الخلافة قرشية لأسباب سرية!
عرّف العلماء الفساد فقالوا: هو وضع الشيء في غير موضعه. فوضع الملح في الشاي إفساد للشاي، ووضع السكر في الطبيخ إفساد للطبيخ، ومثله وضع اللين في موضع الشدة، والعكس. وأخطر منها وضع شخص جاهل في منبر التعليم والتوجيه والخطابة لمجرد أنه يجيد زئير الأسود، وترديد الببغاوات، وإثارة غرائز الحقد والغضب الكامنة في صدور الذين طحنهم الفقر، والجهل، والمرض. إلا أن من أدق مظاهر الفساد عند المسلمين وضع (الذاكرة) في موضع (العقل)، وهو أخطر ما تفعله أمة تنوي القضاء على نفسها، إذا ما عرفنا أن الجنون في حقيقته ليس سوى غياب (العقل) وحضور (الذاكرة). وقد كان هذا النوع من الفساد هو أبرز ما حمله القرآن على الكفار في عصورهم الماضية. وسجل لهم هذا المبدأ المنحرف في أكثر من آية نحو قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون. البقرة:170. والآية هنا تجعل اتباع الذاكرة (الآباء) نقيضاً لاتباع العقل. وتجعل الأول مذهباً للكفر، والآخر مذهباً للإيمان. فأصحاب الضلال يجعلون الآباء وعلومهم وتقاليدهم معيارا للحق والباطل، وأصحاب الإيمان يجعلون العقل معيارا لمعرفتهما. وهل هناك من الفساد واختلال الموازين ما هو أسوأ من أن تتحرك إلى الأمام وأنت تنظر إلى الخلف؟!. وحين تقرر أمة أن تجعل ماضيها حاضراً، ومستقبلها ماضياً، فقد قررت أن تقصي قوى التفكر والإبداع فيها، لصالح قوى التذكر والاتباع. ولا تسأل حينئذ عن مصير أمة هذا شأنها، إلا إذا كنت تجهل معنى فقدان العقل!.
ومن بين الآثار المدمرة لإقصاء العقل وتمكين الذاكرة في حياة المسلمين، أن واقعهم السياسي والاجتماعي والمعرفي، مرهون بتوجيهات التاريخ البعيد ومقرراته. فهم بدلا من البحث عن نظريات علمية مناسبة لواقعهم في هذه المجالات، يستدعون التاريخ لإعادة اجتراره وإنتاجه. فتاريخ السقيفة وصفين والجمل، ومخلفاتها السياسية والمذهبية، والعصبية، ليس ماضياً بقدر ما هو حاضرٌ متجسدٌ في كل ما نقول ونفعل ونأمل. وقد نشأ خطاب إسلامي ينتمي لإسلام ما بعد صفين أكثر مما ينتمي لإسلام ما قبل صفين. إلا إذ قيل إن الرسول وأصحابه كانوا ينتمون إلى أحد المذاهب الإسلامية السنية أو الشيعية مثلا. وإلا إذ قيل إن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ متون الحديث النبوي وتدوينه، مثلا آخر!. وليس لدى الباحثين اليوم من أنصار الحقيقة والعقل تجاه ماضيهم (وماضيهم هنا هو تراثهم وذاكرتهم الجمعية) إلا أحد خيارين: الأول: إعادة تصحيح هذا التراث، والآخر: إعادة قراءة وتأويل ما صح منه، على ضوء الحقائق والمناهج الموضوعية المستجدة. وليس بين خياراتنا خيار يقول بشطب التراث وإلغائه جملة واحدة، كما يتصور بعض الجهلة. فالأمة التي بلا تراث أمة لقيطة. وفي المقابل فإن الأمة التي تعتاش على تراثها وحده، هي عالة على الآباء، وعالة على الأمم من حولها، ويصدق عليها قوله تعالى: وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم، لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. النحل:76.
ونزولاً عند الخيار الأول فقد حاول صاحب هذه السطور في مرحلة سابقة، وبكل ما أوتى من معرفة متواضعة أن يعيد النظر العلمي في بعض قضايا التراث الإسلامي، وعلى رأسها حقيقة (حجية) الحديث النبوي، لما لها من آثار خطرة، على العقل والواقع الإسلاميين، بل وعلى صحة العقيدة نفسها. وإنها على رغم خطورتها، لم تأخذ حقها من الدرس والبحث العلميين. وخلص إلى قناعة راسخة بكون الحديث النبوي ليس جزءاً من الوحي الذي كلف الرسول (ص) بتبليغه، وإنما هو جزءٌ طبيعيٌ من السيرة النبوية. إذا ما عرفنا أن سيرة أي شخص هي مجموع أقواله وأفعاله وتقريراته. مدللاً على ذلك بكافة أنواع الحجج والبراهين العقلية والنقلية، التي لا ينكرها عقل عرف معنى الدليل ووظيفته. وهاهو _نزولاً عند الخيار الثاني_ يحاول إعادة قراءة وتأويل واحدة من أخطر لحظات التاريخ الإسلامي، التي ساهمت في تضبيب المشهد السياسي والفكري الإسلاميين، هي لحظة (السقيفة). ولحظة السقيفة هذه هي لحظة اجتماع بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة، بالمدينة المنورة، عقب وفاة النبي بساعات قليلة، لاختيار خليفة سياسي للرسول عليه الصلاة والسلام، وأدت إلى ظهور أول نزاع علني بين كبار الصحابة. ولعل من المناسب أن أضع القارئ أمام الرواية التاريخية لأحداث السقيفة، قبل التعقيب عليها بما يكشف عن أسرارها التي خفيت على الخائضين فيها من قديم، حسب ما يعلم.
الرواية التاريخية:
يروي ابن هشام في سيرته نقلاً عن ابن إسحاق ما يأتي: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْحَازَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَاعْتَزَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ وَانْحَازَ بَقِيّةُ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَانْحَازَ مَعَهُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ فَأَتَى آتٍ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، قَدْ انْحَازُوا إلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِأَمْرِ النّاسِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوا قَبْلَ أَنْ يَتَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يُفْرَغْ مِنْ أَمْرِهِ قَدْ أَغْلَقَ دُونَهُ الْبَابَ أَهْلُهُ . قَالَ عُمَرُ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، حَتّى نَنْظُرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ. أهـ. ثم ينقل لنا ابن هشام رواية أخرى عن خطبة لعمر بن الخطاب في وقت توليه لأمر المسلمين بعد أبي بكر، تفسر ما حدث يوم السقيفة، يقول فيها عمر: . فَلَا يَغُرّنّ امْرَأً أَنْ يَقُولُ إنّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْر ٍ كَانَتْ فَلْتَةً فَتَمّتْ وَإِنّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إلّا أَنّ اللّهَ قَدْ وَقَى شَرّهَا ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ تَنْقَطِعُ الْأَعْنَاقُ إلَيْهِ مِثْلَ أَبِي بَكْر ٍ فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّهُ لَا بَيْعَةَ لَهُ هُوَ وَلَا الّذِي بَايَعَهُ تَغِرّةً أَنْ يَقْتُلَا ، إنّهُ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفّى اللّهُ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا ، فَاجْتَمَعُوا بِأَشْرَافِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَتَخَلّفَ عَنّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبِيرُ بْنُ الْعَوّامِ وَمَنْ مَعَهُمَا ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمّهُمْ حَتّى لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ وَقَالَ أَيْنَ. قُلْنَا : نُرِيدُ إخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالَا : فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ اقْضُوا أَمْرَكُمْ . قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَنَأْتِيَهُمْ . فَانْطَلَقْنَا حَتّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، فَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ رَجُلٌ مُزَمّلٌ فَقُلْت : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقُلْت : مَا لَهُ ؟ فَقَالُوا : وَجِعَ . فَلَمّا جَلَسْنَا تَشَهّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللّهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنّا ، وَقَدْ دَفّتْ دَافّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ قَالَ وَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْتَازُونَا مِنْ أَصْلِنَا ، وَيَغْصِبُونَا الْأَمْرَ فَلَمّا سَكَتَ أَرَدْت أَنْ أَتَكَلّمَ وَقَدْ زَوّرَتْ فِي نَفْسِي مَقَالَةٌ قَدْ أَعْجَبَتْنِي ، أُرِيدُ أَنْ أُقَدّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَكُنْت أَدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِسْلِك يَا عُمَرَ فَكَرِهْت أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلّمَ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنّي وَأَوْقَرَ فَوَاَللّهِ مَا تَرَك مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي مِنْ تَزْوِيرِي إلّا قَالَهَا فِي بَدِيهَتِهِ أَوْ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ حَتّى سَكَتَ قَالَ أَمّا مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إلّا لِهَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا ، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيّهمَا شِئْتُمْ وَأَخَذَ بِيَدَيْ وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا ، وَلَمْ أَكْرَهْ شَيْئًا مِمّا قَالَهُ غَيْرُهَا ، كَانَ وَاَللّهِ أَنْ أُقَدّمَ فَتُضْرَبُ عُنُقِي ، لَا يُقَرّبُنِي ذَلِكَ إلَى إثْمٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ . قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا قُرَيْشٍ . قَالَ فَكَثُرَ اللّغَطُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ حَتّى تَخَوّفْت الِاخْتِلَافَ فَقُلْت : اُبْسُطْ يَدَك يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته ، ثُمّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ، ثُمّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ . قَالَ فَقُلْت : قَتَلَ اللّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ!.
