توماس مان - دوستويفسكي بإيجاز.. ترجمة: سلمان العواشز

في عام ١٩٤٥م طلبت مطابع ديال من توماس مان أن يكتب مقدمة لمجلد يضم ٦ روايات قصيرة لدوستويفسكي وهي: المقامر، مذكرات من تحت الأرض (في قبوي)، حلم العم، الزوج الأبدي، المثل، وصديق العائلة (قرية ستيپانتشكوڤو وسكانها). وكان عنوان المقدمة (دوستويفسكي – بإيجاز) – ترجمة: سلمان العواشز، مراجعة: إبراهيم الشريف
كان هناك شيء مغرٍ جداً بالنسبة إلي في الدعوة الموجهة من مطابع ديال لكتابة مدخل لطبعة روايات دوستويفسكي القصيرة، الست سرديات المضمنة في هذا المجلد. تقيد الناشر الذي حدد طبيعة هذه الطبعة ساهمت في أن تمنح المعلق راحة البال وفي أن تشجعه في مهمة من شأنه بخلاف ذلك أن يتملص منها، لا نقول يتراجع- مهمة جعل عالم روايات دوستويفسكي الهائل بأكمله موضوع دراسته ونقاشه. بالإضافة إلى ذلك فإن هذا المعلّق قد لا يحظى بفرصة أخرى في حياته ليصوغ تقديره النقدي للروسي العظيم لو لم تتسنَ له هذه الفرصة لفعل ذلك بخفة، إن جاز لنا التعبير، وفي مساحة محدودة، لسبب محدد، ومع درجة من تقييد النفس توافق ما تتطلبه الغاية بتماهي.
من الغريب بما يكفي أن حياتي كمؤلف قادتني إلى أن أكتب دراسات مفصّلة عن تولستوي وكذلك عن جوته-العديد منها لكل واحد منهما. لكني لم أكتب أبداً بشكل رسمي عن تجربتين ثقافيتين أخريين بنفس الوزن اللتان حركنني في شبابي والتان لم أكل من تجديدهما وتكثيفهما في سنوات نضوجي: لم أكتب أبداً عن نيتشه ولا عن دوستويفسكي. تخليتُ عن كتابة مقال نيتشه والذي غالباً ما طالبني به أصدقائي، بالرغم من أنه بدا لي كامناً في دربي. أما “الـوجه العميق، والمجرم، والطاهر لدوستويفسكي” (هكذا كان تصوري في لوقتٍ ما) يظهر فقط عابراً في كتاباتي ليختفي مجدداً بسرعة. لماذا هذا التملص، هذا التهرب، هذا الصمت – بالمقارنة مع البلاغة غير الكافية، بالتأكيد، لكن الحماسية التي ألهمتني إياها عظمة المعلمين والنجمين الآخرين؟ أنا أعرف الإجابة. لقد كان سهلاً عليّ أن أوجّه الإجلال الحميم الجذل، ممزوجاً بسخرية رقيقة، إلى الصور الإلهية والمحظوظة، أبناء الطبيعة في بساطتهم السامية وصحتهم الغزيرة: إلى السيرة الأرستقراطية المنحلة للثقافة الشخصية المهيبة، جوته، وإلى العظمة الملحمية الفطرية، إلى الطبيعة منقطعة النظير، للـ “المؤلف العظيم لجميع الروس”، تولستوي، مع محاولاته الخرقاء التي تفشل دوماً عند روحَنَته الأخلاقية لجسديّته الوثنية. لكنني مملوء بهيبة، بهيبة مفروضة بشكلٍ صامت، عميق، وغامض، في حضرة العظمة الدينية للملعون، في حضرة عبقرية المرض ومرض العبقرية، من النوع الموجود في العليل والممسوس، فيمن يتوحد فيه القديس والمجرم…
في رأيي بأن السماوي هو ثيمة الشاعر لا الكاتب. إنه يجب أن ينطق من أعماق العمل، إن أمكن، في هيئة الدعابة؛ والقيام بتكريس مقالات نقدية حوله يبدو لي، نوعاً ما، على أنه طيش. من المحتمل، بل على الأرجح، هذا ليس إلا امتداداً لكسلي وجبني. إنه أسهل بما لا يقاس وأحسن أن تكتب عن عافية الوثني الإلهي من [أن تكتب] عن المرض المقدس. لربما نستطيع أن نمتع أنفسنا على حساب السابقين، أبناء الطبيعة المحظوظين وسذاجتهم، ولكن لا نستطيع أن نمتّع أنفسنا على حساب أبناء الروح، الخطآة الكبار والملعونون، الذين يعانون من مرض مقدس. أجده من المستحيل تماماً السخرية حول نيتشه أو دوستويفسكي كما فعلت أحياناً في رواية حول الطفل الأناني سعيد الحظ، جوته، وفي مقال حول الفضاضة الهائلة لأخلاقية تولستوي. يرافق ذلك أن تبجيلي لسجناء الجحيم، المتدين والمريض، هو جوهرياً أعمق بكثير-ولذلك فقط أقل صخباً- من تبجيلي لأبناء النور. إنه شيء جيد أن تبجيلي هذا قد تلقى الآن محفزاً خارجياً للإفصاح، وإن كان ذو طبيعة محدودة عملياً ومقيدة.
