لقد بدأت الكتابة في أواخر الستينيات وسط حركة أدبية جديدة في مصر أطلق عليها جيل الستينيات. كان لهم مجلة عنوانها « جاليري 68 « يقدمون فيها أعمالهم القصصية والنقدية، وكان لها وقع كبير في الحياة الأدبية، ولم يكتفوا بها بل كانوا ينشرون في مجلات هامة مثل «المجلة» و«الطليعة» و«الهلال» وأحيانا ينشر بعضهم في جريدة «الأهرام».
كان أيضا من النقاد والأدباء الأقدم من يبشر بهم ويرى فيهم جيلا جديدا بحق في الكتابة الأدبية مثل الشاعر صلاح عبد الصبور والناقد رجاء النقاش. كانت كتابات هذا الجيل تقدم باعتبارها مختلفة شكلا وموضوعا ورايتها الإيجاز في السرد فالقصص خالية تقريبا مما يشيع هذه الأيام من مباشرة وحكم وأمثال وخلاصات فكرية تجد طريقها إلى مواقع التواصل الاجتماعي ترويجا للأعمال وكانت في كتابات أقدم منهم طبعا.
كما غامر بعضهم في الكتابة إلى درجة أنه صار نسيجا وحده مثل محمد حافظ رجب صاحب مجموعة قصص «الكرة ورأس الرجل» الذي كان مقدمتهم أو المبشر بهم وهو نفسه الذي قال كلمته الشهيرة: «نحن جيل بلا أساتذة».
وبالمثل كان محمد إبراهيم مبروك الذي لاقت قصته «نزف صوت صمت نصف طائر» حفاوة كبيرة من نقاد الجيل في مصر وخارجها. كانت الضجة المثارة حول هذا الجيل كبيرة جدا نشأت أدبيا وسط هذا الجو ومعي عدد من الكتاب أذكر منهم سعيد الكفراوي ومحمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي وعبده جبير ومحمود الورداني وجارالنبي الحلو وغيرهم، وكان إيماننا لا يختلف عن إيمان من سموهم أو سموا أنفسهم بجيل الستينيات وكنا جميعا خارجين من رحم هزيمة 1967. في الوقت نفسه كانت في فرنسا حركة اجتماعية كبيرة هي ثورات الشباب التي امتدت إلى أوروبا وظهر في فرنسا كتاب الواقعية الجديدة التي رأت في الأشياء وجودا مستقلا عن البشر ووجودا أكبر من الإنسان.
في مصر حدث أن انفرد كتاب الستينيات بميزة التجديد رغم ما فعلناه نحن أو من سبقهم ووضعونا في خانة السبعينيات لأننا نشرنا بعدهم بقليل. استطاع كتاب الستينيات بناء سور حولهم رغم تفاوت منتجهم وتفاوت مواهبهم واشتعلت الدراسات عنهم في الجامعات حتى تراكم إنتاجنا فاشتعلت الدراسات به أيضا. كنت أتابع الظاهرة ورغم حبي لإنتاج بعضهم أسال نفسي كيف حقا يصبح هؤلاء فقط هم المجددون بينما لايقل تجديدنا عنهم في شيء. وبعيدا عنا أسأل نفسي هل كانوا بحق أول المجددين؟ أعرف تاريخ القصة القصيرة في مصر وأعرف إنه منذ المدرسة الحديثة في عشرينيات القرن الماضي التي كان من أقطابها يحيى حقي وشعارها الإيجاز في اللغة والكتابة عن المهمشين وكسر التابوهات. وأعرف مافعله يوسف الشاروني من منح القصة القصيرة أفقا فلسفيا وجوديا، وأعرف أن فرادة يوسف إدريس في القصة القصيرة أنه طرق الأبواب المغلقة عن قضايا الناس العادية بايجاز بالغ تطور من «أرخص ليالي» حيث تسيدت اللهجة العامية إلى «لغة الآي آي» حيث تسيدت الأفكار الكبرى.
وأعرف أيضا أن هذا فعله نجيب محفوظ في رواياته قبل أن ينشر هذا الجيل أعماله منذ كتب «اللص والكلاب» وربما قبلها في «أولاد حارتنا «. حتى إدورا الخراط أحد مهندسي هذا الجيل كان قد سبقهم بمجموعته «حيطان عالية». لم يضايقني أبدا أن يحاول جيل أن يكرس كتابة جديدة لكن ضايقني أن يحاول هذا الجيل نفي ماقبله ويعتبر نفسه هو بداية التجديد. كنت أرى أن المسألة كلها في تعدد الكتاب بل وبين أفراد هذا الجيل نفسه كتاب متواضعو الموهبة كما بينهم كتاب كبار.
