الأحد" في فعلها الإنتاجي والتأثيري. وحيث دور العرب "إستهلاكي" بإمتياز في المجال الخدماتي وليس التحويلي، على المستوى الإقتصادي والتكنولوجي، فليس هناك إمكانية للحديث عن دور عربي مختلف. وفي هذا السياق يبدو الحديث عن ثقافة التكنولوجيا بأبسط مضامنينها هو الإطار الذي يمكن أن يكون العرب قد حصلوا على بعض يسيير من معارفه. ولذلك فهو في خارج إطار تناول بحثنا، مع الإعتذار.
وأما على المستوى الثقافي والفكري فالأمرلا يختلف كثيراً ولكنه أقل بؤساً، لأن الثقافة العربية لم تستطع التخلص بعد من سطوة الخوف من الخروج على التابوات الدينية والتقاليدية التي تأسر الوعي العربي في أسوار حرمة المقدس، وتشهر أسلحة التكفير والحرام في وجه دعاة الحداثة والتنوير، وتحفر قبور التراث الفكري والمعرفي والثقافي لتعيد النظر في مضامينه، وتقييمه وفق قواعد ومعايير إسلامية أصولية وسلفية ظلامية تتفوق في إرهابيتها على ما كنت قد فعلته محاكم التفتيش في أوروبا في القرون الوسطى.
وفي وضع على هذه الصورة من التخلف عن ثقافة الحداثة أي ثقافة ما قبل العولمة، فإية إستتباعات ستكون عليها الثقافة العربية لمسارات التطور الفكري الجديدة وفق مقتضيات الثقافة العولمية؟!.
إن الإجابة على هذا التساؤلات وأسئلة أخرى تتصل بالمثاقفة بإعتبارها آلية لإبتكار روابط علاقاتية بين الثقافة العربية والثقافة العولمية، وكذلك لتعيين وتوصيف حدود وملامح موقف المثقفين العرب من المثاقفة والثقافة العولمية، نجدها في كيفيات إهتمام المثقفين العرب بالمثاقفة وبالثقافة العولمية، ونجده أيضاً بمتابعة درجات تبلور مواقفهم منها إعتماداً على مديات تفاعلهم معها، وإختلاف المنطلقات الثقافية الإرتكازية لهذه التفاعلات بين مثقف عربي وآخر.
لقد تباينت مواقف المثقفين العرب من المثاقفة وخصوصاً العولمية منها لأسباب مختلفة ربما يكون من أبرزها موقع وعلاقة المكان الذي يمارس فيه نشاطه الثقافي مع أمكنة ثقافة العولمة، وكذلك مدى سطوة الإرهاب الديني والإجتماعي في المجتمع الذي يعيش فيه المثقف. فمثلاً هي في بلادنا فلسطين ملتبسة لأسباب تتعلق بالواقع الثقافي العربي العام. ومع انه يمكن القبول بها جزئياً أو بشكل محدد، وفي مجالات بعينها، إلا أنه يمكن تحريمها دينياً لأسباب جهادية، حيث تزدهر النزعات الدينية التسلطية ليس في المجتمع فحسب، وإنما عند بعض الأدباء والمثقفين أحياناً، وكذلك يمكن رفضها لأسباب وطنية ترتدي لبوس مقاومة التطبيع؛ لأن الثقافة الإسرائيلية يمكن أن تخترق المجتمع الفلسطيني عن طريق المثاقفة!! (مع الإعتذار من كل أشكال الإتصال، واستحقاقات الإحتلال وما يمثلانه من أشكال علاقاتية تشمل مختلف جوانب الحياة، وكذلك مع الأسف من جدار الفصل العنصري لأن هذا يمكن أن يفهم كتقليل من قدراته المنعية).
واتسمت مواقف بعض المثقفين العرب بالحذر من المثاقفة برغم إعترافاتهم بأهميتها وبضرورة الإنفتاح على الآخر وثقافته. وثمة بعض آخر تعامل معها من منطلق مختلف يقوم على ضرورة التمييز بين مفهوم المثاقفة الذي يعني التفاعل المتكافئ والإحترام المتبادل بين مختلف ثقافات الشعوب وبين مفهوم التبعية والإستلاب والغزو الثقافي والعولمة الثقافية والغربية والأمركه.
وهناك بعض آخر يرفضها من حيث المبدئ لأن فيها إرتداد عن الدين الإسلامي (وهو لا يأبه لوجود أديان أخرى يدين بها عرب أقحاح في البلدان العربية)، وتَشَبّه بالغرب الكافر، وتخل عن القيم والتقاليد العربية الأصيلة والقديمة وإستبدالها بتقاليد وقيم غريبة دخيلة وفاجرة.
وإذ قبل بعض المثقفين العرب بثقافة ومثاقفة ما قبل العولمة، فإنه أخذ يتوجس منها ريبة عندما إرتدت الثقافة المعاصرة لبوس العولمة، وما أخذت تنذر به المثاقفة العولمية من شرور الغزو الثقافي والإستلاب والهيمنة. وكان أحسن أحوال من ينتمي إلى هذه الفئة أنه إقتنع بمثولية الثفافي العولمية كإستحقاق تاريخي، ولكن أخذ يدعو للنضال من أجل تحسين صيغ مثاقفتها عبر آلية التنوع الثقافي كصيغة للمثاقفة وللعلاقات التثاقفية في العصر العالمي الجديد.
وتبعاً لهذه التباينات في فهم العولمة والمثاقفة العولمية تمايزت وتباينت وإختلفت مواقف المثقفين العرب من المثاقفة. وبدا موقف كل واحد منهم تعبيراً تفصيلياً عن مستوى فهمه لطبيعة ووظيفة ومكاتة المثاقفة، وكذلك عن متابعته الأيلولات التي بلغتها او يمكن أن تصبح عليها ثقافات الشعوب، حيث سُلّعت الثقافة ودمجت في العولمة لمنتج إقتصادي في السوق وأصبحت خاضعة لقانون "البقاء للأقوى" فغدت مجبرة على الإنصهار في بوتقة النمط الواحد والذي هو الطراز الأمريكي.
وبرغم كل ما يمكن قوله عن إفتراقات مواقف وفوارق مستويات بين المثقفين العرب والمثقفين الغربيين، وكذلك ما يمكن التوصل إليه من إختلالات بين حجم الموضوعات الفكرية والفلسفية والإجتماعية والنقدية والثقافية المعالجة في وسائل الإتصال العربية ووسائل الإتصال الغربية، إلا أن كثيرين من المثقفين العرب أسهموا في هذه الأيام بمساهمات ذات قيمة ومستوى نظري وفكري في قضايا الفلسفة والإجتماع والنقد والإقتصاد والثقافة، وكان بعض هذه المساهمات استمرارية لمنجزات أبحاث فكرية عامة ودراسات تخصصية كان قد أنجزها المثقفون العرب في عصر النهضة، وبعضها الآخر يتصل بقضايا الفكر والنقد والإجتماع والثقافة المعاصرة بما فيها الإستحقاقات الفكرية التي طرحتها العولمة كمسار تاريخي، ومن بينها المثاقفة وقضايا الإتصال الثقافي بين دول وشعوب العالم. وأن من بين المساهمين أسماء بارزة تجاوزت شهرتها المحيط العربي وحتى الأقليمي وبلغت العالمية. وأصبحت هذه الأسماء رموزاً ثقافية وفكرية وضعت أسس منهج لها أكتسب مريدون وأتباع له من العرب والغرب، في حين أن أسماء أخرى التحقت ببعض هذه المدارس والمناهج الفكرية المعروفة وأصبحت من رموزها، وامتداداً لها في البلدان العربية أو في بلدان المهاجر التي تقيم فيها. وأن هذه الرموز هي من الكثرة في عددها وفي تعدد إختصاصها بما لا تسمح مساحة هذا البحث المتواضعة بتناولها، على الأخص وأنها أصبحت أعلاماً عالمية لن يضيف تناولها في هذا البحث تقديمات أخرى عن دورها وموقفها من الثقافة والمثاقفة والثقافة العولمية، خصوصاً عندما تكون هذه الأسماء ذات مكانة مرموقة المستوى، مثل: د. برهان غليون، و د. محمود أمين العالم، د. الطيب التيزيني، ود. علي أومليل، ومحمد أركون، ود. سمير أمين ود. صادق جلال العظم، ود. هشام شرابي، ود. إدوارد سعيد، وعبد الله العروي، ود. خلدون حسن النقيب، وجورج طرابيشي، وإسماعيل صبري عبد الله، ود. الفضل شلق، وياسين الحافظ، ود. جابر عصفور، د. علي حرب، ود. هادي العلوي، ود. ألبرت حوراني، ود. ناصيف نصار، ود. نيقولا زيادة، ود.فوزي منصور ود. عبد الإله بلقزيز، ود. محمد عابد الجابري، ود. معن زيادة، وغيرهم. وقد تضمنت كتاباتهم قضايا فكرية وثقافية متعددة، ومن جوانب مختلفة، ووفق أكثر من رؤية ومنهج، كان لها تأثيرها الكبير في مجالات الفكر والثفافة المختلفة. وكما كان لها دوراً تأسيسياً على مستوى ظهور دعوات لتجديد الوعي الإسلامي، وتبلور إتجاه كتابة التاريخ الإسلامي برواية حداثية. كما لعبت كتابات هؤلاء المبدعين دوراً رئيساً في التجرؤ على الحديث في ممنوعات الفكر الديني، وإباحة الكشف عن المستور منه وفرز الأصيل عن الدخيل فيه لكي لا يصيح من الأوابد في قوادم الأيام.
