عندما بلغ د.ه. لورنس الأربعين قرر أن يكتب سيرة حياته ، كان يريد أن يكتب عن حالات المسرة والسعادة التي عاشها ، بعدما تجهّم طويلاً في تأمّل مرارات الحياة وعبث الدنيا.. كانت الفكرة أن يسرد جزءا من حكاية عاطفية ، يكمل بها ما ابتدأه في روايته "أبناء وعشاق" التي قدم في الجزء الأول منها لمحات من حياته : طفولة أراد لها الأب أن تكون خشنة ، فعامل المنجم الذي بالكاد يعرف القراءة والكتابة أراد لابنه الرابع أن يدرك جيدا أن الحياة تحتاج إلى ساعدين قويين ، فيما الأم التي تنتمي إلى عائلة برجوازية كانت تتمنى أن يصبح أبناؤها رجال دين أو أساتذة في الجامعة .. ولأن الكتابة لم تكن مجدية في نظر الأسرة فقد اضطر لورنس أن يكتب بطريقة سرية ، وذات يوم قرأت أمه فصلا من رواية "الطاووس الأبيض" فتعجبت وقالت له : "ولكن يا ولدي كيف تعرف أن الأمور كانت تسير على هذا النحو ؟ إنك لا تستطيع معرفة ذلك" . كانت تعتقد أن المرء يجب أن يعرف ما يكتب ، وظلت وصيتها الوحيدة لابنها : "عليك أن ترتقي في الدنيا خطوة خطوة ".
في تلك السنوات وفي أحد شوارع أكسفورد ، عاش بريطاني آخر اسمه توماس إدوارد لورنس من مواليد العام 1888 عرف باسم لورنس العرب الذي تحول إلى أسطورة في الغرب والشرق معاً،.. كان لورنس الآخر قد قرر أن يكتب عن تجربته في بلاد العرب منذ أن وَطِئت قدماه أرض بلاد الشام، في العام 1909 ، حيث كان يسعى لدراسة تصاميم القلاع الصليبية، لتقوده تلكما القدمان إلى صنع خرائط جديدة للمنطقة العربية .
************
الجلوس لكتابة تجربة الحياة والتساؤل ، ماذا فعلتَ ؟ أين أنجزتَ، وأين أخفقتَ ، أين صرعَتك الحياة وأين غلَبتها، ؟ كانت هي الهمّ الذي رافق الاثنين .
لم يستطع د.ه . لورنس كتابة سيرة حياته ،فقد أخذته فكرة حاجة الإنسان إلى التحرر، إلى أن يكتب رواية يقول عنها في رسالة إلى الشاعر إليوت : "للإنسان احتياجات صغيرة واحتياجات أعمق .. لقد وقعنا في خطأ العيش على احتياجاتنا الصغيرة إلى أن أوشكنا أن نفقد احتياجاتنا الأعمق بصورة مجنونة" . كانت هذه الكلمات هي حاشية رواية "عشق الليدي تشاترلي" التي هي آخر ما كتبه الروائي الإنكليزي الشهير ، فيما استمر لورنس الآخر بتسطير تجربته الحياتية في كتاب أسماه "أعمدة الحكمة السبعة" . قال عنه تشرشل : لقد احتل هذا الكتاب مركزه، بين الكتب الكلاسيكية الإنكليزية. فالحال أنّ غنى الموضوع، وقوته، وميزة الأسلوب الرفيعة وتلك الشخصية الصوفية التي لا حدود لها، كل ذلك رفع هذا العمل الجبار إلى ما فوق مستوى جميع المؤلفات المعاصرة ".