المقولة التفسيرية:
تلك رواية ابن هشام عن ابن إسحاق. وقبل البدء في قراءة ما حدث وتأويله، لا بد من بيان المقولة التفسيرية التي استند إليها كاتب هذه السطور في مقاربة الحدث؛ وهي مقولة تستند إلى حقيقة قرآنية في غاية الخطورة والأهمية هي قوله تعالى: وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم. التوبة:101. والآية من أواخر ما نزل من القرآن الكريم. وهي تصرح بوجود طائفة من المنافقين "من أهل المدينة"، المنورة، لا يعلمها النبي نفسه، فما بالنا بصحابته. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا كان النبي (ص) نفسه لا يعلم شخوص هذه الطائفة، فما نفع الآية إذاً؟. والجواب واضح تماماً: الآية تحذر من دور هذه الطائفة في وسط المجتمع الإسلامي آنذاك، وضع خطاً تحت (آنذاك) لأن الآية تتحدث عن فئتين محددتين في جيل بعينه، هما فئتا المنافقين المستورين من الأعراب، ومن أهل المدينة، في الجيل الإسلامي الأول؛ أي أن الآية لا تخاطب المجتمعات الإسلامية بعد عصر النبوة، ومن ثم فإن الآية جاءت تحقق غرضاً محدداً في ذلك الجيل، لن يتحقق في أي وقت آخر. وإذا كان غرض الآية قد أصبح في حكم التاريخ، إلا أن دلالتها مازالت باقية، بدليل أنها قد تحولت هنا إلى مقولة تفسيرية ناجحة كما سنرى في السطور التالية.
ولا عبرة بتلك الرواية التي حاولت تعطيل وظيفة هذه الآية بالقول: إن النبي (ص) قد علم شخوص المنافقين، وأفضى بأسمائهم إلى كاتم أسراره حذيفة بن اليمان قبل موته، لعدد من الاعتبارات. أولها: أن الآية لا تخبر بذلك، ولا معنى لأن يسكت القرآن عن إخبار النبي بأسمائهم بعد أن أخبر بوجودهم. وثانيها: أن إسرار النبي بأسمائهم لحذيفة لا معنى له، إذا كان حذيفة لم يخبر أحداً بأسمائهم بعد ذلك كما تدل الرواية؛ إذ ما فائدة الإسرار إذا لم يحقق غرضاً للمسلمين؟ ثم لماذا يكون حذيفة كاتماً لأسرار النبي وليس أبو بكر، صديقه المقرب والمزكى في القرآن، وصهره مثلاً ؟ هل تريد الرواية أن توحي إلينا بأن النبي لم يكن يثق في كبار صحابته ومقربيه؟ أم أن في الأمر سراً لا نعلمه نحن ولا عشاق الرواية؟!. وأخيراً فإن جل المفسرين يخالفون هذا الرأي العاري من أي حجة. يقول ابن كثير في تعليقه على هذه الآية:" وقوله: { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافي قوله تعالى: { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } الآية[محمد:30]؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء".أهـ. ويعلق الزمخشري في تفسيره بقوله:" { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم ، ثم قال : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلاّ الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به ، فلهم فيه اليد الطولى".أهـ. وكذلك الشوكاني في فتح القدير يقول:" { لاَ تَعْلَمُهُمْ } مبينة للجملة الأولى ، وهي مردوا على النفاق : أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً ، ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف سائر المؤمنين؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة".أهـ. ويقول الطبري في تفسيره:" (لا تعلمهم)، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة".أهـ. ومثل ذلك ورد في التفسير الكبير للرازي، وفي عشرات التفاسير الأخرى. مما يعني بوضوح أن النبي (ص) وصحابته الصادقين تعاملوا طوال الوقت مع منافقين خطرين ماهرين في النفاق، وهم يحسبونهم من الصحابة الأجلاء. والسؤال الكبير الآن هو: ماذا كان يفعل هؤلاء المنافقين طوال الوقت؟ وكم من الروايات الخبيثة نسبوا إلى النبي وصحابته، وتلقاها المسلمون من بعدهم على أنها وحي يوحى؟!. الجواب واضح لمن صفت سريرته وصحت عقيدته!. وسنعرض بعض تلك المرويات التي نرجح أنها من مدسوساتهم في نهاية هذا المقال.
وبالعودة إلى الآية نجد أن عبارة "ومن أهل المدينة" هي أخطر ما ورد فيها، إذ ليس للمركب اللغوي (أهل المدينة) سوى معنيين محتملين: الأول: أن يكون المقصود به كل سكان المدينة من أنصار ومهاجرين، والآخر: أن يكون المقصود به السكان الأصليين للمدينة، وهم الأوس والخزرج فقط. ونحن نرجح هذا المعنى الأخير، للاعتبارات الآتية: أولاً: لا يتصور أحد أن يكون بين المهاجرين من ينطوي على نفاق، فليس من يعرض نفسه للهلاك والتعب والهجرة من داره ومصالحه إلى دار غريبة، هو من يفعل ذلك نفاقاً. ثانيا: التاريخ يؤكد أن ظهور حركة النفاق كانت في سكان المدينة الأصليين، من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول، وهو أحد منافقي الطائفة المكشوفة التي عرف أمرها، قبل نزول الآية كما تدل السيرة. والآية السابقة لا تقول إن كل المنافقين هم من الطائفة المستورة. وثالثاً: لأن عبارة "أهل المدينة" قرينة لفظية وعرفية واضحة على أن المقصود هم الأوس والخزرج. ولو أن الآية قصدت عموم المسلمين من مهاجرين وأنصار، لجاءت بعبارة "منكم" كما جاء في آية (الإفك) مثلاً، حين عممت بالقول: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم. النور:11. وإذاً فقد ترجح أن يكون المقصود ب"أهل المدينة" السكان الأصليون من الأوس والخزرج، بعد استبعاد اليهود الذين لا يدخلون تحت مسمى المنافقين.
وبقراءة ما حدث في يوم السقيفة على ضوء هذه الحقيقة يمكننا القول إن المهاجرين، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر، كانوا يتصرفون وهم يستحضرون هذه الآية. فقد خافوا _وهذا واجبهم_ أن يقع أمر المسلمين، ومنجزاتهم مع الرسول (ص) بين يدي هذه الطائفة المستورة من المنافقين، فبادروا بأنفسهم مسرعين لأخذ زمام الأمور، قبل أن يفلت من أيديهم، واستبعاد صف الأنصار بكامله من شئون الخلافة بعد أن أصبح محلاًً للظن والريب. وهو ما فسره بعض المتعجلين بأنه طمع في السلطة، وحب استئثار بها. وفي روايات السيرة من القرائن ما يؤيد هذا الاستنتاج، ومن قرائن رواية ابن هشام السابقة ما يأتي:
أولاً: مبادرة بعض أهل المدينة إلى الاجتماع في السقيفة دون إخبار المهاجرين، تدل على وجود من يدبر شيئاً في الخفاء، وأن الأمر لم يكن وليد اللحظة، سواء علم الصالحون من الأنصار أم لم يعلموا؛ ولعل ما ورد في خطبة المدني المجهول في السقيفة يدل على شيء من هذا القبيل، حين قال: "وقد دقت داقة من قومكم، وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر". وهي عبارة تدل على ما كان يجيش في صدور بعض "أهل المدينة" تجاه المهاجرين.