ويقف وراء التباينات في مواقف المثقفين العرب من المثاقفة إختلافات الرؤى الفكرية بينهم وتوزعهم في مدارس ومذاهب فكرية مختلفة لا نستطيع الإتيان على نماذجها جميعها، ولكننا في خدمة عرض البحث سنقدم من هذه التباينات نماذج من الإتجاهات، تشكل محصلتها النهائية صورة عن موقف المثقفين العرب من المثاقفة وثقافة العولمة. وفي هذا السياق يمكننا القول أن المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري قد كان من المتميزين في أبحاثهم الفكرية ودراساتهم النظرية التي كرس جل وقته لها، وقدمها إلى طلابه وإلى متلقيه في الجامعات وفي الندوات، والمؤتمرات والحلقات الدراسية وإلى متابعيه وقراءه في المجالات الفكرية والبحثية النتخصصة. وقد أخذت أبحاث المثاقفة وأسئلة الهوية والعولمة والتبعية الثقافية واسع الحيز منها. كما أنه أصدر عدداً من الكتب المتخصصة حولها، مثل كتب المسألة الثقافية (بيروت 1994م)، وكتاب مسألة الهوية (بيروت 1995م)، وكتاب قضايا في الفكر المعاصر (بيروت 1997م). إضافة إلى عدد من الأبحاث والدراسات الفكرية والفلسفية التي نشرت في عدد من المجلات العربية والأوروبية وخصوصاً الفرنسية؛ وإلى عدد كثير من مساهماته في عدد من الندوات الفكرية المتخصصة التي عقدت في العواصم العربية وفي الخارج وكانت مكرسة لقضايا العولمة والثقافة.
وكان من أبرز أطروحات المفكر الجابري( ) "ان العولمة ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي أيضاً وبالدرجة الأولى "أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم"، و "العولمة هي نفي للآخر وإحلال للإختراق الثقافي محل الصرع الأيديولوجي". وأن "ثقافة الإختراق تقوم على جملة من الأوهام هدفها التطبيع مع الهيمنة وتكريس الإستتباع الحضاري".
ويرى الجابري أنه "ليس هناك ثقافة عالمية واحدو، بل ثقافات"، وأن "تجديد الثقافة، أية ثقافة لا يمكن أن يتم إلا من داخلها، بإعادة بنائها و ممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها وإلتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في إتجاه المستقبل". ويرى الجابري أن "الهوية الثقافية مستويات ثلاث: فردية، وجمعوية، ووطنية قومية، والعلاقة بين هذه المستويات تتحدد أساساً بنوع (الآخر) الذي تواجهه... ولا تكتمل الهوية الثقافية إلا إذا كانت مرجعيتها جماع الوطن والامة والدولة".
وحذر محمد عابد الجابري من نجاح العولمة في تكريس الثنائية والإنشطار في الهوية الثقافية العربية. وذلك لأنها نظام يعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى ويدفع إلى التفتيت والتشتيت، ليربط الناس بعالم اللا وطن واللا أمة واللا دولة، أو يغرقهم في أتون الحرب الأهلية" وفي مواجهة ذلك فإن "حاجتنا إلى الدفاع عن هويتنا الثقافية بمستوياتها الثلاثة، لا تقل أهمية عن حاجتنا إلى إكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لدخول عصر العلم والثقافة، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية ".
واستبعد الناقد السوري الدكتور عبد الله ابو هيف مفهوم المثاقفة الإيجابي من دراسته حول " الغزو الثقافي والمفاهيم المتصلة به " عندما قام فيها برصد مختلف المفاهيم الأخرى التي تدلل على الإتجاه السلبي الذي تسير فيه العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب.
ولقد ركز د. أبو هيف في دراسته على الغزو الثقافي بإعتباره أحد مظاهر الإستقطاب والتبعية والتغريب والتنميط. ورأى في سياق نقده للمثاقفة أنها ربما تكون أشد ضرراً، لأنه: ".... لا يزال أمر الغزو الثقافي محيراً لدى الكثيرين، إذا لا ترى فئة من الناس أنه غزو، فتختار له تسميات أخرى. وتهوّن فئة من شأنه على إعتبار أن الحديث عنه وعن مخاطره ألعوبه أو وهم. بل أن فئة أخرى تدعو له سبيلاً عن طريق دعوتها للمثاقفة، وهؤلاء يهونون أيضاً من أمر المثاقفة فلا يجدون فيها تأثير ثقافة غازية قاهرة في ثقافة مغزوة مقهورة. وإنما يعدون المثاقفة تلاقحاً معرفياً وحضارياً يعزز التواصل بين تراثات الإنسانية ويغنيها، ويوردون حججاً لا نهاية لها عن العلاقة الثقافية بين الشعوب... ".
وقد جرى تباروز عربي واسع مع هذا الطرح عند "أو هيف"؛ فلا سيما ي سوء تخوفه منالآخر والتعالي عليه وكذك التفاخر الذي لا يقوم على أسس واقعية ما كان قد كتبه د. علي عقله عرسان عن العلاقة بين الثقافة العربية والمتغيرات في كتابة الذي يحمل عنوان "المثقف العربي والمتغيرات" حينما أشار إلى أنه " مع المثاقفة التي تقوم على أساس من الثقة والإقتدار (!!) بأوسع صيغها وأعمق تلك الصيغ وأشملها... لذا فإننا نرفض سياسات الإنغلاق كما نرفض سياسات الإلحاق والغزو والمحو الثقافي، ونتصدى لها. وندعو إلى وضع الخطط والإمكانيات اللازمة لذلك بدءاً من تحصين الوعي الثقافي القومي على جميع المستويات (!!) ".
وأما المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز فيعتبر من أبرز النشطاء العرب في الإجتماع والفكر والتنمية الفكرية، وكذلك في دراسة ومناقشة قضايا العولمة والثقافة العولمية والمثاقفة. وإضافة إلى الكتب القيمة التي وصفها في هذه المجالات فقد أثرى المجلات العربية والأوروبية بأبحاثه التخصصية، وأغنى نقاش جلسات المؤتمرات والندوات الفكرية بأوراق فكرية إجتماعية وفكرية وفلسفية وتربوية وثقافية قدمها في تلك الملتقيات والمحافل.
ويعتبر عبد الإله بلقزيز واحداً من المثقفين العرب ذوي المساهمة الفكرية في القضايا والمسائل الفكرية والإجتماعية الكونية، ومن بَيّن مواقفه ورؤاه الواضحة في قضايا العولمة والهوية الثقافية وسؤال عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة. وحدّد عبد الإله بلقزيز الآثار المباشرة لتطور تكنولوجيات العولمة الإتصالية وخصوصاً في مجال الإعلام، وما أحدثته من إنسيابات توازوية أو تقاطعية أحدثت فعلها المباشر في إمتداد تحولات إجتماعية وثقافية عميقة وعاصفة شهدتها المجتمعات. بما فيها العربية، هي في جانب منها ثمرة مباشرة لدخولها حداثة مرتبكة كان سبيلها نفقاً أكثر منه طريقاً سالكاً أمام التقدم تفككت وتهدمت بسببه المرجعيات القيمية والأخلاقية التقليدية، نتيجة نشوء وظهور مصادر جديدة لإنتاج القيم وتوزيعها، وفي مقدمتها الإعلام المرئي. وتعود الإرتباكية في صورة هذه الحداثة الجديدة إلى أن الأضمحلال لدور السلطات البطريركية في هذه المجتمعات لم يترافق للأسف مع صعود نظام القيم الإجتماعي كأحد مظاهر التطور الطبيعي، وإنما مع ترافق سقوطه، وهذا ما عرض الثقافة السائدة، في إمتدادها إلى حالة من الإستباحة والتسيب القيمي، جعلت الفرد أعزلاً من أية دفاعات، بل مصاباً بمرض فقدان المناعة القيمية المكتسبة. وفي ضوء ذلك نرى أن الثقافات الوطنية فقدت قدرتها على الإستمرار في نهل أسباب سيادتها وتجديدها من المصدرين الرئيسيين التقليديين لها (أي الإجتماعي والدولتي).
ويرى المفكر الالمغربي عبد الإله بلقزيز أن المتغيرات المتسارعة على النطاق الدولي تستدعي أن يهتم المثقفون العرب بضخ الثقافة العربية بحقن تدفق وحيوية ذات قابليات تكيفية وتمثلية مع الإستحقاقات اتي تنتجها وتفرضها هذه المتغيرات على جميع ثقافات العالم، لأن الثقافة العربية ليست بمنأى عن أخطارها الداهمة. لأن إنهيار السيادة الثقافية الحاصل فعلاً عن ذلك بغض النظر عن إعترافنا أو عدمه "تعرض النسيج الثقافي الوطني لتمزيق تضافرت على صنعه الضغوط الثقافية والقيمية الكثيفة من الخارج، والإخفاقات الذاتية المتعاقبة التي منيت بها من الداخل مؤسسات إنتاج الرموز والقيم بسبب تكلس بناها وعجزها عن التكيف الإيجابي مع التحولات الثقافية الكونية.
"وبكلمة لقد إنهار النظام الثقافي التقليدي دون أن يكون في وسع المجتمع العربي أن ينتج بديلاً منه من داخل البنى الذاتية القائمة. والأنكى من ذلك كله أن هذا لإنهيار الذي أصاب الثقافات الوطنية (سلطة ومرجعية وسيادة) يؤسس لتآكل شروط المقاومة لمفاعيل عولمة ثقافية زاحفة تنحو موضوعياً نحو تحطيم الحدود وتوحيد العالم على مقتضى نظام قيم واحدي"!.
"وهكذا، وبعيداً عن التفكير في أية أسبقية أنطولوجية، يتلازم تمدد العولمة الثقافية مع إنحسار السيادة الثقافية وتراجعها في مجتمعات الجنوب بعامة؛ وفي المجتمعات العربي بخاصة".
ويرى المفكر عبد الإله بلقزيز أن "العولمة لا تؤرخ لنهاية عصر الدولة القومية، بل تعلن عن ميلاد حقبة جديدة من تمددها المستمر. وليس ما يدعى بالعولمة الثقافية اليوم، إلا مظهراً من مظاهر ذلك التمدد خارج الحدود، الذي هو آلية طبيعية في نظام إشتغال الدولة القومية الحديثة".
وهو إذا يرى في المبادرات الأوروبية (خصوصاً فرنسا) المطالبة بـ "الإستثناء الثقافي" من "العالم الواحدي" ما يساعد المثقفون (الجنوبيون) على وجود موطئ قدم لهم يضمن عدم إنمحاء ثقافاتهم الوطنية القومية. ولكن شرط النجاح في ذلك مرهون بقدرة مثقفي مجتمعات الجنوب (وبضمنهم المثقفين العرب) على المشاركة في الفعاليات والآليات التي تستنبطها وتمارسها تجمعات الدفاع عن الثقافة الوطنية، وتستلهم المفاعيل المقترحة لذلك بما فيها "التنوع الثقافي" الذي يحقق التماثل الثقافي العولمي للكيانات الوطنية مع إحتفاظه بمضامين الهوية.