“المجرم الشاحب”- كلما أقرأ عنوان هذا الفصل في زرادشت، ذاك العمل العبقري المستلهم من الكآبة الذي لا مثيل له، الملامح الكئيبة بشكل مخيف لدوستويفسكي، كما نعرفها من عدة صور جيدة، تتجلى أمامي. بالإضافة إلى ذلك، فإنني أشك أنها كانت في ذهن سكير سيلس ماريا المصاب بالشقيقة عندما كتبه. فقد لعبت أعمال دوستويفسكي دوراً هاماً في حياته؛ كان يذكره بشكلٍ متكرر في رسائله كما في كتبه (بينما لم يقل كلمة أبداً عن تولستوي حسبما علمي)، إنه يدعوه بعالم النفس الأكثر عمقاً في عالم الأدب ويشير إليه في نوع من الحماسة المتواضعة بأنه “معلمه العظيم”- بالرغم من أنه في الواقع بالكاد يوجد ما قد يكون إشارة على تلمذة في علاقته مع أخيه في الروح الشرقي العظيم. كانوا أقرب إلى إخوة في الروح، رفاقاً في المصيبة مشوهين بشكل مأساوي، بالرغم من الاختلاف الجوهري في خلفياتهم وتقاليدهم- من ناحية، البروفيسور الألماني، الذي كانت عبقريته الإبليسية، التي حُفّزها بالمرض، قد تطورت من تربة التعليم الكلاسيكي، المعرفة اللغوية الواسعة، الفلسفة المثالية، والرومانسية الموسيقية؛ وفي الناحية الأخرى، المسيحي البيزنطي، الذي كان حراً من المعوقات الإنسانوية التي قيدت الآخر، والذي يمكن أحياناً أن يعتبر بأنه “المعلم العظيم لأنه ببساطة “لم يكن ألمانياً” (فقد كانت أكثر رغبة متقدة لدى نيتشه هي أن يحرر نفسه من ألمانيته)، ولأنه ظهر بهيئة المحرر من الأخلاق البرجوازية، ولأنه أكّد إرادة الإهانة السيكولوجية، لجريمة الاعتراف الصريح.
يبدو أنه من المستحيل التحدث عن عبقرية دوستويفسكي من دون أن تضطر للتفكير في كلمة “مجرم”. الناقد الروسي البارز ميريزوفسكي Merezhkovsky يستخدمها في دراسات متنوعة عن مؤلف الأخوة كارامازوف، بشكل متكرر وبمعنى مزدوج: يشير في المقام الأول إلى دوستويفسكي نفسه وإلى “الفضول الإجرامي في بصيرته”، وفي المقام الثاني يشير إلى موضوع بصيرته، القلب الإنساني، الذي عرّى فاضحاً دوافعه الأكثر غموضاً والأكثر إجراماً. “القارئ”، يقول هذا الناقد، ” ترعبه سعة معرفته، اختراقه لوعي شخص غريب. نحن نُواجَه بأفكارنا السرية الخاصة بنا، والتي لا نكشفها لصديق، ولا حتى لأنفسنا.” ومع ذلك فنحن فقط كما يبدو نتعامل مع فحص وتشخيص موضوعي وشبه طبي- إنه في الواقع غنائية سيكولوجية في المعنى الأوسع للكلمة، التسليم والاعترافات الرهيبة، الكشف الشنيع للأعماق الإجرامية في وعي المؤلف نفسه- وهذا منبع القوة الأخلاقية الهائلة، والرعب الديني لمعرفة دوستويفسكي بالروح. بالمقارنة مع بروست، ومع الحداثة السيكولوجية، المفاجآت، والتفاصيل المنثورة الغزيرة في أعماله، تكشف فوراً الاختلاف في اللهجة، في النبرة الأخلاقية. الفضول والوقاحة السيكولوجية للفرنسي هي ببساطة ممتعة مقارنة مع الكشف المروع لدوستويفسكي، الرجل الذي كان في الجحيم. هل كان بإمكان بروست إن يكتب الجريمة والعقاب، أعظم رواية بوليسية في كل الأزمنة؟ لم يكن العلم هو ما يعوزه، بل الوعي… بقدر ماجوته معني، وهو سيكولوجي من الدرجة الأولى منذ فرتر حتى الأنساب المختارة، فإن جوته يعلن صراحة أنه لم يسمع بجريمة قط لم يشعر بأنه هو نفسه يستطيع القيام بها. هذه كلمةِ تلميذ لمحاسبة النفس المتزمتة لكن يسودها عنصر البراءة الإغريقية. إنها كلمة هوس بالذات- تحدٍ للأخلاق البرجوازية، بكل تأكيد، لكنها هادئة ومتكبرة بدلاً من أن تكون ممتلئة ا بالندم المسيحي، جسورة بدلاً من أن تكون متعمقة في الوعي المتدين. تولستوي كان نظيره إلى حدٍّ ما، بالرغم من كل الميول المسيحية. “ليس لدي ما أخفيه عن الرجال” اعتاد أن يقول “دعهم جميعاً يعلمون ما أفعل”. قارن هذا مع اعترافات بطل مذكرات من تحت الأرض عندما يتحدث عن فجوره السري. “حتى في ذلك الوقت” يقول” كان لدي حب للتكتم، كنت خائفاً بشكل مروع من أن شخصاً ما قد يراني، يقابلني، يميزني.” حياته، التي لم تكن لتحتمل الصراحة الكاملة والانكشاف التام أمام أعين العالم، كانت محكومة بسر الجحيم.
