1 - أدب للرجل وأدب للمرأة:
يرى الناظر في كتب الأدب وتاريخه أن الكتاب اصطلحوا على تقسيمات وأنواع للأدب نحتوها من عصور الأدب أو من خصائصه بالقدر الذي يتعلق بعرضه لا بجوهره، فقال الأقدمون منهم مثلا وجود أدب جاهلي وأدب مخضرم وأدب إسلامي، وفصلوا الأخير منه بحسب ما حكم الأمة العربية أو بحسب ما تنقلت إليه الحكومات العربية من حواضر وبلدان، فوسموا بعضه بالأدب الأندلسي، وسموا بعضه بالأدب العباسي، وغير ذلك من التسميات التي استندت في الأكثر على هذه الاعتبارات التاريخية والجغرافية المحض. وأشاح المحدثون عن مثل هذه الاعتبارات لأن الفنون الأدبية تصاع إلى العوامل التاريخية بقدر ما تؤثر تلك الاعتبارات في مباني الألفاظ واتجاه التراكيب اللفظية وإيغالها في البداوة أو قربها من الحضارة مما يجعل فنونها في الأولى متعددة الألوان والأوصاف لا يخرجها عن الرثاء والمديح والعتاب والوصف والموشحات والغزل والتشبيب إلا بالقدر الذي عرف في تلك الفترة من مدلولات الألفاظ وتحكم العادات فيها. . . أعنى لا يخرجها عن القيود التاريخية كبير فرق، بينما تنعكس الحالة انعكاساً كبيراً في ضوء الأدب نفسه، فيتفرع عن هذا ألوان جديدة هي غير الرثاء والمديح والوصف والموشحات والغزل والتشبيب. . . فهي على هذا ليست موضوعات وإنما هي فصول وأبواب وأجزاء ومباحث تدخل فيها تلكم الموضوعات دخولا ثانوياً لا أقل ولا أكثر. فمن ذلك أن ينقسم الأدب غير انقسامه الأول إلى أدب واقعي ومثالي ورمزي أو إلى أدب صوفي ومكشوف أو إلى أدب مأس ملهاة والى أدب تحليلي أو وجداني أو مسرحي، أو إلى أدب إبداع وأدب اتباع والى أدب فلسفي وقصصي، وأدب تبشير وأدب سياسة وكثير من غيرها مما يكبر عن التقسيم الأول ويطول عليه بسبب إن ذلك التقسيم صادر على سبيل الحصر وهذا صادر على سبيل الإطلاق.
وكما إن لذلك التقسيم أنصارا ومنتقدين فإن لهذا أنصارا ومنتقدين؛ وكما أن ذلك التقسيم على شدة وضوحه وتعين حدوده موضع لبعض الانتقاد ما دام يستمد فوارقه وضوابطه عن طريق التبعيض والتكتيل. . . فهو لا قبل له بما يضطلع به التقسيم الأساسي الذي يحتوي في بطونه وثناياه ألوان الأدب وأفاعيل الزمان وأشتات الموضوعات وأصناف الأبواب السالفة الذكر، ومن أجل ذلك أضحى لزاما أن يبدأ التقسيم هذا من مبدأ الأمر ليدخل في كل قسم سائر ما في هذه المقدمة وغيرها من التفاصيل، وعلى أن يكون التقسيم من الناحية الثانية معترفاً به دون جدال فما هو يا ترى؟ اهو الأدب الحزين والأدب المرح؟ أهو الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي؟ الجواب على هذه جمعياً (كلا) بل هو - أدب المرأة وأدب الرجل - وفي اللحظة التي نقرر فيها هذا التقسيم نرى انه استوعب تقسيم الأوائل والأواخر بدون استثناء، كما انه احتوى مادة لا تنضب من عصارة الأدب، فاحتوى خصائص ينفرد بها أحد النوعين، واحتوى بالإضافة إليها ما يسود النوعين على حد سواء، فينصرف تارة إلى ما يتعلق بتراث المراة، وينصرف أخرى لتراث الرجل.
