الشيخ الخليل النحوي - تأملات في الفرق بين الخوف والحذر

تحدث أبو هلال في الفروق عن الفرق بين الخوف والحذر فقال: "إن الخوف توقع الضرر المشكوك في وقوعه ومن يتيقن الضرر لم يكن خائفا له وكذلك الرجاء لا يكون إلا مع الشك ومن تيقن النفع لم يكن راجيا له، والحذر توقي الضرر وسواء كان مظنونا أو متيقنا، والحذر يدفع الضرر، والخوف لا يدفعه ولهذا يقال خذ حذرك ولا يقال خذ خوفك". وعلى حسن تعريفه للمصطلحين وتفرقته بينهما فإن في قيد عدم التيقن نظرا فإن الإنسان قد يخاف من ألم بتر عضو أو حقنة أو ضربة، وهو يتيقن وقوع ذلك. كما أن كثيرا من الناس يخافون الموت وهم يتحققون وقوعه. وقوله إن الحذر يدفع الضرر فيه نظر أيضا فقد قالوا "لا ينجي حذر من قدر"، ولعله أراد أن الحذر يحمل على الأخذ بأسباب دفع الضرر، نجحت هذه الأسباب أم لم تنجح. ثم إن الخوف قد يحمل على الحذر فيكون دافعا للضرر من هذا الوجه، أي من وجه تحوله من حالة نفسية ساذجة إلى عمل بما تقتضيه تلك الحالة النفسية من الأخذ بأسباب اتقاء المخوف.
ويعني ذلك أنك قد تخاف شيئا فتحذره، شأن العاقل الحازم، وقد تخافه ولا تحذره شأن الجبان غير الحازم، وقد تحذره وأنت غير خائف، شأن الشجاع في المنازلة يقبل غير خائف لكنه يأخذ حذره من عدوه أو خصمه.
ولاقتضاء الخوف الحذرَ، بحكم العلاقة السببية بينهما، جعلا رديفين في كلام العرب، كما في قول عمر بن عبد العزيز