ثانياً: من الواضح أن جميع المهاجرين قد انحازوا إلى أبي بكر وعمر، باستثناء أولئك الذين انشغلوا بالتحضير لدفن النبي، أمثال الإمام عليً. وموقف المهاجرين له دلالته إذا ما عرفنا أن هذه المظلة تشمل السابقين الأولين، الذين حصلوا على تزكية سماوية في قوله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم. التوبة:100. وهو ما يعني أن الصف الخالي من النفاق قد انحاز ابتداءً إلى أبي بكر وعمر، ثم لحقه بقية الصف المؤمن من الأنصار فيما بعد.
ثالثاً: يقرر عمر في خطبته أن الأصل في إمارة المسلمين هو الشورى، وأن بيعة أبي بكر بتلك الطريقة لم تكن سوى "فلتة" وقى الله المسلمين شرها. وهذا أيضاً يدل على أن شيئاً خفياً هو الذي دفع أبا بكر وعمر للإسراع إلى تلك الفلتة، وتولية أحد المهاجرين، دون مشاورة المسلمين. ذلك الشيء الخفي لم يكن سوى خوفهم من أن يقع أمر المسلمين، ومصيرهم، ومنجزاتهم، بين يدي المنافقين غير المعلومين من "أهل المدينة" كما أسلفت، وفيه من خوف الفتنة ما فيه. وهذا ما يفسر ترشيح أبي بكر لعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، ورفض الرجلين لها، وترشيحهما لأبي بكر.
رابعاً: إن مقولتنا هذه تفسر أيضاً كيف أن الخلافة من بدايتها إلى نهايتها، لم تخرج عن المهاجرين. والأعجب من ذلك أن هيئة شورى الخلافة أيضا لم تخرج عنهم، إذ ليس في ما يسمى بالعشرة المبشرين بالجنة (وهم هيئة شورى الخلافة) أنصاري واحد. كما أنها تفسر أيضاً ظهور مقولة "الأئمة من قريش" وأخواتها.
خامساً: تخبرنا السيرة أن بعض القبائل العربية التي دعاها النبي للإسلام كانت تشترط عليه أن يكون لها الأمر من بعده، وكان الرسول يرد عليها ب"أن الأمر لله"، وأما الأنصار فقد استجابوا لدعوته من غير شرط غير "الجنة" وهذا يعني أن فكرة الخلافة لم تكن واردة في رؤوس الأنصار منذ البداية، مما يدفعنا إلى الشك في دوافع الذين استعجلوا اجتماع السقيفة منهم.
سادساً: لا نتصور أن هذه الآية لم تؤد وضيفتها آنذاك، وأن الصحابة لم يدركوا مقاصدها البعيدة والقريبة، خاصة وأنها تعنيهم أكثر مما تعنينا، لأن الخطاب فيها لهم لا لنا: (وممن حولكم)، أنتم أيها المسلمون في الجيل الأول. فإذا كان لهذه الآية مغزى ووظيفة، فما مغزاها بعد ذلك، وما وظيفتها، إذا كان الصحابة سيتجاهلونها؟!. أما بقية أجيال المسلمين فلم يتبق لهم من هذه الآية، ومن مثيلاتها في سورة التوبة إلا وظيفتين هما: إعادة تفسير أحداث تلك المرحلة على ضوئها، وأخذ الحيطة والحذر مما يروى لنا من روايات حديثية نقلت عن الصحابة، وفيهم بعض المنافقين الذين لا يعلمهم أحد غير الله. وهو ما يعني أن احتمال وصول أحاديث منسوبة إلى النبي زوراً وارد بقوة. وما دخله الاحتمال بطل به الاستدلال، كما تقول القاعدة الأصولية.
ومن الجدير بالذكر أن سورة التوبة، وهي آخر سور القرآن الكريم نزولا، كانت بمثابة مشهد ختامي في قصة الرسالة المحمدية، مشهد يعاد فيه ترتيب مقامات المجاهدين مع النبي (ص)، و ترتيب شرائح المجتمع الإسلامي بحسب ما قدموا من عمل صالح. فهناك شريحة "السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" (100)، وهناك شريحة "الذين اتبعوهم بإحسان" (100)، وهناك شريحة الذين " خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً" (102). وهناك "آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم" (106). وهناك طائفة المنافقين، وهم على شريحتين، الأولى مكشوفة دلت عليها أفعالها " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون" (42)؛ والأخرى مستورة دلت عليها آية "وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم" (101). ولو أن الأصوليين والمحدثين استوعبوا هذه السورة ومقاصدها جيدا ما قالوا بعدالة كل أفراد المجتمع الإسلامي في زمن النبي، استنادا إلى آيات أخرى مجملة. والقول بأن جميع أفراد المجتمع الإسلامي في زمن النبي عدولٌ، هو قول يتجاهل هذه الآيات، إن لم نقل إنه يتحداها. ولا أدري أي ورع وتقوى في هذا التعطيل الصريح للقرآن الكريم!.
روايات في مواجهة الآيات:
ليس من باب الذكاء القول إن هذه الطائفة المستورة من المنافقين كانت تعمل في الخفاء وبمكر كامل ودهاء، في تقويض المنجز الإسلامي الذي أرساه الرسول وصحابته الصادقين، ممثلاً في وحي الرسالة (القرآن) وفي المجتمع الإسلامي الوليد. ولا نتصور أبداً أن لا نجد لهم محاولات وآثار في هذا السياق، إلا إذا كانوا مجموعة من السذج الحمقى، وهو ما ينفيه مضمون الآية نفياً حاسماً. وإذا كانت محاولاتهم العملية قد أحبطت في زمن الوحي، فإن انقطاع الوحي بوفاة النبي (ص) قد سهل لهم تحقيق بعض طموحاتهم، إلا أن يقظة كبار الصحابة وصادقيهم قد وأدت حلمهم الأول في تعطيل مشروع المجتمع الإسلامي الوليد، فهل يأس المنافقون من تحقيق بعض المنجزات؟. ودعني أقدم الإجابة في ثوب سؤال يقول: وهل يعقل أن يتسرب اليأس إلى أنفسٍ يصفها الله _ضمنياً _ بالحنكة والدهاء في ممارسة النفاق؟!. إذن ماذا نتوقع من هذه الطائفة بعد أن أجهض الصحابة الصادقون مشروعها في السقيفة؟. الجواب: نتوقع أن تشتغل هذه الطائفة في ميدان الدس والوضع والكذب على النبي (ص). نتوقع أن ينسبوا إليه من الروايات ما يعطل نصوص القرآن، وما يضادها، وما يزرع الريبة والشك فيها. وأول ما سيخترعونه من الروايات المعطلة، روايات تعطل مهام الآيات التي تهدد مشروعهم التخريبي الخبيث. وإذا كنا نتوقع حصول ذلك منهم فلا بد أن نتوقع بالتبعية وجود مثل تلك المرويات المفبركة في تراثنا الروائي، فهل هي موجودة حقاً؟.
لقد سبق وتعرضنا في ثنايا هذا المقال لواحدة من تلك الروايات التي قصد بها تعطيل آية المنافقين السابقة، حين زعم الرواة أن النبي قد أسر بأسماء المنافقين لحذيفة ابن اليمان، في محاولة للقول _على نقيض الآية _ إنهم كانوا معروفين. وقد فندنا ذلك منذ قليل. وسنعرض على القارئ روايات أخرى تؤدي الغرض ذاته، ولكن قبل ذلك لا بد من العودة إلى نص الآية لتأويل محتواها التاريخي، وتحديداً إلى قوله تعالى "وممن حولكم من الأعراب". والخطاب كما أسلفنا موجه للنبي وصحابته في المدينة. فمن المقصود ب"الأعراب" حول المدينة يا ترى؟. يقول المفسرون إن الأعراب المقصودين هم قبائل: جهينة . ومزينة . وأشجع . وأسلم . وغفار؛ وكانت منازلهم حول المدينة ، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي، والألوسي، والواحدي، وابن الجوزي، وغيرهم. والسؤال: هل سيترك منافقو هذه القبائل الآية تهدد حاضرهم ومستقبلهم ووظيفتهم التخريبية؟ الجواب: كلا..لن يتركوها. وإذا كانوا عاجزين عن إسقاطها من المصحف، أو تحريف دلالتها الصريحة بالتأويل، فلن يعجزوا عن اختراع روايات منسوبة للنبي (ص) تتناقض معها. والسؤال: هل هناك روايات من هذا القبيل؟. الجواب في صحيحي البخاري ومسلم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: « قريش. والأنصار. وجهينة . ومزينة . وأشجع . وأسلم . وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره »، وجاء عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: « اسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى ». ولا تعليق!.
