شاعت في الأدب العربي اتجاهات حديثة منذ أوائل القرن الحاضر لم تكن شائعة في عصوره الماضية. ولكنها على هذا لم تزل على اتصال بعناصر الأدب العربي من أقدم عصوره
ومن شأن هذا الاتصال أن يحوط التجديد بشيء من الأناة والتريث، لأن الأدب العربي متصل باللغة كجميع الآداب في الأمم كافة، ولكن اللغة عند العرب خاصة متصلة بكتاب الدين الإسلامي وهو القرآن الكريم، ومن هنا كان الانقطاع بين الاتجاهات الحديثة والعناصر القديمة أصعب وأندر من المعهود في آداب الأمم الأخرى، وأمكن أن تقاس درجة المحافظة، أو درجة التجديد، في كل قطر من الأقطار العربية بمقياس التراث الإسلامي فيه. فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة، أو المساجد الكبرى، أو المعاهد العلمية العريقة، فهنالك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث، ويشتد الحرص على دوام الصلة بين القديم والجديد، كما يشاهد في أطوار حركة التجديد بالحجاز والعراق والشام وفلسطين وبلاد المغرب ومصر ولبنان إلى جانب هذا العامل القوي من عوامل الأناة المقصودة، يعرض للأدب العربي سببان آخران غير مقصودين، يعوقانه عن الاسترسال مع كل حركة جديدة وكل اتجاه حديث. وهما غلبة الأمية وقلة القارئين، ونقص وسائل النشر لتوزع القراء بين الأقطار العربية وصعوبة توحيد النشر فيها
وقد يظهر اختلال وسائل النشر حتى في القطر الواحد الخاضع لحكومة واحدة، كما نرى في الديار المصرية، حيث أوشكت القاهرة أن تنفرد بوسائل النشر المنتظم وتعذَّر قيام المكتبات الناجحة في غير العاصمة الكبرى
فالاتجاهات الحديثة في الأدب العربي تخضع لهذه العوامل التي تحدها عن قصد وروية، أو عن ضرورة لا قصد فيها، وهي عوامل يندر أن تجتمع نظائرها في أدب أمة واحدة، ولهذا يلاحظ أن الاتجاه الحديث في أدبنا العربي يجري في مجراه بداءة ثم لا يبلغ أقصى مداه الذي يتاح له أن يبلغه في الأمم الأخرى، ولا يخلو هذا الحد من بعض الخير، حين يمنع الاندفاع والاعتساف في اتباع الدعوات الطارئة، ولكنه خليق أن يعالج في جانب التعويق منه، كلما كان هذا التعويق عارضاً من عوارض النقص والاختلال
وعلى هذا كله قد اتجه الأدب العربي في أوائل القرن العشرين وجهات محسوسة لم تكن شائعة في عصوره الماضية بعيدها وقريبها، سواء في مبناه أو في معناه، أي سواء في الألفاظ والعبارات، أو في المطالب والموضوعات
ففي اللفظ تتجه الكتابة العربية إلى التصحيح والتبسيط، وتنجم في العالم العربي من حين إلى حين دعوات جدية إلى إعادة النظر في قواعد اللغة، لتيسير الكتابة بها وتعميم فهمها. وتصدر هذه الدعوات عن نيات مختلفة لغايات متباينة. ولكنها قد تنقسم في جملتها إلى قسمين اثنين: أحدهما يراد به تغليب اللغة الفصحى، والآخر يراد به تغليب اللغة - أو اللهجة - العامية وإحلالها محل الفصحى في الكتابة والخطابة وأحاديث المعيشة اليومية.
وكل ما يبدو من مصير هذه الدعوات أن الأمر لا ينتهي بانفراد اللغة الفصحى ولا بانفراد اللغة العامية في الكلام المكتوب. وإنما يدل الاتجاه الظاهر - إلى يومنا هذا - على إمكان العزل بين الموضوعات التي تُستخدم فيها كلٌ من اللغتين. فتستخدم العربية الفصحى في الموضوعات العامة الباقية، وتستخدم العربية العامية في الموضوعات المحلية الموقوتة، ومنها لغة الكثير بين الروايات التمثيلية سواء في المسرح أو في الصور المتحركة، وكأنهم يحسبونها بهذه المثابة من الكلام المسموع الذي نمر به في المسرح كما نمر في الأسواق والبيوات، ولا يشعر من يسمعه بالانتقال من بيئة المعيشة اليومية إلى بيئة التعليم والثقافة، وقد يساعد على الترخص في لغة التمثيل أنها لا تكتب الآن ولا تؤلف للبقاء الطويل، وإنما تؤلف لموسم بعد موسم، وقلما تعاد بعد انقضاء مواسمها
أما موضوعات الكتابة العربية، فأول ما يلاحظ فيها غلبة المنثور على المنظوم، خلافاً لما كان معهوداً في معظم العصور، قبل بداية القرن العشرين. .