فيما قال لورنس العرب لكاتب سيرته إدوارد جارنت "إن كتابي مهزلة لا تستحق أن تقرأ..فإذا أردت أن ترى بعينك كيف تشوَّه الأفكار الجميلة والمادة الرائعة فارجع إلى أية صفحة من صفحات الكتاب, إنني لا أعتقد بأن هناك أي ناشر يرضى حتى بأن يحرق الكتاب فكيف بحق السماء تعتقد بأني قد جئت بعمل ممتاز؟"
لا أذكر عدد الكتب التي ظهرت عن الضابط الذي عرف باسم "لورنس العرب" وجميعها كانت تنحت في أسطورته وفي دوره في "الثورة العربية" . وهي الأسطورة التي حاول كولن ولسون في اللامنتمي أن يقدم صورة مغايره لها حيث وجدنا أمامنا لورنس مغايرا ، مجرد إنسان وحيد وقلق يعجز عن إقامة علاقات إنسانية بسيطة مع الآخرين . . في الوقت نفسه جاءت سمعة وشهرة الروائي د.ه.لورنس متأخرة، بسبب قوانين الحظر الأدبي الذي تعرضت له رواياته ، لكن هذا لم يمنع النقد الأدبي الإنكليزي من وضعه في قائمة أهم روائيي بريطانيا ، حتى أن ناقدا بحجم رتشاردز يكتب مشيداً بقدرة لورنس على إخراج الأدب من العصر الفيكتوري التقليدي المتشدد ، فاسحاً المجال لشتى أنواع التعبير خصوصاً الرغبة الذاتية.
************
في شتاء عام 1910 كتب د.ه .لورنس إلى ناشر لندني يسأل عن كلفة طبع روايته "الطاوس الأبيض" . رفض الناشر أن يرد عليه واعتبر ان نشر رواية لكاتب مبتدئ مجازفة لا تحمد عقباها ، بعد هذا التاريخ بسنوات يندم الناشر لأن صاحب الطاووس كتب رواية تهافتت عليها دور النشر وصدرت أكثر من نسخة مزورة عنها نتيجة الطلب المستمر عليها ، وكانت هذه الرواية هي "عشيق الليدي شاترلي" ، التي لا تزال تُطبع حتى اليوم. حُوّلت الى أفلام في بريطانيا وخارجها، معظم قرائها في أوروبا من النساء حسب تقرير نشرته الغارديان بمناسبة 50 عاما على القرار الذي أصدرته محكمة بريطانية ببراءة الكاتب من تهمة ترويج المجون في رواياته .
أنهى لورنس "عشيق الليدي شاترلي" في لحظة كره للمجتمع البرجوازي ، استمر في كتابتها أكثر من عامين بين خريف 1927وصيف 1929 وأمضى عيد الميلاد وحيدا بعد انفصاله عن زوجته . في ذلك الوقت كان يكتب الرسائل إلى عدد من أصدقائه ، قال في واحدة منها : "يبدو لي أن الأمر الرئيس بالنسبة للمرأة هو أنها لا يمكن تعريفها بكلمات من قبيل الحب أو الجمال أو الشرف أو الواجب أو الجدارة أو التحرر، فعلى المدى البعيد لا تمثل هذه الكلمات حقيقة المرأة " ، وفي أخرى يضيف :"إن ما تحتاج إليه المرأة هو الاكتفاء ، على الأقل الاكتفاء الجسدي بقدر ما هي بحاجة إلى الاكتفاء النفسي، الجنس بنفس قدر ما تحتاجه من الروح".
لم يعد لورنس يطمح بكتابة رواية عن حب لم يسعد به ، فالأمر تحول إلى ارتياب في العواطف التي تريد طبقة البرجوازيين فرضها على المجتمع .. تدور "عشيق الليدي تشاترلي" حول السير كليفورد تشاترلي، رجل واسع الثراء ألحقت به الحرب عاهة وتركته مشلولاً ومصاباً بعجز جنسي، فانصرف إلى الكتابة والتأليف لتعويض فشله في علاقته الحميمة مع زوجته الليدي تشاترلي، وهي في أوج شبابها وأنوثتها. لم تكد تمضي فترة حتى ضاقت ذرعاً به وأقامت علاقة مع ميلورز، بستاني يعمل لدى زوجها، تحوّلت في ما بعد إلى علاقة روحية على رغم الاختلاف الطبقي الشاسع بين العاشقين، وتُوّجت في ختام الرواية بمولد طفلهما والاستعداد للزواج، حيث نجدها تغادر بيت الزوجية لترتيب حياتها من جديد.