بلا شك أن الوعي الباطني بل وحتى وعي هذا الخالق الجبار كان مثقل دائماً بإحساس ثقيل بالذنب، إحساس بالجرم، وهذا الإحساس لم يكن على الإطلاق ذو طبيعة وسواس المرض بشكلٍ تام. لقد كان مرتبطاً بعلته، المرض “المقدس”، المرض الغامض قبل كل شيء، الصرع. عانى منه منذ الطفولة، لكن المرض اشتد بشكل مميت بسبب محاكمته عندما حكم عليه ظلماً في سنة ١٨٤٩، عند سن الثامنة والعشرين، بتهمة التآمر السياسي وبالفعل حُكم عليه بالإعدام (لقد كان واقفاً على المنصة مواجهاً الموت عندما، في آخر لحظة، خففت محكوميته إلى ٤ سنوات من الأعمال الشاقة في سيبيريا). لقد كان يعتقد بأن المرض قد يتفاقم عند إنهاك قواه الجسدية والذهنية، مؤدياً به إلى الموت أو الجنون. النوبات كانت تحدث بمعدل مرة كل شهر، بعض الأحيان أكثر تكرراً، أحياناً حتى مرتين في الأسبوع. كان كثيراً ما يصفها: في كل من التخاطب المباشر وفي نقله للداء إلى أحد الشخصيات المفضلة سيكولوجيا في رواياته: إلى الرهيب سميردياكوف، إلى بطل الأبله، الأمير ميشكين، إلى العدمي والقدري كيريلوف في الشياطين. عارضان اثنان، على حسب وصفه، يميزان المرض الساقط [اسم قديم للصرع] إحساس لا يضاهى بالانشراح، بالتنوير الداخلي، بالتناغم، بالنشوة القصوى، يسبق بلحظات الانقباضات التي تبدأ بعجز عن النطق، بصرخة غير بشرية بعد الآن- وحالة الاكتئاب الرهيب والأسى العميق، الخراب الروحي والدمار، الذي تتبعه. هذا التفاعل يبدو لي رمزياً لطبيعة المرض حتى أكثر من الأسى الذي يتبع النوبة. دوستويفسكي يصفه بأنه نشوة قوية وعذبة “لدرجة أن الشخص مستعد ليبادل عشر سنين من حياته أو حتى الحياة نفسها لأجل نعمة هذه الثواني المعدودة”. ولكن ما يلحق ذلك من آثار باقية رهيبة، بحسب اعتراف المريض العظيم، فقد تميزت “بشعور بكونك مجرم”، بثقل شعور غير معروف بالذنب، بعبء جريمة فظيعة.
لا أعلم ماذا يعتقد أخصائيو الأعصاب حول المرض “المقدس”، لكن في اعتقادي أنه بلا شك متجذر في العالم الجنسي، إنه تجسيد وحشي ومتفجر لديناميكية الجنس، فعل مُتحول ومُتغير، خلاعة غامضة. أكرر أنني أعتبر تعاقب حالة الندم والمعاناة، الشعور الغامض بالذنب، على أنه أنه يكشف أكثر حتى من الثواني الآنفة من النعمة التي “الشخص مستعد بأن يبادلها بحياته”. أياً يكن المدى الذي أزعج فيه المرض قوى دوستويفسكي الذهنية، فإنه من القطعي أن عبقريته مرتبطة به بشكل حميمي جداً وملونة بها، وأن بصيرته السيكولوجية، فهمه للجريمة وبما يدعوه سفر الرؤيا “الأعماق الشيطانية”، وفوق كل ذلك قدرته على التلميح بشعور خفي بالذنب وينسجه في خلفية مخلوقاته الرهيبة بشكل متكرر- كل هذه الخصال مرتبطة جوهرياً بالمرض. في ماضي سفيدريكلوف (الجريمة والعقاب)، على سبيل المثال، هنالك “قضية إجرامية عن همجية، لكيلا نقول خيالية، متوحشة، والتي كان بلا شك يمكن أن يُرسل بسببها إلى سيبيريا.” وقد تُركت لمخيلة القارئ الخصبة إلى حدٍّ ما لتخمين ما قد تكونه هذه القضية: في كل الاحتمالات إنها جريمة جنسية، غالباً اغتصاب طفل-لأن هذا هو السر أيضاً في جزء من السر في حياة ستافروجين في الشياطين، ذلك الشخص المتسلط البارد الخبيث والذي تتمرغ في مواجهته المخلوقات الأضعف في التراب، والذي قد يكون من أكثر المخلوقات الجذابة بشكل غريب في عالم الأدب. هناك مقطع غير منشور من هذه الرواية، “اعتراف ستافروجين”، والذي يروي فيه، من بين أشياء أخرى، اغتصاب فتاة صغيرة. بحسب ميريزكوفسكي Merezkhovsky هو مقطع قوي، مليء بواقعية رهيبة تتجاوز حدود الفن. يبدو أن هذه الجريمة المخزية شغلت مخيلة المؤلف الأخلاقية بشكل مستمر. يقال إنه في يوم من الأيام اعترف باقترافه لخطيئة من هذا النوع لزميله الشهير تورجنيف، الذي كرهه وازدراه بسبب تعاطفه نحو أوروبا الغربية – بلا شك كان اعترافاً كاذباً كان فقط يود أن يخيف ويربك به تورجنيف الهادئ، الإنساني، وغير الشيطاني على الإطلاق. في سانت بطرسبرغ عندما كان في الأربعين من عمره وكان قد اكتسب شهرة كمؤلف منزل الأموات، الذي حرك مشاعر حتى القيصر إلى حد البكاء، كان في جلسة عائلة تضمنت عدداً من الفتيات الصغيرات جداً، روى ذات مرة حبكة قصة خطط لها في شبابه، رواية يقوم فيها مالك عقار، رزين وذو مكانة، بالتذكر فجأة بأنه قبل عقدين، بعد ليلة كاملة من جلسة سكر مع رفاق منحلين، قام باغتصاب فتاة في العاشرة من عمرها.
“فيودور ميخايلوفيتش”، صرخت ربة المنزل، رافعة يديها مرعوبة ” أشفق علينا! الأطفال يسمعون!”.
نعم، لابد أنه كان مواطناً استثنائياً، هذا الفيودور ميخايلوفيتش.
