جلسا يلعبان الورق ويدِّخنان.. كانا ضجرين، لا يأبه أيّ منهما إن كان سيفوز أو سيخسر.. بدا وكأنهما يريدان أن يمضي الوقت بأيّ شكل، ليس إلاّ.. قام الرجل الذي يرتدي كنزة صفراء، مثقوبة عند الكتف، إلى الثلاجة وأخرج زجاجتي بيرة.. لم يسأل صاحبه إن كان ممن يشربون الخمر. وصاحبه الذي يرتدي قمصلة جلدية بلون القهوة المحروقة لم يعلّق بشيء. تناول زجاجته وعبّ نصفها، دفعة واحدة، فراح السائل يقرقر عبر بلعومه.. تجشأ ومسح فمه بردن قمصلته التي كانت متقشرة عند المفصل، ومشقوقة عند الساعد. لم تكن الزجاجة باردة، غير أنها لم تكن فاترة، كذلك.. الموسم هو الخريف، والكهرباء مقطوعة في المدينة منذ يومين. وربما كانت الثلاجة عاطلة أصلاً.. لم يكن الرجل ذو القمصلة الجلدية يرغب بمعرفة التفاصيل.
تبسم الرجل ذو الكنزة الصفراء، واحتسى قليلاً من زجاجته، ورمى ورقة أخرى.. كانت ورقة (الجوكر).. صوّب الرجل ذو القمصلة الجلدية عينيه راشقاً الآخر بنظرة تساؤل؛ لا أحد يتخلى عن ورقة الجوكر في اللعب هكذا.. نظرة الرجل ذي الكنزة الصفراء أوحت كما لو أنه يقول؛ وما الفرق على أيّ حال؟
مدّ الرجل ذو القمصلة الجلدية يده إلى ورقة الجوكر لكنه لم يلمسها.. كانت ستكمل عنده مجموعة أخرى تمكِّنه من طرح أوراقه.. أخذ ورقة أخرى من رزمة الأوراق الموضوعة عند زاوية الطاولة. كانت ورقة (الستة دينار).. لم يكن يحتاجها لأيّ مجموعة مرتّبة في يده. ومع هذا لم يلق بها.. ألقى بورقة (الملك الشائب) التي تكمل المجموعة الوحيدة الجاهزة لديه. كان الآخر يحتاج إليها، غير أنه لم يلتقطها.. استلّ ورقة لا ضرورة لها وألقى بورقة جوكر أخرى.. كانت نظرة التساؤل في عيني الرجل ذي القمصلة الجلدية، في هذه المرة؛ أتراك تسخر مني؟ بيد أنه لم يكن غاضباً أو مستاءً.. أمسك بعنق زجاجة البيرة ودلق ما تبقى فيها إلى جوفه.
تجشأ بصوت أعلى، هذه المرة. ولم يمسح فمه فسقطت قطرة من طرف شفتيه على ساق بنطاله الكحلي. وسحب ورقة لم يتنبه فيما إذا كانت تساعده في إكمال أيّ مجموعة خاصة به. وعاد وقـَلـَبَها على كومة الأوراق في وسط الطاولة.. الرجل ذو الكنزة الصفراء رمقه بنظرة فَهِم منها؛ ليست هناك زجاجة أخرى في الثلاجة. أو؛ لست على استعداد للتخلي عن زجاجة أخرى في مثل هذا الوضع.. فتح علبة سجائره وناول صاحبه سيجارة وأشعلها له بعود ثقاب قبل أن يؤرث لنفسه سيجارة، أيضاً. ولحظ، من غير أن تبدر منه إيماءة توحي بذلك، أن هذه الجولة هي الأولى منذ الظهيرة، منذ اللحظة التي هدأ فيها الرجل الغريب ذو القمصلة الجلدية وانتظم تنفسه. فبدءا لعب الكونكان، باتفاق تلقائي غير معلن.. اللعبة التي لا يظهر أنها ستنتهي قريباً..
تناهت أصوات رشقات رصاص غير أنهما لم يبديا إزاءها أيّ ردة فعل، كما لو أنها أصوات حفيف أوراق شجرة في الريح، أو هدير شاحنة صغيرة مارّة في الشارع.