يكتب الناقد هارولد بلووم أن ثورة الليدي تشاترلي ، وإن كانت تأخذ طابعا جسديا ، فإنها قريبة لثورة نورا بطلة مسرحية إبسن الشهيرة "بيت الدمية ". ويضيف الناقد الشهير أن لورنس كان معجبا بطريقة إبسن في نسج الأحداث وفي القدرة على رسم ملامح شخصياته النسائية .
حينما حاول لورنس نشر الرواية رفض جميع الناشرين عمله، وذلك للإباحية التي وصف بها العلاقة الحميمة بين الليدي تشاترلي وعشيقها، ما دفعه إلى طباعتها سرا وتوزيعها.. وفي المرتين الثانية والثالثة طبعها في كل من فرنسا وإيطاليا من دون تصريح، وكذلك طبعت في أميركا من دون استئذانه.
في رسالة إلى طليقته يكتب لورنس : "تلقيت عرضا متأخرا من المزورين الأوروبيين يحددون لي نصيبا مقابل حق الملكية عن كل النسخ المباعة في الماضي ، والتي ستباع في المستقبل لو قبلت أن أعتمد طبعاتهم ، قلت لنفسي على قاعدة : من لا يظلم يظلم ، وكان علي أن أقبل العرض . تمكنت بعد ذلك من نشر النسخة الفرنسية الرخيصة ، وحثني الناشرون الإنكليز على عمل نسخة منقحة ووعدوني بمقابل كبير ، وأصروا على أن تكون رواية نظيفة لا تحتوي على الألفاظ الفاضحة ..كنت قد بدأت أستسلم للإغراء وأبدأ في تنقيح الرواية وتهذيبها ، ولكني وجدت أن ذلك مستحيل ،لأنه يعني أن أقطع أنفي بالمقص ليصبح أجمل شكلا .. ومع ذلك وعلى الرغم من كل المعارضات فإنني أعرض روايتي ككاتب أمين وصحي وضروري لنا حاليا .. الألفاظ التي تصيب بالصدمة الشديدة في البداية سيعتادها القارئ بعد ان يمضي في قراءة الرواية ، هل يرجع ذلك إلى أن العقل يفسده الاعتياد ، لا على الإطلاق إن الألفاظ تصدم العين ولكنها لا تصدم العقل مطلقا .. إن أعظم الكفر ضد الحقيقة الجنسية هو اعتبارها عملا مشينا مع أننا جئنا من خلاله ، المحافظون التقليديون يحرصون على عدم الخوض في المسألة الجنسية مع أولادهم واعتبار ذلك من المحرمات ، لكنهم ينسون أن الغريزة هي المعلم الأول ، وهي التي تقود أبناءها للحقائق دون معلّم ".
************
حاول لورنس العرب أن يهرب من الشهرة التي أخذت تلاحقه بعد صدور كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" ، ويذكر المقربون منه أنه كان يعاني من شعور بالذنب ، ولهذا رفض وسام الشرف من ملك بريطانيا، ، فقرّر الاختباء في شخصية أخرى، وقام بتغيير اسمه وتطوّع كجندي في سلاح الجو البريطاني، ولكن سرعان ما افتضح أمره وتم فصله من الجيش، وعرض عليه ونستون تشرشل أن يكون مستشاره الخاص ، ولكنه اعتذر ليعيش سنواته الأخيرة معتزلا في كوخ بضواحي لندن حيث كتب أحد المقربين له ، بعد موته، بأن لورنس كان يدفع الأموال لأحد الأشخاص كي يقوم بجلده يوميا، ومات بحادثة بعد أن انقلبت دراجته النارية في العام 1935، وعمره ستة وأربعون عاما، لتضع مجلة التايم صورته على صدر غلافها وتحتها عبارة تشرشل :"لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسّة إليه."