والآن هل كان النبي (ص) وصحابته الأخيار على حذر من خطر هذه الطائفة؟ وماذا فعلوا في سبيل الحد من خطرها؟. الجواب واضح، فقد قطع النبي (ص) الطريق أمام هذه الطائفة وأمثالها في الدس والتزوير والكذب على النبي وصحابته، فنهى نهياً قاطعاً عن كتابة وتدوين حديثه اليومي تدويناً رسمياً، كما تقول رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم " لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كان كتب فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج". وكما تقول عشرات الروايات المساندة في الصحاح والمسانيد، وكما يؤكد جمهور علماء المسلمين.
وعلى النهج ذاته سار الخلفاء الراشدون والصحابة الكبار حيث منعوا تدوين الأحاديث، وأمروا بحرق ما كتب منها، بل ونهوا حتى عن الإكثار من الرواية الشفهية عن النبي (ص) وهي مباحة. وقد ناقشنا هذا الأمر بتوسع في مناسبات سابقة. ومن عجيب بعض المشائخ أن يعترفوا بهذه الحقيقة ثم يتناقضون في تبريرها، كما فعل الدكتور الأزهري محمد أبو زهو في كتابه الشهير (الحديث والمحدثون) حيث قال في موضع من كتابه إن هذه القبائل قد ارتدت بعد وفاة النبي (ص) مع المرتدين، وانكشف أمرها للمسلمين. ثم يقول في موضع آخر من كتابه إن النبي (ص) قد نهى عن كتابة الحديث في زمنه خوفاً من استغلال المنافقين للرواية عن النبي!. وهو بهذا أيضاً يتناقض مع رواية الشيخين الماضية، ومع اجتهادات أخرى راسخة في بنية العقل التقليدي ليس هذا مجال ذكرها.
تقويم أولي:
والآن، كيف يمكن لأي عاقل أن يقوّم السطور الماضية، أو يحكم عليها؟. دعنا نقول _من باب الجدل العلمي فقط_ إن فهمنا للنصوص السابقة لم يكن دقيقاً، وإن مقولتنا التفسيرية لم تكن يقينية. لكن هل يستطيع عاقل أن ينكر أن هذه المقولة هي الأكثر رجحاناً في تفسير ما حدث؟ وهل يستطيع معارض أن يأتينا بمقولة تفسيرية أصلح منها في السياق نفسه؟. وليست الإجابة عن السؤالين الماضيين عملاً تخمينياً، يصعب التحقق منه. فقد حكم المختصون بنجاح أي مقولة تفسيرية إذا استطاعت أن تفسر كل، أو معظم، جوانب الظاهرة / المشكلة. وهو ما حققته هذه المقولة (أزعم) باقتدار. وفي سبيل التحقق من ذلك أضع القارئ أمام الحقائق الآتية:
1. استطاعت المقولة أن تضع تفسيراً واحداً ووحيداً لكل الأحداث والتفاصيل التي وردت في السيرة وكتب الحديث، سواء تلك المتصلة بالحدث السياسي مباشرة أو تلك التي تبدو منفصلة عنه. فعلمنا لماذا سارع بعض الأنصار إلى اجتماع السقيفة، عقب وفاة النبي (ص) مباشرة، ودون مشورة المهاجرين وبقية الأنصار. وعلمنا لماذا أسرع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ابن الجراح إلى السقيفة فور معرفتهم اجتماع تلك الطائفة من أهل المدينة في السقيفة، تاركين شأن التجهيز لدفن النبي لآخرين من آل بيته. وعلمنا لماذا أسرع المهاجرون الثلاثة إلى سحب البساط من تحت أقدام الأنصار، فوراً دون مشاورة بقية المهاجرين والأنصار، واعتبار ذلك "فلتة" وقى الله المسلمين شرها كما قال عمر بن الخطاب بعد ذلك. وعلمنا لماذا كانت الخلافة بعد ذلك دولة بين المهاجرين دون الأنصار. ولماذا خرج الأنصار من كل شئونها بما في ذلك مجلس شوراها. وأدركنا سرّ سكوت الأنصار على احتكار المهاجرين لشئون الخلافة. وعلمنا أيضاً سرّ نهي النبي (ص) وصحابته الكبار عن تدوين الحديث النبوي أو الإكثار من روايته. وغير ذلك من التفاصيل التي نجحت المقولة في تفسيرها.
2. تعرض هذه المقولة التفسيرية صحابة الرسول الكبار من السابقين الأولين في صورة لائقة تنفي عنهم تبعات المقولات التفسيرية السابقة، التي تضعهم في خانة الباحثين عن السلطة، من أجل السلطة، والطامعين في المجد والشهرة والهيلمان الدنيوي، أو في خانة المتعصبين لعرقهم وأرومتهم. بكل ما يعنيه ذلك من تلميح بفشل النبي في اصطفاء نخبة ممتازة من الصحابة الزاهدين في متاع الدنيا، ومن تلميح خطير بكون تلك النخبة المقربة من النبي لم تكن محلاً للثقة في نقل هذا الدين والحفاظ عليه. وكلها معان تؤدي في نهاية المطاف إلى التشكيك في سلامة الدين نفسه.
3. تضع هذه المقولة التفسيرية القرآن في مقام النص المهيمن في تفسير ما عداه من النصوص، بعكس المقولات التفسيرية السابقة التي تضع النص القرآني تحت سلطان النص التاريخي يفسره كيف يشاء، أو تغيبه عن الشهود بالمرة. وبتعبير آخر فإن هذه المقولة تفسر التاريخ على ضوء القرآن، ولا تفسر القرآن على ضوء التاريخ، أو تتجاهله في عملية التفسير، كما فعلت المقولات السابقة.
4. تجمع هذه المقولة بين الاعتراف ببشرية مجتمع الصحابة بإمكانية وقوعه في الخطأ والضلال، وبين تنزيه الصحابة الكبار تحديداً من اقتراف الأخطاء الجسيمة، وهو ما يحقق معنى الواقعية الإسلامية دون تفريط ولا إفراط. أي دون الوقوع في فخ الاتهام العلماني لنوايا الصحابة وأخلاقهم، ودون الوقوع في فخ التقديس السلفي للصحابة وزمنهم، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، هي عملة القراءة المتحيزة غير الموضوعية.
5. حققت مغزى آيات سورة التوبة الماضية، إذ ليس من اللائق القول إن الصحابة (كبارهم على وجه التحديد) كانوا في غفلة عن مقاصدها ومعانيها، بدليل أنها لم تحرك ساكناً فيهم ولم تترك أثراً بينهم. وكأن القرآن كان يحدثنا عن طبقات المجتمع النبوي لمجرد الترف المعرفي ليس غير.
نقض المقولات السابقة:
لقد حظيت حادثة السقيفة وما تلاها من تحولات سياسية بعدد من المقولات التفسيرية قديماً وحديثاً، يمكننا إرجاعها إلى ثلاث مقولات أساسية، هي: مقولة (الأئمة من قريش) التي قال بها جمهور السنة، ومقولة (العصبية) التي طرحها العلامة ابن خلدون، ومقولة (الغلبة) التي قال بها كثير من الدارسين والمستشرقين المعاصرين. أما المقولة الأولى فهي بنصها رواية منسوبة إلى النبي (ص) يزعم أصحابها أنه قد وجه بجعل الخلافة في قريش، وعضدوا هذه الرواية بروايات أخرى مفسرة وشارطة. أما ابن خلدون فعلل جعل الأمر في قريش بقوة عصبيتهم "لأن قريشاً كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب فيهم، وكان سائر العرب يعترف لهم بذلك، فلو جعل الأمراء من سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم، ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكره، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة، والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم" (مقدمة ابن خلدون). وواضح أن ابن خلدون يرى أن الإمامة جعلت في قريش لقوتها وغلبتها، وكان يعتقد أن حقها في الإمامة زال بزوال قوتها وغلبتها، ومعنى ذلك أنه يفسر القرشية بالعصبية الغالبة. أما أصحاب مقولة (الغلبة) فيعتقدون أن الأمر برمته داخل في باب الأطماع البشرية، وأن الصحابة المهاجرين قد استبدوا بالأمر من دون المسلمين، استناداً إلى مكانتهم الأدبية بوصفهم جماعة النبي وقرابته، وإلى قوة شكيمتهم ومراسهم الحربي. غير أن هذه المقولات الثلاث لا تتمتع بقوة تفسيرية عالية، ويمكننا مناقشتها في السطور التالية.