وبعد فلئن صح الأدوار التاريخية من جاهلية وإسلامية، وأدوار الحكم الإسلامي من أموي وعباسي وأندلسي، قد فرقت أنواع الأدب بعضها عن بعض، فإن تلك الأدوار ذاتها قد أثرت تأثيرات متفاوتة في الرجل والمرأة، فجاء أدبهما جد مختلف ولو في دور واحد لفرط ما أثرت عوامل الدور الواحد في كل جنس دون صاحبه، فجاء أدب المرأة منذ اقدم عصوره اصدق أنباء واكثر انطباقاً على الواقع، وتكفل أدبها بإسباغ الألوان الحسان والدقة البالغة والجمال الرفيع على أدب الرجل، وأضحى بعد ذلك يحمل راية الآباء والأنفة والشمم. وجاء أدب المرأة يشد من أدب الرجل ليجعل منه اكثر موافقة ومسايرة للزمن، وليهب نشاطه الفكري والاجتماعي، ويأخذ من الصراحة بنصيب، ومن التلميح بنصيب، مما قد لا يدركه الرجل على وجهه بعد أن أثملته الفتوح وبهرت عينيه ثروات الزمان في قبضة يده يصرفها كيف أراد. وجاء أدب المرأة للعقل، وأدب الرجل للعاطفة، عندما تطيش الحلوم، وتراش السهام، ويدبر المنطق وتقبل بدوات الثأر، وتغرورق العيون من رثاء أو عتاب أو ثكل، فيعمل الرجل بعاطفته ويفكر بقلبه، وتسكت هي بفكرها وتتكلم بعقلها فتتم نقصه وتضفي على أدبه اللون القوى العتيد الذي يعوزه. وجاء أدب المرأة بعد هذا لحسن حظها فاقداً بعض الحلقات الموفورة في أدب الرجل، فليس فيه التعريض ولا رمى المحصنات الغافلات، ولم يحو التشكك ولا التجني ولا الوسواس، ولو حوى بعضها جدلا لما كانت من العمق والغور والإثم بالقدر الذي احتواه نتاجه. وجاء أدب المرأة كذلك منحدراً عن أساتيذ لم يعرفهم الرجل، فقد انحدار بعضه عن تعدد الزوجات وأحاسيسها، والطلاق وظله الثقيل، والحجاب غير الشرعي، والجهل والأمية المفروضة، وزحمة المسترخصات من الجواري والقيان المزاحمات للبيت الشريف والزوجية المقدسة، والعضل.
وجاء أدب المرأة متجهاً غير اتجاه أدب الرجل ومتأثراً بهذا العصر وفنونه وعلومه وخصائصه تأثراً غير تأثره، وهذه كلها أبحاث سنقوم على شرحها والتمثيل عليها وإثباتها في حلقات هذه السلسة حتى تستقيم منها دراسة لموضوعنا قائمة على أسس غير ما تعارفه بحاث الأدب حتى الآن.
هذه الفروق التي ذكرتها تتوفر في كل فن من فنون الشعر ولكنها أول ما تتوفر في الوصف؛ فانظروا كيف تكون.
قال الشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعري في صباه:
عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس بفان
إن تناسيتما وداد أناس ... فاجعلاني من بعض من تذكران
رب ليل كأنه الصبح في الحس ... ن وإن كان أسود الطيلسان
ويقول فيها وهو من رائع القول:
ليلتي هذه عروس من الز ... نج عليها قلائد من جمان
وكأن الهلال يهوى الثريا ... فهما للوداع معتنقان
? ثم شاب الدجى وخاف من الهج_ر فغطى المشيب بالزعفران
هذا من وحي الصبا؛ وأروع منه عندي قول جحناء بنت نصيب وقد افتر الضحى عن نهار بسام وجاءت مع أبيها نصيب فأنشدت المهدى الخليفة العباسي هذا الوصف على قافية شاعر الفلاسفة ووزنه وقصيدته ومعناها:
? رب عيش ولذة ونعيم=وبهاء بمشرق الميدان
? بسط الله فيه أبهى بساط=من بهار وزاهر الجوزان
ثم فيه من ناضر العشب الأخضر وتزهو شقائق النعمان
? مده الله بالتحاسين حتى=قصرت دون طوله العينان
? حلفت حافتاه حيث تناهى=بخيام في العين كالظيلمان
? زينوا وسطها بطارمة مث_ل الثريا يحفها النسران
? ثم حشو الخيام بيض كأمثا_ل المها في صرائم الكثبان
? يتجاوين في غناء شجي= (أسعداني يا نخلتي حلوان)
? فبقصر السلام من سلم الله=وأبقى خليفة الرحمن
? ولديه الغزلان بل هي أبهى=عنده من شوارد الغزلان
? يا له منظراً ويوم سرور=شهدت لذتيه كل حصان
أحاط المعري ما وصف بتعقيد، وأشاح عما يصف إلى ما يصوغ به الوصف، وجاءت هذه الشاعرة بالقول سافراً، ووضعت فيه تفاصيل البناء، واقتبست غناء المغنيات، ودعت للخليفة، ولم يفتها في وسط هذه الفتنة أن تجعل اللذتين لذة المناظر ولذة السرور مقصورة على الحصان من النساء فأفردت بذلك غريماتهن من المسترخصات على أنهن لهو وعبث ومتاع، فلا لذة لهن من هذا القبيل. أليس هذا بعد الذي أوضحت اصدق أنباء واكثر بياناً وتبياناً؟
وليس هذا في مجال الوصف فقد يصف الشاعر المفلق الذي طبقت شهرته الآفاق مشهداً محزناً فتفوقه بذلك شاعرة ليست لها شهرته وليس لها طول باعة.