ولابد من انتظار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة. ولكننا نستطيع أن نلمس منذ الساعة، سببين بارزين يفسران لنا هذا الاتجاه الجديد في تاريخ العصور الأدبية: أولهما أن الشعر كانت له في العصور الماضية طائفة نافذة السلطان تشجعه وتتكفل بقائليه، وهي طائفة الممدوحين من العظماء والسراة وأصحاب المصالح السياسية، ولاسيما في الزمن الذي كان النظم مفضلاً فيه على النثر في الدعوات السياسية لسهولة حفظه على الأميين وغير الأميين. وثانيهما أن الشعر قد شورك مشاركة قوية في بواعثه ودواعيه عند جمهرة القراء من غير طبقة السادة والعظماء. فإن جمهرة القراء يجدون اليوم منافذ كثيرة للتعبير عن العاطفة والترويج عنها في الروايات الممثلة والروايات المقروءة وما يذاع من الأغاني أو يحفظ في قوالب الحاكي ويردد في المحافل العامة، فضلاً عن الصحف والمجلات وسائر النشرات. وكل أولئك كان ميداناً للشعراء يوشك أن ينفردوا فيه.
ويلاحظ بعد هذه الملاحظة العابرة عن الشعر والنثر، أن نصيب القصة في الكتابة المنثورة آخذٌ في الازدياد والانتشار، وأن فن القصة العربية قد تقدم في الربع الثاني من القرن العشرين تقدماً لم يعرف له مثيل في ربعه الأول ولا في القرن الماضي الذي ازدهر فيه فن القصة بين الآداب العالمية. وفي بعض القصص التي تؤلف في هذه الفترة نزوعٌ إلى ما يسمى بالأدب المكشوف ترتضيه طائفة من قراء الجنسين، ولا يقابل بالرضى عنه من جمهرة القراء
ثم يلاحظ مع هذا أن الترجمة تنقص في هذا الربع الثاني وأن التأليف يزداد ويتمكن في كثير من الأغراض.
ولعل مرجع هذا إلى نمو الثقة بالنفس في الأمم العربية، وإلى ظهور طائفة من الكتاب يستطيعون الكتابة في موضوعات مختلفة، كانت وفقاً على الترجمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة.
وهنا أيضاً يحسن بنا أن ننتظر أطوار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة
لأن نشاط التأليف في السنوات الأخيرة قد يرجع إلى عوارض مستحدثة في الحرب العالمية الحاضرة، ومنها قلة الوارد من الكتب والمطبوعات الأجنبية، واتساع الوقت للقراءة واللُبث بالمنازل في الليالي التي قيدت بها الإضاءة ومواعيد السهر في الأندية العامة، ومنها ضمور حجم الصحف والمجلات وفرض الرقابة على المنازعات السياسية التي تشغل طائفة كبيرة من القراء، ومنها حالة الرواج التي يسرت أثمان الكتب لمن لم تكن ميسرة لهم قبل سنوات فإذا استقرت هذه الأسباب جميعها في قرارها بعد تبدل الحال وضحت الحقيقة في حركة التأليف ووضحت كذلك في حركة الترجمة، لأن الترجمة قد تعود إلى رجحانها بعد تدفق المؤلفات الأجنبية التي تعالج مشكلات العالم في منابتها الأولى، وقد يكون تدفق هذه المؤلفات موجباً للكتابة في موضوعاتها والتعقيب عليها دون ترجمتها
أما أغراض الأدباء من موضوعاتهم وكتاباتهم، فالربع الثاني من القرن العشرين حقيق أن يشهد فيها أنشعاباً لم يسبق إليه قط بين المدرستين الخالدين على مدى الزمان، ونعني بهما مدرسة الفن للفن، ومدرسة الفن لخدمة المصالح الاجتماعية أو المصالح السياسية
فمنذ وُجد الأدب وجد الأدباء الذين يكتفون بالتعبير لجماله وإعرابه من سرائر النفس الإنسانية، ووجد الأدباء الذين يعبرون ليرجّحوا دعوة على دعوة، أو يقنعوا الناس بمذاهب من مذاهب الإصلاح ويحركوهم إلى عمل مقصود.