ويرى المفكر بلقزيز أن ركون المثقفين العرب إلى ما توصل إليه المثقفون المعارضون لثقافة النمط الواحد (ثقافة الأمركه)، لا يعني إلا استمراراً عربياً في إستمراء التبعية الذي يعني عدم جدية في الدعوة لعدم القبول بمفهوم المثاقفة وفق الإملاءات الثقافية لشروط إشادة العالم الواحدي. وهو الأمر الذي يستدعي الإصرار على وجود دور ثقافي عربي في نطاق المثاقفة الجديدة، ولا ضير في ذلك إن كان مخالفاً، ولكنه يجب أن يكون منطقياً وموضوعياً، لأن "مقاومة العولمة الثقافية ليست دعوة رجعية لقطع آصرة التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي، بل هي طريقة للقول أن الثقافة العالمية الحقيقية هي ثقافات سائر المجتمعات من دون إستثناء فالكونية هي التميز في مجال الرموز. وكل نزعة توحيدية في هذا الباب مدماك جديد لبناء صرح التوتاليتارية( ) " من جديد.
وحيث تزدهر مواقف معظم المثقفين العرب من المثاقفة حتى وهم يناقشون الحداثة بنفحات فكرية دينية، وفي معظم الأحيان بإرتجافات علمانية، فإن من بين الأوضح علمانية على هذا الصعيد، المفكر الفلسطيني الدكتور ماهر الشريف، فقد إتسمت مؤلفاته ومشاركاته في المؤتمرات والندوان الفكرية والثقافية بوضوح أطروحاته المبنية على المنهج العلمي وطرائقه في التفكير والتعبير. وكذلك كانت دراساته الهامة وأبحاثه القيمة التي نشرها في المجلات المتخصصة العربية والفرنسية وغيرها.
وقد نبّه د. الشريف في دراساته المبكرة عن العولمة والمثاقفة التي إشتمل عليها كتابه رهانات النهضة في الفكر العربية (رام الله – وزارة الثقافة)، إلى الخطر الذي سيواجه ثقافات الجنوب وبضمنها الثقافة العربية، إذا لم تستلهم من معطيات المفاهيم الجديدة للثقافة العولمية وصيغ وآليات مثاقفتها مع ثقافات العالم الآخرى، ودعوتها الصارخة إلى إشادة ثقافة العالم الواحدي؛ ما يحميها من الإنمحاء والتقوقع بإنتظار الموت البطيء.
وإذ رأى د. الشريف في ذلك مهمة صعبة، خصوصاً، وأن أهل الثقافة العربية هم من المستهلكين وغير المنتجين، ومن المتلقين غير المشاركين بتكافوئ، فقد دعا أرباب الثقافة العربية إلى الإقلاع عن الإستمرار في الركون إلى القوة لتاريخية للثقافة العربية ودورها ومكانتها الماضيوية، وإلى التمعن بنظرة فاحصة في الكيفيات التي تبتدعها الشعوب للتساوق مع التحول التاريخي الجارف، بحثاً عن دور تشاركي يمكن من الحفاظ على الهوية والثقافة الوطنية، والدعوة إلى السير على هذا الطريق، الذي رأت التجمعات الثقافية الأوروبية والدولية أن أنجعه هو الإنضمام إلى "خيار التنوع الثقافي" بعد أن عزت إمكانياتت القبول بفكرة "الإستثناء الثقافي من العولمة" برغم تبني فرنسا ومعظم أوروبا له.
ولقد نبّه د. ماهر الشريف "إلى أن سيادة المفاهيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان في خطاب مروجي أيديولوجية العولمة، لا يجب أن يحرفنا عن السعي الحثيث من أجل تملك أسباب التقدم هذه، لا سيما وأن أسياد العالم الجدد والحكومات السائرة في ركبهم يدعمون وفي بلدان الجنوب (برغم خطاب هؤلاء الأسياد) كل أشكال الإستبداد والديكتاتورية. وينتهكون في بلدانهم نفسها، وبشكل متزايد، حقوق وحريات العمال والمهاجرين والمهمشين. ولن يغير من عدم وظيفية وواقعية خطاب "الإستقلال الثقافي"، إٍستبداله بخطاب "الخصوصية الثقافية" أو "الإستثناء الثقافي" كأداة فكرية تساعد على بناء نظرية عالمية تصلح للتعامل مع كافة المجتمعات البشرية في أفق توحيد تكاملي جدلي، وتسمح بإكتشاف بُعد كل من المحافظة والإستمرارية والتحول في كل هذه المجتمعات والمجموعات القومية الثقافية".
وبعد أن يحدد د. الشريف عدم اهليات "الإستقلال" و "الخصوصية" للعب دور يُمكن الثقافات الجنوبية (وبضمنها العربية) من تحقيق قابليات البقاء والتماثل الإيجابي مع التحولات في المثاقفة في عصر العولمة، يؤكد على أن التنوع الثقافي "هو ما ينبغي التمسك به والحفاظ عليه في هذا الزمن. وهو تنوع بات يخترق، نتيجة موجات الهجرة، الهويات الثقافية في إطار الجماعات القومية كما هو حاصل في وروبه..." وأما شرط الحفاظ على التنوع الثقافي فهو العمل على حماية الثقافة نفسها ومنع أحتضارها. وهنا بالذات سيكون للإستقلال الثقافي معنى جديد، مختلف عن السابق، هو إستقلال الحيز الثقافي عن قطاعات السوق الطاغية، ومقاومة كل المساعي الرامية إلى تسليع الثقافة وتنميطها على الطراز الامريكي. وفي إطار هذه المقاومة يمكن أن تلتقي تيارات ثقافية عديدة في الجنوب كما في الشمال، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها".
والمفكر التونسي حاتم بن عثمان واحد من المثقفين العرب الذين كانت مساهماتهم في تناول وبحث قضايا العولمة بما فيها المثاقفة والثقافة العولمية، ذات بعد فكري فلسفي أكثر منه إجتماعي، برغم معالجاته وفق هذا المفهوم. وقد رأى أنه لا معنى لتعدد الثقافات في إطار الهيمنة والأحادية الفعلية. فثراء الثقافات في تعددها. وسر بقاءها وصيرورتها في إحتكاكها وتفاعلها مع غيرها من الثقافات الأخرى.
والثقافات تحيى وتتطور وفق قوانينها الداخلية وحركتها الآلية الطبيعية، لا بإرادة فوقية أو بأي سلطة قرار. وقلما مورس ضد الثقافة أي شكل من أشكال التعسف والتعنيف إلا وإلتجأت دفاعاً عن نفسها وحماية لحياتها إلى الإنطواء والتحصن والإنغلاق المنذر يهيئة الجريح العميقة المشحونة بالغل والتعصب وفوضى ردود الفعل الفطرية العشوائية وإفرازاتها الطبيعية المتطرفة وبأساليب ومرجعيات مختلفة ومتبانية: الدين، القومية، العرقية، اللغة، العنصرية، وجميعها تجر في الغالب وتلقائياً وراءها مجتمعات بأكملها بإعتبارها أداة التصدي لمخاطر التشويه والإستلاب ومحو الذاتية والخصوصية....".
ويرى الدكتور حاتم بن عثمان "أن الثقافة محرك الإنسانية، ومبرر وجودها، تتجاوز الهزات الظرفية، وفترات الجنون، ونزعات النفي والإبادة لدى البشر، فتعيد الحياة مجراها من رحم الموت والفناء إن لزم الأمر... وإن فرقت المصالح لفترة من الزمن بين الشعوب والدول... وهل للحياة معنى دون نقيضها الموت ؟.
فالثقافة وإن إحتوت في مكوناتها الإقتصاد وشروطه وضرورة الإستيعاب والتماثل والتكيف، فإنها تدفع الشعوب دوماً إلى الموازنة بين الخصوصية والشمولية، وبين المحافظة والتفتح، وترفض حصرها في زمن بعينه أو مكان دون غيره، ولا تقبل حبسها أو تقييدها في وجهة بعينيها. وتأبى الذوبان كما ترفض بنفس الدرجة الإنغلاق والتطرف".
وراى المفكر العربي علي حرب في كتابه " الماهية والعلاقة " أن إندفاعات العولمة وخصوصاً في مسارها الثقافي تهدد بجرف المترددين في كيفيات التعامل معها، إذ هي تواصلية بلا فراغات وذات صفة مكانية مشغلة بكاملها لا مطرح فيها للحياديين والمتفرجيين. وتفرض التجدد والتغير التكيفي الذي تقتتضيه التساوقات، لأن الميل الدائم إلى المسبق والثابت والمنجز لا يمكن أن يستمر في تأهله طويلاً لمواصلة القيام بوظيفة الحفاظ على الهوية، وذلك لأن منطق الهوية في المتغيرات العاصفة التي يعيشها عالم اليوم مرتبطة بإستحقاقات ما يلزمنا عامل الزمن بالإجابة على الأسئلة التي يطرحها. وأول هذه الإستحقاقات هو "أن نستبدل سؤال من أكون؟ بسؤال كيف يمكن أن أتغير لكي أُغيّر علاقات المعرفة والثروة والسلطة...".
وأما المفكر المعروف سمير أمين فقد مثلت أبحاثه ودراساته ومؤلفاته المبكرة مرجعيات أصلية واستشراقية عن المثاقفة والإتصال والتواصل بين الأمم والشعوب وبين الدول والقوميات وتلاقح الثقافات وسمة الأنسنه المتبادلة بينها كخميرة تكاثر ونمو وتلاقيات تبادلية وإستيعابات، وتعتبر مرتكز الأساس الذي إستند إليه معظم الباحثين في قضايا الفكر والنقد والثقافة الإنسانية. وتأسست منها المفاهيم (العربية) الجديدة حول عالمية الثقافة بإعتبارها قيمة "إنسانية" مشتركة، وإرثاً إنسانياً مجتمعاً أنجزته شعوب الأرض وفق مفهوم التبادلية السمحة التي تغتني بقابليات "العطاء" بقدر "استعدادات الأخذ".
وتابع المفكر الإستراتيجي سمكير أين التطورات التي شهدتها الثقافة بصفتها "معطى إنساني" في مراحل التحولات التاريخية وسمات العلاقات الإنتاجية التي سيطرت في كل مرحلة ومدى إصطباغ الثقافة بلون أي من هذه السمات وتأثرها البنيوي بها.