هذا الشاعر ابن الرومي، والمشهد المحزن هو موت ولده، والشاعرة امرأة لا اسم لها، ومنظرها المحزن موت ولدها في سفرها معه.
هذا ابن الرومي يقول وأروع ما يقول هو:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد ألح عليه النزف حتى أحاله ... إلى سفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط روحه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
ويناجيه فيها بقوله:
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الرند
إذا لعبا في ملعب لك لوّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
وتقول هذه المرأة:
? ما كان إلاّ أن هجعت له=ورمى فأغفى مطلع الفجر
? إذ راعني صوت هببت به=وذعرت منه أيما ذعر
? وإذا منيته تساوره=قد كدَّحت في الوجه والنحر
? وإذا له علق وحشرجة=مما يجيش به من الصدر
? والموت يقبضه ويبسطه=كالثوب عند الطي والنشر
? فدعا لأنصره وكنت له=من قبل ذلك عُدة النصر
? فعجزت عنه وهي زاهقة=بين الوريد ومدفع السحر
? فمضى وأي فتى فجعت به=جلت مصيبته عن القدر
? لو شاء ربي كان متعني=بابني وشد بأزره أزري
? بُنيت عليك بُني - أحوج ما=كنا إليك - صفائح الصخر
أي إعجاز هذا؟ لقد وصفت الحشرجة والنزع والوفاة وعادت وهي أشد ما تكون لوعة إلى صوابها وعرفت أن ربها اختار لها هذا فكانت اصدق أنباء وكانت أكثر دقة وكانت قصيدتها للعقل والإيمان.
2 - صراحة أدب المرأة:
إن الصدق في الأنباء والدقة في التعبير إنما يجيئان من توفر الإنسان على ما هو في سبيله من الشان والنظر إليه من ناحية الواقع المجرد، وذلك حال المرأة في تلك العصور، فإن انكبابها على ما هي بسبيله، وقصورها عن مجاراة الرجل في مجال نشاطه خارج البيت، أتاح لها أن تتوفر على الموضوعات التي تضطلع بها غير توفره، وتصدر فيها عن حكمة وروية غير حكمته ورويته التي أبطرتها كثيرا التوسعات العسكرية، والفتوحات، وسلطان الحكم والظفر، وهكذا كان الرجل يفتقر إلى مقطوعات من أدب المرأة تعمر بها جهاته وتكفكف غلواءه؛ فلقد وجدت السيدة زبيدة زوج الرشيد لزاما عليها أن توصي علي بن عيسى وقد أمره الأمين بالشخوص لقتال المأمون بالوصية التالية التي تعتبر وثيقة خطيرة في السياسة فضلا عن كونها قطعة رائعة من الأدب فتقول له: (يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي، فإني على المأمون منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ولدي ملك نافس أخاه في سلطانه فاعرف لعبد الله - المأمون - حق ولادته واخوته ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيراً له، ولا تقتسره إقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً، ولا تعنف عليه في السير، ولا تسايره في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه إذا ركب، وإذا شتمك فاحتمل منه).
بهذا القدر من الحدود وضعت السيدة زبيدة قائد جيش ولدها الأمين الذاهب لمقاتلة المأمون غريمة على العرش. . . وبهذا الخطاب الرائع كبحت سورة نفسه وأعلنت أدبها المتجاوب الأجزاء المتماسك الاطراف، واعربت عن سموه. بهذا الأمر السامي أثبتت إن أدب المرأة للعقل لا للعاطفة، وانه صادق في الأنباء، وبهذه الوصية الدقيقة المحددة وضعت سياسة العقيدة التي تدين بها بقولها (وان كان ولدى، واليه انتهت شفقتى، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه. . .