ترك الرجل ذو الكنزة الصفراء مقعده.. دخل المطبخ وعاد بفانوس مضيء. كانت العتمة تهبط ببطء.. وقف الرجل ذو القمصلة الجلدية ويده تضغط على أسفل بطنه.. أشار الرجل ذو الكنزة الصفراء إلى الجهة المقابلة لباب الغرفة التي يجلسان فيها حيث المرحاض.. لم يسمع صوت شخشخة التبول العالية، وهي تعلو بعد لحظات، وإلا لقال في سرّه؛ إنه يتبول واقفاً.
رجّ دوي انفجار قريب الباب. وتكسر زجاج الجزء العلوي من النافذة.. حالت الستارة الخضراء المخملية العتيقة دون وصول الشظايا إليهما، ولكن ليس من غير شقوق أصابتها. التفتا إلى جهة النافذة وطاف في عيونهما ظلّ من القلق. هكذا ظنّ كلٌ منهما؛ إن هذا هو ما لمحه في عيني الثاني. وما حصل لم يمنعهما من العودة إلى اللعب بتفاهم صامت، كما لو أنهما صديقان يعرف أحدهما الآخر منذ عشرين سنة، وليس منذ ظهيرة هذا اليوم فقط، لمّا التقيا من غير أن يكون أيّ منهما قد رأى صاحبه، في أيّ مناسبة، قبل ذلك.
عند الظهيرة كان الرجل ذو القمصلة الجلدية يستقل سيارة أجرة، جالساً في المقعد الخلفي.. عند منعطف حاد أبصر اليد التي امتدت من نافذة سيارة مقبلة وألقت بشيء ما.. ارتفع صوت انفجار عاتٍ من تحت بدن السيارة التي هو فيها. أو تحت محركها في الجزء الأمامي، وشب حريق. لا يدري متى توقفت السيارة وكيف. لكنه شاهد السائق الكهل، ورأسه الملقى على المقود غارق بالدم.
فتح باب السيارة وانطلق راكضاً.. لم يسمع أزيز الإطلاقات التي لاحقته. أحسّ بواحدة تثقب الجزء المنفوخ الفارغ من ردن قمصلته عند الساعد الأيسر. فكر أنها صادرة من سلاح كاتم للصوت.. لم يسمع طوال ست أو سبع دقائق (الزمن الذي استغرقته واقعة هربه) لغط المارة وصياحهم. كان يجري في دوامة الفوضى الحاصلة.. عرف أن ضرراً ما، لا بد، أصاب طبلتي أذنيه جراء الانفجار. ولأن الناس كانوا يهربون في كل اتجاه فهم أن الخطر ما زال قائماً.. وطوال الوقت ظل يتساءل فيما إذا كان هو المقصود من عملية إحراق سيارة الأجرة التي كان يركبها، أم هو السائق؟ وفكر أنه لن يعرف الإجابة أبداً، في أيّ يوم.
ألفى نفسه أمام باب موارب، دفعه ودخل.. كان يلهث؛ يده على صدره وعيناه دامعتان.. الصورة أمامه مشوشة؛ إزاءه هيئة كائن متشح بالأصفر.. حاول أن يقول شيئاً ليكسر الصمت المخيف لهذا الكائن الذي يتراءى له رجلاً، لا امرأة. لا بد من أن يكون صاحب البيت. سعى ليسوِّغ سبب وجوده، في هذه اللحظة، هنا، في مكان لا يليق أن يكون فيه إلا مضطراً. بيد أنه لم يقدر. خانته الكلمات، بل خانته حنجرته؛ أوتاره الصوتية.. لعلّ كمية الهواء كانت شحيحة في جهازه التنفسي إلى الحد الذي لم يعنه على الكلام.. أومأ له الرجل ذو الكنزة الصفراء أن يجلس.. الآن يراه بوضوح أكبر. جلس وشرب قدح الماء الذي ناوله إياه الرجل شاعراً ببعض الاطمئنان. بعد عشر دقائق أدرك أن الرجل ذا الكنزة الصفراء وحده في البيت. وأنه يؤثر الصمت لسبب يجهله. وبعد ساعة أو أقل قليلا. وبعد الفراغ من تناول طعام الغداء (شطيرة جبن عرب مالح وكأس شاي) أيقن الرجل ذو القمصلة الجلدية أن الرجل ذا الكنزة الصفراء، لا شك، أخرس.