وكانت المثاقفة المعاصرة بكيفياتها وآلياتها المتعددة والمتطورة محط اهتمام ومتابعة المفكر سمير أمين، حيث كرس معظم وقته لدراستها والبحث في جوانبها المختلفة، خصوصاً وأنها أخذت تبدو في تألق العولمة ومواصفاتها ووظائفها الراهنة والأيلولية المتوقعة في العقدين الأخيرين السابقين، إضافة إلى وثوق إرتباطها بما أنتجته الصناعات من تكنولوجيا مذهلة في وسائل الإعلام والمثاقفة وأثرها على الثقافة، وكان من أبرز الجوانب التي ركزت أبحاثه عليها، مخاطر الإستلاب والتبعية التي تتهدد ثقافات الجدنوب في حال سيادة ثقافة العالم الواحدي والصيغة التي تفرضها كآلية مثاقفة مع تلك الثقافات. وإذ حذر المفكر سمير امين من مغبة هذا الخطر ومثوليته، فإنه أكد على أن مواجهته وحماية الهويات الثقافية الوطنية حتى في ظل جموحه ممكنة، ولكن بأساليب مختلفة وجديدة وواقعية تستثنى كل مظاهر المزاعمية والتغني بأمجاد وهمية حول "الإستقلال الثقافي"، تتأطر في السعي الجاد لخلق صيغ تكامل بين الثقافات في أفق إسقاط الحواجز الثقافية بين البشر وتجاوز إعتبارات الإفتخار الثقافي وصولاً إلى بناء مستقبل إنساني أفضل يسوده الحس الجماعي والتكامل والتثاقف في مواجهة كل الأخطار التي تهدد القاليد الإنسانية ( ).
وتميز موقف المثقفين العرب من مثاقفة مرحلة بداية النهضة، بإعتبارها الإتصال مع الآخر وما يحمله من صيغ تناقض متبادلة، وكذلك بإعتبار الترجمة رديفاً للمثاقفة بتقدير عال وتثمين كبير، لأنها كانت العامل الرئيس لتبلور عوامل النهضة نفسها ولتطوير وسائلها. فعن طريقها تطور الأدب العربي وإغتنى النثر وتنضّر الشعر. ومن خلالها عرفت الآداب العربية الرواية والمسرحية والمقالة، وأصبح للنقد الادبي معنى آخر غير التقريظ، وتطور إلى علم له قواعد وأصول ونظريات ومدارس.
وبواسطة المثاقفة التي تمت عن طرق الإتصال مع الأوروبيين وخصوصاً فرنسا، ضُخّت إلى اللغة العربية معارف حياة إنتشلتها من قيعان بحر التحجر والإنحطاط وتقدمت علومها، بعد أن عرفت علمي الألسنيات والأدب المقارن الذين وضعهما الناقد الأديب محمد روحي الخالدي بعد اطلاعه على الأدب الفرنسي وأدب فيكتور هوجو وأجرى دراسات مقارنة بينها وبين الآداب العربية، كانت نتيجتها إصدار كتابه " تاريخ علم الآدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو " الذي أصدرته دار الهلال في القاهرة عام 1904 م ( ).
وعرفت الآداب العربية عن طريق الترجمة كمثاقفة، المسرحية كنص إبداعي؛ والمسرح وتخصصاته كفن: سيناريو، إخراج، تمثيل، ديكور... إلخ. وكذلك أمكن التعرف على العلوم والمعارف عن آداب الشعوب الأجنبية بواسطة الترجمة ايضاً ( ). ويمكن أن نرى في هذه المعطيات ما يساعدنا على فهم الأسباب التي تقف وراء تعاظم إزدياد المثاقفة في مجالات الأدب والأدب المقارن، والنقد والثقافة النقدية، حيث يرى أن كلاً منهما قد تمتع بكل ما يكون عليه النقد من مناهج فكرية وفلسفية؛ برغم أنه لا يمكن فصل أي منهج نقدي عن الفلسفة التي نشأ منها.
لقد أخذ النقد الأدبي العربي منذ منتصف القرن الماضي يعيش انفتاحاً على النقد الأدبي الغربي بكافة تحولاته، بدءاً بمناهج الحتمية العلمية (المنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج الإجتماعي)، ومروراً بالأسلوبية والنقد الجديد، وإنتهاءاً باللسانيات ونظرية التلقي والنقد الثقافي. وعرف المثقفون العرب عبر هذا الإنفتاح على وجوب التعامل مع النص الأدبي كوثيقة تاريخية أو نفسية أو إجتماعية وعرفوا أيضاً أن الأسلوبية تكاد تنحصر وظيفتها في التركيز على النص والإهتمام له، واما البنيوية فقد إضطلعت بوظيفة الجمع بين المناهج الأسلوبيّة بعد أن تضيف إليها المتلقي، وتشغّلهم جميعاً في البحث عن أنظمة النص ووحداتة مع التركيز على النص الأدبي.
وقد حاول المفكر المصري د. محمود امين العالم حصر إتجاهات المثاقفة مع هذه المناهج في أربع مدارس، تجمع عدداً من المناهج المختلفة في طرائق الإجراء المتفقة في جذورها الإبستمولوجية والفلسفية؛ وهي: المدرسة الوجدانية، والمدرسة النقدية الجدلية، ومدرسة الذوق الفني، والمدرسة النقدية الوضعية البنيوية.
وقد ضمنت المدرسة الوجدانية النظرية الرومانتيكية، كما في جهود: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وغيرهما، وكذلك تطبيقات المنهج النفسي عند: أحمد محمد خلف الله، ومصطفى سويف، ويحيى الرّخاوي، وغيرهم.
وأما المدرسة النقدية الجدلية التي تتخذ من مفهوم الإنعكاس أساساً في فحص العمل الأدبي، كما في كتابات: عصام حفني ناصف، وسلامة موسى، ومجلة الطليعة الشورية، وعمر فاخوري، ومفيد الشوباشي، ورئيق خوري، ومجلة الثقافة الجديدة، وحسين مروة، وعبد الرحمن الخميسي، ولويس عوض، ومحمد دكروب، وصلاح حافظ، وعبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم، وغالي شكري، وعبد المحسن طه بدر، وغيرهم. وتضم كذلك كتابات أتباع البنيوية التكوينية، أمثال: جابر عصفور، ومحمد بنيس، ومحمد برادة، ويمنى العيد، وسيد البحراوي وأمينه رشيد، وغيرهم.
وأما مدرسة الذوق الفني فجسدتها النظرات والرؤى النقدية عند محمد منذور، وكذلك الأعمال النقدية لطه حسين منذ أن بدأ نقده تقليدياً ثم متأثراً بمناهج الحتمية العلمية، ثم الجمع بين منهج البحث العلمي والتذوق الفني بعد ذلك.
وأما المدرسة النقدية الوضعية والبنيوية فيصنف في إطارها كتابات: إدوارد سعيد، وأدونيس، وخالدة سعيد، وكمال أبو ديب، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكريم الخطيبي، وفريال غزول، وصلاح فضل، وغيرهم.
ويرى د. محمود امين العالم أن كتابات أنواع المدارس الأربعة تعكس الأهمية الفائفة للمثاقفة وأثرها الكبير في مجال النقد. كما أن التأسيسيات لهذا الفكر النقدي صدر لتصورات ومفاهيم نقدية أوروبية، حتى وإن كانت في أغلب الأحيان إستجابة لإحتياجات إجتماعية موضوعية أسهمت في إستيعابها وتشكيلها تشكيلاً خاصاً يتلائم وهذه الإحتياجات، ويعبر عنها بمستوى آخر ( ).
وبرغم الدور الذي إضطلعت به المثاقفة في مجال النقد الأدبي العربي الحديث وتكريسه كأحد علوم الآداب العربية، فإن عدداً من النقاد العرب رفض هذا التصور لأنه لا يقتنع بالنظرية المادية التي تتأسس عليها هذه التصورات من جهة، ولأنه يرى إمكانية الفصل بين المنهج النقدي ومضمونه الفلسفي؛ وذلك كما يرى عبد الله العروي، حين يقول: "يمكن أن تُرفض التاريخانية أو البنيوية كفلسفة، وتُوظف كمنهج للتحليل في حدود معينة". وأما كمال أبو ذيب فيذهب إلى "أن البنيوية ليست فلسفة، لكنها طريقة في الرؤية والمنهج ومعاينة الوجود".
ولكن هذا المنطق التبريري لا يثبت امام البحث العلمي، وقبل ذلك أمام صيرورة الأفكار وطبيعة الأشياء. فالمناهج النقدية لا يمكن أن تنشأ من فراغ. وما تحولات الخطاب النقدي الغربي إلا نتيجة لكشوفات العلوم التجريبية وتراكمات البينة الثقافية.
والمادية هي التي تفسر لنا حتمية العلاقة بين النص ومحيطه، وتربط بين الواقع والإبداع بإعتبار الإبداع إنعكاس لعلاقات الإنتاج السائدة في المجتمع.ويرى مثقفون عرب كثر أن تأثيرات المثاقفة كانت بنيوية في مجالات علوم الآداب العربية المختلفة وتجلياتها، ظهرت كمعطى حيوي في نهضة هذه الآداب.
وتقول آمال موسى (شاعرة من تونس) في سياق تناولها للعلاقة بين قصيدة النثر والمثاقفة، أنه كان من الصعب على الثقافة القابعة في دارها أن تطأ قدماها دار جارة لها بدون المثاقفة. و "لكن رغم الصعوبة حصل الصعب وانبهرت تجارب جبران خليل جبران وأمين الريحاني بالثقافة الأنجلوسكسونية، وهي تجارب وظفها رواد قصيدة النثر العربية فيما بعد للدفاع عن مشروعهم...
"وإن كانت أشكال المثاقفة كثيرة ومتعددة، فإن قصيدة النثر مثلت أحدها، وشكلاً من أشكال التأثر بالآخرين خلال معاينة تأثر الشعر العربي الحديث بنظيره الغربي".