وليست السيدة زبيدة وحدها ذات المقام المرموق في السياسة والأدب، ولا عقيلات الخلائف أو بنات القصور، بل قد يتوفر هذا الضرب من الكلام الحكيم والرأي الثاقب في فتاة من عامة الناس لا صلة لها ببلاط الملك ولا سلطان الحكم مما يؤيد أن المسألة إنما هي أدب المرأة على أشد ما يكون الإطلاق شمولا.
قصة امرأة من الخوارج أرسلت أسيرة للحجاج بها وهي تعرف من ستقابل، وقيل لها وهي في طريقها إليه: (أي أم علقمة والله لو وافقته في المذهب لنجوت من أذاه) فقالت: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين).
وجاءت ديوان الحجاج وقد استحال كل ما فيه إلى وجوم، ووقفت وهو جالس فأنتهرها قائلاً: (لقد خبطت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء). فقالت: (لقد خفت الله خوفاً صيرك في عيني أصغر من ذباب) وكانت منكسة. فقال: (ارفعي رأسك وانظري إلى) فأجابت: (أكره أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه). فقتلها.
(البقية في العدد القادم)
منيبة الكيلاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(كاتبة هذا المقال الطريف سيدة عراقية حديثة قل في مصر نفسها من تضارعها في عمق الثقافة وسعة الاطلاع وأصالة الفكر. تلقت دروسها الثانوية في بغداد، والجامعة في بيروت، ثم سافرت إلى إنجلترا فتخصصت في التربية وعادت إلى بغداد فعينت بمدرسة الفنون البيتية. ثم رحلت مرة أخرى إلى إنجلترا في بعثة المعهد الثقافي البريطاني ورجعت بعد ذلك إلى التدريس وللأستاذة منيبة نشاط محمود في الخدمة الاجتماعية والنهضة النسوية والحركة الأدبية، نرجو أن تكون هذه المقالة فاتحة لتسجيل آثاره على صفحات الرسالة).
مجلة الرسالة - العدد 727
بتاريخ: 09 - 06 - 1947
يرى الناظر في كتب الأدب وتاريخه أن الكتاب اصطلحوا على تقسيمات وأنواع للأدب نحتوها من عصور الأدب أو من خصائصه بالقدر الذي يتعلق بعرضه لا بجوهره، فقال الأقدمون منهم مثلا وجود أدب جاهلي وأدب مخضرم وأدب إسلامي، وفصلوا الأخير منه بحسب ما حكم الأمة العربية أو بحسب ما تنقلت إليه الحكومات العربية من حواضر وبلدان، فوسموا بعضه بالأدب الأندلسي، وسموا بعضه بالأدب العباسي، وغير ذلك من التسميات التي استندت في الأكثر على هذه الاعتبارات التاريخية والجغرافية المحض. وأشاح المحدثون عن مثل هذه الاعتبارات لأن الفنون الأدبية تصاع إلى العوامل التاريخية بقدر ما تؤثر تلك الاعتبارات في مباني الألفاظ واتجاه التراكيب اللفظية وإيغالها في البداوة أو قربها من الحضارة مما يجعل فنونها في الأولى متعددة الألوان والأوصاف لا يخرجها عن الرثاء والمديح والعتاب والوصف والموشحات والغزل والتشبيب إلا بالقدر الذي عرف في تلك الفترة من مدلولات الألفاظ وتحكم العادات فيها. . . أعنى لا يخرجها عن القيود التاريخية كبير فرق، بينما تنعكس الحالة انعكاساً كبيراً في ضوء الأدب نفسه، فيتفرع عن هذا ألوان جديدة هي غير الرثاء والمديح والوصف والموشحات والغزل والتشبيب. . . فهي على هذا ليست موضوعات وإنما هي فصول وأبواب وأجزاء ومباحث تدخل فيها تلكم الموضوعات دخولا ثانوياً لا أقل ولا أكثر. فمن ذلك أن ينقسم الأدب غير انقسامه الأول إلى أدب واقعي ومثالي ورمزي أو إلى أدب صوفي ومكشوف أو إلى أدب مأس ملهاة والى أدب تحليلي أو وجداني أو مسرحي، أو إلى أدب إبداع وأدب اتباع والى أدب فلسفي وقصصي، وأدب تبشير وأدب سياسة وكثير من غيرها مما يكبر عن التقسيم الأول ويطول عليه بسبب إن ذلك التقسيم صادر على سبيل الحصر وهذا صادر على سبيل الإطلاق.
