التشاؤم والمتشائمون
لما شاء الله أن يثب قَبيل من نامية الله تلك الوثبة، أن يطفر الطفرة، وليست الطفرة على ذي القدرة والحول بمحال، واعتدلت القامات و (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وتحركت الألسنة بعد حين من الدهر طويل بتلك اللهجات البينات، وكرّم الله أناسيّ كثيراً على سائر المخلوقات بالذي دعته اللغات (العقل) وهو نعمة الله الكبرى، وفضيلة الإنسان على غيره العظمى
(ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطبيات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
(اللبابُ أهلُ الألباب، ولكل حيوان حس ولكن الله فضل الناطقين)
لّما كان الذي سمته الإفرنجية وصرنا إلى أفق الإنسانية الذي ذكره ابن خلدون ووضحه وفصَّله النشوئيون تفضيلاً (وقد خلقاهم أطواراً) ونجم في الأدمغة ذلك (الفكر) المضيء، وهو خير ما في الدنيا، بل هو كل ما في الدنيا
- كما يقول العلامة بوانكريه - ومحلُّ العقل (الدماغ) كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأرنست هيكل لا القلب - كما يقول الشافعي - واستنبط الحجى معاني للأشياء كانت خافية قبل ذلك (الارتقاء)، وهشت النفوس وبشت بما ترى العيون، وأقبل (الإدراك) وأتى (الفهم) فادرِك المحسوس أو المحس، وفُهم المنظور، والحس البحث والنظر الصرف كما يشعر غير الناطق ويلمح من دون فكرة وفهامة هما كلا شيء، كونُهما مثل العدم، إنَّ الهناءة والسعادة في البصيرة لا البصر،
لمّا ارتقينا وعقلنا وعلمنا وبنينا وحفرنا وغرسنا وتلونا:
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) وقال الشيخ في (الفصول والغايات):
(إن شاء الملك قرَّب النازح وطواه حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام، ويأخذ الجمرة من تِهامه فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال) فخفَقْنا قوله، وطار في الجو أو في السُّمَّهى مثل الطيور الطائرون، وسمعنا في دمشق سرار القوم بله الطنطة في برلين وفي لندن وفي باريس وواشنطن، وبله العَطْعطه في ميادين القتال. وأورى (مركوني) ما أورى وهو في سفينته في بحر الروم فأضاءت (سدني) في أقصى الأرض (ويخلق ما لا تعلمون)،
لما قطعنا ما قطعنا، وبلغنا ما بلغنا، ومشينا اليّقدُميَّه، وحمدنا وشكرنا و (الحمد لله رب العالمين) طلعت علينا أجواق تذم الوجود، وتهجو الحياة، وتُطرى العدم، وتلعن الدنيا، وتكنبها بأم دَفْر وأم دَرَن، وتصفها بأنها دار قُلْعة، منزل قُلَعة، ونسمي خيراتِها حُطاما. وجاء فوج أنكر كونها، ولم يجد لها مثلاً؛ (قيل لبعضهم: كيف ترى الدنيا؟ قال: وما الدنيا؟ لا أعرف لها وجوداً) (وقيل لآخر: ما مثل الدنيا؟ قال: هي أقل من أن يكون لها مثل) وتمادى محمد بن واسع في استحقارها بل جاز المدى (قيل له: فلان زاهد، قال: وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها؟) وأقبل الحجاج بن يوسف متقرئاً متحنثاً فقال في إحدى الخطب: (والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بمعامتي هذه؛ ولمَا بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء) وتالله لولا أنه الكُهاكه - وكان الحجاج قصيراً أصفر كهاكها - أيدي إلى العربية تلك اليد، وتقرب إلى (الكتاب) ذاك التقرب الكريم المشتهر، وولع بالقرآن ولعاً كبيراً حتى قال عمر بن عبد العزيز: (ما حسدت الحجاج على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله) لولا كل ذلك لسخطنا وأطلنا القول فيه وبدا (الوليد) متحذلفاً متفلسفاً في هذه المقطوعة التي أخرجته من بغداد:
أخَّي، متى خاصمت نفسك فاحتشد ... لها، ومتى حدثتْ نفسك فاصدق
أرى علل الأشياء شتى ولا أرى التجمع (م) ... إلا علة للتفرق
أرى الدهر غولاً لنفوس وإنما ... يقي الله في بعض المواطن من بقي