وفي ظل مثولية المثاقفة والتأثر والتأثير المتبادلين "لا أحد أيضاً يستطيع أن يشك في قرابة (العراقي) سعدي يوسف باليوناني يانيس ريتسوس، ولا قرابة محمد علي شمس الدين في مجموعته (الحرب في الآبار) مع ريتسوس أيضاً. وكذلك قرابة بدر شاكر السياب بالشاعر الإنجليزي اليوت...".
وتقيّم الأديبة آمال موسى دور المثاقفة عالياً في إغناء الأدب العربي، وخصوصاً الشعر بفنون الإبداع الجديدة بما فيها الحداثة. وكذلك ما أحدثته الثقافات الأجنبية بالفعل من الإتجاه العام للشعر العربي وإنعطفت به إلى وجهة الشعر الغربي الحديث.
وحصل هذا التغيير كنتيجة لتعريب الشعر الغربي عن طريق الترجمة؛ بإعتبارها شكلاً من اشكال التفاعل الخلاق واحد الدعائم الرئيسة لنهضة الشعر العربي وولادة قصيدة النثر فيه.
ولان قصيدة النثر شكل من اشكال المثاقفة فقد إتخذت منذ البداية طابع المشروع. قد ترأسه وانتسب إليه يوسف الخال وأدونيس وتوفيق الصائغ وجبرا إبراهيم جبرا وأنس الحاج ومحمد الماغوط.
وقد إستقى هذا المشروع تفاسيره لقصيدة النثر من كتاب سوزان برنار الذي كان بعنوان "قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا". ومن أول هذه التفاسير، ما أصّر أدونيس على التوقف عنده في مقالته "في قصيدة النثر" المنشورة في مجلة شعر (ربيع 1960م). كما توقف عندها أيضاً أنسي الحاج في مقدمة ديوانه "لن"، وذلك إنطلاقاً من أن " قصيدة النثر نوع من الثورة والتحرر".
"ويتحدث يوسف الخال عن حركة قصيدة النثر العربية، وعن تأثير باريس في سيرته قائلاً: وقد أتاح لي جو باريس وإنصرافي التام إلى حياة الفكر والشعر والفن وما يرافقها من صفاء وتفتح على الجمال بكل أنواعه أن اتوصل إلى حل المشاكل الشعرية والفكرية التي كانت تقلقني في السنوات الأخيرة. وسيبدو جلياً في النتاج الشعري الذي كتبته خلال هذه الفترة والذي ساكتبه في المستقبل. وبهذا يكون بودلير قد تسلل من خلال الترجمة ومن خلال مجلة شعر وروادها، الذين حملوا على عاتقهم إيصال مشروع بودلير، إلى العالم العربي، وتهيئة الأجواء له لكي تكتسح القصيدة البودليريه أرض القصيدة العربية العتيدة ذات الوزن الثقيل والبحور الطويلة والوافرة.
وتدفق الشعر الجديد بدء من عام 1959م حين أصدرت مجلة شعر ديوان جبرا إبراهيم جبرا الذي حمل عنوان "تموز في المدينة". ثم تتالت مجموعات الشعر الحداثي: "حزن في ضوء القمر" ومجموعة "غرفة لملايين الجدران" لمحمد الماغوط، ومجموعة "ماء إلى حصان العائلة" لشوقي أبي شقرا.
وبصدور هذه المجموعات وقصائد أخرى لرواد قصيدة النثر دخل الشعر العربي عبر المثاقفة في عصر الحداثة، وأثبت الشاعر العربي تمتعه بقدرة على اكتساب ملكة جديدة في التحاور مع التفاصيل، والقطع مع عادة قديمة لا تجالس سوى ما هو ضخم وكبير وأذن تعودت على الطرب والغناء والنبرة العالية الإحتفالية.
وعلاوة على هذا التأثير الفني بالقصيدة البودليريه وبإمكانات قصيدة النثر وأغراضها الجديدة، فإن شعراء رواد قصيدة النثر العربية والجيل الذي عقب هؤلاء الرواد قد تأثروا بالثيمات وبمقارنة بودلير للعامل وللأشياء... وإلى حد الشعور بأن في داخل كل شاعر بودلير، أحياناً متخفياً وأحياناً ظاهراً للعيان ( ).
وكان لهذه الأهمية البنيوية التأسيسية للمثاقفة دوراً رئيساً في طرح أسئلة جديدة في قضايا الثقافة، طاولت جوانب أنواع الأدب المختلفة، فاحتفلت بديمومة وظيفة "المُقَوّي" التي لا يمكن الإستغناء عنها حتى عندما تبدو وكأنها إشكالية أو يمكن أن ينتج عنها إشكالية. وهذا ما أكسب الآداب العربية تدريجياً مضامين حداثة إستغرقت اكثر من أربعة عقود حتى بلغت المستوى الذي تبدو عليه اليوم.
لم تكن الطريق التي اوصلت الآداب العربية إلى الحداثة، سالكة، لأسباب موضوعية وذاتية، كان في المقدمة منها أنه جرى تقديمها كمصطلح إشكالية في علاقتها بالأدب العربي القديم وتراث الثقافة العربية. كما أنها فهمت منذ البداية، وربما حتى اليوم، لدى بعض القطاعات على أنها ثورة ودعوة إلى التغيير وآلية إلى التحرير والتخلص من سواكن المحافظة وراسيات الجمود وما يكتنفه من قيم تخلف.
وربما يكون من سوء الطالع ان هذا النوع من المثاقفة تزامن مع واقع تعادي بالغ الحدة بين الغرب والعرب، خصوصاً منذ بداية الستينات من القرن الماضي، حيث تشكل مزاج سلبي عام، ينظر بريبة وبلا ثقة إلى كل ما هو غربي أو قادم من الغرب، ويتهم القابلين به بالعمالة ويجرّم الداعين له بالخيانة. وأن الموضوعية تقتضي القول انه ظت إيحاءات هذا (الوعي) وتداعياتها قائمة بدرجة أو باخرى طيلة سني العقود الخمسة الماضية، وأن آثارها التربيبية لا تزال تتواصل وتتفاعل حتى لدى المثقفين الديمقراطيين والديمقراطيين العلمانيين، وفي هذه الأيام أيضاً.
وبالإستناد إلى هذه الوقائع، التي لا تزال تتمتع بمثولية حتى اليوم، يمكننا فهم الإلتباسات التي وقفت وراء دعوة د. عز الدين المناصرة في كتابه " المثاقفة والنقد المقارن" الذي صدر في بيروت سنة 1995م، إلى الكشف عن الطابع الإيديولوجي والإستعلائي / الإستلابي للمثاقفة بين الشرق والغرب، حيث "طل الغرب في كل هذه المراحل يتثاقف مع الشرق مثاقفة إستلابية مع كل نوع من أشكال هذه المثاقفة. لكن المفهوم الأوروبي للمثاقفة ظل إستعلائياً... ولم يأخذ المثاقفةشرق – غرب سوى شكل واحد هو الإخضاع من طرف والقبول بالخضوع و التلذذ به من الطرف آخر...".
ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نسببها بما هو أبعد من تأثيرات المناخ الذي تولد من تفسير المفكر د. إدوارد سعيد لدوافعه لمناقشة هذا الموضوع نفسه في نهاية السبعينات من القرن الماضي. وهذا التسبب بكل تأكيد مختلف جدّاً عن الدوافع التي تقف الآن وراء محاولات تطوير المنهجية التي يعتمدها الباحثون في إطار الأدب المقارن، وهم يقومون بالتصدي مثل غيرهم!! للكثير من الإشكاليات التي تفرزها ظاهرة المثاقفة. ويرون على هذا الصعيد ضرورة تركيز المقارنون على دراسة مفهومي الثقافة الوطنية والهوية الوطنية، ودراسة مفهوم المثاقفة القسرية وآلياتها، ومفهوم المثاقفة الطوعية وبدائلها.
وأشير في ختام هذه العجالة إلى أن المثقفين العرب يتفاعلون بشكل حيوي وإيجابي مع أشكال وإتجاهات حراك المثاقفة وتقييداته وإنفلاتاته المتتالية حيناً، والمتناوبة بين حين وآخر؛ بنتيجة شدة أو تراخي مفاعلات إندفاعات العولمة والثقافة العولمية. ولكن هذه التفاعلات تخبو او تشتد، وتأثيرها وانتاجيتها تتفاوت من وقت لآخر، بسبب العوامل السياسية الصاخبة التي تجتاح العالم العربي بفعل المداخلات الأوروبية والأمريكية التي يُتثاقف معها. وهذا ما يجعل مكانة هذا التفاعل في سياق النتاج الكوني للثقافة والمثاقفة ملتبساً، ويجعل موقف المثقفين من العرب ريبياً ومرتبكاً. فحيث يتمثلون سياقات المثاقفة ووسائل وآليات المثاقفة العولمية، يظلون مسكونون بقيم التشكك والخوف من العنصرية من جهة والتخوف على مصير الهوية الوطنية ومستقبل الثقافة الوطنية القومية من جهة أخرى. وهذا يتيح لديمومة الحديث عن المخاطر التي يمكن أن ينطوي عليها إنفتاحنا الضروري والحيوي على الآخر (الأجنبي) وثقافته. كما أنه يبقى الباب مفتوحاً أمام دعوات معادي المثاقفة المتسترين بمطلب احقية فضح الطابع السياسي الذي ينطوي عليه إنفتاح الغرب على ثقافتنا الشرقية والتكوينات الأيديولوجية التي تكتنف خطابه الإستشراقي.
وبكلمة أخيرة يمكن القول أن موقف المثقفين العرب من المثاقفة ومن الثقافة العولمية إيجابي وحيوي، ولكن حيث أن مفهوم وواقع المثاقفة العربية حتى اليوم إستيعابي وتمثلي ودرجة تشاركيته نسبية جدّاً، فلا يضيرنا القول أن المثاقفة ليست خياراً وغنماً وإنما هي استحقاق، حتى عندما نعترف بأننا " ما زلنا في إنتظار مرحلة قادمة ننحت فيها تماثيلنا الخاصة".