وكما إن لذلك التقسيم أنصارا ومنتقدين فإن لهذا أنصارا ومنتقدين؛ وكما أن ذلك التقسيم على شدة وضوحه وتعين حدوده موضع لبعض الانتقاد ما دام يستمد فوارقه وضوابطه عن طريق التبعيض والتكتيل. . . فهو لا قبل له بما يضطلع به التقسيم الأساسي الذي يحتوي في بطونه وثناياه ألوان الأدب وأفاعيل الزمان وأشتات الموضوعات وأصناف الأبواب السالفة الذكر، ومن أجل ذلك أضحى لزاما أن يبدأ التقسيم هذا من مبدأ الأمر ليدخل في كل قسم سائر ما في هذه المقدمة وغيرها من التفاصيل، وعلى أن يكون التقسيم من الناحية الثانية معترفاً به دون جدال فما هو يا ترى؟ اهو الأدب الحزين والأدب المرح؟ أهو الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي؟ الجواب على هذه جمعياً (كلا) بل هو - أدب المرأة وأدب الرجل - وفي اللحظة التي نقرر فيها هذا التقسيم نرى انه استوعب تقسيم الأوائل والأواخر بدون استثناء، كما انه احتوى مادة لا تنضب من عصارة الأدب، فاحتوى خصائص ينفرد بها أحد النوعين، واحتوى بالإضافة إليها ما يسود النوعين على حد سواء، فينصرف تارة إلى ما يتعلق بتراث المراة، وينصرف أخرى لتراث الرجل.
وبعد فلئن صح الأدوار التاريخية من جاهلية وإسلامية، وأدوار الحكم الإسلامي من أموي وعباسي وأندلسي، قد فرقت أنواع الأدب بعضها عن بعض، فإن تلك الأدوار ذاتها قد أثرت تأثيرات متفاوتة في الرجل والمرأة، فجاء أدبهما جد مختلف ولو في دور واحد لفرط ما أثرت عوامل الدور الواحد في كل جنس دون صاحبه، فجاء أدب المرأة منذ اقدم عصوره اصدق أنباء واكثر انطباقاً على الواقع، وتكفل أدبها بإسباغ الألوان الحسان والدقة البالغة والجمال الرفيع على أدب الرجل، وأضحى بعد ذلك يحمل راية الآباء والأنفة والشمم. وجاء أدب المرأة يشد من أدب الرجل ليجعل منه اكثر موافقة ومسايرة للزمن، وليهب نشاطه الفكري والاجتماعي، ويأخذ من الصراحة بنصيب، ومن التلميح بنصيب، مما قد لا يدركه الرجل على وجهه بعد أن أثملته الفتوح وبهرت عينيه ثروات الزمان في قبضة يده يصرفها كيف أراد. وجاء أدب المرأة للعقل، وأدب الرجل للعاطفة، عندما تطيش الحلوم، وتراش السهام، ويدبر المنطق وتقبل بدوات الثأر، وتغرورق العيون من رثاء أو عتاب أو ثكل، فيعمل الرجل بعاطفته ويفكر بقلبه، وتسكت هي بفكرها وتتكلم بعقلها فتتم نقصه وتضفي على أدبه اللون القوى العتيد الذي يعوزه. وجاء أدب المرأة بعد هذا لحسن حظها فاقداً بعض الحلقات الموفورة في أدب الرجل، فليس فيه التعريض ولا رمى المحصنات الغافلات، ولم يحو التشكك ولا التجني ولا الوسواس، ولو حوى بعضها جدلا لما كانت من العمق والغور والإثم بالقدر الذي احتواه نتاجه. وجاء أدب المرأة كذلك منحدراً عن أساتيذ لم يعرفهم الرجل، فقد انحدار بعضه عن تعدد الزوجات وأحاسيسها، والطلاق وظله الثقيل، والحجاب غير الشرعي، والجهل والأمية المفروضة، وزحمة المسترخصات من الجواري والقيان المزاحمات للبيت الشريف والزوجية المقدسة، والعضل.