* * *
كان الظلام قد افترش هذا الجزء من الكون، منذ ساعات. وضوء الفانوس الشاحب يرتعش.. فتح الرجل ذو الكنزة الصفراء علبة السجائر ففوجئ أنها فارغة.. عرض البطن الفارغة للعلبة أمام ناظري الآخر، غير أن هذا لم يكترث.. كان نعساناً، وجولة الكونكان لم تكن قد انتهت بعد. كانا قد أعادا لملمة الأوراق المكوّمة على الطاولة عشر مرات، أو عشرين مرة، وما زالا يلعبان، كما لو أنهما مرغمان على اللعب.. كأن قوة حارسة ومهدِّدة تجبرهما على الاستمرار.
طوّح الرجل ذو الكنزة الصفراء يده في الهواء، وحرّك رأسه بطريقة رغب من خلالها أن يصرّح؛ أن لا سجائر أخرى في المنزل. كان الرصاص ينهمر الآن في الزقاق المجاور.. أخذ الرجل ذو القمصلة الجلدية ورقة أخرى ورماها قبل أن ينظر إليها، وفعل مثله صاحبه. وبقيا هكذا حتى نفدت أوراق الحزمة المرتّبة فعادا إلى الأوراق المبعثرة ورتّباها معاً، مجدداً، ليستأنفا اللعب.
حين رفع الرجل ذو الكنزة الصفراء عينيه إلى ساعة الحائط دُهش لأنها متوقفة.. نقر بأصابع يده اليمنى على رسغ يده اليسرى، وهزّ رأسه، مستفسراً.. هزّ الرجل ذو القمصلة الجلدية رأسه؛ علامة النفي. قام الرجل ذو الكنزة الصفراء إلى النافذة وحملق في السماء المعتمة.. لم ير أيّ نجمة.. قد تكون السماء غائمة. ولمّا رجع وضع الأوراق التي في يده عند حافة المنضدة من الجهة التي يجلس إليها، وهوّم بيده في نصف دائرة؛ “غداً سنكمل اللعب”. هذا ما أراد أن يقوله، لكنه همس؛ من يدري ماذا سيحصل غداً أيها الأخرس المسكين.. سمعه الرجل الآخر، ذو القمصلة الجلدية، في عمق إغفاءته. كان يحلم ورأسه متدلٍ على صدره، وقد تبعثرت أوراقه على فخذيه، وحول قدميه، على الأرض العارية.
* عن مجلة الجديد
تبسم الرجل ذو الكنزة الصفراء، واحتسى قليلاً من زجاجته، ورمى ورقة أخرى.. كانت ورقة (الجوكر).. صوّب الرجل ذو القمصلة الجلدية عينيه راشقاً الآخر بنظرة تساؤل؛ لا أحد يتخلى عن ورقة الجوكر في اللعب هكذا.. نظرة الرجل ذي الكنزة الصفراء أوحت كما لو أنه يقول؛ وما الفرق على أيّ حال؟
مدّ الرجل ذو القمصلة الجلدية يده إلى ورقة الجوكر لكنه لم يلمسها.. كانت ستكمل عنده مجموعة أخرى تمكِّنه من طرح أوراقه.. أخذ ورقة أخرى من رزمة الأوراق الموضوعة عند زاوية الطاولة. كانت ورقة (الستة دينار).. لم يكن يحتاجها لأيّ مجموعة مرتّبة في يده. ومع هذا لم يلق بها.. ألقى بورقة (الملك الشائب) التي تكمل المجموعة الوحيدة الجاهزة لديه. كان الآخر يحتاج إليها، غير أنه لم يلتقطها.. استلّ ورقة لا ضرورة لها وألقى بورقة جوكر أخرى.. كانت نظرة التساؤل في عيني الرجل ذي القمصلة الجلدية، في هذه المرة؛ أتراك تسخر مني؟ بيد أنه لم يكن غاضباً أو مستاءً.. أمسك بعنق زجاجة البيرة ودلق ما تبقى فيها إلى جوفه.