نقض المقولة الأولى:
يزعم جمهور السنة أن النبي (ص) قد وجه بجعل الأمر في قريش، وبناء على هذا جعلوا "القرشية" شرطاً من شروط الإمامة الكبرى (الرياسة العامة)، ومن الواضح أن هذا الزعم غير دقيق للاعتبارات الآتية:
1. هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا تفيد إلا الظن، وقد ادعى بعضهم تواتره معنوياً، إلا أن بعض نقاد الحديث قد نقض هذا الزعم بكفاءة، منهم محمد العزاني في كتاب (الأئمة من قريش). ولم يكن الأمر يحتاج إلى كل ذلك العناء الذي بذله الأستاذ العزاني، إذا ما علمنا أن التواتر المزعوم عندهم ليس نقل الكافة عن الكافة، الذي كان يشترطه الأصوليون الكبار أمثال الشافعي، وإنما هو شكل من أشكال التحايل العلمي يعتمد أصحابه على تكثير سواد طرق الروايات الأحادية بغض النظر عن صحتها، وبغض النظر عن تناقضها واختلافها، كما أثبت المحدث العزاني في كتابه المذكور.
2. إذا كان النبي (ص) قد وجه بجعل الخلافة في قريش _ وهو بالمناسبة قول قد يؤيد ما ذهبنا إليه من محاولة قطع الطريق أمام المنافقين_ فكيف خفي ذلك على سعد بن عباده وهو من كبار الأنصار، وقد تورط في مكيدة من تدبير المنافقين، أرادوا منها شرعنة موقفهم، بجعله على رأسهم في السقيفة. وقد ذهب مغاضباً رافضاً مبايعة أبي بكر أو غيره، وغادر المدينة إلى الشام حتى مات، وقيل اغتيل، واتهمت الجن بقتله!.
3. ثم كيف يكتفي النبي بتعيين القبيلة التي ستتولى أمر المسلمين من بعده، دون أن يضيف أي تفصيلات تمنع الشقاق بينهم بعد ذلك؟. وكيف يوجه النبي توجيهاً كهذا ثم يجهله الأنصار؟!. وهل كان هؤلاء سيقدمون على اجتماع السقيفة لو أن هذا التوجيه كان معلوماً لديهم؟!
نقض المقولة الثانية:
أما مقولة العصبية التي طرحها ابن خلدون، فيمكن مؤاخذتها في النقاط الآتية:
1. قد تستطيع هذه المقولة تفسير احتكار الخلافة في قريش آنذاك، ولكنها لا تستطيع أن تفسر خلو مجلس شورى الخلافة من أنصاري واحد.
2. أما قول ابن خلدون " فلو جعل الأمراء من سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم". فلا يحظى برصيد واقعي لأن هذا التكتيك إما يستهدف الأنصار، وهؤلاء عصبية الدين عندهم مقدمة على عصبية القبيلة، فضلاً عن كونه يعد استعداءً لهم لا معنى له، وإما أنه يستهدف القبائل التي أسلمت في عام الفتح وقبله وهؤلاء قد ارتد كثير منهم بعد وفاة النبي (ص) غير آبهين بعصبية قريش وهيبتها.
نقض المقولة الثالثة:
وكذلك لا يمكننا القبول بمقولة الغلبة للاعتبارات الآتية:
1. لأنها تقدم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من فئات المجتمع النبوي، في صورة لا تتفق مع مكانتهم في القرآن الكريم، ولا تتفق مع المنطقي من صورتهم التاريخية. ومقولة "إنهم بشر" التي تطرح في هذا السياق قد تبرر بعض أخطائهم، إلا أنها لا تعني تحولهم من ملحمة الإسلام والتضحية بالنفس والنفيس مع النبي (ص) إلى ملحمة الاحتيال والطمع السياسيين بعد وفاته بساعات.
2. لا تستطيع هذه المقولة أن تفسر سكوت الأنصار على استلاب الخلافة منهم بالغلبة، وهم أصحاب الأرض (المدينة المنورة)، وأصحاب الأغلبية العددية فيها. وكل الدلائل قد دلت على أنهم سلموا الأمر للمهاجرين راضين غير كارهين.
3. قلنا من قبل إن فكرة الخلافة لم تكن واردة في رؤوس الأنصار منذ البداية، مما يدفعنا إلى الشك في دوافع الذين استعجلوا اجتماع السقيفة منهم. وليس صحيحاً ما قاله خليل عبد الكريم في كتابه (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية) من أن الأوس والخزرج كانت تنقصهم "الحنكة" السياسية، فزهدوا في أمر الخلافة والملك. بدليل أنهم الأمة الوحيدة في وسط الجزيرة العربية التي فكرت في تنصيب "ملك" عليها قبيل دخول النبي (ص) المدينة المنورة، ولولا قدوم الإسلام والرسول إليهم لكان عبد الله بن سلول قد نصب ملكاً متوجاً على الأوس والخزرج.
عرّف العلماء الفساد فقالوا: هو وضع الشيء في غير موضعه. فوضع الملح في الشاي إفساد للشاي، ووضع السكر في الطبيخ إفساد للطبيخ، ومثله وضع اللين في موضع الشدة، والعكس. وأخطر منها وضع شخص جاهل في منبر التعليم والتوجيه والخطابة لمجرد أنه يجيد زئير الأسود، وترديد الببغاوات، وإثارة غرائز الحقد والغضب الكامنة في صدور الذين طحنهم الفقر، والجهل، والمرض. إلا أن من أدق مظاهر الفساد عند المسلمين وضع (الذاكرة) في موضع (العقل)، وهو أخطر ما تفعله أمة تنوي القضاء على نفسها، إذا ما عرفنا أن الجنون في حقيقته ليس سوى غياب (العقل) وحضور (الذاكرة). وقد كان هذا النوع من الفساد هو أبرز ما حمله القرآن على الكفار في عصورهم الماضية. وسجل لهم هذا المبدأ المنحرف في أكثر من آية نحو قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون. البقرة:170. والآية هنا تجعل اتباع الذاكرة (الآباء) نقيضاً لاتباع العقل. وتجعل الأول مذهباً للكفر، والآخر مذهباً للإيمان. فأصحاب الضلال يجعلون الآباء وعلومهم وتقاليدهم معيارا للحق والباطل، وأصحاب الإيمان يجعلون العقل معيارا لمعرفتهما. وهل هناك من الفساد واختلال الموازين ما هو أسوأ من أن تتحرك إلى الأمام وأنت تنظر إلى الخلف؟!. وحين تقرر أمة أن تجعل ماضيها حاضراً، ومستقبلها ماضياً، فقد قررت أن تقصي قوى التفكر والإبداع فيها، لصالح قوى التذكر والاتباع. ولا تسأل حينئذ عن مصير أمة هذا شأنها، إلا إذا كنت تجهل معنى فقدان العقل!.
ومن بين الآثار المدمرة لإقصاء العقل وتمكين الذاكرة في حياة المسلمين، أن واقعهم السياسي والاجتماعي والمعرفي، مرهون بتوجيهات التاريخ البعيد ومقرراته. فهم بدلا من البحث عن نظريات علمية مناسبة لواقعهم في هذه المجالات، يستدعون التاريخ لإعادة اجتراره وإنتاجه. فتاريخ السقيفة وصفين والجمل، ومخلفاتها السياسية والمذهبية، والعصبية، ليس ماضياً بقدر ما هو حاضرٌ متجسدٌ في كل ما نقول ونفعل ونأمل. وقد نشأ خطاب إسلامي ينتمي لإسلام ما بعد صفين أكثر مما ينتمي لإسلام ما قبل صفين. إلا إذ قيل إن الرسول وأصحابه كانوا ينتمون إلى أحد المذاهب الإسلامية السنية أو الشيعية مثلا. وإلا إذ قيل إن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ متون الحديث النبوي وتدوينه، مثلا آخر!. وليس لدى الباحثين اليوم من أنصار الحقيقة والعقل تجاه ماضيهم (وماضيهم هنا هو تراثهم وذاكرتهم الجمعية) إلا أحد خيارين: الأول: إعادة تصحيح هذا التراث، والآخر: إعادة قراءة وتأويل ما صح منه، على ضوء الحقائق والمناهج الموضوعية المستجدة. وليس بين خياراتنا خيار يقول بشطب التراث وإلغائه جملة واحدة، كما يتصور بعض الجهلة. فالأمة التي بلا تراث أمة لقيطة. وفي المقابل فإن الأمة التي تعتاش على تراثها وحده، هي عالة على الآباء، وعالة على الأمم من حولها، ويصدق عليها قوله تعالى: وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم، لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. النحل:76.