************
في مقالة بعنوان "ملاحظات حول عشيق الليدي تشاترلي" يلقي لورنس الضوء على الظروف التي كتب فيها هذه الرواية فيقول عن الزوج كليفورد الذي تهجره زوجته كونستانس لتضاجع حارسه :"انه نتاج الحضارة الصناعية المادية الحديثة ، مشكلته تتلخص في ان دماءه تسري فيها برودة الموت ، وهو لايفتقر الى الدفء الانساني فحسب ، بل انه فقد كل صلة تربطه بالنساء وبزملائه من البشر ، في حين ان حارس الصيد يتميز بدفء المشاعر والحيوية ، ويضيف لورنس ان هناك ما يبرر استخدامه للكلمات الجنسية المكشوفة في روايته ، فالهدف هو تحرير هذه الكلمات من اية دلالات بذيئة ، فليس في ممارسة الجنس ما يشين أو يدعو للخجل ، يقول لورنس لفي دفاعه عن الرواية : :ان الانسانية استغرقت في ممارسة الجنس دون فهمه او ادراكه ، ولهذا تحولت الممارسة الجنسية عبر الزمن الى فعل آلي كالح تغيض عنه الحياة ويبعث على الملل وخيبة الآمال ومن ثم فقد حان الوقت لإدراكه إدراكا سليماً وذلك بتجديد الافكار المتعلقة به. "
************
في عام 1959 تولت مطبعة في نيويورك نشر رواية "عشيق الليدي تشاترلي" كاملة وبدون اي حذف منها وذلك بعد حصولها على موافقة ارملة لورنس ، وظهرت الرواية في المكتبات بمقدمة لمارك سوكرر ، وبعد اسبوع من نشرها امر رئيس مصلحة البريد بمنع ارسال الكتاب عن طريق البريد باعتباره كتابا بذيئا ، كما امرت المصلحة بمنع ارسال اية نشرات دعاية عن الرواية بالبريد ، ما دفع الناشرون الى رفع قضية ضد مصلحة البريد وطالبوا القضاء ان يعلن ان الكتاب ليس بذيئا بالمعنى الوارد في نص القانون القاضي بمنع المطبوعات البذيئة من التداول. وفي 21 من تموز عام 1959 اصدر القاضي الفيدرالي الاميركي حكما لصالح الكتاب ، فقد اوضح القاضي ان رئيس مصلحة البريد تنقصه الحجة لعدم قدرته على التمييز بين المطبوعات البذيئة والمطبوعات المحترمة ، واشاد القاضي باسلوب اخراج الكتاب على نحو محترم وبيّن ان المشتركين في شرائة قلة ضئيلة العدد ينتمون الى فئة الادباء ، وبعد ان استعرض القاضي قضية رواية "يوليسيس" لجيميس جويس والتي كانت معروضة قبل مدة أمام القضاء ، خلص الى انه لايصح اعتبار اي كتاب يتناول الجنس بذيئا الا اذا كان اهتمامه العام يميل الى الجنس بشكل فاضح وبحيث يطغى الجنس فيه على ما يتضمنه من اهمية اجتماعية .
مات د.ه.لورنس وعمرة خمسة وأربعون عاما ، وكتب في آخر رسائله : أعرف أن الشجرة ستموت في النهاية ، فهل سأتخلى عن زرع بذرة ، سيكون ذلك جبناً وغروراً .
لم يعترف النقاد بلورنس إلا بعد مرور عقود على وفاته، فتحوّلت صورته من مجرد كاتب خليع إلى ممثل للأدب الإنكليزي في مرحلة الحداثة ووُضع أدبه في مكانته بين الموروثات الأدبية في الرواية الإنكليزية، وفي حياته القصيرة التي لم تتعدَّ الـ45 عاماً، ألّف لورنس نحو 800 قصيدة وأكثر من 13 رواية و10 مسرحيات، إضافة إلى مجموعاته القصصية ومؤلفاته في أدب الرحلات وكتاباته النقدية والرؤى الفلسفية ، إلى جانب رسم لوحات فنية تعرضت هي الأخرى للمصادرة والحظر .. وفي العام الماضي كشفت جريدة الديلي تلغراف عن العثور على مخطوطة جديدة للورنس كانت عبارة يوميات كتبها على شكل رسائل ، في هذه اليوميات نكتشف أن "عشيق الليدي تشاترلي" هي سيرة لورنس مع زوجته ،ففي السنوات الأخيرة من حياته عانى الروائي الشهير أمراضاً عدة تسببت بإصابته بعجز جنسي ، ليكتشف فيما بعد أن زوجته تقيم علاقة مع شاب يصغرها بسنوات ما أدى إلى الفراق بينهما .