سقم نيتشه لم يكن المرض الساقط، مع أنه ليس من الصعب تصور مؤلف زرادشت وضد المسيح كمصاب بالصرع. لقد كان له نفس مصير العديد من الفنانين وبالأخص عدد كبير من الموسيقيين (والذين ينتمي هو إليهم إلى حدٍ ما): لقي حتفه من شلل مستفحل، علة سببها جنسي بكل وضوح، منذ أن ميزته العلوم الطبية منذ زمن بعيد أنه نتيجة لعدوى الزهري. بالنظر إليه من زاوية الطب الطبيعي-وجهة نظر محدودة بكل تأكيد- فإن تطور نيتشه الذهني ليس إلا التاريخ المرضي لشلل متدهور ومنتكس- ذلك بأنه قد كان يُدفع به من ناحية عالية موهوبة من السواء إلى ناحية عوالم بشعة وباردة لتبصّر مميت وانعزال أخلاقي، ودرجة رهيبة وإجرامية من المعرفة لم يولد لها رجل مرهف وطيب القلب، كما كان حاله، وفي حاجة للتسامح والغفران، وإنما، مثل هاملت، كان قد دُعي إليها.
“مجرم“: أكرر الكلمة لكي أوكد العلاقة السيكولوجية لحالتي نيتشه ودستويفسكي. ليس بالصدفة المحضة أن السابق كان منجذباً إلى اللاحق إلى حد أن يدعوه “معلمه العظيم”. الإفراط مشترك بينهما الاثنين، الانطلاق المخمور للبصيرة، مقترناً مع الديني، أي الأخلاقية الشيطانية التي كانت تُدعى في حالة نيتشه بمضاد الأخلاقية. من المحتمل أن نيتشه لم يعرف شعور المصاب بالصرع بالذنب الذي تكلمت عنه سابقاً. لكن واقع أن مفهومه الشخصي للحياة جعله متآلفاً مع ذلك الذي لدى المجرم هو موثق عبر أحد أقواله المأثورة، الذي لا أستطيع أن أجده في هذه اللحظة لكن أتذكره بوضوح. فيه يقول إن كل الانعزال الفكري والانسلاخ عن المعيار الحضاري، كل الاستقلال والقساوة الذهنية، مرتبطة بأسلوب حياة المجرم وتوفر بصيرة مجرِّبة فيها. يبدو لي بأننا نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك ونقول بأن كل أصالة مبدعة، كل براعة فنية بالمعنى الأوسع للكلمة، تفعل ذلك بالضبط. الرسام والنحات الفرنسي ديغاس علق مرةً بأن الفنان يجب أن يضع نفسه في نفس الحالة العقلية التي يقوم المجرم فيها بارتكاب جريمة.
“الظروف الاستثنائية تصنع الفنان” نيتشه بنفسه قال: “كل الظروف مرتبطة جوهرياً ومتشابكة مع ظاهرة مرضية؛ يبدو أنه من المستحيل أن تكون فناناً ولا تكون مريضاً.” المفكر الألماني في الأغلب لم يكن يعرف طبيعة مرضه، ولكنه كان يعي بأنه مدين له، ورسائله وأعماله المنشورة مليئة بالمدائح البطولية للمرض كوسيلة إلى المعرفة. من الأعراض المعتادة للشلل، من المحتمل بسبب احتقان الدم في الأجزاء المتأثرة من الدماغ، هو موجة الإحساس المخدر بالنعمة والقوة وتوسع حقيقي – وإن كان طبياً يعتبر مرضياً بالطبع – لسعة الانتاج. قبل أن يغيّم عقل ضحيته ويقتله، يمنحه المرض وهم (في سياق أخلاقيات عاقلة) تجارب القوة والبراعة السيادية، التنوّر والإلهام السعيد، بحيث يكون منبهراً بنفسه وتغمره قناعة بأنه لم يكن هناك شخص مثله منذ ألف سنة، ويعتبر نفسه ناطقاً باسم الإله، ناقلاً للبركة، إلهاً في حد ذاته. لدينا مواصفات لابتلاء مبتهج مماثل وإلهام غامر في رسائل هوغو ولف، الذي في حالته كانت متبوعة بفترات فراغ فكري وعقم فني. لكن النص الأكثر عظمة بسبب التنوّر الشللي، تحفة أسلوبية، موجود في كتاب نيتشه هذا هو الإنسان، في المقطع الثالث من الفصل حول زرادشت. “هل يوجد أحد” يسأل” في نهاية القرن التاسع العشر لديه فكرة عما كان يدعوه شعراء الحقب العظيمة بالإلهام؟ إن لم يكن يوجد، فسأصفه لكم.” من الواضح أنه يعتبر تجربته كشيء موروث، شيء متقادم بشكل شيطاني، شيء ينتمي لآخر، أكثر “قوة”، حالة أكثر ألوهية للبشر، شيء أجنبي عن القدرات الروحانية لعصرنا العقلاني الباهت. مع إدراك أن يصفه في الحقيقة – لكن ما هي الحقيقية: التجربة أم العلاج؟ – هو حالة مرضية من التهيّج التي تتبع بطريقة مثيرة للسخرية الانهيار الشللي.