تجشأ بصوت أعلى، هذه المرة. ولم يمسح فمه فسقطت قطرة من طرف شفتيه على ساق بنطاله الكحلي. وسحب ورقة لم يتنبه فيما إذا كانت تساعده في إكمال أيّ مجموعة خاصة به. وعاد وقـَلـَبَها على كومة الأوراق في وسط الطاولة.. الرجل ذو الكنزة الصفراء رمقه بنظرة فَهِم منها؛ ليست هناك زجاجة أخرى في الثلاجة. أو؛ لست على استعداد للتخلي عن زجاجة أخرى في مثل هذا الوضع.. فتح علبة سجائره وناول صاحبه سيجارة وأشعلها له بعود ثقاب قبل أن يؤرث لنفسه سيجارة، أيضاً. ولحظ، من غير أن تبدر منه إيماءة توحي بذلك، أن هذه الجولة هي الأولى منذ الظهيرة، منذ اللحظة التي هدأ فيها الرجل الغريب ذو القمصلة الجلدية وانتظم تنفسه. فبدءا لعب الكونكان، باتفاق تلقائي غير معلن.. اللعبة التي لا يظهر أنها ستنتهي قريباً..
تناهت أصوات رشقات رصاص غير أنهما لم يبديا إزاءها أيّ ردة فعل، كما لو أنها أصوات حفيف أوراق شجرة في الريح، أو هدير شاحنة صغيرة مارّة في الشارع.
ترك الرجل ذو الكنزة الصفراء مقعده.. دخل المطبخ وعاد بفانوس مضيء. كانت العتمة تهبط ببطء.. وقف الرجل ذو القمصلة الجلدية ويده تضغط على أسفل بطنه.. أشار الرجل ذو الكنزة الصفراء إلى الجهة المقابلة لباب الغرفة التي يجلسان فيها حيث المرحاض.. لم يسمع صوت شخشخة التبول العالية، وهي تعلو بعد لحظات، وإلا لقال في سرّه؛ إنه يتبول واقفاً.
رجّ دوي انفجار قريب الباب. وتكسر زجاج الجزء العلوي من النافذة.. حالت الستارة الخضراء المخملية العتيقة دون وصول الشظايا إليهما، ولكن ليس من غير شقوق أصابتها. التفتا إلى جهة النافذة وطاف في عيونهما ظلّ من القلق. هكذا ظنّ كلٌ منهما؛ إن هذا هو ما لمحه في عيني الثاني. وما حصل لم يمنعهما من العودة إلى اللعب بتفاهم صامت، كما لو أنهما صديقان يعرف أحدهما الآخر منذ عشرين سنة، وليس منذ ظهيرة هذا اليوم فقط، لمّا التقيا من غير أن يكون أيّ منهما قد رأى صاحبه، في أيّ مناسبة، قبل ذلك.
عند الظهيرة كان الرجل ذو القمصلة الجلدية يستقل سيارة أجرة، جالساً في المقعد الخلفي.. عند منعطف حاد أبصر اليد التي امتدت من نافذة سيارة مقبلة وألقت بشيء ما.. ارتفع صوت انفجار عاتٍ من تحت بدن السيارة التي هو فيها. أو تحت محركها في الجزء الأمامي، وشب حريق. لا يدري متى توقفت السيارة وكيف. لكنه شاهد السائق الكهل، ورأسه الملقى على المقود غارق بالدم.
فتح باب السيارة وانطلق راكضاً.. لم يسمع أزيز الإطلاقات التي لاحقته. أحسّ بواحدة تثقب الجزء المنفوخ الفارغ من ردن قمصلته عند الساعد الأيسر. فكر أنها صادرة من سلاح كاتم للصوت.. لم يسمع طوال ست أو سبع دقائق (الزمن الذي استغرقته واقعة هربه) لغط المارة وصياحهم. كان يجري في دوامة الفوضى الحاصلة.. عرف أن ضرراً ما، لا بد، أصاب طبلتي أذنيه جراء الانفجار. ولأن الناس كانوا يهربون في كل اتجاه فهم أن الخطر ما زال قائماً.. وطوال الوقت ظل يتساءل فيما إذا كان هو المقصود من عملية إحراق سيارة الأجرة التي كان يركبها، أم هو السائق؟ وفكر أنه لن يعرف الإجابة أبداً، في أيّ يوم.