تكتب صاحبة نوبل دوريس لسنج : "إن العشاق غالباً ما يتصرفون بغرابة ولا يرغبون في أن يطّلع أحد على محادثاتهم الغرامية ،ولكن لورنس يجعل عشاقه يركضون تحت المطر، فشجاعته على وجه الدقة هي التي تقربه أحيانا من حافة الحكاية الهزلية ،فالروائي الأكثر دهاءً والأقل موهبةً كان سيزيل هذه الفقرات الموحية بالسخرية ،ولكن بالنسبة لـ "لورنس" فإن الروعة تتجاور مع الغرابة في أغلب أعماله "
* عن جريدة المدى
في تلك السنوات وفي أحد شوارع أكسفورد ، عاش بريطاني آخر اسمه توماس إدوارد لورنس من مواليد العام 1888 عرف باسم لورنس العرب الذي تحول إلى أسطورة في الغرب والشرق معاً،.. كان لورنس الآخر قد قرر أن يكتب عن تجربته في بلاد العرب منذ أن وَطِئت قدماه أرض بلاد الشام، في العام 1909 ، حيث كان يسعى لدراسة تصاميم القلاع الصليبية، لتقوده تلكما القدمان إلى صنع خرائط جديدة للمنطقة العربية .
************
الجلوس لكتابة تجربة الحياة والتساؤل ، ماذا فعلتَ ؟ أين أنجزتَ، وأين أخفقتَ ، أين صرعَتك الحياة وأين غلَبتها، ؟ كانت هي الهمّ الذي رافق الاثنين .
لم يستطع د.ه . لورنس كتابة سيرة حياته ،فقد أخذته فكرة حاجة الإنسان إلى التحرر، إلى أن يكتب رواية يقول عنها في رسالة إلى الشاعر إليوت : "للإنسان احتياجات صغيرة واحتياجات أعمق .. لقد وقعنا في خطأ العيش على احتياجاتنا الصغيرة إلى أن أوشكنا أن نفقد احتياجاتنا الأعمق بصورة مجنونة" . كانت هذه الكلمات هي حاشية رواية "عشق الليدي تشاترلي" التي هي آخر ما كتبه الروائي الإنكليزي الشهير ، فيما استمر لورنس الآخر بتسطير تجربته الحياتية في كتاب أسماه "أعمدة الحكمة السبعة" . قال عنه تشرشل : لقد احتل هذا الكتاب مركزه، بين الكتب الكلاسيكية الإنكليزية. فالحال أنّ غنى الموضوع، وقوته، وميزة الأسلوب الرفيعة وتلك الشخصية الصوفية التي لا حدود لها، كل ذلك رفع هذا العمل الجبار إلى ما فوق مستوى جميع المؤلفات المعاصرة ".
فيما قال لورنس العرب لكاتب سيرته إدوارد جارنت "إن كتابي مهزلة لا تستحق أن تقرأ..فإذا أردت أن ترى بعينك كيف تشوَّه الأفكار الجميلة والمادة الرائعة فارجع إلى أية صفحة من صفحات الكتاب, إنني لا أعتقد بأن هناك أي ناشر يرضى حتى بأن يحرق الكتاب فكيف بحق السماء تعتقد بأني قد جئت بعمل ممتاز؟"
لا أذكر عدد الكتب التي ظهرت عن الضابط الذي عرف باسم "لورنس العرب" وجميعها كانت تنحت في أسطورته وفي دوره في "الثورة العربية" . وهي الأسطورة التي حاول كولن ولسون في اللامنتمي أن يقدم صورة مغايره لها حيث وجدنا أمامنا لورنس مغايرا ، مجرد إنسان وحيد وقلق يعجز عن إقامة علاقات إنسانية بسيطة مع الآخرين . . في الوقت نفسه جاءت سمعة وشهرة الروائي د.ه.لورنس متأخرة، بسبب قوانين الحظر الأدبي الذي تعرضت له رواياته ، لكن هذا لم يمنع النقد الأدبي الإنكليزي من وضعه في قائمة أهم روائيي بريطانيا ، حتى أن ناقدا بحجم رتشاردز يكتب مشيداً بقدرة لورنس على إخراج الأدب من العصر الفيكتوري التقليدي المتشدد ، فاسحاً المجال لشتى أنواع التعبير خصوصاً الرغبة الذاتية.