فلا تتبعْ الماضي سؤالك لم مضي؟ ... وعرج على الباقي وسائلهِ لِمْ بقى؟ ولم أر كالدنيا حليلة صاحب ... محب متى تحسن بعينيه تطلق
تراها عيانا (وهي صنعة واحد) ... فتحسبها صنعَي لطيف وأخرق
ومن قول يذم جميع الناس:
إن الزمان زمان سوْ ... وجميع هذا الناس بوْ
وأطل علينا أحمد بن الحسين الكندي مجهورا هذا الكلام:
إذا كان الشباب السكر والشيب (م) ... هما فالحياة هي الحمام
هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... وما تحسن الأيام تكتب ما أملي
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
يقول ابن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم في حل المنظوم):
(كنت سافرت إلى مصر سنة (566) ورأيت الناس مكبين على شعر أبي الطيب المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك، فلم يذكروا لي في هذا شيئاً، ثم إني فاوضت عبد الرحمن بن علي البيساني (القاضي الفاضل) في هذا فقال لي: (إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس) ولقد صدق فيما قال) فهل نطق المتنبي بتلكم الأبيات عن خواطر الأناسين، أم لغابها عن سوانح الشياطين، إنهم الشعراء يفتلتون (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) و (الشعر للخَلَد مثل الصورة لليد، يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره). (وإذا رُجع إلى الحقائق فنطقُ السن، لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان)
ودهمنا ابن الشبل البغدا_دي هتاتا جدافاً يردد هذا الشعر:
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نفتذي بموت وتحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
قبح الله لذة لأذنا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقد (م) ... فإيجانا علينا بلاء
ليت شعري وللبلى كل ذا الخلق (م) ... بماذا تميز الأنبياء
موت ذا العالم المفضل بالنطق (م) ... وذا السارح البهيم سواء
لا غويٌّ لفقده تبسم الأرض (م) ... ولا للتقيِّ تبكي السماء إنما الناس قادم إثر ماض ... بدُ قوم للآخرين انتهاء
يربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار
وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذاه من نوائبها ظؤار
هي العشواء ما خطبت هشيم ... هي العجماء ما جرحتُ جبار
نعاقَب في الظهور وما وُلدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
وننتظر الرزايا والبلايا ... وبعد فبالوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أحرجه الوجار
فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجّدين به الخيار؟
وكانت أنعماً لو أن كوناً ... نُخَيَّر قبله أو نستشار
لقد استأسد ابن الشبل على الحق، وبالغ في العفلطة والعسلطة، ولقد عجبنا إذ سمعنا المفترح، وأطلنا الكركرة والقهقهة. إنَّ على مبدعنا أن يستشير تلكم الذريرات (أعني الأناسية) في الكون أو في العدم، ويقول لها: (أنت علي المتخير) أنت بالمختار، أنت الخيار. ولها أن تنعم أو تُلالي
(وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة، سبحان الله وتعالى عما يُشركون)
ذريةَ الأنس لا تُزهوا فإنكم ... ذَرًّ تُعدون أو نملا تضاهونا
إنَّ الأناسي لم يتمثلوا بشراً أو أبشاراً أسوياء إلا من بعد آلاف من الحقب ومن بعد أطوار مختلفات كثيرات لا يعلم عددها إلا الله. ومثل ابن الشبل إنما نشأ ذريرة لا تكاد ترى بالمجهر (ثم أنشأناه خلقاً آخر) درَّجته سنة الله إلى حيث انتهى أو ارتقى. وكان لا يحس في وقت ولا يسمع وما عقل - إن عقل - إلا بالأمس، ففي أي طور وفي حين يُخيّر أو يستشار؟
(إن الإنسان لَيطغى أن رآه استغنى) أو رآه قد احتسى من بحر علم الله حسوة!