ألفى نفسه أمام باب موارب، دفعه ودخل.. كان يلهث؛ يده على صدره وعيناه دامعتان.. الصورة أمامه مشوشة؛ إزاءه هيئة كائن متشح بالأصفر.. حاول أن يقول شيئاً ليكسر الصمت المخيف لهذا الكائن الذي يتراءى له رجلاً، لا امرأة. لا بد من أن يكون صاحب البيت. سعى ليسوِّغ سبب وجوده، في هذه اللحظة، هنا، في مكان لا يليق أن يكون فيه إلا مضطراً. بيد أنه لم يقدر. خانته الكلمات، بل خانته حنجرته؛ أوتاره الصوتية.. لعلّ كمية الهواء كانت شحيحة في جهازه التنفسي إلى الحد الذي لم يعنه على الكلام.. أومأ له الرجل ذو الكنزة الصفراء أن يجلس.. الآن يراه بوضوح أكبر. جلس وشرب قدح الماء الذي ناوله إياه الرجل شاعراً ببعض الاطمئنان. بعد عشر دقائق أدرك أن الرجل ذا الكنزة الصفراء وحده في البيت. وأنه يؤثر الصمت لسبب يجهله. وبعد ساعة أو أقل قليلا. وبعد الفراغ من تناول طعام الغداء (شطيرة جبن عرب مالح وكأس شاي) أيقن الرجل ذو القمصلة الجلدية أن الرجل ذا الكنزة الصفراء، لا شك، أخرس.
* * *
كان الظلام قد افترش هذا الجزء من الكون، منذ ساعات. وضوء الفانوس الشاحب يرتعش.. فتح الرجل ذو الكنزة الصفراء علبة السجائر ففوجئ أنها فارغة.. عرض البطن الفارغة للعلبة أمام ناظري الآخر، غير أن هذا لم يكترث.. كان نعساناً، وجولة الكونكان لم تكن قد انتهت بعد. كانا قد أعادا لملمة الأوراق المكوّمة على الطاولة عشر مرات، أو عشرين مرة، وما زالا يلعبان، كما لو أنهما مرغمان على اللعب.. كأن قوة حارسة ومهدِّدة تجبرهما على الاستمرار.
طوّح الرجل ذو الكنزة الصفراء يده في الهواء، وحرّك رأسه بطريقة رغب من خلالها أن يصرّح؛ أن لا سجائر أخرى في المنزل. كان الرصاص ينهمر الآن في الزقاق المجاور.. أخذ الرجل ذو القمصلة الجلدية ورقة أخرى ورماها قبل أن ينظر إليها، وفعل مثله صاحبه. وبقيا هكذا حتى نفدت أوراق الحزمة المرتّبة فعادا إلى الأوراق المبعثرة ورتّباها معاً، مجدداً، ليستأنفا اللعب.
حين رفع الرجل ذو الكنزة الصفراء عينيه إلى ساعة الحائط دُهش لأنها متوقفة.. نقر بأصابع يده اليمنى على رسغ يده اليسرى، وهزّ رأسه، مستفسراً.. هزّ الرجل ذو القمصلة الجلدية رأسه؛ علامة النفي. قام الرجل ذو الكنزة الصفراء إلى النافذة وحملق في السماء المعتمة.. لم ير أيّ نجمة.. قد تكون السماء غائمة. ولمّا رجع وضع الأوراق التي في يده عند حافة المنضدة من الجهة التي يجلس إليها، وهوّم بيده في نصف دائرة؛ “غداً سنكمل اللعب”. هذا ما أراد أن يقوله، لكنه همس؛ من يدري ماذا سيحصل غداً أيها الأخرس المسكين.. سمعه الرجل الآخر، ذو القمصلة الجلدية، في عمق إغفاءته. كان يحلم ورأسه متدلٍ على صدره، وقد تبعثرت أوراقه على فخذيه، وحول قدميه، على الأرض العارية.
* عن مجلة الجديد