ونزولاً عند الخيار الأول فقد حاول صاحب هذه السطور في مرحلة سابقة، وبكل ما أوتى من معرفة متواضعة أن يعيد النظر العلمي في بعض قضايا التراث الإسلامي، وعلى رأسها حقيقة (حجية) الحديث النبوي، لما لها من آثار خطرة، على العقل والواقع الإسلاميين، بل وعلى صحة العقيدة نفسها. وإنها على رغم خطورتها، لم تأخذ حقها من الدرس والبحث العلميين. وخلص إلى قناعة راسخة بكون الحديث النبوي ليس جزءاً من الوحي الذي كلف الرسول (ص) بتبليغه، وإنما هو جزءٌ طبيعيٌ من السيرة النبوية. إذا ما عرفنا أن سيرة أي شخص هي مجموع أقواله وأفعاله وتقريراته. مدللاً على ذلك بكافة أنواع الحجج والبراهين العقلية والنقلية، التي لا ينكرها عقل عرف معنى الدليل ووظيفته. وهاهو _نزولاً عند الخيار الثاني_ يحاول إعادة قراءة وتأويل واحدة من أخطر لحظات التاريخ الإسلامي، التي ساهمت في تضبيب المشهد السياسي والفكري الإسلاميين، هي لحظة (السقيفة). ولحظة السقيفة هذه هي لحظة اجتماع بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة، بالمدينة المنورة، عقب وفاة النبي بساعات قليلة، لاختيار خليفة سياسي للرسول عليه الصلاة والسلام، وأدت إلى ظهور أول نزاع علني بين كبار الصحابة. ولعل من المناسب أن أضع القارئ أمام الرواية التاريخية لأحداث السقيفة، قبل التعقيب عليها بما يكشف عن أسرارها التي خفيت على الخائضين فيها من قديم، حسب ما يعلم.
الرواية التاريخية:
يروي ابن هشام في سيرته نقلاً عن ابن إسحاق ما يأتي: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْحَازَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَاعْتَزَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ وَانْحَازَ بَقِيّةُ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَانْحَازَ مَعَهُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ فَأَتَى آتٍ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، قَدْ انْحَازُوا إلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِأَمْرِ النّاسِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوا قَبْلَ أَنْ يَتَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يُفْرَغْ مِنْ أَمْرِهِ قَدْ أَغْلَقَ دُونَهُ الْبَابَ أَهْلُهُ . قَالَ عُمَرُ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، حَتّى نَنْظُرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ. أهـ. ثم ينقل لنا ابن هشام رواية أخرى عن خطبة لعمر بن الخطاب في وقت توليه لأمر المسلمين بعد أبي بكر، تفسر ما حدث يوم السقيفة، يقول فيها عمر: . فَلَا يَغُرّنّ امْرَأً أَنْ يَقُولُ إنّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْر ٍ كَانَتْ فَلْتَةً فَتَمّتْ وَإِنّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إلّا أَنّ اللّهَ قَدْ وَقَى شَرّهَا ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ تَنْقَطِعُ الْأَعْنَاقُ إلَيْهِ مِثْلَ أَبِي بَكْر ٍ فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّهُ لَا بَيْعَةَ لَهُ هُوَ وَلَا الّذِي بَايَعَهُ تَغِرّةً أَنْ يَقْتُلَا ، إنّهُ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفّى اللّهُ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا ، فَاجْتَمَعُوا بِأَشْرَافِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَتَخَلّفَ عَنّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبِيرُ بْنُ الْعَوّامِ وَمَنْ مَعَهُمَا ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمّهُمْ حَتّى لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ وَقَالَ أَيْنَ. قُلْنَا : نُرِيدُ إخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالَا : فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ اقْضُوا أَمْرَكُمْ . قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَنَأْتِيَهُمْ . فَانْطَلَقْنَا حَتّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، فَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ رَجُلٌ مُزَمّلٌ فَقُلْت : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقُلْت : مَا لَهُ ؟ فَقَالُوا : وَجِعَ . فَلَمّا جَلَسْنَا تَشَهّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللّهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنّا ، وَقَدْ دَفّتْ دَافّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ قَالَ وَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْتَازُونَا مِنْ أَصْلِنَا ، وَيَغْصِبُونَا الْأَمْرَ فَلَمّا سَكَتَ أَرَدْت أَنْ أَتَكَلّمَ وَقَدْ زَوّرَتْ فِي نَفْسِي مَقَالَةٌ قَدْ أَعْجَبَتْنِي ، أُرِيدُ أَنْ أُقَدّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَكُنْت أَدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِسْلِك يَا عُمَرَ فَكَرِهْت أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلّمَ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنّي وَأَوْقَرَ فَوَاَللّهِ مَا تَرَك مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي مِنْ تَزْوِيرِي إلّا قَالَهَا فِي بَدِيهَتِهِ أَوْ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ حَتّى سَكَتَ قَالَ أَمّا مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إلّا لِهَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا ، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيّهمَا شِئْتُمْ وَأَخَذَ بِيَدَيْ وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا ، وَلَمْ أَكْرَهْ شَيْئًا مِمّا قَالَهُ غَيْرُهَا ، كَانَ وَاَللّهِ أَنْ أُقَدّمَ فَتُضْرَبُ عُنُقِي ، لَا يُقَرّبُنِي ذَلِكَ إلَى إثْمٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ . قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا قُرَيْشٍ . قَالَ فَكَثُرَ اللّغَطُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ حَتّى تَخَوّفْت الِاخْتِلَافَ فَقُلْت : اُبْسُطْ يَدَك يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته ، ثُمّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ، ثُمّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ . قَالَ فَقُلْت : قَتَلَ اللّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ!.
المقولة التفسيرية:
تلك رواية ابن هشام عن ابن إسحاق. وقبل البدء في قراءة ما حدث وتأويله، لا بد من بيان المقولة التفسيرية التي استند إليها كاتب هذه السطور في مقاربة الحدث؛ وهي مقولة تستند إلى حقيقة قرآنية في غاية الخطورة والأهمية هي قوله تعالى: وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم. التوبة:101. والآية من أواخر ما نزل من القرآن الكريم. وهي تصرح بوجود طائفة من المنافقين "من أهل المدينة"، المنورة، لا يعلمها النبي نفسه، فما بالنا بصحابته. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا كان النبي (ص) نفسه لا يعلم شخوص هذه الطائفة، فما نفع الآية إذاً؟. والجواب واضح تماماً: الآية تحذر من دور هذه الطائفة في وسط المجتمع الإسلامي آنذاك، وضع خطاً تحت (آنذاك) لأن الآية تتحدث عن فئتين محددتين في جيل بعينه، هما فئتا المنافقين المستورين من الأعراب، ومن أهل المدينة، في الجيل الإسلامي الأول؛ أي أن الآية لا تخاطب المجتمعات الإسلامية بعد عصر النبوة، ومن ثم فإن الآية جاءت تحقق غرضاً محدداً في ذلك الجيل، لن يتحقق في أي وقت آخر. وإذا كان غرض الآية قد أصبح في حكم التاريخ، إلا أن دلالتها مازالت باقية، بدليل أنها قد تحولت هنا إلى مقولة تفسيرية ناجحة كما سنرى في السطور التالية.