إنَّ قوماً يريدوا أن يكونوا، وما أحبوا أن يكون غيرهم، فذموا الدنيا ذاك الذم، وصبغوها للناظرين بأردأ صبغ، بأبشع صبغ: (غرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة) كما يقول قطري، أن كان قال هذا. وهجوا قطين الأرض، أهل الدنيا شر هجاء:
خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما في البرية كلها إنسان
أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
زمان يمر، وعيش يمر ... ودهر يكر بما لا يسر
وحال يذوب، وهم ينوب ... ودنيا تناديك أن ليس حر
وإذا سمعوا المتفائلين الخلص يقولون: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) تحدوهم صائحين: (ليس في الإمكان أقبح مما كان) وما النجاة عندهم لمرتجى خلاصه مما يقاسي ويرى إلا في الانتحار
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا إن يكن أمانيا
ولهم في قتل الناس نفوسهم وتزبينه أقاويل، شرحها طويل. وهؤلاء القوم الذين سماهم المصطلح العربي بالمتشائمين واسمهم بالفرنجي بسيمست. إما أن يكونوا إلهيين، وإما أن يكونوا دهريين.
(وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يُهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من عِلم، إن هم إلا يظنون)
ودان أناس بالجزاء وكونِه ... وقال رجال: إنما أنتم بقل
ضل الذي قال: البلاد قديمة ... بالطبع كانت والأنام كنبتها
وأمامنا يوم تقوم عجوده ... من بعد إبلاء العظام ورفتها
فإن كانوا من الأولين فهل يحق إلا الإيقان كل الإيقان بأن ليس ثمة إلا الحكمة التامة والإتقان
(ما ترى في خَلق الرحمن من تفاوُت)
(صنع الله الذي أتقنَ كلَّ شيء)
(الذي أحسن كل شيء خلقه)
(صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة؟)
والله أعلم من كل عليم وأحكم من كل حكيم
(أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً)؟ وخلقُك من ربنا حكمة ... لقد جلَّ عن لعب أو عيث
وإن كانت برهمية وبوذية تريان الكون شراً، فليست البرهمية والبوذية على شيء، ولا يُحتسب بمثلهما. وإن عدهما (أرثر شوبنهور) أكمل الأديان طرأ من أجل هذا المعتقد
نعم (ما الدنيا إلا عمرَي ولا خلود إلا في الأخرى)
و (الدنيا قنظرة) قنطرة الآخرة؛ لكن هل علينا أن نقعد في القنطرة نشهق ونزعق، ونخمش الوجوه، ونلطم الخدود، ونلدِم الصدور حتى يجيء الأجل، حتى يجي وقت النقلة، و (الكتاب) يقول:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا)
ونطق (الكتاب) فصل الخطاب
وإن كان القوم المتشائمون من الآخرين فسوف يُسألون: هل علمتم كيف كنتم؟ هل علمتم كيف كانت داركم؟ إنها كانت داراً تستعر استعاراً، ولم تزل بقايا خبايا في الزوايا تضطرم. فاقرءوا تاريخها، واقرءوا تأريخكم، وفتشوا صحائف الأنساب
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)
وانظروا كيف عادت (محْلة) كيف عادت هذه (الغبراء)، وانظروا كيف عدتم بشراً، وكيف سدتم أقربين وأبعدين. وإن تأخر من عترتكم متأخرون إذ تقدم متقدمون، فتعلموا أن السابقين والمتوقفين المتمكثين لم يبرحوا في البدء، لم يبرحوا في أول الطريق، لم يبرحوا في الطور الشنبنزي كما قال توماس أدسن:
تشبه بعض ببعض فما ... تزال الشمائل قرديه
فأجد بالدهريين الذين ينشدون:
اجتنب ما سخرت جه ... لاً له هذى الخليقة
رغبوا في باطل زور ... يزهد في الحقيقة
ليس إلا ما تراه ... أنا أدري بالطريقة
خذ من الدنيا بحظ ... قبل أن ترحل عنها
فهي دار لا ترى من ... بعدها أحسن منها
فلا يرون أن هناك دارين، وأن هناك معنيين: معنى هذى، ومعنى تلك، بل يقولون: كل شيء معناه ومنتهاه فيه - أجدر بهؤلاء ألا يكونوا من المتشائمين في حين. ومقالهم هذا المقال.
