عباس محمود العقاد - علامات الزمن

للزمن علامات في أقوال الشعراء والأدباء

ولأقوال الشعراء والأدباء علامات في الزمن

ولكن العلامات التي تصدق في دلالتها، ويقل خطأها في إشاراتها هي على الأعم الأرجح علامات الصناعة دون علامات الطبيعة

لأن الطبيعة الإنسانية تتشابه في جميع الأزمان وتتماثل فيها الخصائص والعيوب بين جميع الأجيال، فلا يقال إن السخف وقف على عصر دون عصر، ولا إن الركاكة مقصورة على جيل دون جيل، وإن هذا البيت لا يمكن أن يصدر عن شاعر في الجاهلية لأنه سخيف، أو لا يمكن أن يصدر عن شاعر متأخر في القرن التاسع عشر لأنه متين ظاهر الفحولة، فهذه علامات لا تقطع بالقول الفصل على وجه اليقين، ولكنها تذكر للاستئناس كما يقال في لغة الفقهاء والمحامين، إذ يوجد السخف لا مراء في كلام الجاهلية كما توجد القوة والجزالة في كلام المتأخرين

إنما العلامات القاطعة في دلالتها التاريخية هي علامات الصناعة اللفظية والمعنوية على اختلافها في جميع اللغات؛ لأن المحسنات والموشحات وضروب التطريز والتشطير والتوشيع قد ظهرت عندنا في اللغة العربية على عهود معلومة تنحصر بالسنوات فضلاً عن الحقب والفترات. فلا يعقل أن يتكرر الجناس الكامل في الشعر الجاهلي ولا أن تصدر أفانين التوشيح عن مخضرم أو متقدم بين الأمويين. وقل مثل ذلك في كل علامة صناعية مرجعها إلى زمن معلوم

أما الركاكة أو السخف أو الإعياء أو اختلال الوزن فكل أولئك قد يوجد في الجاهلية كما يوجد في عصور المماليك. ورب بيت لشاعر من شعراء العصر الأول تسلكه بين أبيات النظامين من مداح الريف فلا تشعر بغرابته بينها. كقول حسان مثلاً:

وبحسبنا فخراً على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا

أو بيت عريق في القدم لو ألقيته على لسان خليع من خلعاء الأزبكية لجاز أن يكون من كلامه إذا نظرنا إلى الخلاعة والمجون، كقول الأعشى: قالت أميمة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل

فهذا البيت هو بعينه ترجمة (يا دهوتي عليك ويا دهوتي منك يا راجل أنت) التي تقطر بخلاعة المحدثين، إذا كانت المسألة مسألة عيب من عيوب النفس والمزاج

ولن يؤخذ بعلامة المتانة والجزالة مأخذ اليقين كما ليس يؤخذ بها هذا المأخذ في باب الركاكة والإسفاف

فالبارودي مثلاً يقول في إحدى معارضاته:

ألا حي من أسماء رسم المنازل ... وإن هي لم ترجع بياناً لسائل

خلاء تعفتها الروامس والتقت ... عليها أهاضيب الغيوم الحوافل

فلأياً عرفت الدار بعد ترسم ... أرامي بها ما كان بالأمس شاغلي

فللعين منها بعد تزيال أهلها ... معارف أطلال كوحي الرسائل

فأسبلت العينان منها بواكف ... من الدمع يجري بعد سح بوابل

والشيخ محمد عبد المطلب يقول:

لنا باللوى مغنى عهدناه آهلاً ... سقى الله روضات به وخمائلا

كساه السحاب الجون من نسج نبته ... عقود جمان نظمت وغلائلا

أو يقول:

دعته العلا أن الثواء من الوهن ... فأسلم أرسان الركاب إلى الظعن

وأرسلها في ذمة الشوق فانبرت ... صوادي تنسيها المنى حلب المزن

والسيد البكري يقول:

سقى دور مية بالأجرع ... مسفٌ من الدجن لم يقلع

ولو ترك الشوق دمعاً بجفني ... سقيت المنازل من أدمعي

ويروى مثل هذه الشعر لفئة من المحدثين لا يعدون الفترة العارضة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فماذا لو أن ناقداً من المتحذلقين الذين يختطفون القول في علامات الزمن خطف الببغاوات رجع إلى مقاييسه الخاطفة فأنكر نسبة هذا الكلام إلى عصره وزعم أنه أشبه بعصور البداوة وأقرب إلى فحولة الجاهليين أو المخضرمين؟! بل ماذا لو أضاف إلى ذلك أمثلة من الشعر والنثر الشائعين في هذه الفترة، فقال جازماً إن الأسلوبين لا يصدران عن عصر واحد؟

إنه لو قال ذلك لكانت حجته أقوى وأسلم من حجة القائل أن شاعراً في العصر الإسلامي الأول لا يتأتى أن ينظم هذا البيت!