************
في شتاء عام 1910 كتب د.ه .لورنس إلى ناشر لندني يسأل عن كلفة طبع روايته "الطاوس الأبيض" . رفض الناشر أن يرد عليه واعتبر ان نشر رواية لكاتب مبتدئ مجازفة لا تحمد عقباها ، بعد هذا التاريخ بسنوات يندم الناشر لأن صاحب الطاووس كتب رواية تهافتت عليها دور النشر وصدرت أكثر من نسخة مزورة عنها نتيجة الطلب المستمر عليها ، وكانت هذه الرواية هي "عشيق الليدي شاترلي" ، التي لا تزال تُطبع حتى اليوم. حُوّلت الى أفلام في بريطانيا وخارجها، معظم قرائها في أوروبا من النساء حسب تقرير نشرته الغارديان بمناسبة 50 عاما على القرار الذي أصدرته محكمة بريطانية ببراءة الكاتب من تهمة ترويج المجون في رواياته .
أنهى لورنس "عشيق الليدي شاترلي" في لحظة كره للمجتمع البرجوازي ، استمر في كتابتها أكثر من عامين بين خريف 1927وصيف 1929 وأمضى عيد الميلاد وحيدا بعد انفصاله عن زوجته . في ذلك الوقت كان يكتب الرسائل إلى عدد من أصدقائه ، قال في واحدة منها : "يبدو لي أن الأمر الرئيس بالنسبة للمرأة هو أنها لا يمكن تعريفها بكلمات من قبيل الحب أو الجمال أو الشرف أو الواجب أو الجدارة أو التحرر، فعلى المدى البعيد لا تمثل هذه الكلمات حقيقة المرأة " ، وفي أخرى يضيف :"إن ما تحتاج إليه المرأة هو الاكتفاء ، على الأقل الاكتفاء الجسدي بقدر ما هي بحاجة إلى الاكتفاء النفسي، الجنس بنفس قدر ما تحتاجه من الروح".
لم يعد لورنس يطمح بكتابة رواية عن حب لم يسعد به ، فالأمر تحول إلى ارتياب في العواطف التي تريد طبقة البرجوازيين فرضها على المجتمع .. تدور "عشيق الليدي تشاترلي" حول السير كليفورد تشاترلي، رجل واسع الثراء ألحقت به الحرب عاهة وتركته مشلولاً ومصاباً بعجز جنسي، فانصرف إلى الكتابة والتأليف لتعويض فشله في علاقته الحميمة مع زوجته الليدي تشاترلي، وهي في أوج شبابها وأنوثتها. لم تكد تمضي فترة حتى ضاقت ذرعاً به وأقامت علاقة مع ميلورز، بستاني يعمل لدى زوجها، تحوّلت في ما بعد إلى علاقة روحية على رغم الاختلاف الطبقي الشاسع بين العاشقين، وتُوّجت في ختام الرواية بمولد طفلهما والاستعداد للزواج، حيث نجدها تغادر بيت الزوجية لترتيب حياتها من جديد.
يكتب الناقد هارولد بلووم أن ثورة الليدي تشاترلي ، وإن كانت تأخذ طابعا جسديا ، فإنها قريبة لثورة نورا بطلة مسرحية إبسن الشهيرة "بيت الدمية ". ويضيف الناقد الشهير أن لورنس كان معجبا بطريقة إبسن في نسج الأحداث وفي القدرة على رسم ملامح شخصياته النسائية .
حينما حاول لورنس نشر الرواية رفض جميع الناشرين عمله، وذلك للإباحية التي وصف بها العلاقة الحميمة بين الليدي تشاترلي وعشيقها، ما دفعه إلى طباعتها سرا وتوزيعها.. وفي المرتين الثانية والثالثة طبعها في كل من فرنسا وإيطاليا من دون تصريح، وكذلك طبعت في أميركا من دون استئذانه.