إن الفتى بكونه سعيد، بكونه حسب، قد سعد بما وجد - كما يقول الإنكليز - فذروا التشاؤم في الحياة يا أيها الناس، وابهجوا أنفسكم، واجتذلوا لعلكم لا تحزنون. كونوا من المتفائلين، من أهل الفؤول، ولا تشاءموا ولا تطيروا وتمثلوا بهذا البيت وقد تمثل به رسول الله كما ذكر الشيخ في رسالة الغفران:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحققاً
وكان (صلى الله عليه وسلم) كما روت أحاديث - يتفاءل ولا يتطير
وكونوا إيثاريين أثريين في هذا الوجود كيما تقوا أنفسكم، وكي تصونوا جنسكم، وتسعدوا وترتقوا. إن الأثرية والإيثارية هما الفضيلتان العظيمتان متحدتين لا مفترقتين، وأولى لأثري كفر بالإيثارية ثم أولى! وأولى لإيثاري لم يؤمن بالأثرية ثم أولى. إن الأول شرير شيطان من الشريرين، وإن الثاني - إما كان - لذو جِنة في المجانين
واستمعوا لما يقول شيخنا أبو العلاء، فقد أعلنت أقواله الحقيقة وهدت إلى الطريقة، وعززت شريعة المتفائلين. وفندت مذهب المتشائمين، وبينت للناس كيف يحيون، وكيف يقوون، وكيف يسيرون في هذا الوجود.
مجلة الرسالة - العدد 606
بتاريخ: 12 - 02 - 1945
لما شاء الله أن يثب قَبيل من نامية الله تلك الوثبة، أن يطفر الطفرة، وليست الطفرة على ذي القدرة والحول بمحال، واعتدلت القامات و (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وتحركت الألسنة بعد حين من الدهر طويل بتلك اللهجات البينات، وكرّم الله أناسيّ كثيراً على سائر المخلوقات بالذي دعته اللغات (العقل) وهو نعمة الله الكبرى، وفضيلة الإنسان على غيره العظمى
(ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطبيات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
(اللبابُ أهلُ الألباب، ولكل حيوان حس ولكن الله فضل الناطقين)
لّما كان الذي سمته الإفرنجية وصرنا إلى أفق الإنسانية الذي ذكره ابن خلدون ووضحه وفصَّله النشوئيون تفضيلاً (وقد خلقاهم أطواراً) ونجم في الأدمغة ذلك (الفكر) المضيء، وهو خير ما في الدنيا، بل هو كل ما في الدنيا
- كما يقول العلامة بوانكريه - ومحلُّ العقل (الدماغ) كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأرنست هيكل لا القلب - كما يقول الشافعي - واستنبط الحجى معاني للأشياء كانت خافية قبل ذلك (الارتقاء)، وهشت النفوس وبشت بما ترى العيون، وأقبل (الإدراك) وأتى (الفهم) فادرِك المحسوس أو المحس، وفُهم المنظور، والحس البحث والنظر الصرف كما يشعر غير الناطق ويلمح من دون فكرة وفهامة هما كلا شيء، كونُهما مثل العدم، إنَّ الهناءة والسعادة في البصيرة لا البصر،
لمّا ارتقينا وعقلنا وعلمنا وبنينا وحفرنا وغرسنا وتلونا:
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) وقال الشيخ في (الفصول والغايات):
(إن شاء الملك قرَّب النازح وطواه حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام، ويأخذ الجمرة من تِهامه فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال) فخفَقْنا قوله، وطار في الجو أو في السُّمَّهى مثل الطيور الطائرون، وسمعنا في دمشق سرار القوم بله الطنطة في برلين وفي لندن وفي باريس وواشنطن، وبله العَطْعطه في ميادين القتال. وأورى (مركوني) ما أورى وهو في سفينته في بحر الروم فأضاءت (سدني) في أقصى الأرض (ويخلق ما لا تعلمون)،