إستخلاصات مساءلة المثاقفة
إقتبس التاريخ مفهوم المثاقفة من انفتاحه بوجه خاص على علمي الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا. وبالإعتماد عليهما إضافة إلى معطيات أخرى من تكوينات الحراك الأنساني التبادلي في اتجاهيه التقابلي والإستيعابي، أصبح مصطلح المثاقفة أكثر تداولية وشيوعاً، بعد أن تمكن من وضع تعريف لهذا المصطلح يقوم على أنه " إختزال واقع تعايش وتلاقح ثقافات مختلفة". وكان هذا الأمر قد ظل متعذراً إلى أن أصبح في مقدور التاريخ تحديد المصطلحات والمفاهيم التي ساعدت على فهم أفضل الفرضيات والإستنتاجات، ويغني عن التأويل الخاطئ وعن الوقوع في الإلتباس. وأهتم المؤرخون بمظاهر إلتقاء الحضارات بالنتائج المباشرة لهذا الإلتقاء، ونتائج التفاعلات عنه خلال أشكال تطوره المختلفة في ديناميتة المختلفة.
واستفاد المؤرخون كثيراً من معطيات الإكتشافات الجغرافية في توصيف السير التاريخية وكيفيات التلاقيات الحضارية الناتجة عن هجرات الشعوب من بلد ومن بلدان القارة إلى بلد أو بلدان في قارة أخرى واستقرارها فيها وتعاملها الحضاري والثقافي مع السكان الأصليين لهذه البلدان ومصير الحضارة والثقافة الواحدة، وكذلك مصير الحضارة والثقافة الأصلية للبلد أو البلدان الجديدة. وتعززت الدراسات التاريخية للمثاقفة المبنية على معطيات الاكتشافات الجغرافية، فتلك التي أمكن تداولها من الوقائع الموثقة أو الشفوية حول العلاقات الثقافية المنتجة من الإستيطان بشقيه الغزووي الإقتصادي والحربي الدعووي. وتشير المصادر التاريخية على هذا الصعيد إلى الآثار التحولية الجارفة التي حدثت في القارة الأمريكية، التي كانت بمنأى عن تأثير ثقافة وحضارة العالم القديم لقرون طويلة، بعد أن وصلها الأوروبيون واستقروا فيها. حيث إزدهرت حضارة وثقافة أوروبية متقدمة في سوار غيتوي إلى جانب ثقافات أخرى كانت قائمة واستمرت كثقافة متخلفة ومقهورة مثل الثقافة الهندية المحلية واثقافة الأفريقية التي حملها العبيد السود.
وتتحدث دراسات مظاهر المثاقفة عن تاريخية وأقدمية وجود المثاقفة وبنيوية دورها التغيري والتحويلي لحضارات الشعوب وثقافتها. والأهم في هذه الدراسات تلك التي تبحث في تاريخيتها بالإرتكاز على منتجات بحث التغييرات الإجتماعية عبر الزمان، وما يدعمها من إستخلاصات دراسات الأنثروبولوجيا القائمة على إستحضار ماضي المجتمعات البدائية، حتى عندما لا تتوفر وثائق مكتوبة عنها، إلا أنه يجوز الإعتماد علىالرواية الشفوية في بحث ودراسة ذلك الماضي.
ويرى المؤرخون من أتباع مدرستي: "الإنتشارية" و "الوظيفية" الأمريكيتين اللتين إزدهرت أبحاثهما في عقد العشرينات من القرن الماضي، أنه بالإعتماد على مراكمة المونوغرافيات والدراسات الميدانية وتحليلاتها واستنتاجاتها بما في ذلك التنظيرية، وإجراء سلسلة من المقارنات والمقاربات ومحاولات التركيب المختلفة يمكن الوصول إلى معرفة تأثير الغزوات التاريخية المصرية والفارسية والرومانية واليومنانية على حضارة وثقافة البلدان العربية، ومظاهر المثاقفة الناتجة عنها، وكذلك الأمر بالنسبة للغزو العربي وأهدافه الحربية والدعووية حتى عندما يقدم بإعتبارة فتوحات إسلامية لنشر عقيدة الإسلام. كما أن مظهر المثاقفة االمنتجة عن وقائع ومعطيات الحروب الصليبية التي لم تتوقف إلا في القرن الخامس عشر كانت مشابهة تقريباً. وهي نفسها المظاهر التي يمكن ملاحظتها على أثر حملة نابليون الفرنسية على مصر سنة 1798م، برغم أنه وقع مع هذا الحدث، شرخ كبير وهائل في الثقافة العربية. وتمثل جانب منه بالمحافظين الذين دعو على رفض المثاقفة بداية خوفاً على التراث بشقيه الديني والأدبي، في حين إهتم جانب آخر بدراسة معطيات الوضع الجديد والقبول بمثاقفته.
وتعود الإستنادات البحثية التي توصل إلى هذه الإستنتاجات إلى ان مفهوم البحث وفق قواعد هاتين المدرستين (الإنتشارية والوظيفية) في التاريخ، يقوم على الإعتقاد بأنه "يجب أن لا تفهم الثقافة كأشياء مجرده، بل كعناصر تجسدها وتحملها مجموعات بشرية عدة، وتتمثل في جميع مظاهر التعبير الإنساني سواء تعلق الأمر بالأدب أو الفنون او المعتقدات والأخلاق، أو تعلق باللباس والسكن والأكل".
وبالإعتماد على هذا الفهم تتحدد أنواع المثاقفة، وأنماط كل نوع منها. وقد إختزلها المؤرخون في نوعين واضحين من المثاقفة إضافة إلى ما يمكن إعتباره أنواع أخرى، ولكنها ملتبسة. ورأى المؤرخون " أن المثاقفة التلقائية أبرزها". أنها في العادة تتمظهر في أشكال بسيطة ومحدودة، وأحياناً بدائية تكاد تنحصر في التلاقح الناتج عن الإتصال الحربي أو السلمي الذي يراد منه تحقيق مكاسب مباشرة لا تتصل بأية أبعاد بنيوية. ومن أمثلتها القريبة الحروب التي هدفت للحصول على العبيد، او الحصول على الخيرات المادية والأرباح التجارية، وعلى غرار ما حصل في كندا وفي ما يعرف اليوم بإسم أمريكا الشمالية.
ويرى المؤرخ ناثان واشتيل في كتابه المثاقفة في التاريخ المعاصر (باريس 1971م) أن بعض هذه المظاهر من المثاقفة كانت البشرية قد عرفته قبل ذلك في أمكنة كثيرة في العصور القديمة. ومن بينها ما عرفته شعوب وأمم منطقة الشرق الأوسط القديم كنتائج وآثار لغزوات المصريين والفرس والرومان واليونانيين عليها في عصور مختلفة قبل الميلاد وفي القرون الخمسة بعده.
وهناك نوع آخر من المثاقفة أكثر إتساعاً وأفضل تأثيراً وقابلية للإستمرارية والتواصل من عصر لعصر، ولإنتاج الأدوات والآليات اللازمة لشغل وظيفته. ويسمى هذا النوع "المثاقفة القسرية". وتكون هذه المثاقفة متلقاة بالإكراه بعد سيطرة شعب أو أمة على اخرى بواسطة القوة في الحروب. وتتم هذه المثاقفة دائماً بشكل مباشر عبر هضم الحقوق السياسية والاقتصادية وتغيير المفاهييم الإجتماعية السائدة، وكذلك المس بشعائرهم الدينية؛ وأعرافهم وتقاليدهم الرائجة.
ويذكر في هذا السياق النتائج التي ترتبت على هجرات القبائل السامية في عصور ما قبل الميلاد من الجزيرة إلى بلاد ما بين النهرين وأرض كنعان وما بينهما، على المستويات الإقتصادية والسياسية والفكرية والإجتماعية والثقافية، وإنتشار المنتجات الحضارية والثقافية لهذه الهجرات حتى بلوغها المناطق المغاربية وما يجاورها من المناطق الإفريقية، حيث لا تزال اللغة الأمازيغية وموروث الثقافة الأمازيغية ماثلة وبحيوية حتى اليوم. ويذكر المؤرخ العربي المغربي إبن خلدون أنه كانت هذه الثقافة قد وصلت إلى تلك المناطق عندما إنتقل الفنيقيون (كنعانيوا الشمال) من صور إلى قرطاج واستقرارهم فيها وإنتشارهم إلى المناطق المحيطة والمجاورة. وأنهم أخذوا إسم الأمازيغ نسبة إلى جدهم مازيغ أحد أبناء كنعان الذي نسبت إليه أرض كنعان في شرق المتوسط بعد استقراره من هجرته فيها ( ).
وظلت ملامح هذا النوع من المثاقفة في منطقتنا العربية القديمة، تعلو وتحفت في عقود كثيرة من القرون الخمسة الأولى قبل الإسلام، وأخذت في بعض الأحيان شكل الإكراه الديني عندما يعتنق الحاكم ديانة فيجر من تحت حكمه من مختلف الأعراق والإثنيات على إتباع تلك الديانة والإيمان. وفي هذا السياق تذكر الروايات التاريخية أنه عندما وقعت فلسطين تحت حكم الرومان (63ق.م – 395م) ألحقت بالإمبراطورية إنداماجياً ودمرت ثقافتها وإضطهد اليهود فيها، لأسباب دينية وإستعمارية. وحدث الأمر نفسه فيها مع المسيحيين عند ظهور النصرانية. ولما كان عهد الإمبراطور قسطنطين (306 – 337م) رفع جميع القيود المفروضة على النصارى بعد أن تنصر. وفرض الديانة المسيحية ديناً للإمبراطورية، وإضطهد من لم يقبل بها من سكان فلسطين أو غيرها من أقاليم الإمبراطورية ( ). ومع أن الرومان حكموا بلاد الشام لأكثر من ثلاثة قرون، إتسمت أغلبها بالإستقرار والرخاء النسبي إلا أن مظاهر الحكم كانت إستعمارية، ولم يسكن فيها من الرومان إلا الحكام والموظفين والتجار ورجال العلم؛ وقد أقاموا في المدن والسواحل. ولذلك كان تأثر القرى بالحضارة الرومانية محدوداً وضئيلاً. وذلك لأن الرومان هدفوا من حكم بلاد الشام ويضمنها فلسطين، جعلها قاعدة متقدمة للإمبراطورية ضد العدو؛ وكذلك إستثمار ونهب مواردها وخيراتها الطبيعية. وبسبب ذلك كانت مظاهر المثاقفة خلال الحكم الروماني في مجالات الثقافة محدودة. فقد " كانت اللغة اللاتينية هي اللغة الرسمية. وفي حقلي الأدب والتجارة طلت اللغة اليونانية اللغة السائدة. وأما لغة السوق والبيت فكانت الآرامية. كما كانت لغة القبائل في أقاصي جنوب وجنوب شرق فلسطين هي اللغة العربية. ويمكن الجزم بأن سكان الريف في فلسطين لم يتداولوا ولم يعرفوا اليونانية أو اللاتينية في العهدين اليوناني والروماني، وكانت لغتهم في العهدين اللغة الآرامية ( ) .