لواحي زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي

لأنه في زعمه بيت تعوزه متانة الشعر في ذلك العصر. ولو صح أن المتانة تعوزه لما كان ذلك جازماً باستحالة نظمه في عصر من العصور، لأن عصراً من العصور الأولى أو الأخيرة لن يخلو من بيت ركيك أو سخيف

ومن المصادفات الحسنة أن كلامنا في الخلاف على صاحب هذا البيت يظهر في الرسالة وفيها كلمة للأديب الداغستاني يذكر فيها أن مؤلفي (قصة الأدب) نسبا أبياتاً إلى كثير عزة وهي منسوبة في كتاب الأغاني إلى بشار. ومنها هذا البيت:

يزهدني في حب عزة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي

وهناك قوم ينسبون الأبيات إلى ذي الرمة ويضعون (مية) في موضع عزة من البيت المتقدم، وبين العصرين دولة مضت بصدر الإسلام وأعقاب الأمويين. ومن الأبيات الثلاثة بيت يشير إلى النظر هو أليق ببشار الضرير حيث يقول:

فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب

وهناك أبيات ومقطوعات وموشحات ينسبها أناس إلى شعراء من الأندلس وينسبها آخرون إلى شعراء من بغداد ولا سبيل إلى القطع بصواب النسبة إلا الرجوع إلى علامات الصناعة وعوارض البلدان، أو الرجوع إلى دليل قاطع من العقل يبطل به النقل كل بطلان

وصفوة القول أن علامات الزمن في الشعر إنما تؤخذ مأخذ اليقين إذا اتصلت بحدود الصناعة وأوقاتها، ولكنها فيما عدا ذلك لا تبلغ مبلغ اليقين إلا بدليل قاطع من العقل أو دليل قاطع من النقل، أو بالدليلين معاً مجتمعين. وليس من ذلك هذا الزعم الذي أتى به المعترضون على رواية البيت المنسوب إلى عروة ابن الزبير في كتابنا (الصديقة بنت الصديق)

وهؤلاء المعترضون يزعمون أنهم قد أتعبوا أنفسهم تقصياً للكتب المحترمة في السير والأدب والتاريخ فلم يعثروا على إشارة إلى القصة التي أنكروها جملة وتفصيلاً وحسبوها من تلفيق كتب الأسمار التي لا يطلعون عليها

ومع هذا لم تقتصر الإشارة إلى تلك القصة على رواية واحدة ولا على كتاب واحد من كتب السير والأدب والتاريخ (المحترمة)

فأخرج أبو نعيم في الدلائل والخطيب وابن عساكر فيما روى السيوطي في شرح شواهد مغنى اللبيب، قال رواية عن السيدة عائشة:

(. . . كنت قاعدة أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً فبهت، فقال ما لك بهت؟ قلت جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نوراً؛ ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، حيث يقول:

ومبرّأ من كل غبّر حيضة ... وفساد مرضعة وداءِ مُغْيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بروق العارض المتهلل

فهذه رواية في كتب محترمة تذكر التمثيل بالشعر في وصف شمائل النبي، وتذكر مناسبة التمثيل ويختلف فيها ناظم البيتين، ولم يقل أحد أن أبا نعيم والخطيب وابن عساكر ومحمد بن قاسم حبوس من أصحاب السمر الذين لا يذكرون مع كتاب التاريخ والسير، ويضاف إليهم السيوطي صاحب التفسيرات والأمالي في النحو والعربية؛ فأين جماعتنا إذن من الكتب المحترمة والاحترام؟

ويذهب بنا القول في أدلة العقل والنقل حول كتابنا (الصديقة بنت الصديق) إلى مناقشة الأستاذ الصعيدي مرة أخرى فيما اعتمدناه من النقل المتواتر الذي لا يناقض العقل على ما تراه

فالعقل لا يمنع أن تراجع السيدة عائشة محمداً صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور، ولا يمنع أن تخالفه في ضرب من الشعور، ولا سيما شعور الغيرة التي بلغت أشدها بعد مولد إبراهيم من مارية القبطية

ومن المحقق بالمناسبات القرآنية أن النبي عليه السلام هجر نساءه شهراً لأنهن راجعنه وألححن في مراجعته في شؤون النفقة، وفيما بينهن من التغاير والتناظر الذي تعددت أسبابه ومناسباته

ومن المتواتر في الروايات الموثوق بها أن عائشة كانت تراجع النبي لأنه كان يكرم ذكرى خديجة وهي تقول عنها أنها عجوز حمراء الشدقين، وكان يميل إلى صفية وعائشة تقول عنها أنها قصيرة، وكانت تزعم للنبي أنه أكل مغافير وهو لم يأكل المغافير

فهذه المراجعات والمناقشات لا ينفيها العقل ولا يستغربها، بل نقيضها هو الأحق بالنفي والاستغراب، لأنه مناقض لطبيعة الإنسان

ومهما يكن من قول النظام في معنى الواقع ومعنى التصديق فالواقع أن عائشة رضى الله عنها كانت تكذب لو أنها قالت إنها ترى شبهاً في إبراهيم وهي لا تراه. والواقع أن الغيرة تحجب النظر عن الشبه الذي يمتنع فيه الخلاف؛ فكيف بالشبه الذي يجوز فيه الخلاف؟ وأي شبه في طفل مولود لا يختلف فيه نظران؟

كذلك لا غرابة في أن يدعو النبي عائشة أو غيرها إلى الاستغفار إن كانت ألمت ببعض الذنب؛ فإن الاستغفار مطلوب بنصوص القرآن، ومطلوب بالعقل والبداهة، ولا مناقضة فيه لأدب النبوة ولا لأدب الحاكمين

ولست أرى من واجب المؤرخ أن يبطل الروايات المنقولة لأنه يظن ظناً ضعيفاُ لا سند له أن عائشة لن تقول هذا القول ولن ينطلق به لسانها مع فلتات الغيرة وجمحات المغاضبة، وإلا انتقلنا من البحث في عصمة الأنبياء إلى البحث في عصمة أزواجهم وأقربائهم حتى من فلتات اللسان، حيث تبدر الفلتات من كل إنسان، وإننا لننزه العقل الآدمي أن نغله بأمثال هذه القيود

عباس محمود العقاد



مجلة الرسالة - العدد 553
بتاريخ: 07 - 02 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...