من المحتمل أن مفهومه عن “العود الأبدي” الذي يعلق عليه الكثير هو نتيجة للابتهاجية، غير متحكم به بالعقل، وبقية ذكرى بدلاً عن خاصية فكرية. ميريزكوفسكي Merezkhovsky أشار قبل زمن طويل إلى أن فكرة “السوبرمان” [الرجل الخارق] تظهر عند دوستويفسكي، في خطابات الآنف المصاب بالصرع، كيريلوف، في الشياطين. عرّاف دوستويفسكي العدمي يقول: “سيكون هناك إنسان جديد وكل شيء سيكون جديداً. التاريخ سوف يُقسم إلى قسمين: من الغوريلا إلى إبادة الرب، ومن إبادة الرب إلى التحول المادي للأرض والإنسان”- بكلمات أخرى، إلى ظهور الإله-الإنسان، السوبرمان. لكن لا أحد فيما يبدو لاحظ بأن فكرة العود الأبدي موجودة أيضاً في الأخوة كارامازوف، في حوار إيفان مع الشيطان. “لكن أرضنا الحالية قد كررت نفسها، ربما مليارات المرات؛ ولربما تصبح هرمة، تحولت إلى ثلج، انكسرت إلى اثنين، تداعت، حللت نفسها إلى عناصرها، مرة أخرى كان هناك ماء “فوق السماء”، ثم المذنب، بعد ذلك الشمس، وأخيراً، من خلال الشمس، أتت الأرض-هذه العملية لربما كررت نفسها مرات لا يمكن عدها وفي كل مرة بنفس الأسلوب حتى أدق التفاصيل… أليس ذلك أكثر السأم بذاءةً بشكلٍ لا يمكن وصفه!
عبر فم الشيطان يصف دوستويفسكي بـ “السأم البذيء” ما يبجله نيتشه بتوكيد ديونيسي، مضيفاً “فأنا أحبك، أيتها الأبدية!” لكن الفكرة هي نفسها، وفي حين أني أعتقد أن السوبرمان هي حالة من المصادفة المبنية على أخوة فكرية، فانا أميل إلى اعتبار “العود الأبدي” نتيجة للقراءة، هي ذكرى عن دوستويفسكي، من الوعي الباطن، مختلطة بالابتهاجية.
أنا مُدرك بأنني لربما أرتكب خطئاً في التراتب الزمني؛ إنها مسألة لمؤرخي الأدب ليفحصوها. الشيء المهم لي هو توازٍ معين في تفكير هذين المريضين العظيمين وعندئذ، بالإضافة إلى ذلك، ظاهرة المرض في هيئة العظمة أو العظمة في هيئة المرض- إنها مسألة وجهة نظر خالصة في تقييم المرض: بصفته تناقصٌ لشدة الحياة. اعتبار المرض عظمةً واعتبار العظمة مرضاً، فإن وجهة النظر الطبية الخالصة تصبح متحذلقة وغير كافية، وعلى أقل تقدير متحيزة للطبيعة: الشيء لديه جانب فكري وثقافي، مرتبط بالحياة نفسها وبتحسنها ونموها، جانب لا عالم الأحياء ولا الطبيب يفهمه تماماً. دعنا نصيغ ذلك في كلمات: نوع من الإنسانية ينضج، أو يُعاد بناؤه من الماضي المنسي، والذي يأخذ مفهومي الحياة والصحة من بين يدي علم الأحياء، حيث كان الحق الحصري لهذين المفهومين قد نيط بهن، ويمضي لتطبيقهما بمنهجية أكثر حريةً، أكثر تورعاً، وبكل تأكيد أكثر صدقاً. فالإنسان ليس فقط مخلوقاً أحيائياً.
المرض.. قبل كل شيء هو سؤال من هو المريض، من هو المجنون، من هو المصاب بالصرع أو المشلول: الأحمق المعتاد، الذي مرضه، بالطبع، يفتقر لكل النواحي الفكرية والثقافية – أو النيتشه، الدوستويفسكي. المرض في حالاتهم يحوي ثمراً أكثر أهمية وأكثر نفعاً للحياة ولتطورها أكثر من أي حالة عادية مثبتة طبياً. الحقيقة أن الحياة لم تكن تستطيع يوماً الاستغناء عن المرض، وغالباً ليس هناك قول مأثور أكثر تفاهة من ذلك الذي يقول “فقط المرض هو ما يمكن أن يأتي من المريض”. الحياة ليست متحفظة، وغالباً من الآمن القول بأن الحياة تفضّل المرض المبدع الذي يمنح العبقرية آلاف المرات على الصحة العادية، تفضل المرض، الذي يتجاوز العقبات بفخر على ظهر حصان، يقفز بجرأة من قمة إلى قمة، على المشية المتكاسلة لتمام الصحة. الحياة ليست متحفظة ولا تفكر أبداً بإجراء تفريق أخلاقي بين العافية والمرض. إنها تستولي على النتاج الضخم للمرض، تستهلكه وتهضمه، وحالما يُستوعب فإنه يصبح صحةً. حشد بأكمله، جيل من الشباب متفتحي العقول الأصحاء ينقضون على عمل العبقرية المريضة، المصقول بالمرض، يعجبون به ويمدحونه، يرفعونه حتى السماوات، يخلدونه، يحولونه، ثم يمنحونه إلى الحضارة، والتي لا تعيش فقط على خبز الصحة المطبوخ منزلياً. جميعهم يُقْسِمون باسم المريض العظيم، الذي بفضل جنونه لم يعودوا بحاجة إلى أن يكونوا مجانين. تمام صحتهم تتغذى على جنونه وفيهم سوف يصبح معافى.