في رسالة إلى طليقته يكتب لورنس : "تلقيت عرضا متأخرا من المزورين الأوروبيين يحددون لي نصيبا مقابل حق الملكية عن كل النسخ المباعة في الماضي ، والتي ستباع في المستقبل لو قبلت أن أعتمد طبعاتهم ، قلت لنفسي على قاعدة : من لا يظلم يظلم ، وكان علي أن أقبل العرض . تمكنت بعد ذلك من نشر النسخة الفرنسية الرخيصة ، وحثني الناشرون الإنكليز على عمل نسخة منقحة ووعدوني بمقابل كبير ، وأصروا على أن تكون رواية نظيفة لا تحتوي على الألفاظ الفاضحة ..كنت قد بدأت أستسلم للإغراء وأبدأ في تنقيح الرواية وتهذيبها ، ولكني وجدت أن ذلك مستحيل ،لأنه يعني أن أقطع أنفي بالمقص ليصبح أجمل شكلا .. ومع ذلك وعلى الرغم من كل المعارضات فإنني أعرض روايتي ككاتب أمين وصحي وضروري لنا حاليا .. الألفاظ التي تصيب بالصدمة الشديدة في البداية سيعتادها القارئ بعد ان يمضي في قراءة الرواية ، هل يرجع ذلك إلى أن العقل يفسده الاعتياد ، لا على الإطلاق إن الألفاظ تصدم العين ولكنها لا تصدم العقل مطلقا .. إن أعظم الكفر ضد الحقيقة الجنسية هو اعتبارها عملا مشينا مع أننا جئنا من خلاله ، المحافظون التقليديون يحرصون على عدم الخوض في المسألة الجنسية مع أولادهم واعتبار ذلك من المحرمات ، لكنهم ينسون أن الغريزة هي المعلم الأول ، وهي التي تقود أبناءها للحقائق دون معلّم ".
************
حاول لورنس العرب أن يهرب من الشهرة التي أخذت تلاحقه بعد صدور كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" ، ويذكر المقربون منه أنه كان يعاني من شعور بالذنب ، ولهذا رفض وسام الشرف من ملك بريطانيا، ، فقرّر الاختباء في شخصية أخرى، وقام بتغيير اسمه وتطوّع كجندي في سلاح الجو البريطاني، ولكن سرعان ما افتضح أمره وتم فصله من الجيش، وعرض عليه ونستون تشرشل أن يكون مستشاره الخاص ، ولكنه اعتذر ليعيش سنواته الأخيرة معتزلا في كوخ بضواحي لندن حيث كتب أحد المقربين له ، بعد موته، بأن لورنس كان يدفع الأموال لأحد الأشخاص كي يقوم بجلده يوميا، ومات بحادثة بعد أن انقلبت دراجته النارية في العام 1935، وعمره ستة وأربعون عاما، لتضع مجلة التايم صورته على صدر غلافها وتحتها عبارة تشرشل :"لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسّة إليه."