ولا عبرة بتلك الرواية التي حاولت تعطيل وظيفة هذه الآية بالقول: إن النبي (ص) قد علم شخوص المنافقين، وأفضى بأسمائهم إلى كاتم أسراره حذيفة بن اليمان قبل موته، لعدد من الاعتبارات. أولها: أن الآية لا تخبر بذلك، ولا معنى لأن يسكت القرآن عن إخبار النبي بأسمائهم بعد أن أخبر بوجودهم. وثانيها: أن إسرار النبي بأسمائهم لحذيفة لا معنى له، إذا كان حذيفة لم يخبر أحداً بأسمائهم بعد ذلك كما تدل الرواية؛ إذ ما فائدة الإسرار إذا لم يحقق غرضاً للمسلمين؟ ثم لماذا يكون حذيفة كاتماً لأسرار النبي وليس أبو بكر، صديقه المقرب والمزكى في القرآن، وصهره مثلاً ؟ هل تريد الرواية أن توحي إلينا بأن النبي لم يكن يثق في كبار صحابته ومقربيه؟ أم أن في الأمر سراً لا نعلمه نحن ولا عشاق الرواية؟!. وأخيراً فإن جل المفسرين يخالفون هذا الرأي العاري من أي حجة. يقول ابن كثير في تعليقه على هذه الآية:" وقوله: { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافي قوله تعالى: { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } الآية[محمد:30]؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء".أهـ. ويعلق الزمخشري في تفسيره بقوله:" { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم ، ثم قال : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلاّ الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به ، فلهم فيه اليد الطولى".أهـ. وكذلك الشوكاني في فتح القدير يقول:" { لاَ تَعْلَمُهُمْ } مبينة للجملة الأولى ، وهي مردوا على النفاق : أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً ، ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف سائر المؤمنين؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة".أهـ. ويقول الطبري في تفسيره:" (لا تعلمهم)، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة".أهـ. ومثل ذلك ورد في التفسير الكبير للرازي، وفي عشرات التفاسير الأخرى. مما يعني بوضوح أن النبي (ص) وصحابته الصادقين تعاملوا طوال الوقت مع منافقين خطرين ماهرين في النفاق، وهم يحسبونهم من الصحابة الأجلاء. والسؤال الكبير الآن هو: ماذا كان يفعل هؤلاء المنافقين طوال الوقت؟ وكم من الروايات الخبيثة نسبوا إلى النبي وصحابته، وتلقاها المسلمون من بعدهم على أنها وحي يوحى؟!. الجواب واضح لمن صفت سريرته وصحت عقيدته!. وسنعرض بعض تلك المرويات التي نرجح أنها من مدسوساتهم في نهاية هذا المقال.
وبالعودة إلى الآية نجد أن عبارة "ومن أهل المدينة" هي أخطر ما ورد فيها، إذ ليس للمركب اللغوي (أهل المدينة) سوى معنيين محتملين: الأول: أن يكون المقصود به كل سكان المدينة من أنصار ومهاجرين، والآخر: أن يكون المقصود به السكان الأصليين للمدينة، وهم الأوس والخزرج فقط. ونحن نرجح هذا المعنى الأخير، للاعتبارات الآتية: أولاً: لا يتصور أحد أن يكون بين المهاجرين من ينطوي على نفاق، فليس من يعرض نفسه للهلاك والتعب والهجرة من داره ومصالحه إلى دار غريبة، هو من يفعل ذلك نفاقاً. ثانيا: التاريخ يؤكد أن ظهور حركة النفاق كانت في سكان المدينة الأصليين، من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول، وهو أحد منافقي الطائفة المكشوفة التي عرف أمرها، قبل نزول الآية كما تدل السيرة. والآية السابقة لا تقول إن كل المنافقين هم من الطائفة المستورة. وثالثاً: لأن عبارة "أهل المدينة" قرينة لفظية وعرفية واضحة على أن المقصود هم الأوس والخزرج. ولو أن الآية قصدت عموم المسلمين من مهاجرين وأنصار، لجاءت بعبارة "منكم" كما جاء في آية (الإفك) مثلاً، حين عممت بالقول: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم. النور:11. وإذاً فقد ترجح أن يكون المقصود ب"أهل المدينة" السكان الأصليون من الأوس والخزرج، بعد استبعاد اليهود الذين لا يدخلون تحت مسمى المنافقين.
وبقراءة ما حدث في يوم السقيفة على ضوء هذه الحقيقة يمكننا القول إن المهاجرين، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر، كانوا يتصرفون وهم يستحضرون هذه الآية. فقد خافوا _وهذا واجبهم_ أن يقع أمر المسلمين، ومنجزاتهم مع الرسول (ص) بين يدي هذه الطائفة المستورة من المنافقين، فبادروا بأنفسهم مسرعين لأخذ زمام الأمور، قبل أن يفلت من أيديهم، واستبعاد صف الأنصار بكامله من شئون الخلافة بعد أن أصبح محلاًً للظن والريب. وهو ما فسره بعض المتعجلين بأنه طمع في السلطة، وحب استئثار بها. وفي روايات السيرة من القرائن ما يؤيد هذا الاستنتاج، ومن قرائن رواية ابن هشام السابقة ما يأتي:
أولاً: مبادرة بعض أهل المدينة إلى الاجتماع في السقيفة دون إخبار المهاجرين، تدل على وجود من يدبر شيئاً في الخفاء، وأن الأمر لم يكن وليد اللحظة، سواء علم الصالحون من الأنصار أم لم يعلموا؛ ولعل ما ورد في خطبة المدني المجهول في السقيفة يدل على شيء من هذا القبيل، حين قال: "وقد دقت داقة من قومكم، وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر". وهي عبارة تدل على ما كان يجيش في صدور بعض "أهل المدينة" تجاه المهاجرين.
ثانياً: من الواضح أن جميع المهاجرين قد انحازوا إلى أبي بكر وعمر، باستثناء أولئك الذين انشغلوا بالتحضير لدفن النبي، أمثال الإمام عليً. وموقف المهاجرين له دلالته إذا ما عرفنا أن هذه المظلة تشمل السابقين الأولين، الذين حصلوا على تزكية سماوية في قوله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم. التوبة:100. وهو ما يعني أن الصف الخالي من النفاق قد انحاز ابتداءً إلى أبي بكر وعمر، ثم لحقه بقية الصف المؤمن من الأنصار فيما بعد.
ثالثاً: يقرر عمر في خطبته أن الأصل في إمارة المسلمين هو الشورى، وأن بيعة أبي بكر بتلك الطريقة لم تكن سوى "فلتة" وقى الله المسلمين شرها. وهذا أيضاً يدل على أن شيئاً خفياً هو الذي دفع أبا بكر وعمر للإسراع إلى تلك الفلتة، وتولية أحد المهاجرين، دون مشاورة المسلمين. ذلك الشيء الخفي لم يكن سوى خوفهم من أن يقع أمر المسلمين، ومصيرهم، ومنجزاتهم، بين يدي المنافقين غير المعلومين من "أهل المدينة" كما أسلفت، وفيه من خوف الفتنة ما فيه. وهذا ما يفسر ترشيح أبي بكر لعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، ورفض الرجلين لها، وترشيحهما لأبي بكر.
رابعاً: إن مقولتنا هذه تفسر أيضاً كيف أن الخلافة من بدايتها إلى نهايتها، لم تخرج عن المهاجرين. والأعجب من ذلك أن هيئة شورى الخلافة أيضا لم تخرج عنهم، إذ ليس في ما يسمى بالعشرة المبشرين بالجنة (وهم هيئة شورى الخلافة) أنصاري واحد. كما أنها تفسر أيضاً ظهور مقولة "الأئمة من قريش" وأخواتها.
خامساً: تخبرنا السيرة أن بعض القبائل العربية التي دعاها النبي للإسلام كانت تشترط عليه أن يكون لها الأمر من بعده، وكان الرسول يرد عليها ب"أن الأمر لله"، وأما الأنصار فقد استجابوا لدعوته من غير شرط غير "الجنة" وهذا يعني أن فكرة الخلافة لم تكن واردة في رؤوس الأنصار منذ البداية، مما يدفعنا إلى الشك في دوافع الذين استعجلوا اجتماع السقيفة منهم.
سادساً: لا نتصور أن هذه الآية لم تؤد وضيفتها آنذاك، وأن الصحابة لم يدركوا مقاصدها البعيدة والقريبة، خاصة وأنها تعنيهم أكثر مما تعنينا، لأن الخطاب فيها لهم لا لنا: (وممن حولكم)، أنتم أيها المسلمون في الجيل الأول. فإذا كان لهذه الآية مغزى ووظيفة، فما مغزاها بعد ذلك، وما وظيفتها، إذا كان الصحابة سيتجاهلونها؟!. أما بقية أجيال المسلمين فلم يتبق لهم من هذه الآية، ومن مثيلاتها في سورة التوبة إلا وظيفتين هما: إعادة تفسير أحداث تلك المرحلة على ضوئها، وأخذ الحيطة والحذر مما يروى لنا من روايات حديثية نقلت عن الصحابة، وفيهم بعض المنافقين الذين لا يعلمهم أحد غير الله. وهو ما يعني أن احتمال وصول أحاديث منسوبة إلى النبي زوراً وارد بقوة. وما دخله الاحتمال بطل به الاستدلال، كما تقول القاعدة الأصولية.