ولكن الآونة التي نحن فيها تجنح بالناس إلى التفرقة الحاسمة بين المدرستين الخالدتين، لأنها ليست تفرقة بين رهطين من الأدباء وكفى، ولكنها تفرقة بين حكومية وطبقات اجتماعية ودعوات فلسفية لا تزال عرضة للمناقشة في صدد المعيشة اليومية وصدد التفكير والدراسة. إذ كان من قواعد الاشتراكية المتطرفة أن الطبقة الاجتماعية الغالبة على الحكم في حل من تسخير الآداب والفنون والعقائد لخدمة مصالحها وتمثيل عاداتها وآمالها. فإذا أضيف القائلون بهذا الرأي لأنهم يدينون بالاشتراكية إلى القائلين به لأنهم ينكرون مذهب الفن للفن عامة، فقد أصبحت الآونة الحاضرة في الحقيقة آونة النظر في المدرستين الخالدتين على وجه من الوجوه.
وقد ظهر في اللغة العربية بعض القصص، والدراسات التي تتناول المسائل الاجتماعية، وتصور الغني والفقير، والرجل والمرأة في صورة تستحث النفوس إلى طلب الإصلاح والتغيير. ولا تزال تظهر فيها قصص ودراسات تصور الحالة في صورتها الفنية وتترك العمل المترتب على ظهورها في هذه الصورة لشعور القراء. ولكننا نعتقد أن مصير الخلاف بين المدرستين، كمصير الخلاف بين دعاة الفصحى ودعاة العامية، فلا تنفرد مدرسة الفن للفن بالميدان، ولا تنفرد به مدرسة الفن لخدمة المقاصد الاجتماعية، لأن أنماط الكتابة والتفكير لا تفرض بالإملاء والإيحاء، وإنما تفرضها على الأديب سليقته ومزاجه.
فمن غلبت فيه سليقة المصلح على سليقة الفنان ظهرت الدعوة في كتابته عامداً أو غير عامد، ومن غلبت فيه سليقة الفنان على سليقة المصلح لم يفده إكراهه على الدعوة، إلا أن يقتسر طبعه على غير ما يحسنه ويجيد فيه، ولن تخلو الدنيا من أصحاب السليقتين.
وقد أسلفنا في صدر هذه الكلمة أن درجة المحافظة - في كل قطر من الأقطار العربية إنما تقاس بمقياس التراث الإسلامي فيه؛ فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة أو المساجد الكبرى أو المعاهد العلمية العريقة فهناك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث.
ولا تصدق هذه الملاحظة على شيء صدقها على الدعوات الاجتماعية التي تمس قواعد الدين. فأن درجة النفور منها تكاد تتمشى في الترتيب بين الأقطار الإسلامية على حسب المعاهد العريقة التي فيها وحسب منزلتها في القداسة والرعاية الدينية، وذلك هو شأن الأقطار العربية في كل تجيد له علاقة بالعقيدة الإسلامية من قريب أو بعيد.
وإذا أردنا أن نوجز القول في وصف الاتجاهات الحديثة فجملة القول في وصفها، بعد هذه اللمحات عن مبناها ومعناها، أننا نعبر الآن فترة البداية في الاستقلال والثقة بالنفس. وأن هذا الاستقلال يتجلى حيناً في التحرر من القديم ويتجلى حيناً آخر في التحرر من الجديد.