************
في مقالة بعنوان "ملاحظات حول عشيق الليدي تشاترلي" يلقي لورنس الضوء على الظروف التي كتب فيها هذه الرواية فيقول عن الزوج كليفورد الذي تهجره زوجته كونستانس لتضاجع حارسه :"انه نتاج الحضارة الصناعية المادية الحديثة ، مشكلته تتلخص في ان دماءه تسري فيها برودة الموت ، وهو لايفتقر الى الدفء الانساني فحسب ، بل انه فقد كل صلة تربطه بالنساء وبزملائه من البشر ، في حين ان حارس الصيد يتميز بدفء المشاعر والحيوية ، ويضيف لورنس ان هناك ما يبرر استخدامه للكلمات الجنسية المكشوفة في روايته ، فالهدف هو تحرير هذه الكلمات من اية دلالات بذيئة ، فليس في ممارسة الجنس ما يشين أو يدعو للخجل ، يقول لورنس لفي دفاعه عن الرواية : :ان الانسانية استغرقت في ممارسة الجنس دون فهمه او ادراكه ، ولهذا تحولت الممارسة الجنسية عبر الزمن الى فعل آلي كالح تغيض عنه الحياة ويبعث على الملل وخيبة الآمال ومن ثم فقد حان الوقت لإدراكه إدراكا سليماً وذلك بتجديد الافكار المتعلقة به. "
************
في عام 1959 تولت مطبعة في نيويورك نشر رواية "عشيق الليدي تشاترلي" كاملة وبدون اي حذف منها وذلك بعد حصولها على موافقة ارملة لورنس ، وظهرت الرواية في المكتبات بمقدمة لمارك سوكرر ، وبعد اسبوع من نشرها امر رئيس مصلحة البريد بمنع ارسال الكتاب عن طريق البريد باعتباره كتابا بذيئا ، كما امرت المصلحة بمنع ارسال اية نشرات دعاية عن الرواية بالبريد ، ما دفع الناشرون الى رفع قضية ضد مصلحة البريد وطالبوا القضاء ان يعلن ان الكتاب ليس بذيئا بالمعنى الوارد في نص القانون القاضي بمنع المطبوعات البذيئة من التداول. وفي 21 من تموز عام 1959 اصدر القاضي الفيدرالي الاميركي حكما لصالح الكتاب ، فقد اوضح القاضي ان رئيس مصلحة البريد تنقصه الحجة لعدم قدرته على التمييز بين المطبوعات البذيئة والمطبوعات المحترمة ، واشاد القاضي باسلوب اخراج الكتاب على نحو محترم وبيّن ان المشتركين في شرائة قلة ضئيلة العدد ينتمون الى فئة الادباء ، وبعد ان استعرض القاضي قضية رواية "يوليسيس" لجيميس جويس والتي كانت معروضة قبل مدة أمام القضاء ، خلص الى انه لايصح اعتبار اي كتاب يتناول الجنس بذيئا الا اذا كان اهتمامه العام يميل الى الجنس بشكل فاضح وبحيث يطغى الجنس فيه على ما يتضمنه من اهمية اجتماعية .
مات د.ه.لورنس وعمرة خمسة وأربعون عاما ، وكتب في آخر رسائله : أعرف أن الشجرة ستموت في النهاية ، فهل سأتخلى عن زرع بذرة ، سيكون ذلك جبناً وغروراً .
لم يعترف النقاد بلورنس إلا بعد مرور عقود على وفاته، فتحوّلت صورته من مجرد كاتب خليع إلى ممثل للأدب الإنكليزي في مرحلة الحداثة ووُضع أدبه في مكانته بين الموروثات الأدبية في الرواية الإنكليزية، وفي حياته القصيرة التي لم تتعدَّ الـ45 عاماً، ألّف لورنس نحو 800 قصيدة وأكثر من 13 رواية و10 مسرحيات، إضافة إلى مجموعاته القصصية ومؤلفاته في أدب الرحلات وكتاباته النقدية والرؤى الفلسفية ، إلى جانب رسم لوحات فنية تعرضت هي الأخرى للمصادرة والحظر .. وفي العام الماضي كشفت جريدة الديلي تلغراف عن العثور على مخطوطة جديدة للورنس كانت عبارة يوميات كتبها على شكل رسائل ، في هذه اليوميات نكتشف أن "عشيق الليدي تشاترلي" هي سيرة لورنس مع زوجته ،ففي السنوات الأخيرة من حياته عانى الروائي الشهير أمراضاً عدة تسببت بإصابته بعجز جنسي ، ليكتشف فيما بعد أن زوجته تقيم علاقة مع شاب يصغرها بسنوات ما أدى إلى الفراق بينهما .
تكتب صاحبة نوبل دوريس لسنج : "إن العشاق غالباً ما يتصرفون بغرابة ولا يرغبون في أن يطّلع أحد على محادثاتهم الغرامية ،ولكن لورنس يجعل عشاقه يركضون تحت المطر، فشجاعته على وجه الدقة هي التي تقربه أحيانا من حافة الحكاية الهزلية ،فالروائي الأكثر دهاءً والأقل موهبةً كان سيزيل هذه الفقرات الموحية بالسخرية ،ولكن بالنسبة لـ "لورنس" فإن الروعة تتجاور مع الغرابة في أغلب أعماله "
* عن جريدة المدى