وتعرضت فلسطين كما باقي ولايات الشام الأخرى لمثاقفة قسرية في عهد الإمبراطورية الرومانية الشرقية (395 – 636 م) الت إشتهرت في الثقافة العربية باسم مملكة الروم (وعاصمتها القسطنطينية ولغتها اليونانية). وتجاوزت الثقافة (المحلية) إبانها مستوى الثقافةالمركزية (المسيطرة) فتأثرت بها بمفعول تثاقف قسري عكسي فرضه إزدهار التعليم وتفوقه في مدراس الحكمة والفلسفة واللاهوت والقانون والآداب التي كانت قائمة في قيسارية وغزة وعسقلان وبيسان وغيرها. وكذلك كثرة الكتاب والفلاسفة والبطاركة؛ ومؤلفاتهم التي كانت متداولة في جميع أنحاء الدولة البيزنطية ( ). ومع ذلك ظل طابع المثاقفة في هذا العصر قسرية، وظلت كذلك وربما بشكل أشد بعد أن أستولى العرب سنة 636 م على بلاد الشام وغيرها من أقطار الشرق في إطار ما إصطلح على تسميته بالفتوحات الإسلامية، حيث هدمت صروح الثقافة المحلية، ودعي السكان لترك دينهم واعتناق الإسلام (وإلا فالسيف أو الجزية)، وفرضت اللغة العربية لغة رسمية في البلاد الشامية وفي غيرها من أقطار الدولة العربية – الإسلامية.
وتواصلت المثاقفة قسرية بكيفيات مختلفة في عصور الدولة الإسلامية المتلاحقة، مروراً بالحروب الصليبية وحروب عصر التتريك بغض النظر عن تسمياته التجميلية؛ وإنتهاء بحملة نابليون الفرنسية على مصر سنة 1798م وما أسست له من صيغ ومفاهيم مثاقفة، وما أعقبها من مساءلات في المثاقفة.
وتثبت المقاربات والمعطيات التاريخية على أن النتائج الصارخة لسيطرة الأوروبيين على الهنود في أمكريكا الشمالية والجنوبية معاً، وهضم حقوقهم الإقتصادية والسياسية، وإجبارهم على القبول بقيم ومعارف إجتماعية جديدة، وكذلك المس بشعائرهم الدينية؛ غداة الإكتشافات الجغرافية الكبرى، هي مثاقفة قسرية فرضت على سكان البلاد بالإكراه والقوة.
ويرى المؤرخ ناثان أنه عادة ما تمر المجتمعات الضعيفة من "مثاقفة تلقائية" إلى "مثاقفة مفروضة" ما دامت القوى الإستعمارية الأوروبية تواصل سعيها مع مرور الوقت إلى أحكام سيطرتها بشكل مباشر على الهنود القاطنين في مناطق سيطرتهم أو في تجمعاتهم الخاصة القريبة من تلك المناطق؛ أو من أفق نفوذها. ومع ذلك فإننا نجد في بعض الأحيان، ولأسباب خاصة جداً، حالة تثاقف معاكسة يتم الإنتقال فيها من المثاقفة القسرية إلى المثاقفة التلقائية؛ وذلك على غرار ما حدث ببعض المستعمرات الإسبانية عقب ثورة 1680م بنمطقة ريوغراندي، التي حدثت في سياق إنتشار حركات الإستقلال ضد المستعمرين الأوروبين، إذ أنه بالرغم من فشل الثورة لم يتمكن الإسبان من إعادة سيطرتهم بشكل كامل. وهذا ما شجعهم على إنشاء أنظمة تجمع عرفية خاصة بهم، مما أتاح للإختلافات أن تجد إنعكاساتها المكانية وفق قابلية تنوع مع مرور الوقت وعبر الزمان.
واستدل المؤرخون والإنثروبولوجيون من أسئلة المثاقفة الإستقرائية والميدانية معاً على أن مسارها يمكن أن يأخذ أنماطاً متعددة ومتفاوتة في قدرة وكفاءة تأثيراتها البنيوية، التي تكون عادة مختلفة بين زمان وآخر ومن مكان إلى آخر؛ وبين قوة مثاقفة وأخرى.
ويذكر والمؤرخ ناثان واشيل في كتابه الذي ذكرناه سابقاً أن أحد أبرز الأشكال التي تكون عليها أنواع المثاقفة هو "نمط الدمج" الذي يقوم على إقتباس الثقافة المحلية لعناصر من ثقافة أجنبية وعوامل مثاقفة مساعدة على التثاقف دون أن يؤدي ذلك الإقتباس إلى تغيير كبير في قيم الثقافة المحلية أو تؤدي إلى إنهيارها. والتغيير المقصود هنا وبدقة ذلك الذي لا ينزع من الثقافة المتثاقفة عناصر كينونتها الأساسية، بحيث تستطيع العودة إلى نمطيتها الأصلية عندما تقتضي معطيات الواقع ضرورة هذه العودة.
وأما النمط الآخر الأكثر شهرة في أنواع المثاقفة فهو " نمط التمثل " الذي ينتج عبر تشرّب الثقافة المحلية تدريجياً لعناصر تكوين الثقافة الأجنبية وخلق مفاعيل مقتبسة من واقع التفاعل التثاقفي لإنشاء قيم ومفاهيم ومعارف سلوك جديدة مستلهمة روح ودينامية مضامين العناصر المكتسبة من الثقافة المندمج بها، لتفسح في المجال لإمكانيات إحلالها محل التقاليد والقيم المحلية والإنقياد بشكل تفصيلي لقيم الثفافة الأجنبية المسيطرة.
وتندرج بين نمطي الدمج والتمثل في أنوع المثاقفة أنماط أخرى عديدة غالباً ما تكون توفيقية. ويكون تأثير الثقافة الأوروبية فيها مثالاً واضحاً؛ فيما يتصل بالسكن والتنظيم السياسي وإتبّاع المذاهب والمعتقدات الجديدة في الدين والعبادة ومفهوم القداسة وشفاعة القديسين وغيرها. ولكن هذه الأنماط من المثاقفة بكل ما فيها من غنى إختلاف عن الثقافات المحلية الوطنية والقومية في بلدان مان يعرف باسم "العالم الثالث" في ستينات القرن الماضي، كانت سمات تدخلها على الأغلب تأثيريه لا تغييرية؛ برغم أن الدول المستمعرة أو المسيطرة كانت تريد ذلك. ويستدل على مثل هذا الأمر من بطئ التدخلات والإقتباسات التثاقفية في إحداث تغييرات ملحوظة في كيفيات الوعي والسلوك والأعراف والتقاليد الإجتماعية. واكثر من ذلك عجزها في معظم الأحيان عن تحقيق مثل ذلك عند شعوب كثيرة برغم تفاوتها بين بلد وآخر وقارة وأخرى؛ خصوصاً ما كان يتصل من العادات والمعتقدات بالدين والأرض والجنس في مجتمعات البلدان العربية والإسلامية ولدى (المسلمين) في بلدان الإغتراب في أوروبه وأمريكا أيضاً وأن إلى حد بسيط.
وإن إطلالة عامة على الأنماط التثاقفية في "بلدان الإنتاج الآسيوي" مثلاً، ترينا أن المثاقفة أحدثت التفاعل الذي أدى إلى ظهور ثقافات جديدة في بعضها، وبروز مظاهر تثاقيفية مختلفة في بعضها الآخر. وأما تأثيرها فكان جمعياً قد بدا كسمة مثاقفة عندما حقق ظهوراً ملموساً في ترسيخ نزعات الإستقرار والإقبال على الحياة المدينية، والتوسع في الإنخراط في التجارة والصناعة وتعلم الحرف ومزاولتها، والقبول بتباشير مكننة الزراعة، واستحقاقات تزايد تجارة الإستيراد بما فيها تعلم استخدام أنواع السلع والألبسة والأدوات الجديدة، والقبول بإشتراطات إقتناءها وإستعمالها، وإنخفاض نسبة الأمية بسبب إزدياد عدد المدارس والمعاهد والجامعات وتزايد أعداد حملة المؤهلات التخصصية العليا في مختلف المجالات، وتطور الرعاية الصحية ومستويات التطبيب الذي تعكسه أخبار ومعطيات القضاء على الأوبئة والأمراض الخطيرة وتقلص نسبة الوفقات بين الأطفال وارتفاع أعمار المسنين، وغيرها. وفي الإطلالة نفسها حيث نرى ذلك، فإننا نلمس إلى جانبه أيضاً، وبرغم أندفاعة مظاهر العولمة، أن قبول مفاهيم المثاقفة واستقبال تاثيراتها ونتائج تفاعلاتها، لم يؤثر ولم يغير من قضايا الإيمان والتعبد الجهلويوأشكال الإعتناق الديني الوراثي التسليمي والنقلي، ولم يعط أي شحنة من الجرأة على نقد التقاليد أو التنكر للأعراف والعادات التي تتمتع بمكانة التقديس في المجتمع ولم يخفف كثيراً من سطوة السلطة البطريكية الأبوية الذكورية. ولم يحدث تطوراً ملحوظاً من المرأة وحقوق المواطنة..
ويعود ذلك لجملة من الأسباب أولها أن المثاقفة كما العولمة دنيوية لا دينية، وفعلية لا دعوية، وتهتم بحراك الفكرة وليس بسجود الروح.
وخلال هذه الإطلالة نجد ما يساعدنا على التوصل إلى المفهوم الذي يرى أن نسق تطور أي مجتمع في زمان ومكان ما، لا يتبع خطاً تصاعدياً. والأمر نفسه بالنسبة لكل الشعوب فيما يعرف اليوم تجاوزاً بالمجتمع الماضي في طريق العولمة. ومن جهة اخرى فكما أن الليبرالية الإقتصادية لا تقود بشكل آلي وتلقائي إلى الديمقراطية، فإن المجتمع الديمقراطي يمكن أن تقوده رغباته الذاتية الظرفية الطارئة أو النوازع الكامنة فيه إلى إفراز نظام كلّياني ذي نزعة إستبدادية متطرفة، وذلك عبر الإنتخاب الديمقراطي.