كنت ولازلت على اعتقاد راسخ إنه يمكن أن يكون هناك جيل جديد حقا لكن في الأدب لايوجد «نفي» بل يوجد «نسخ». فهناك دائما في القديم ما يكون سببا أو ممتدا في الجديد. تعرف طبعا أن الحركة الرومانتيكية بدأت بفيكتور هوجو وبيانه الذي قدم به مسرحية «كرومويل». لكن حين تدرس موليير تجد رغم غلبة الكلاسيكية، أي الوحدات الثلاث للمسرحية، وحدة المكان والزمان والحدث تجد فيها خروجا عن جمود الكلاسيكية فاتحا الأفق للرومانتيكية. بل في المسرح اليوناني القديم في الوقت الذي كان سوفوكليس كلاسيكيا تماما فإن يوريبيدس كسر قواعد الكلاسيكية إلى حدما. وإذا انتقلنا إلى الرواية فالرواية الكلاسيكية نبتت منها الرواية الواقعية ومنها الرومانتيكية ثم الطبيعية الى الواقعية الاشتراكية وهلم جرا.
وكل تقديم جديد لابد يُعنى بالشكل الأدبي أكثر لكن يظل في الأدب العظيم بذرة الخلود فأنت تقرا دكينز كما تقرأ بروست وتقرأ هيمنغواي كما تقرأ هنري جيمس وتقرأ يوسف إدريس كما تقرا نجيب محفوظ وتقرأ بهاء طاهر كما تقرأ يحيى يحقي. وهكذا، إذن أين هي المشكلة.
المشكلة أن المجايلة تقدم في عالمنا العربي باعتبارها نفيا لما قبلها. والحقيقة غير ذلك. حتى الشعر الحر لم ينفِ الشعر العمودي فهناك له كتاب كبار مثل عبد الله البردوني ومحمد مهدي الجواهري وحتى قصيدة النثر لم تنفِ الشعر الحر. المعارك الأدبية تخرج من نطاق الأدب إلى السياسة فيبدو الجيل الأسبق مثل عدو يجب القضاء عليه والأدب طاقة روحية يزداد ضوؤها مع الزمن. من منا لايقرأ أحمد شوقي مثلا ؟ كل مافي الأمر أن عصرا جديدا يحتاج لغة وبناء جديدا لكن تظل الموضوعات الإنسانية الرفيعة تمشي مع البشر.
والمدهش أنه رغم المعركة الكبيرة التي أراد بها الستينيون نفي الآخرانغلقت كتابات كثير منهم على القارئ العادي – لفنيتها لا لعيب فيها – وكانت النتيجة انصراف كثير جدا من القراء عنهم إلى كتابات معاصرة الآن لا تُعنى بالشكل الفني. وأصبح هذا النوع العادي من الروايات هو محطم كل الأرقام القياسية في المبيعات فهل نقول كانوا على خطأ؟ بالطبع لا. الخطأ الوحيد هو محاولة نفي الأجيال السابقة واللاحقة من المجددين.
وهذا الخطأ يتردد الآن للأسف فكثير من الكتاب الجديد لايعترفون إلا بأنفسهم وبعضهم يتمادى في سب الأكبر سنا وتساعده شبكات التواصل الاجتماعي، وحين تقرأ أعماله تجده سارقا ومحرفا لبعض أعمال من سبقوه أو بعض الأفلام الأجنبية متصورا أن العالم يبدأ به مادامت لديه القدرة على السب. وهكذا تفوق هذا النوع من الكتّاب على جيل الستينيات في إنه تجاوز التعامل السياسي لمسألة فنية إلى التعامل الأحمق مع الأدب والأدباء.
ولولا الكثيرون من الموهوبين الجدد لا يفعلون ذلك ولولا عقل القدماء وهدوؤهم لصارت الحياة الثقافية مسخرة السنين. أيها السادة… التجديد لا ينفي القديم لكنه ينسخه في صورة أكثر معاصرة إن استطاع لكن يظل للقديم بهاؤه مادام مرشده قضايا الإنسان في الوجود. أقول قولي هذا وانتهي وربما أتحدث يوما عن خطأ آخر في معنى المجايلة، وأقصد به مقدما تقسيم الأجيال الغريب كل عشر سنوات كأنهم مرضى في مستشفى يدخلونها بالدور وبالذات في مصر.