وجاء أدب المرأة متجهاً غير اتجاه أدب الرجل ومتأثراً بهذا العصر وفنونه وعلومه وخصائصه تأثراً غير تأثره، وهذه كلها أبحاث سنقوم على شرحها والتمثيل عليها وإثباتها في حلقات هذه السلسة حتى تستقيم منها دراسة لموضوعنا قائمة على أسس غير ما تعارفه بحاث الأدب حتى الآن.
هذه الفروق التي ذكرتها تتوفر في كل فن من فنون الشعر ولكنها أول ما تتوفر في الوصف؛ فانظروا كيف تكون.
قال الشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعري في صباه:
عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس بفان
إن تناسيتما وداد أناس ... فاجعلاني من بعض من تذكران
رب ليل كأنه الصبح في الحس ... ن وإن كان أسود الطيلسان
ويقول فيها وهو من رائع القول:
ليلتي هذه عروس من الز ... نج عليها قلائد من جمان
وكأن الهلال يهوى الثريا ... فهما للوداع معتنقان
? ثم شاب الدجى وخاف من الهج_ر فغطى المشيب بالزعفران
هذا من وحي الصبا؛ وأروع منه عندي قول جحناء بنت نصيب وقد افتر الضحى عن نهار بسام وجاءت مع أبيها نصيب فأنشدت المهدى الخليفة العباسي هذا الوصف على قافية شاعر الفلاسفة ووزنه وقصيدته ومعناها:
? رب عيش ولذة ونعيم=وبهاء بمشرق الميدان
? بسط الله فيه أبهى بساط=من بهار وزاهر الجوزان
ثم فيه من ناضر العشب الأخضر وتزهو شقائق النعمان
? مده الله بالتحاسين حتى=قصرت دون طوله العينان
? حلفت حافتاه حيث تناهى=بخيام في العين كالظيلمان
? زينوا وسطها بطارمة مث_ل الثريا يحفها النسران
? ثم حشو الخيام بيض كأمثا_ل المها في صرائم الكثبان
? يتجاوين في غناء شجي= (أسعداني يا نخلتي حلوان)
? فبقصر السلام من سلم الله=وأبقى خليفة الرحمن
? ولديه الغزلان بل هي أبهى=عنده من شوارد الغزلان
? يا له منظراً ويوم سرور=شهدت لذتيه كل حصان
أحاط المعري ما وصف بتعقيد، وأشاح عما يصف إلى ما يصوغ به الوصف، وجاءت هذه الشاعرة بالقول سافراً، ووضعت فيه تفاصيل البناء، واقتبست غناء المغنيات، ودعت للخليفة، ولم يفتها في وسط هذه الفتنة أن تجعل اللذتين لذة المناظر ولذة السرور مقصورة على الحصان من النساء فأفردت بذلك غريماتهن من المسترخصات على أنهن لهو وعبث ومتاع، فلا لذة لهن من هذا القبيل. أليس هذا بعد الذي أوضحت اصدق أنباء واكثر بياناً وتبياناً؟
وليس هذا في مجال الوصف فقد يصف الشاعر المفلق الذي طبقت شهرته الآفاق مشهداً محزناً فتفوقه بذلك شاعرة ليست لها شهرته وليس لها طول باعة.
هذا الشاعر ابن الرومي، والمشهد المحزن هو موت ولده، والشاعرة امرأة لا اسم لها، ومنظرها المحزن موت ولدها في سفرها معه.
هذا ابن الرومي يقول وأروع ما يقول هو:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد ألح عليه النزف حتى أحاله ... إلى سفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط روحه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
ويناجيه فيها بقوله:
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الرند
إذا لعبا في ملعب لك لوّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
وتقول هذه المرأة:
? ما كان إلاّ أن هجعت له=ورمى فأغفى مطلع الفجر
? إذ راعني صوت هببت به=وذعرت منه أيما ذعر
? وإذا منيته تساوره=قد كدَّحت في الوجه والنحر
? وإذا له علق وحشرجة=مما يجيش به من الصدر
? والموت يقبضه ويبسطه=كالثوب عند الطي والنشر
? فدعا لأنصره وكنت له=من قبل ذلك عُدة النصر
? فعجزت عنه وهي زاهقة=بين الوريد ومدفع السحر
? فمضى وأي فتى فجعت به=جلت مصيبته عن القدر
? لو شاء ربي كان متعني=بابني وشد بأزره أزري
? بُنيت عليك بُني - أحوج ما=كنا إليك - صفائح الصخر
أي إعجاز هذا؟ لقد وصفت الحشرجة والنزع والوفاة وعادت وهي أشد ما تكون لوعة إلى صوابها وعرفت أن ربها اختار لها هذا فكانت اصدق أنباء وكانت أكثر دقة وكانت قصيدتها للعقل والإيمان.