إن كنت تعلم أن الله يا عمر
يرى ويسمع ما تأتي وما تذر
وأنت في غفلة عن ذاك تركب ما
عنه نهاك فأين الخوف والحذر
ولغيره:
من لم يبِتْ حذِراً من خوفِ سطوتهِ
لم يدرِ ما المُزْعجانِ: الخوفُ والحذرُ
وحين نتأمل في موارد الخوف في القرآن، نجد أن الخوف قد يكون حالا عابرة وقد يكون سجية أو صفة ملازمة، ولا يليق كونه صفة ملازمة إلا إذا كان الخوف من اللـه فإنه تعالى يقول {وادعوه خوفا وطمعا}، ويقول {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ويقول {قال رجلان من الذين يخافون أنعم اللـه عليهما} ويقول لنبيه عليه الصلاة والسلام {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}. وقد يكون الخوف من أمر متوقع ومن أمر واقع جار، ومن أمر وقع وانتهى والمخوف حقيقة ما يتوقع من تبعاته. وقد اجتمعت أنواع الخوف تلك في قصة سيدنا موسى عليه السلام، فقد عبر عن الخوف من نتائج أمر وقع وانقضى {ففررت منكم لما خفتكم}، وأوجس خيفة من أمر واقع {قَالَ بَلْ أَلْقُوا۟ ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ، فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِۦ خِيفَةًۭ مُّوسَىٰ}، وخاف من أمر متوقع لم يقع {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}، وكل هذه الصور مآلها إلى الخوف من المتوقع، وليست بقادحة في عصمة وكرامة الأنبياء، فإنها حال نفسية عصم اللـه صاحبها من أن تحمله على ارتكاب المحظور، أو هي – على ما يقول بعض العارفين – محمولة على الخوف من اللـه لا من مخلوقاته، فإن النبي ينظر إلى تلك المخلوقات على أنها جند بيد اللـه ولا يأمن أن يسلطها ربها عليه لأنه يعلم أن اللـه فعال لما يريد فلا يأمن مكر اللـه، وإن سبقت له عدة بالنصر والحفظ. وعلى ذلك يحمل إلحاح النبي صلى اللـه عليه وسلم في الدعاء يوم بدر "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض "... "اللهم نصرك الذي وعدتني" فإن من كمال عبوديتهم للـه أن لا يتكلوا على الوعد، ولا يأمنوا مكر اللـه.
ومن آيات الكتاب التي تدل على أن الخوف والحذر غير متلازمين، حتى وإن كان الأصل في الخوف أن يكون سببا في الحذر، قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}، فإن نبي اللـه أعلن خوفه لكنه لم يأخذ حذره حين ترك إخوة يوسف يذهبون به، ولله في ذلك حكمة تجليها السورة. ولولا ما أوحى اللـه به لأم موسى لكان فعلها به منافيا لمقتضى الخوف عليه { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ} فإن إلقاء طفل رضيع في اليم وإن في تابوت مظنة للهلكة أو الضياع. ومن عجائب شأن الأنبياء أن تكون مظان الهلكة في حقهم عوامل أمن وحفظ، كما حصل مع موسى في اليم وفي بيت فرعون، ومع يوسف في الجب، ومع إبراهيم في النار، ومع يونس في بطن الحوت، ومع سيدنا محمد صلى اللـه عليه وسلم في الغار ويوم زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.
إذن، قد يخاف الإنسان فلا يحتاط، بل قد يتصرف بما يناقض مقتضى الخوف. أما الحاذر ، بله الحذر، فهو من يخاف فيحتاط أو يحتاط لاتقاء الضرر وإن لم يخفه. وقد اجتمع الخوف والحذر في آية من كتاب اللـه تعالى، وذلك في قوله جل من قائل: {أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًۭا}، وجاءت آيات تبين أن الحذر عمل وليس مجرد موقف نفسي.. قال تعالى {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت}، وجعل الأصابع في الآذان لا يقي الموت لكنه إجراء مّا يعبر به صاحبه عن الحذر. وكذلك قال تعالى {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} فخروجهم إجراء عملي وإن لم يُجْدِ نفعا. ويتبين ذلك بشكل أوضح في قوله تعالى على وجه الإخبار { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه}، فإن سجوده وقنوته وقيامه شواهد على حذره، وفي قوله تعالى على سبيل الأمر: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا}، فقد أرشدهم إلى الخطة التي يأخذون بها حذرهم، وكذلك فعل في آية صلاة الخوف فقد قال تعالى: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌۭ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوٓا۟ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا۟ فَلْيَكُونُوا۟ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا۟ فَلْيُصَلُّوا۟ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا۟ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةًۭ وَٰحِدَةًۭ ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًۭى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓا۟ أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا۟ حِذْرَكُمْ ۗ} فقد بينت هذه الآية خطة عمل الحذر المأمور به, وورد أن ابن عباس قال: "الحذرون الممتلئون من السلاح" واحتج بقول الشاعر

لعمر أبي أثالٍ حيثُ أمسى
لقد فَخَرَتْ به أبناءُ بكر
حنيفة ُ في كتائب حاذِراتٍ
يقودهم أبو شبلٍ هِزَبْرِ

فتبين من نص القرآن ومن كلام العرب أن الحذر سلوك عملي، بينما الخوف حالة نفسية لا تقتضي في ذاتها عملا. ومع ذلك، فقد ورد في القرآن قوله تعالى عن المنافقين {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم}، فذكر الحذر هنا دون أن يذكر له قرينة بل القرينة في بقية الآية شاهدة على عكس مقتضى الحذر { قُلِ ٱسْتَهْزِءُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌۭ مَّا تَحْذَرُونَ}، والاستهزاء مناف لمقتضى الحذر، فما وجه التوفيق بين مدلول الحذر في هذه الآية ومدلوله في الآيات الأخرى؟

بحث العلماء في ذلك ووجهوه بما يدفع توهم انفكاك الحذر عن عمل يدل عليه، فذهبوا إلى أن المقصود هنا أنهم يتظاهرون بالحذر (بكتمانهم استهزاءهم وتهامسهم به فيما بينهم }، لا أنهم يحذرون بالفعل، فالحذر في هذه الآية مجاز لا حقيقة. وفيه يقول ابن عاشور: "إِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى التَّظَاهُرِ بِمَدْلُولِهِ مِنْ غَرَائِبِ الْمَجَازِ". ومن قبله، كان الزجاج قد حمل قوله تعالى {يحذر المنافقون} على أنها خبر بمعنى الأمر أي ليحذر. وفي ذلك تأكيد على أنهم لا يتصورون الحذر من غير عمل يدل على أخذ الأسباب لاتقاء الضرر.

واللـه أعلم

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...