لما قطعنا ما قطعنا، وبلغنا ما بلغنا، ومشينا اليّقدُميَّه، وحمدنا وشكرنا و (الحمد لله رب العالمين) طلعت علينا أجواق تذم الوجود، وتهجو الحياة، وتُطرى العدم، وتلعن الدنيا، وتكنبها بأم دَفْر وأم دَرَن، وتصفها بأنها دار قُلْعة، منزل قُلَعة، ونسمي خيراتِها حُطاما. وجاء فوج أنكر كونها، ولم يجد لها مثلاً؛ (قيل لبعضهم: كيف ترى الدنيا؟ قال: وما الدنيا؟ لا أعرف لها وجوداً) (وقيل لآخر: ما مثل الدنيا؟ قال: هي أقل من أن يكون لها مثل) وتمادى محمد بن واسع في استحقارها بل جاز المدى (قيل له: فلان زاهد، قال: وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها؟) وأقبل الحجاج بن يوسف متقرئاً متحنثاً فقال في إحدى الخطب: (والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بمعامتي هذه؛ ولمَا بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء) وتالله لولا أنه الكُهاكه - وكان الحجاج قصيراً أصفر كهاكها - أيدي إلى العربية تلك اليد، وتقرب إلى (الكتاب) ذاك التقرب الكريم المشتهر، وولع بالقرآن ولعاً كبيراً حتى قال عمر بن عبد العزيز: (ما حسدت الحجاج على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله) لولا كل ذلك لسخطنا وأطلنا القول فيه وبدا (الوليد) متحذلفاً متفلسفاً في هذه المقطوعة التي أخرجته من بغداد:
أخَّي، متى خاصمت نفسك فاحتشد ... لها، ومتى حدثتْ نفسك فاصدق
أرى علل الأشياء شتى ولا أرى التجمع (م) ... إلا علة للتفرق
أرى الدهر غولاً لنفوس وإنما ... يقي الله في بعض المواطن من بقي
فلا تتبعْ الماضي سؤالك لم مضي؟ ... وعرج على الباقي وسائلهِ لِمْ بقى؟ ولم أر كالدنيا حليلة صاحب ... محب متى تحسن بعينيه تطلق
تراها عيانا (وهي صنعة واحد) ... فتحسبها صنعَي لطيف وأخرق
ومن قول يذم جميع الناس:
إن الزمان زمان سوْ ... وجميع هذا الناس بوْ
وأطل علينا أحمد بن الحسين الكندي مجهورا هذا الكلام:
إذا كان الشباب السكر والشيب (م) ... هما فالحياة هي الحمام
هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... وما تحسن الأيام تكتب ما أملي
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
يقول ابن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم في حل المنظوم):
(كنت سافرت إلى مصر سنة (566) ورأيت الناس مكبين على شعر أبي الطيب المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك، فلم يذكروا لي في هذا شيئاً، ثم إني فاوضت عبد الرحمن بن علي البيساني (القاضي الفاضل) في هذا فقال لي: (إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس) ولقد صدق فيما قال) فهل نطق المتنبي بتلكم الأبيات عن خواطر الأناسين، أم لغابها عن سوانح الشياطين، إنهم الشعراء يفتلتون (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) و (الشعر للخَلَد مثل الصورة لليد، يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره). (وإذا رُجع إلى الحقائق فنطقُ السن، لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان)
ودهمنا ابن الشبل البغدا_دي هتاتا جدافاً يردد هذا الشعر:
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نفتذي بموت وتحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
قبح الله لذة لأذنا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقد (م) ... فإيجانا علينا بلاء
ليت شعري وللبلى كل ذا الخلق (م) ... بماذا تميز الأنبياء
موت ذا العالم المفضل بالنطق (م) ... وذا السارح البهيم سواء
لا غويٌّ لفقده تبسم الأرض (م) ... ولا للتقيِّ تبكي السماء إنما الناس قادم إثر ماض ... بدُ قوم للآخرين انتهاء
يربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار
وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذاه من نوائبها ظؤار
هي العشواء ما خطبت هشيم ... هي العجماء ما جرحتُ جبار
نعاقَب في الظهور وما وُلدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
وننتظر الرزايا والبلايا ... وبعد فبالوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أحرجه الوجار
فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجّدين به الخيار؟
وكانت أنعماً لو أن كوناً ... نُخَيَّر قبله أو نستشار
لقد استأسد ابن الشبل على الحق، وبالغ في العفلطة والعسلطة، ولقد عجبنا إذ سمعنا المفترح، وأطلنا الكركرة والقهقهة. إنَّ على مبدعنا أن يستشير تلكم الذريرات (أعني الأناسية) في الكون أو في العدم، ويقول لها: (أنت علي المتخير) أنت بالمختار، أنت الخيار. ولها أن تنعم أو تُلالي
(وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة، سبحان الله وتعالى عما يُشركون)
ذريةَ الأنس لا تُزهوا فإنكم ... ذَرًّ تُعدون أو نملا تضاهونا
إنَّ الأناسي لم يتمثلوا بشراً أو أبشاراً أسوياء إلا من بعد آلاف من الحقب ومن بعد أطوار مختلفات كثيرات لا يعلم عددها إلا الله. ومثل ابن الشبل إنما نشأ ذريرة لا تكاد ترى بالمجهر (ثم أنشأناه خلقاً آخر) درَّجته سنة الله إلى حيث انتهى أو ارتقى. وكان لا يحس في وقت ولا يسمع وما عقل - إن عقل - إلا بالأمس، ففي أي طور وفي حين يُخيّر أو يستشار؟
(إن الإنسان لَيطغى أن رآه استغنى) أو رآه قد احتسى من بحر علم الله حسوة!
إنَّ قوماً يريدوا أن يكونوا، وما أحبوا أن يكون غيرهم، فذموا الدنيا ذاك الذم، وصبغوها للناظرين بأردأ صبغ، بأبشع صبغ: (غرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة) كما يقول قطري، أن كان قال هذا. وهجوا قطين الأرض، أهل الدنيا شر هجاء:
خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما في البرية كلها إنسان
أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
زمان يمر، وعيش يمر ... ودهر يكر بما لا يسر
وحال يذوب، وهم ينوب ... ودنيا تناديك أن ليس حر
وإذا سمعوا المتفائلين الخلص يقولون: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) تحدوهم صائحين: (ليس في الإمكان أقبح مما كان) وما النجاة عندهم لمرتجى خلاصه مما يقاسي ويرى إلا في الانتحار
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا إن يكن أمانيا
ولهم في قتل الناس نفوسهم وتزبينه أقاويل، شرحها طويل. وهؤلاء القوم الذين سماهم المصطلح العربي بالمتشائمين واسمهم بالفرنجي بسيمست. إما أن يكونوا إلهيين، وإما أن يكونوا دهريين.
(وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يُهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من عِلم، إن هم إلا يظنون)
ودان أناس بالجزاء وكونِه ... وقال رجال: إنما أنتم بقل
ضل الذي قال: البلاد قديمة ... بالطبع كانت والأنام كنبتها
وأمامنا يوم تقوم عجوده ... من بعد إبلاء العظام ورفتها
فإن كانوا من الأولين فهل يحق إلا الإيقان كل الإيقان بأن ليس ثمة إلا الحكمة التامة والإتقان
(ما ترى في خَلق الرحمن من تفاوُت)
(صنع الله الذي أتقنَ كلَّ شيء)
(الذي أحسن كل شيء خلقه)
(صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة؟)
والله أعلم من كل عليم وأحكم من كل حكيم
(أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً)؟ وخلقُك من ربنا حكمة ... لقد جلَّ عن لعب أو عيث
وإن كانت برهمية وبوذية تريان الكون شراً، فليست البرهمية والبوذية على شيء، ولا يُحتسب بمثلهما. وإن عدهما (أرثر شوبنهور) أكمل الأديان طرأ من أجل هذا المعتقد
نعم (ما الدنيا إلا عمرَي ولا خلود إلا في الأخرى)
و (الدنيا قنظرة) قنطرة الآخرة؛ لكن هل علينا أن نقعد في القنطرة نشهق ونزعق، ونخمش الوجوه، ونلطم الخدود، ونلدِم الصدور حتى يجيء الأجل، حتى يجي وقت النقلة، و (الكتاب) يقول:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا)
ونطق (الكتاب) فصل الخطاب
وإن كان القوم المتشائمون من الآخرين فسوف يُسألون: هل علمتم كيف كنتم؟ هل علمتم كيف كانت داركم؟ إنها كانت داراً تستعر استعاراً، ولم تزل بقايا خبايا في الزوايا تضطرم. فاقرءوا تاريخها، واقرءوا تأريخكم، وفتشوا صحائف الأنساب
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)
وانظروا كيف عادت (محْلة) كيف عادت هذه (الغبراء)، وانظروا كيف عدتم بشراً، وكيف سدتم أقربين وأبعدين. وإن تأخر من عترتكم متأخرون إذ تقدم متقدمون، فتعلموا أن السابقين والمتوقفين المتمكثين لم يبرحوا في البدء، لم يبرحوا في أول الطريق، لم يبرحوا في الطور الشنبنزي كما قال توماس أدسن:
تشبه بعض ببعض فما ... تزال الشمائل قرديه
فأجد بالدهريين الذين ينشدون:
اجتنب ما سخرت جه ... لاً له هذى الخليقة
رغبوا في باطل زور ... يزهد في الحقيقة
ليس إلا ما تراه ... أنا أدري بالطريقة
خذ من الدنيا بحظ ... قبل أن ترحل عنها
فهي دار لا ترى من ... بعدها أحسن منها
فلا يرون أن هناك دارين، وأن هناك معنيين: معنى هذى، ومعنى تلك، بل يقولون: كل شيء معناه ومنتهاه فيه - أجدر بهؤلاء ألا يكونوا من المتشائمين في حين. ومقالهم هذا المقال.
إن الفتى بكونه سعيد، بكونه حسب، قد سعد بما وجد - كما يقول الإنكليز - فذروا التشاؤم في الحياة يا أيها الناس، وابهجوا أنفسكم، واجتذلوا لعلكم لا تحزنون. كونوا من المتفائلين، من أهل الفؤول، ولا تشاءموا ولا تطيروا وتمثلوا بهذا البيت وقد تمثل به رسول الله كما ذكر الشيخ في رسالة الغفران:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحققاً
وكان (صلى الله عليه وسلم) كما روت أحاديث - يتفاءل ولا يتطير
وكونوا إيثاريين أثريين في هذا الوجود كيما تقوا أنفسكم، وكي تصونوا جنسكم، وتسعدوا وترتقوا. إن الأثرية والإيثارية هما الفضيلتان العظيمتان متحدتين لا مفترقتين، وأولى لأثري كفر بالإيثارية ثم أولى! وأولى لإيثاري لم يؤمن بالأثرية ثم أولى. إن الأول شرير شيطان من الشريرين، وإن الثاني - إما كان - لذو جِنة في المجانين
واستمعوا لما يقول شيخنا أبو العلاء، فقد أعلنت أقواله الحقيقة وهدت إلى الطريقة، وعززت شريعة المتفائلين. وفندت مذهب المتشائمين، وبينت للناس كيف يحيون، وكيف يقوون، وكيف يسيرون في هذا الوجود.
مجلة الرسالة - العدد 606
بتاريخ: 12 - 02 - 1945