2 - صراحة أدب المرأة:
إن الصدق في الأنباء والدقة في التعبير إنما يجيئان من توفر الإنسان على ما هو في سبيله من الشان والنظر إليه من ناحية الواقع المجرد، وذلك حال المرأة في تلك العصور، فإن انكبابها على ما هي بسبيله، وقصورها عن مجاراة الرجل في مجال نشاطه خارج البيت، أتاح لها أن تتوفر على الموضوعات التي تضطلع بها غير توفره، وتصدر فيها عن حكمة وروية غير حكمته ورويته التي أبطرتها كثيرا التوسعات العسكرية، والفتوحات، وسلطان الحكم والظفر، وهكذا كان الرجل يفتقر إلى مقطوعات من أدب المرأة تعمر بها جهاته وتكفكف غلواءه؛ فلقد وجدت السيدة زبيدة زوج الرشيد لزاما عليها أن توصي علي بن عيسى وقد أمره الأمين بالشخوص لقتال المأمون بالوصية التالية التي تعتبر وثيقة خطيرة في السياسة فضلا عن كونها قطعة رائعة من الأدب فتقول له: (يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي، فإني على المأمون منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ولدي ملك نافس أخاه في سلطانه فاعرف لعبد الله - المأمون - حق ولادته واخوته ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيراً له، ولا تقتسره إقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً، ولا تعنف عليه في السير، ولا تسايره في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه إذا ركب، وإذا شتمك فاحتمل منه).
بهذا القدر من الحدود وضعت السيدة زبيدة قائد جيش ولدها الأمين الذاهب لمقاتلة المأمون غريمة على العرش. . . وبهذا الخطاب الرائع كبحت سورة نفسه وأعلنت أدبها المتجاوب الأجزاء المتماسك الاطراف، واعربت عن سموه. بهذا الأمر السامي أثبتت إن أدب المرأة للعقل لا للعاطفة، وانه صادق في الأنباء، وبهذه الوصية الدقيقة المحددة وضعت سياسة العقيدة التي تدين بها بقولها (وان كان ولدى، واليه انتهت شفقتى، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه. . .
وليست السيدة زبيدة وحدها ذات المقام المرموق في السياسة والأدب، ولا عقيلات الخلائف أو بنات القصور، بل قد يتوفر هذا الضرب من الكلام الحكيم والرأي الثاقب في فتاة من عامة الناس لا صلة لها ببلاط الملك ولا سلطان الحكم مما يؤيد أن المسألة إنما هي أدب المرأة على أشد ما يكون الإطلاق شمولا.
قصة امرأة من الخوارج أرسلت أسيرة للحجاج بها وهي تعرف من ستقابل، وقيل لها وهي في طريقها إليه: (أي أم علقمة والله لو وافقته في المذهب لنجوت من أذاه) فقالت: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين).
وجاءت ديوان الحجاج وقد استحال كل ما فيه إلى وجوم، ووقفت وهو جالس فأنتهرها قائلاً: (لقد خبطت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء). فقالت: (لقد خفت الله خوفاً صيرك في عيني أصغر من ذباب) وكانت منكسة. فقال: (ارفعي رأسك وانظري إلى) فأجابت: (أكره أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه). فقتلها.
(البقية في العدد القادم)
منيبة الكيلاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(كاتبة هذا المقال الطريف سيدة عراقية حديثة قل في مصر نفسها من تضارعها في عمق الثقافة وسعة الاطلاع وأصالة الفكر. تلقت دروسها الثانوية في بغداد، والجامعة في بيروت، ثم سافرت إلى إنجلترا فتخصصت في التربية وعادت إلى بغداد فعينت بمدرسة الفنون البيتية. ثم رحلت مرة أخرى إلى إنجلترا في بعثة المعهد الثقافي البريطاني ورجعت بعد ذلك إلى التدريس وللأستاذة منيبة نشاط محمود في الخدمة الاجتماعية والنهضة النسوية والحركة الأدبية، نرجو أن تكون هذه المقالة فاتحة لتسجيل آثاره على صفحات الرسالة).
مجلة الرسالة - العدد 727
بتاريخ: 09 - 06 - 1947