فقد مضى زمان كان يكفي فيه أن يكون الشيء قديماً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، ومضي بعدهُ زمن كان يكفي فيه أن يكون الشيء أوربياً أو حديثاً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، فهذا الربع الثاني من القرن العشرين قد عرف أنانساً يأبون التقيد بكل قديم لأنه قديم، كما يأبون التقيد بكل جديد. ومن الناس اليوم من يوصف بالابتكار والجرأة لأنه يتمسك بقديم كان الاستمساك به وقفاً على الجامدين، ومنهم من يوصف بالجمود والمحاكاة لأنه يعجل إلى الجديد الذي يستحب على سنة التقليد. ولعل الحقيقة المقبلة هي التي يكتب لها أن نثبت قدم الاستقلال وتطلق الآراء من حجر القديم والجديد على السواء.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 606
بتاريخ: 12 - 02 - 1945
ومن شأن هذا الاتصال أن يحوط التجديد بشيء من الأناة والتريث، لأن الأدب العربي متصل باللغة كجميع الآداب في الأمم كافة، ولكن اللغة عند العرب خاصة متصلة بكتاب الدين الإسلامي وهو القرآن الكريم، ومن هنا كان الانقطاع بين الاتجاهات الحديثة والعناصر القديمة أصعب وأندر من المعهود في آداب الأمم الأخرى، وأمكن أن تقاس درجة المحافظة، أو درجة التجديد، في كل قطر من الأقطار العربية بمقياس التراث الإسلامي فيه. فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة، أو المساجد الكبرى، أو المعاهد العلمية العريقة، فهنالك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث، ويشتد الحرص على دوام الصلة بين القديم والجديد، كما يشاهد في أطوار حركة التجديد بالحجاز والعراق والشام وفلسطين وبلاد المغرب ومصر ولبنان إلى جانب هذا العامل القوي من عوامل الأناة المقصودة، يعرض للأدب العربي سببان آخران غير مقصودين، يعوقانه عن الاسترسال مع كل حركة جديدة وكل اتجاه حديث. وهما غلبة الأمية وقلة القارئين، ونقص وسائل النشر لتوزع القراء بين الأقطار العربية وصعوبة توحيد النشر فيها
وقد يظهر اختلال وسائل النشر حتى في القطر الواحد الخاضع لحكومة واحدة، كما نرى في الديار المصرية، حيث أوشكت القاهرة أن تنفرد بوسائل النشر المنتظم وتعذَّر قيام المكتبات الناجحة في غير العاصمة الكبرى
فالاتجاهات الحديثة في الأدب العربي تخضع لهذه العوامل التي تحدها عن قصد وروية، أو عن ضرورة لا قصد فيها، وهي عوامل يندر أن تجتمع نظائرها في أدب أمة واحدة، ولهذا يلاحظ أن الاتجاه الحديث في أدبنا العربي يجري في مجراه بداءة ثم لا يبلغ أقصى مداه الذي يتاح له أن يبلغه في الأمم الأخرى، ولا يخلو هذا الحد من بعض الخير، حين يمنع الاندفاع والاعتساف في اتباع الدعوات الطارئة، ولكنه خليق أن يعالج في جانب التعويق منه، كلما كان هذا التعويق عارضاً من عوارض النقص والاختلال
وعلى هذا كله قد اتجه الأدب العربي في أوائل القرن العشرين وجهات محسوسة لم تكن شائعة في عصوره الماضية بعيدها وقريبها، سواء في مبناه أو في معناه، أي سواء في الألفاظ والعبارات، أو في المطالب والموضوعات
ففي اللفظ تتجه الكتابة العربية إلى التصحيح والتبسيط، وتنجم في العالم العربي من حين إلى حين دعوات جدية إلى إعادة النظر في قواعد اللغة، لتيسير الكتابة بها وتعميم فهمها. وتصدر هذه الدعوات عن نيات مختلفة لغايات متباينة. ولكنها قد تنقسم في جملتها إلى قسمين اثنين: أحدهما يراد به تغليب اللغة الفصحى، والآخر يراد به تغليب اللغة - أو اللهجة - العامية وإحلالها محل الفصحى في الكتابة والخطابة وأحاديث المعيشة اليومية.
وكل ما يبدو من مصير هذه الدعوات أن الأمر لا ينتهي بانفراد اللغة الفصحى ولا بانفراد اللغة العامية في الكلام المكتوب. وإنما يدل الاتجاه الظاهر - إلى يومنا هذا - على إمكان العزل بين الموضوعات التي تُستخدم فيها كلٌ من اللغتين. فتستخدم العربية الفصحى في الموضوعات العامة الباقية، وتستخدم العربية العامية في الموضوعات المحلية الموقوتة، ومنها لغة الكثير بين الروايات التمثيلية سواء في المسرح أو في الصور المتحركة، وكأنهم يحسبونها بهذه المثابة من الكلام المسموع الذي نمر به في المسرح كما نمر في الأسواق والبيوات، ولا يشعر من يسمعه بالانتقال من بيئة المعيشة اليومية إلى بيئة التعليم والثقافة، وقد يساعد على الترخص في لغة التمثيل أنها لا تكتب الآن ولا تؤلف للبقاء الطويل، وإنما تؤلف لموسم بعد موسم، وقلما تعاد بعد انقضاء مواسمها
أما موضوعات الكتابة العربية، فأول ما يلاحظ فيها غلبة المنثور على المنظوم، خلافاً لما كان معهوداً في معظم العصور، قبل بداية القرن العشرين. .