بعبارات أخرى، بعض غايات الروح والفكر مستحيلة من دون المرض، من دون الجنون، من دون الجريمة الروحية، والمرضى العظماء هم الضحايا المصلوبون، مُضحى بهم للإنسانية ولتقدمها، من أجل توسيع مشاعرها ومعارفها – بالمختصر، لزيادة تسامي صحتها. هذا هو السبب للهالة الدينية التي تحيط بوضوح بحيوات هؤلاء الرجال وتؤثر بعمق في وعيهم الذاتي. وهذا أيضاً سبب المشاعر الداخلية التي لدى هؤلاء الضحايا بالقوة والإنجاز وحياة مكثفة بشكل واسع بالرغم من كل العناء، مشاعر بانتصار يمكن اعتباره وهماً فقط في المنطق الطبي المبتذل: اتحاد المرض والقوة في طبيعتهم مما يسخر من الارتباط المعتاد للمرض والضعف وبمفارقته يساهم في المسحة الدينية لوجودهما. يجبروننا على إعادة تقييم مفهوم “المرض” و”الصحة”، علاقة المرض والحياة، يعلموننا بأن نكون حذرين في مقاربتنا لفكرة “المرض”، فنحن لدينا قابلية كبيرة دائماً لأن نعطيه توصيفاً حيوياً سالباً. نيتشه يذكر هذه النقطة بالذات في ملاحظة نُشرت بعد موته في كتابه إرادة القوة. “الصحة والقوة” يقول “كن حذراً! المعيار يجب دائماً أن يكون ازدهار الجسد، المرونة، الشجاعة، ومرح الروح – لكن طبيعياً أيضاً كم من السقم يستطيع امتصاصه والتغلب عليه – بكلمات أخرى، يجعله صحياً”. (الحروف المائلة لنيتشه) “الذي يدمر رجالاً ناعمين أكثر هو محفز لصحة أعظم“.
نيتشه يعتبر نفسه كشخص عاقل في أسمى حالاته، شخص حُفّز بالمرض. لكن إن كانت في حالته علاقة المرض والقوة هي بالشكل الذي يجعل الإحساس الأكبر بالقوة وإقرارها الإنتاجي يبدوان وكأنهما نتيجة للمرض (الكامن في طبيعة الشلل)، فنحن مجبورون تقريباً في حالة دوستويفسكي المنصرع على أن نعتبر مرضه نتيجة لقوة غزيرة خارقة، انفجار، إفراط في الصحة الهائلة، ونحن مواجَهون بالواقع المقنع بأن الحيوية الأعظم تستطيع في بعض الأوقات أن ترتدي قناع المرض الشاحب.
من وجهة النظر البيولوجية فحياة هذا الرجل هي الأكثر تحييراً: حزمة مرتعشة من الأعصاب، عرضة لانقباضات بطرفة عين “حساس جداً كما لو أنه قد سُلخ ومجرد الاحتكاك بالهواء كان مؤلماً “(مقتبسة من مذكرات من تحت الأرض)، وبالرغم من ذلك فقد عاش لستين عاماً كاملاً (١٨٢١-١٨٨١)، وفي عقوده الأربعة المنتجة بنى إنجازاً حياتياً مذهلاً من تجديد وجرأة لم يسمع بمثلهما من قبل، ثروة كاسحة من المشاعر والرؤى- عمل ليس فقط يوسع معرفتنا للإنسان عبر اضطراب بصيرته “الإجرامية” واعترافه، لكن أيضاً يحوي كمية مفاجئة من الفكاهة الشقية، الكوميديا المدهشة، و”مرح الروح”. فكما سيكتشف القارئ قريباً في الطبعة الحاضرة، من ضمن أشياء أخرى، فهذا الرجل المصلوب قد كان أيضاً فكاهياً عظيماً حقاً.
لو أن دوستويفسكي لم يكتب شيئاً آخر باستثناء الست روايات القصيرة الموجودة هنا، لكان اسمه ما يزال بلا شك يستحق مكاناً بارزاً في تاريخ السرد الأدبي في العالم. في الواقع إنها لا تشكل عُشر كتاباته المنشورة فعلياً، وأصدقائه، الذين كانت لهم دراية بالقصة الداخلية وراء عمله، أكدوا لنا أن كل الروايات التي حملها فيودور ميخائيلوفيتش في داخله في شكلها النهائي، إن جاز لنا التعبير، وتلك التي سردها بحماس وبالتفصيل، لم يوضع عُشرها على الورق أبداً. يقولون إنه لم يحتج فعلياً لأي وقت على الإطلاق ليُفصِّل هذه المخطوطات غير المحدودة. ومن ثم يُتوقع منا أن نصدق أن المرض يمثل إفقاراً للحياة!
النصب الملحمية التي أقامها-الجريمة والعقاب، الأبله، الشياطين، الإخوة كارامازوف (وهي بالمناسبة ليست ملاحماً على الإطلاق لكن دراميات ضخمة، مركبة سيناريوياً غالباً، حيث الحدث المثير للروح، الذي غالباً ما يحشر في أيامٍ معدودة، تُفك حبكته في حوار بالغ الواقعية ومحموم)- لم تؤلف تحت وطأة المرض وحسب ولكن أيضاً تحت ضربات الديون والمشاكل المالية المخزية التي أجبرته على العمل بمعدل سرعة غير طبيعي، يخبرنا هو أنه، من أجل أن يلحق بموعد نهائي، كتب ذات مرة ثلاث ملازم ونصف – ست وخمسون صفحة – في يومين وليلتين. في بلاد أجنبية، في بادين-بادين Baden-Baden وفايسبادين Wiesbaden، حيث كان عليه أن يهرب من دائنيه، حاول إصلاح فقره بالمقامرة، لكي ينتهي به المطاف في أغلب الحالات ليكمل خرابه. ثم كان يكتب رسائل توسل والتي يتكلم فيها بلغة البؤس التي كانت لدى أكثر شخصيات رواياته فساداً، لدى ميرميلادوف على سبيل المثال. شغفه بالمقامرة كان مرضه الثاني، من المحتمل أنه كان مرتبطاً بالأول، رغبة غير طبيعية بحق. ندين له بالرواية المدهشة المقامر، الذي يذهب إلى منتجع ألماني، المسمى روليتينبيرغ Roulettenburg بطريقة غير قابلة للتصديق ومنحرفة [نسبة إلى لعبة الروليت من ألعاب القمار]، في هذه الرواية تكشفت سيكولوجية الشغف المَرَضي وشيطان الصدفة بدقة منقطعة النظير.