٭ روائي مصري
كان أيضا من النقاد والأدباء الأقدم من يبشر بهم ويرى فيهم جيلا جديدا بحق في الكتابة الأدبية مثل الشاعر صلاح عبد الصبور والناقد رجاء النقاش. كانت كتابات هذا الجيل تقدم باعتبارها مختلفة شكلا وموضوعا ورايتها الإيجاز في السرد فالقصص خالية تقريبا مما يشيع هذه الأيام من مباشرة وحكم وأمثال وخلاصات فكرية تجد طريقها إلى مواقع التواصل الاجتماعي ترويجا للأعمال وكانت في كتابات أقدم منهم طبعا.
كما غامر بعضهم في الكتابة إلى درجة أنه صار نسيجا وحده مثل محمد حافظ رجب صاحب مجموعة قصص «الكرة ورأس الرجل» الذي كان مقدمتهم أو المبشر بهم وهو نفسه الذي قال كلمته الشهيرة: «نحن جيل بلا أساتذة».
وبالمثل كان محمد إبراهيم مبروك الذي لاقت قصته «نزف صوت صمت نصف طائر» حفاوة كبيرة من نقاد الجيل في مصر وخارجها. كانت الضجة المثارة حول هذا الجيل كبيرة جدا نشأت أدبيا وسط هذا الجو ومعي عدد من الكتاب أذكر منهم سعيد الكفراوي ومحمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي وعبده جبير ومحمود الورداني وجارالنبي الحلو وغيرهم، وكان إيماننا لا يختلف عن إيمان من سموهم أو سموا أنفسهم بجيل الستينيات وكنا جميعا خارجين من رحم هزيمة 1967. في الوقت نفسه كانت في فرنسا حركة اجتماعية كبيرة هي ثورات الشباب التي امتدت إلى أوروبا وظهر في فرنسا كتاب الواقعية الجديدة التي رأت في الأشياء وجودا مستقلا عن البشر ووجودا أكبر من الإنسان.
في مصر حدث أن انفرد كتاب الستينيات بميزة التجديد رغم ما فعلناه نحن أو من سبقهم ووضعونا في خانة السبعينيات لأننا نشرنا بعدهم بقليل. استطاع كتاب الستينيات بناء سور حولهم رغم تفاوت منتجهم وتفاوت مواهبهم واشتعلت الدراسات عنهم في الجامعات حتى تراكم إنتاجنا فاشتعلت الدراسات به أيضا. كنت أتابع الظاهرة ورغم حبي لإنتاج بعضهم أسال نفسي كيف حقا يصبح هؤلاء فقط هم المجددون بينما لايقل تجديدنا عنهم في شيء. وبعيدا عنا أسأل نفسي هل كانوا بحق أول المجددين؟ أعرف تاريخ القصة القصيرة في مصر وأعرف إنه منذ المدرسة الحديثة في عشرينيات القرن الماضي التي كان من أقطابها يحيى حقي وشعارها الإيجاز في اللغة والكتابة عن المهمشين وكسر التابوهات. وأعرف مافعله يوسف الشاروني من منح القصة القصيرة أفقا فلسفيا وجوديا، وأعرف أن فرادة يوسف إدريس في القصة القصيرة أنه طرق الأبواب المغلقة عن قضايا الناس العادية بايجاز بالغ تطور من «أرخص ليالي» حيث تسيدت اللهجة العامية إلى «لغة الآي آي» حيث تسيدت الأفكار الكبرى.
وأعرف أيضا أن هذا فعله نجيب محفوظ في رواياته قبل أن ينشر هذا الجيل أعماله منذ كتب «اللص والكلاب» وربما قبلها في «أولاد حارتنا «. حتى إدورا الخراط أحد مهندسي هذا الجيل كان قد سبقهم بمجموعته «حيطان عالية». لم يضايقني أبدا أن يحاول جيل أن يكرس كتابة جديدة لكن ضايقني أن يحاول هذا الجيل نفي ماقبله ويعتبر نفسه هو بداية التجديد. كنت أرى أن المسألة كلها في تعدد الكتاب بل وبين أفراد هذا الجيل نفسه كتاب متواضعو الموهبة كما بينهم كتاب كبار.