وفي هذا السياق يمكننا أن نستقرئ عبر المثاقفة والمثاقفة العولمية بالتحديد ما ينكر الحتمية الأحادية قدراً، ويؤكد التنوع، وما يجيب على أسئلة المؤمنين "بحتمية العولمة"، و يدحض مقولة "نهاية التاريخ" و "الأنسان الأخير"، وكذلك أواجيف الذين يطرحون سؤال "الهوية والإنتماء" في مواجهة المثاقفة والتصدي لإندفاعات العولمة؛ وذلك لأن المثاقفة وسيلة مباركة لدعوة العولمة الخيّرة.
إن نظرية "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" تحمل في مفرداتها ما يعني نقيضها. فالنهاية تتصل دائماً ببداية مشهرة أو مضمرة، ومتحركة أو خامدة. وحيث النهاية بمفهوم المنظرين العولميون هي الصفر، ولكن الحقيقة هي الفرد الواحد الأخير المتبقي أي (النظام الليبرالي) الذي هو أمل البعث الجماعي المتجدد. وحتى كلمة "تاريخ" نفسها إريد منها الإيحاء للناس بأن منطقاً وحركية جديدة مغايرة لما ساد حتى الآن سوف يحرك البشرية ويقود نسق ونمط تطورها (اي العولمة). وهذا الأمر بأبسبط التفسيرات يعني التبشير بمولد عالم جديد على أنقاض العالم القديم، ولكنه يقفز عن كل الأبعاد الثقافية والحضارية والسياسية المتباينة، وينفى حق الإختلاق فكراً وممارسة، وعادات وتقاليد ومؤسسات عقائدية وعرقية، لغوية وجمالية. ويريد منظروا العولمة من وراء نفي التاريخ نفي المرجعية التي يتعظ بها الناس عادة عند مراجعاتهم، ويستفيدون من دروس التجربة التي تحفل بها. وهم اولاً وقبل كل شيء يريدون من وراء نفي التاريخ شطب الماركسية كنظرية وتجربة، أقام فوكوياما منظر العولمة الرئيس نظريته على أنقاضها، فقد إعتمد نفس الجدلية التي قامت عليها الماركسية وحتميتها، كتأكيد إنتفاء للماركسية نهائياً؛ برغم أنه تساوق معها في أولوية التأسيس للإقتصاد كضرورة للتطور، وكذلك في إهمال الخصوصيات الإنسانية وبما تعبره مقوماً لوجودها: فنونها، آدابها، مسرحها، فلسفتها، تناقضاتها الطبيعية وصراعاتها الإجتماعية والسياسية، هوياتها المتعددة أحياناً في المجتمع الواحد، أعراسها، أتراحها، مأكلها، طريقة لباسها، أعيادها وطقوسها، أديانها وآلهتها، العلاقات الإجتماعية بين أفرادها.
إن الإعتماد على الإقتصاد وقوانيه ومعطياته هو خطر الموت الذي يتهدد الماركسية، وربما سيكون نفسه الحظر الذي سيهدد العولمية، وذلك لأن تطور المجتمعات لا يتم فقط إنطلاقاً من المعطيات الإقتصادية وبمعزل عن الأبعاد الإنسانية الأخرى. كما أن المجتمعات لا ترسم ملامحها الحاضرة والمستقبلية قوانين الإقتصاد وقواعد السوق وحدها لا سيما عندما نصل إلى "العالم الواحد" الإفتراضي النظري حتى الآن؛ وذلك لأن ما يعرفها هو هويتها الثقافية وما تضيفه به للحضارة الإنسانية من فكر علمي وإبداع فني يسمو إلى مرتبة العلمية ويفرض نفسه بتلاحمه مع الإرث الإنساني في مجالات المسرح والسينما والموسيفى والرقص والرسم والنحت والأدب والفلسفة التي تنشأ كلها في رحم الهوية ونتجاوزها دون إستئدان لتشمل الحرية وتغذي التنوع والإختلاف، وتتعلق بالأرض وتسمو إلى ما وراء الكواكب لتوكد معاني تجلياتها الإنسانية.
إن هذا الفهم لأحد جوانب مسألة المثاقفة (خصوصاً الجانب المرعب منها، أي الثقافة العولمية) يفترض أن يبعث الطمأنينة في قلوب المثقفين والمثقفين العرب الذين يتحدثون عن محاذير يجب الإهتمام بها عند التواصل مع الآخر، ويرون تفادي مخاطرها في "تفعيل السمات المميزة في ثقافتنا، وأن نقرئ الثقافات الأخرى برؤيا نقدية لا نتردد عن التفاعل معها في رفض السلبي منها... وأن أحد أهم المحاذير التي ينبغي التنبه لها عند الإنفتاح على ثقافة الآخر يكمن في تحول المقارنة بين ثقافتنا وثقافة الآخر إلى مفاضلة... والربط بين التطور وقيم الهوية والتطور الثقافي".
إن سؤال الهوية في مساءلة الثقافة لا تجيب عليه تمنيات القدرة على المفاضلة والإختيار، وإنما في إستلهام شروط الإنخراط في الدعوة الكونية للتنوع الثقافي، وتبني ثوابت التعددية والتنوير الفكري والديني والثقافي والحريات وطرائق الحياة اللائقة الكريمة وأنواع فنونها، وتشكيلات أذواقها كتساوق مع حياة إنسان عالم اليوم. أي بمعنى آخر الإستطاعة على تحقيق بعض أشكال التشارك الثفافي مع شعوب العالم الأخرى لبناء الثقافة الإنسانية.
إن بلوغ مثل هذه الغاية ليست بالأمر السهل برغم ما يكتنف ثقافتنا العربية من قيم الجمالية والموروث الحضاري الزاخر بمعاني التسامح والحوار بين الحضارات والتفاعل مع الثقافات.
وإن توفر مثل هذه المعطيات عندما يقترن بإرادة الإنخراط في العملية التثاقفية، سيعفينا من بذل جهود كبيرة في سبيل صون هويتنا الثقافية، ستقل هذه الجهود بمقدار تمكننا من القدرة على الإنصار في العالم بمتغيراته.
** محمد سليمان كاتب وباحث فلسطيني مقيم في رام الله – فلسطين.

المصادر
I. الكتب:
1- طه حسين مطلوب حياً وميتاً، علي شلش. الدار العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1993م.
2- الثقافة والثورة الثقافية، لينين. دار التقدم، موسكو 1968م.
3- العولمة والثقافة، حاتم بن عثمان. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان 1999م.
4- درجة الوعي في الترجمة، رشيد برهون. منشورات مكتبة سلمى الثقافية، تطوان (المغرب) 2003م.
5- دراسات في تاريخ الشرق القديم، احمد فخري. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1958م.
6- تاريخ الكنيسة، بوسايوس القيصري/ ترجمة القس مرقص داود (دون ذكر إسم الناشر)، القاهرة 1960م.
7- قصة الحضارة (مجموعة المجلدات)، الجزء الثاني / الشرق الأدنى، و.ل ديورانت، ترجمة محمد بدران، دار الجيل، بيروت (دون ذكر سنة النشر).
8- العرب قبل الإسلام، جرجي زيدان، مطبعة الهلال، القاهرة 1939 م.
9- تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، الجزء الاول، فيليب حتي / ترجمة جورج حداد وعبد المنعم رافق، (دون ذكر إسم الناشر)، بيروت 1958م.
10- رهانات النهضة في الفكر العربي. د. ماهر الشريف. وزارة الثقافة، رام الله (دون ذكر سنة النشر).
11- العرب والعولمة (بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية)، تحرير أسامة أمين الخولي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998 م.
12- في مواجهة أزمة عصرنا، د. سمير أمين. سينا للنشر، القاهرة 1997م.
13- الثقافة والأيديولوجيا في العالم العربي (1960 – 1990م)، فهيمة شرف الدين. دار الآداب، بيروت 1993م.
14- كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، الجزء الأول والجزء الثاني، عبد الرحمن بن خلدون. مطبعة النهضة، القاهرة 1936م.
15- مروج الذهب ومعادن الجوهر، الجزء الثاني، أبي الحسن علي بن الحسين المسعودي (دون ذكر أسم الناشر)، القاهرة 1958م.
16- تاريخ الرسل والملوك، الجزء الأول، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. دار المعارف، القاهرة 1960 م.
17- بلادنا فلسطين / الجزء الأول، القسم الأول. مصطفى مراد الدباغ. دار الهدى للطباعة والنشر، كفر قرع. طبعة جيددة 2002م.
18- العالم القديم / الجزء الأول، نقولا زيادة (دون ذكر إسم الناشر)، يافا 1947م.
19- شاميات (دراسات في الحضارة والتاريخ)، نقولا زيادة. رياض الريس للكتب والنشر، لندن 01998م.

II. مجلات:
1- مجلة الوحدة، العدد 61 – 62، السنة 6، 1989م. المجلس الأعلى للثقافة العربية، الرباط، المملكة المغريبة.
2- مجلة النهج (دمشق)، العدد 37، خريف 1994 م.
3- مجلة الكرمل،(رام الله)، العدد (53) خريف 1996م.
4- مجلة المشرق (بيروت)، إعداد مختلفة من السنة الأولى 1898م. الأب لويس شيخو اليسوعي، دار المشرق. بيروت.

III. مواقع إلكترونية:
1- مجلة نزوى العدد 23
2- شبكة الفصيح لعلوم اللغة/
3- الحوار المتمدن http://www.hewar.com http:/
4- جريدة الإتحاد / الصحيفة المركزية للإتحاد الوطني الكردستاني
5- ديوان العرب
IV. مخطوطات:
1- الترجمة ونشوء وترقي الثقافة الفلسطينية، محمد سليمان. مخطوط. رام الله 2004 م.
2- ملامح نشوء وتطور النقد الأدبي الفلسطيني، محمد سليمان. مخطوط. رام الله 2007م.
*هذا البحث فصل من كتاب لنا (محمد سليمان) بعنوان:
"أسئلة الهويات والمثاقفة في عصر العولمة"
سيصدر قريباً عن مهعد إبراهيم للدراسات الإعلامية والثقافية ـ رام الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...