هذه التحفة كانت قد كتبت في ١٨٧٦، بين الجريمة والعقاب (١٨٦٦) والأبله (١٨٦٨-١٨٦٩)، ومع كل عظمتها فإنها تمثل إعادة إنتاج محضة. إنها الأخيرة بين القصص في هذا المجلد، لأن الأخريات أُنتجت بين ١٨٤٦ و١٨٦٤. أقدم واحدة هي الشبيه، قرسطوية مرَضية، والتي ظهرت في نفس السنة مع الرواية الأولى العظيمة لدوستويفسكي، الفقراء (١٨٤٦)، وكانت مخيبة للآمال بعد التأثير العميق الذي صنعته الأخيرة في روسيا-فالأغلب لذلك ما يبرره، فبالرغم من التفاصيل العبقرية للسرد، فأن المؤلف الشاب كان في الأغلب مخطئاً في الاعتقاد بأنه تغلب على جوجول، بالرغم من أن الشبيه كانت قد تأثرت به بقوة. وهو بالطبع لم يتجاوز وليام ويلسون لإدغار الآن بو، حيث نفس الفكرة الرومانسية الرئيسية تعالج بأسلوب أخلاقي أكثر عمقاً، يُذيب الإكلينيكي في الشعري.
ومع ذلك، فإن طبعتنا هذه تتضمن عدداً من الروائع “المعاد إنتاجها” أو لربما الاستعدادات لكي تتبعها التحف. الزوج الأبدي مؤرخة منذ ١٨٤٨، قبل زمن محاكمة ونفي دوستويفسكي إلى أومسك Omsk في سيبيريا، وشخصيتها المحورية هي الديوث المضحك بشكل محرج، الذي من مصائبه الخبيثة تُصنع النتائج الأكثر غرابة. ثم تتبع ذلك فترة الحبس مع الأعمال الشاقة، التجربة الرهيبة للكاتورقا [نظام الأعمال الشاقة الجزائي في الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي حيث يُرسل السجناء للعمل في المستعمرات]، والتي ستوصف بشكل مؤثر لاحقاً في سانت بطرسبرغ في مذكرات من منزل الأموات، الحكاية التي هزت كل روسيا حتى البكاء. لكن الاستئناف الفعلي لنشاط دوستويفسكي الأدبي حدث في سيبيريا مع كتابة “صديق العائلة” (١٨٥٩)، وتدعى أيضاً “قرية ستيبانتشيكوفو“، والتي استحقت أن تشتهر بسبب الشخصية منقطعة النظير للمستبد المنافق فوما أوبسكين، إبداع هزلي من الدرجة الأولى، لا يقاوم، وينافس شكسبير وموليير. بعد هذا الإبداع العالي “حلم العم“، التي تبعتها مباشرة، يجب اعتبارها صراحة خطوة للوراء. إنها، إن سمح لي بأن أحكم عليها، أطول مما يجب بالنسبة لمحتواها، وهو مهزلة، كانت خاتمتها مأساوية، حول قصة المعلم الشاب المصاب بالسل، قد مُلئت بعاطفية لا تُحتمل مستمدة من التأثير المبكر لتشارلز ديكنز على أعمال دوستويفسكي. للتعويض عن ذلك، على أي حال، نجد في حلم العم، الجميلة زينائيد آفاناسيفنا، نوع الفتاة الروسية الفخورة، التي تستمتع بالحب الواضح والملّمح بقوة لمؤلف نجد أن تعاطفه المسيحي مكرس بانتظام للبؤس الإنساني، الخطيئة، السيئة، أعماق الرغبة والجريمة، بدلاً من نبالة الجسد والروح.