كنت ولازلت على اعتقاد راسخ إنه يمكن أن يكون هناك جيل جديد حقا لكن في الأدب لايوجد «نفي» بل يوجد «نسخ». فهناك دائما في القديم ما يكون سببا أو ممتدا في الجديد. تعرف طبعا أن الحركة الرومانتيكية بدأت بفيكتور هوجو وبيانه الذي قدم به مسرحية «كرومويل». لكن حين تدرس موليير تجد رغم غلبة الكلاسيكية، أي الوحدات الثلاث للمسرحية، وحدة المكان والزمان والحدث تجد فيها خروجا عن جمود الكلاسيكية فاتحا الأفق للرومانتيكية. بل في المسرح اليوناني القديم في الوقت الذي كان سوفوكليس كلاسيكيا تماما فإن يوريبيدس كسر قواعد الكلاسيكية إلى حدما. وإذا انتقلنا إلى الرواية فالرواية الكلاسيكية نبتت منها الرواية الواقعية ومنها الرومانتيكية ثم الطبيعية الى الواقعية الاشتراكية وهلم جرا.
وكل تقديم جديد لابد يُعنى بالشكل الأدبي أكثر لكن يظل في الأدب العظيم بذرة الخلود فأنت تقرا دكينز كما تقرأ بروست وتقرأ هيمنغواي كما تقرأ هنري جيمس وتقرأ يوسف إدريس كما تقرا نجيب محفوظ وتقرأ بهاء طاهر كما تقرأ يحيى يحقي. وهكذا، إذن أين هي المشكلة.
المشكلة أن المجايلة تقدم في عالمنا العربي باعتبارها نفيا لما قبلها. والحقيقة غير ذلك. حتى الشعر الحر لم ينفِ الشعر العمودي فهناك له كتاب كبار مثل عبد الله البردوني ومحمد مهدي الجواهري وحتى قصيدة النثر لم تنفِ الشعر الحر. المعارك الأدبية تخرج من نطاق الأدب إلى السياسة فيبدو الجيل الأسبق مثل عدو يجب القضاء عليه والأدب طاقة روحية يزداد ضوؤها مع الزمن. من منا لايقرأ أحمد شوقي مثلا ؟ كل مافي الأمر أن عصرا جديدا يحتاج لغة وبناء جديدا لكن تظل الموضوعات الإنسانية الرفيعة تمشي مع البشر.
والمدهش أنه رغم المعركة الكبيرة التي أراد بها الستينيون نفي الآخرانغلقت كتابات كثير منهم على القارئ العادي – لفنيتها لا لعيب فيها – وكانت النتيجة انصراف كثير جدا من القراء عنهم إلى كتابات معاصرة الآن لا تُعنى بالشكل الفني. وأصبح هذا النوع العادي من الروايات هو محطم كل الأرقام القياسية في المبيعات فهل نقول كانوا على خطأ؟ بالطبع لا. الخطأ الوحيد هو محاولة نفي الأجيال السابقة واللاحقة من المجددين.
وهذا الخطأ يتردد الآن للأسف فكثير من الكتاب الجديد لايعترفون إلا بأنفسهم وبعضهم يتمادى في سب الأكبر سنا وتساعده شبكات التواصل الاجتماعي، وحين تقرأ أعماله تجده سارقا ومحرفا لبعض أعمال من سبقوه أو بعض الأفلام الأجنبية متصورا أن العالم يبدأ به مادامت لديه القدرة على السب. وهكذا تفوق هذا النوع من الكتّاب على جيل الستينيات في إنه تجاوز التعامل السياسي لمسألة فنية إلى التعامل الأحمق مع الأدب والأدباء.
ولولا الكثيرون من الموهوبين الجدد لا يفعلون ذلك ولولا عقل القدماء وهدوؤهم لصارت الحياة الثقافية مسخرة السنين. أيها السادة… التجديد لا ينفي القديم لكنه ينسخه في صورة أكثر معاصرة إن استطاع لكن يظل للقديم بهاؤه مادام مرشده قضايا الإنسان في الوجود. أقول قولي هذا وانتهي وربما أتحدث يوما عن خطأ آخر في معنى المجايلة، وأقصد به مقدما تقسيم الأجيال الغريب كل عشر سنوات كأنهم مرضى في مستشفى يدخلونها بالدور وبالذات في مصر.
٭ روائي مصري