ولابد من انتظار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة. ولكننا نستطيع أن نلمس منذ الساعة، سببين بارزين يفسران لنا هذا الاتجاه الجديد في تاريخ العصور الأدبية: أولهما أن الشعر كانت له في العصور الماضية طائفة نافذة السلطان تشجعه وتتكفل بقائليه، وهي طائفة الممدوحين من العظماء والسراة وأصحاب المصالح السياسية، ولاسيما في الزمن الذي كان النظم مفضلاً فيه على النثر في الدعوات السياسية لسهولة حفظه على الأميين وغير الأميين. وثانيهما أن الشعر قد شورك مشاركة قوية في بواعثه ودواعيه عند جمهرة القراء من غير طبقة السادة والعظماء. فإن جمهرة القراء يجدون اليوم منافذ كثيرة للتعبير عن العاطفة والترويج عنها في الروايات الممثلة والروايات المقروءة وما يذاع من الأغاني أو يحفظ في قوالب الحاكي ويردد في المحافل العامة، فضلاً عن الصحف والمجلات وسائر النشرات. وكل أولئك كان ميداناً للشعراء يوشك أن ينفردوا فيه.
ويلاحظ بعد هذه الملاحظة العابرة عن الشعر والنثر، أن نصيب القصة في الكتابة المنثورة آخذٌ في الازدياد والانتشار، وأن فن القصة العربية قد تقدم في الربع الثاني من القرن العشرين تقدماً لم يعرف له مثيل في ربعه الأول ولا في القرن الماضي الذي ازدهر فيه فن القصة بين الآداب العالمية. وفي بعض القصص التي تؤلف في هذه الفترة نزوعٌ إلى ما يسمى بالأدب المكشوف ترتضيه طائفة من قراء الجنسين، ولا يقابل بالرضى عنه من جمهرة القراء
ثم يلاحظ مع هذا أن الترجمة تنقص في هذا الربع الثاني وأن التأليف يزداد ويتمكن في كثير من الأغراض.
ولعل مرجع هذا إلى نمو الثقة بالنفس في الأمم العربية، وإلى ظهور طائفة من الكتاب يستطيعون الكتابة في موضوعات مختلفة، كانت وفقاً على الترجمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة.
وهنا أيضاً يحسن بنا أن ننتظر أطوار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة
لأن نشاط التأليف في السنوات الأخيرة قد يرجع إلى عوارض مستحدثة في الحرب العالمية الحاضرة، ومنها قلة الوارد من الكتب والمطبوعات الأجنبية، واتساع الوقت للقراءة واللُبث بالمنازل في الليالي التي قيدت بها الإضاءة ومواعيد السهر في الأندية العامة، ومنها ضمور حجم الصحف والمجلات وفرض الرقابة على المنازعات السياسية التي تشغل طائفة كبيرة من القراء، ومنها حالة الرواج التي يسرت أثمان الكتب لمن لم تكن ميسرة لهم قبل سنوات فإذا استقرت هذه الأسباب جميعها في قرارها بعد تبدل الحال وضحت الحقيقة في حركة التأليف ووضحت كذلك في حركة الترجمة، لأن الترجمة قد تعود إلى رجحانها بعد تدفق المؤلفات الأجنبية التي تعالج مشكلات العالم في منابتها الأولى، وقد يكون تدفق هذه المؤلفات موجباً للكتابة في موضوعاتها والتعقيب عليها دون ترجمتها
أما أغراض الأدباء من موضوعاتهم وكتاباتهم، فالربع الثاني من القرن العشرين حقيق أن يشهد فيها أنشعاباً لم يسبق إليه قط بين المدرستين الخالدين على مدى الزمان، ونعني بهما مدرسة الفن للفن، ومدرسة الفن لخدمة المصالح الاجتماعية أو المصالح السياسية
فمنذ وُجد الأدب وجد الأدباء الذين يكتفون بالتعبير لجماله وإعرابه من سرائر النفس الإنسانية، ووجد الأدباء الذين يعبرون ليرجّحوا دعوة على دعوة، أو يقنعوا الناس بمذاهب من مذاهب الإصلاح ويحركوهم إلى عمل مقصود.