القطعة الرئيسية في مقتطفاتنا، مذكرات من تحت الأرض، التي كتبت في ١٨٦٤، هي مثال يبعث على الدهشة والرعب لهذا التعاطف ولهذه البصيرة المفزعة. إنها بمحتواها تكون أقرب إلى نتاج دوستويفسكي العظيم والذي يميزه كلياً. إنها بصفة عامة تعتبر منعطفاً في نشاط الشاعر، بصفتها يقظة نحو وعيه بذاته. اليوم، والعواقب المؤلمة والحقودة، والصراحة المتطرفة لهذه الرواية، التي تجاوزت بلا رحمة كل الحدود التجديدية والأدبية، قد أصبحت منذ زمن بعيد جزءاً من ثقافتنا الأخلاقية، اليوم نستطيع بشق الأنفس تصور الإحساس الصارخ الذي لا بد أن خلقته هذه الرواية لدى وقت ظهورها- الاحتجاج على جانب الجمالية “المثالية” وموافقة متحمسة على جانب الحب التعصبي للحقيقة. تحدثت عن انعدام الرحمة – دوستويفسكي أو الراوي البطل أو اللا بطل أو ضد البطل يتجنب تلك التهمة بالرواية التي لا يكتبها للعامة، ليست النشر، ليست حتى لقارئ، ولكن حصرياً وبتكتم لنفسه هو وحده. تسلسل أفكاره هو كما يلي: “في ذاكرة كل إنسان هناك أشياء لا يكشفها للجميع، فقط لأصدقائه. هناك أيضاً أشياء لا يكشفها لأصدقائه، ولكن في أقصى الحالات لنفسه فقط وفقط مع التزام السرية. وأخيراً هناك أشياء يخشى الإنسان أن يكشفها حتى لنفسه، وكل شخص محترم يختزن كمية كافية من الأشياء المماثلة. في الحقيقة، تستطيع أن تقول كلما ازداد الرجل احتراماً، كلما تزايد عدد هذه الأشياء التي يحملها معه. أنا نفسي على كل حال قررت مؤخراً فقط بأن أستعيد بعضاً من ذكرياتي السابقة، التي كنت حتى الآن أتجنبها دائماً، حتى مع انزعاج معين…”
من ثم فهذه “الرواية” تحتوي على سجل فاضح مخزي من هذه “التجارب السابقة”، يمزج المقزز والجذاب في أسلوب لم يسمع به من قبل. المؤلف، أو الشخص الذي يجعله المؤلف، يقوم بتجربة. “هل هو ممكن”، يستفسر “أن تكون صريحاً تماماً على الأقل مع نفسك، وأن تقول الحقيقة من دون تحفظ؟” هو يفكر في هينة، الذي صاغ تلك المقولة بأن السير الذاتية الصادقة تماماً تقع بعد المستحيل مباشرة، وأن الكل يروون دائماً الأكاذيب عن أنفسهم، مثل روسو، الذي قذف سمعته بسبب الغرور الخالص. يتفق المؤلف، لكن، كما يقول، الفرق بين روسو وبينه هو أن السابق جعل اعترافه للعامة، بينما يكتب هو لنفسه وحده. وهو يعلن بصرامة، أنه إن ظهر وكأنه يخاطب قارئاً، فإن هذا مجرد تظاهر، حيث أنه وجد أنه من الأسهل أن يكتب بذلك الشكل. إنها قضية شكلية بحتة، كما يقول.
طبعاً، كل ذلك ليس حقيقياً على الإطلاق، فدوستويفسكي كان حتماً يكتب للعامة وللنشر ولأكثر عدد ممكن من القراء، حتى لو كان السبب فقط أنه يحتاج للمال بشدة. الخيال الخلاق والذي يكاد يكون فكِهاً عن الوحدة والابتعاد عن الأدب مفيد جداً كعذر للكلبية المتطرفة للاعتراف الصريح. لكن الخيال الأدبي داخل الخيال الأدبي، و”مظهر” تقديم نفسه إلى قارئ، الانتقاد المستمر “لسادة” محددين يتجادل معهم المتحدث، ذلك أيضاً ذو فائدة، لأنه يجلب عنصر الاستطراد، الديالكتيك، الدرامية داخل السرد، عنصر يشعر دوستويفسكي بالراحة معه حتماً والذي يجعل حتى أكثر الأشياء جدية، الأكثر شراً، الأكثر وضاعةً ممتعة إلى أقصى حد.
أعترف بأني أفضّل الجزء الأول من مذكرات من تحت الأرض أكثر من الجزء الثاني، قصة العاهرة ليزا المثيرة والمخزية. أقر بأن الجزء الأول لا يحتوي على أفعال لكن كلام، كلام يتشابه في كثير من النواحي الانشقاق الفاسد لبعض الشخصيات الدينية في روايات دوستويفسكي العظيمة. من المقرر به أيضاً بأنه كلام خطير بأقوى معنى للكلمة، من المرجح بشكل خطير أن يربك العقول الساذجة، لأنه يضخم الشك في مواجهة الإيمان، ولأنه يهاجم بهرطقة الحضارة والديموقراطية والإنسانيين والمتفائلين الذين يؤمنون بأن الإنسان يسعى للسعادة والتقدم بينما هو في الواقع يتعطش بالمثل للمعاناة، المصدر الوحيد للمعرفة، وأنه لا يريد حقاً القصر الكريستالي وبيت نمل الاكتمال الاجتماعي، وأنه لن يتخلى أبداً عن ميله للتدمير والفوضى. كل ذلك يبدو شراً رجعياً وقد يقلق العقول ذات النية الحسنة التي تؤمن أن أكثر شيء مهم اليوم هو سد الفجوة الواسعة بين الوعي الفكري والواقع الاجتماعي والاقتصادي المتخلف بشكلٍ فاضح. إنه الشيء الأكثر أهمية- ولكن هذه الهرطقات هي الحقيقة: الجانب المظلم للحقيقة، بعيداً عن الشمس، والتي لا يجرؤ أحد من المهتمين بالحقيقة على أن يهملها، الحقيقة الكاملة، الحقيقة حول الإنسان. المفارقات المعذِّبة التي يقذفها “بطل” دوستويفسكي على خصومه الإيجابيين، ضد-الإنسان كما قد تبدو، تقال باسم وبسبب محبة الإنسانية: نيابة عن إنسانية جديدة، أعمق، وغير متكلفة والتي مرت عبر كل عذابات المعاناة والإدراك.
وكما هو حال هذه الطبعة لدوستويفسكي مقارنةً مع أعماله الكاملة، وكما هو حال أعماله المنشورة مقارنة مع ذلك الذي كان يستطيع وربما كان سوف ينتجه لو أن حدود الحياة البشرية لم تمنعه – فكذلك هو حال الأشياء التي قلتها هنا عن الروسي الجبار مقارنة مع ما يمكن قوله عنه. دوستويفسكي باعتدال، دوستويفسكي في حدود المعقول، كان هذا المعيار. عندما أخبرت صديقي عن نيتي لتقديم مدخل لهذا المجلد قال ضاحكاً: “كن حذراً! سوف تؤلف عنه كتاباً.”
كنتُ حذراً.

توماس مان، باسيفيك باليداس، كاليفورنيا، يوليو، ١٩٤٥


* عن حكمة - لكل فائدة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...