ولكن الآونة التي نحن فيها تجنح بالناس إلى التفرقة الحاسمة بين المدرستين الخالدتين، لأنها ليست تفرقة بين رهطين من الأدباء وكفى، ولكنها تفرقة بين حكومية وطبقات اجتماعية ودعوات فلسفية لا تزال عرضة للمناقشة في صدد المعيشة اليومية وصدد التفكير والدراسة. إذ كان من قواعد الاشتراكية المتطرفة أن الطبقة الاجتماعية الغالبة على الحكم في حل من تسخير الآداب والفنون والعقائد لخدمة مصالحها وتمثيل عاداتها وآمالها. فإذا أضيف القائلون بهذا الرأي لأنهم يدينون بالاشتراكية إلى القائلين به لأنهم ينكرون مذهب الفن للفن عامة، فقد أصبحت الآونة الحاضرة في الحقيقة آونة النظر في المدرستين الخالدتين على وجه من الوجوه.
وقد ظهر في اللغة العربية بعض القصص، والدراسات التي تتناول المسائل الاجتماعية، وتصور الغني والفقير، والرجل والمرأة في صورة تستحث النفوس إلى طلب الإصلاح والتغيير. ولا تزال تظهر فيها قصص ودراسات تصور الحالة في صورتها الفنية وتترك العمل المترتب على ظهورها في هذه الصورة لشعور القراء. ولكننا نعتقد أن مصير الخلاف بين المدرستين، كمصير الخلاف بين دعاة الفصحى ودعاة العامية، فلا تنفرد مدرسة الفن للفن بالميدان، ولا تنفرد به مدرسة الفن لخدمة المقاصد الاجتماعية، لأن أنماط الكتابة والتفكير لا تفرض بالإملاء والإيحاء، وإنما تفرضها على الأديب سليقته ومزاجه.
فمن غلبت فيه سليقة المصلح على سليقة الفنان ظهرت الدعوة في كتابته عامداً أو غير عامد، ومن غلبت فيه سليقة الفنان على سليقة المصلح لم يفده إكراهه على الدعوة، إلا أن يقتسر طبعه على غير ما يحسنه ويجيد فيه، ولن تخلو الدنيا من أصحاب السليقتين.
وقد أسلفنا في صدر هذه الكلمة أن درجة المحافظة - في كل قطر من الأقطار العربية إنما تقاس بمقياس التراث الإسلامي فيه؛ فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة أو المساجد الكبرى أو المعاهد العلمية العريقة فهناك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث.
ولا تصدق هذه الملاحظة على شيء صدقها على الدعوات الاجتماعية التي تمس قواعد الدين. فأن درجة النفور منها تكاد تتمشى في الترتيب بين الأقطار الإسلامية على حسب المعاهد العريقة التي فيها وحسب منزلتها في القداسة والرعاية الدينية، وذلك هو شأن الأقطار العربية في كل تجيد له علاقة بالعقيدة الإسلامية من قريب أو بعيد.
وإذا أردنا أن نوجز القول في وصف الاتجاهات الحديثة فجملة القول في وصفها، بعد هذه اللمحات عن مبناها ومعناها، أننا نعبر الآن فترة البداية في الاستقلال والثقة بالنفس. وأن هذا الاستقلال يتجلى حيناً في التحرر من القديم ويتجلى حيناً آخر في التحرر من الجديد.
فقد مضى زمان كان يكفي فيه أن يكون الشيء قديماً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، ومضي بعدهُ زمن كان يكفي فيه أن يكون الشيء أوربياً أو حديثاً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، فهذا الربع الثاني من القرن العشرين قد عرف أنانساً يأبون التقيد بكل قديم لأنه قديم، كما يأبون التقيد بكل جديد. ومن الناس اليوم من يوصف بالابتكار والجرأة لأنه يتمسك بقديم كان الاستمساك به وقفاً على الجامدين، ومنهم من يوصف بالجمود والمحاكاة لأنه يعجل إلى الجديد الذي يستحب على سنة التقليد. ولعل الحقيقة المقبلة هي التي يكتب لها أن نثبت قدم الاستقلال وتطلق الآراء من حجر القديم والجديد على السواء.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 606
بتاريخ: 12 - 02 - 1945