ومن الجدير بالذكر أن سورة التوبة، وهي آخر سور القرآن الكريم نزولا، كانت بمثابة مشهد ختامي في قصة الرسالة المحمدية، مشهد يعاد فيه ترتيب مقامات المجاهدين مع النبي (ص)، و ترتيب شرائح المجتمع الإسلامي بحسب ما قدموا من عمل صالح. فهناك شريحة "السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" (100)، وهناك شريحة "الذين اتبعوهم بإحسان" (100)، وهناك شريحة الذين " خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً" (102). وهناك "آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم" (106). وهناك طائفة المنافقين، وهم على شريحتين، الأولى مكشوفة دلت عليها أفعالها " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون" (42)؛ والأخرى مستورة دلت عليها آية "وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم" (101). ولو أن الأصوليين والمحدثين استوعبوا هذه السورة ومقاصدها جيدا ما قالوا بعدالة كل أفراد المجتمع الإسلامي في زمن النبي، استنادا إلى آيات أخرى مجملة. والقول بأن جميع أفراد المجتمع الإسلامي في زمن النبي عدولٌ، هو قول يتجاهل هذه الآيات، إن لم نقل إنه يتحداها. ولا أدري أي ورع وتقوى في هذا التعطيل الصريح للقرآن الكريم!.
روايات في مواجهة الآيات:
ليس من باب الذكاء القول إن هذه الطائفة المستورة من المنافقين كانت تعمل في الخفاء وبمكر كامل ودهاء، في تقويض المنجز الإسلامي الذي أرساه الرسول وصحابته الصادقين، ممثلاً في وحي الرسالة (القرآن) وفي المجتمع الإسلامي الوليد. ولا نتصور أبداً أن لا نجد لهم محاولات وآثار في هذا السياق، إلا إذا كانوا مجموعة من السذج الحمقى، وهو ما ينفيه مضمون الآية نفياً حاسماً. وإذا كانت محاولاتهم العملية قد أحبطت في زمن الوحي، فإن انقطاع الوحي بوفاة النبي (ص) قد سهل لهم تحقيق بعض طموحاتهم، إلا أن يقظة كبار الصحابة وصادقيهم قد وأدت حلمهم الأول في تعطيل مشروع المجتمع الإسلامي الوليد، فهل يأس المنافقون من تحقيق بعض المنجزات؟. ودعني أقدم الإجابة في ثوب سؤال يقول: وهل يعقل أن يتسرب اليأس إلى أنفسٍ يصفها الله _ضمنياً _ بالحنكة والدهاء في ممارسة النفاق؟!. إذن ماذا نتوقع من هذه الطائفة بعد أن أجهض الصحابة الصادقون مشروعها في السقيفة؟. الجواب: نتوقع أن تشتغل هذه الطائفة في ميدان الدس والوضع والكذب على النبي (ص). نتوقع أن ينسبوا إليه من الروايات ما يعطل نصوص القرآن، وما يضادها، وما يزرع الريبة والشك فيها. وأول ما سيخترعونه من الروايات المعطلة، روايات تعطل مهام الآيات التي تهدد مشروعهم التخريبي الخبيث. وإذا كنا نتوقع حصول ذلك منهم فلا بد أن نتوقع بالتبعية وجود مثل تلك المرويات المفبركة في تراثنا الروائي، فهل هي موجودة حقاً؟.
لقد سبق وتعرضنا في ثنايا هذا المقال لواحدة من تلك الروايات التي قصد بها تعطيل آية المنافقين السابقة، حين زعم الرواة أن النبي قد أسر بأسماء المنافقين لحذيفة ابن اليمان، في محاولة للقول _على نقيض الآية _ إنهم كانوا معروفين. وقد فندنا ذلك منذ قليل. وسنعرض على القارئ روايات أخرى تؤدي الغرض ذاته، ولكن قبل ذلك لا بد من العودة إلى نص الآية لتأويل محتواها التاريخي، وتحديداً إلى قوله تعالى "وممن حولكم من الأعراب". والخطاب كما أسلفنا موجه للنبي وصحابته في المدينة. فمن المقصود ب"الأعراب" حول المدينة يا ترى؟. يقول المفسرون إن الأعراب المقصودين هم قبائل: جهينة . ومزينة . وأشجع . وأسلم . وغفار؛ وكانت منازلهم حول المدينة ، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي، والألوسي، والواحدي، وابن الجوزي، وغيرهم. والسؤال: هل سيترك منافقو هذه القبائل الآية تهدد حاضرهم ومستقبلهم ووظيفتهم التخريبية؟ الجواب: كلا..لن يتركوها. وإذا كانوا عاجزين عن إسقاطها من المصحف، أو تحريف دلالتها الصريحة بالتأويل، فلن يعجزوا عن اختراع روايات منسوبة للنبي (ص) تتناقض معها. والسؤال: هل هناك روايات من هذا القبيل؟. الجواب في صحيحي البخاري ومسلم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: « قريش. والأنصار. وجهينة . ومزينة . وأشجع . وأسلم . وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره »، وجاء عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: « اسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى ». ولا تعليق!.
والآن هل كان النبي (ص) وصحابته الأخيار على حذر من خطر هذه الطائفة؟ وماذا فعلوا في سبيل الحد من خطرها؟. الجواب واضح، فقد قطع النبي (ص) الطريق أمام هذه الطائفة وأمثالها في الدس والتزوير والكذب على النبي وصحابته، فنهى نهياً قاطعاً عن كتابة وتدوين حديثه اليومي تدويناً رسمياً، كما تقول رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم " لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كان كتب فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج". وكما تقول عشرات الروايات المساندة في الصحاح والمسانيد، وكما يؤكد جمهور علماء المسلمين.
وعلى النهج ذاته سار الخلفاء الراشدون والصحابة الكبار حيث منعوا تدوين الأحاديث، وأمروا بحرق ما كتب منها، بل ونهوا حتى عن الإكثار من الرواية الشفهية عن النبي (ص) وهي مباحة. وقد ناقشنا هذا الأمر بتوسع في مناسبات سابقة. ومن عجيب بعض المشائخ أن يعترفوا بهذه الحقيقة ثم يتناقضون في تبريرها، كما فعل الدكتور الأزهري محمد أبو زهو في كتابه الشهير (الحديث والمحدثون) حيث قال في موضع من كتابه إن هذه القبائل قد ارتدت بعد وفاة النبي (ص) مع المرتدين، وانكشف أمرها للمسلمين. ثم يقول في موضع آخر من كتابه إن النبي (ص) قد نهى عن كتابة الحديث في زمنه خوفاً من استغلال المنافقين للرواية عن النبي!. وهو بهذا أيضاً يتناقض مع رواية الشيخين الماضية، ومع اجتهادات أخرى راسخة في بنية العقل التقليدي ليس هذا مجال ذكرها.
تقويم أولي:
والآن، كيف يمكن لأي عاقل أن يقوّم السطور الماضية، أو يحكم عليها؟. دعنا نقول _من باب الجدل العلمي فقط_ إن فهمنا للنصوص السابقة لم يكن دقيقاً، وإن مقولتنا التفسيرية لم تكن يقينية. لكن هل يستطيع عاقل أن ينكر أن هذه المقولة هي الأكثر رجحاناً في تفسير ما حدث؟ وهل يستطيع معارض أن يأتينا بمقولة تفسيرية أصلح منها في السياق نفسه؟. وليست الإجابة عن السؤالين الماضيين عملاً تخمينياً، يصعب التحقق منه. فقد حكم المختصون بنجاح أي مقولة تفسيرية إذا استطاعت أن تفسر كل، أو معظم، جوانب الظاهرة / المشكلة. وهو ما حققته هذه المقولة (أزعم) باقتدار. وفي سبيل التحقق من ذلك أضع القارئ أمام الحقائق الآتية:
1. استطاعت المقولة أن تضع تفسيراً واحداً ووحيداً لكل الأحداث والتفاصيل التي وردت في السيرة وكتب الحديث، سواء تلك المتصلة بالحدث السياسي مباشرة أو تلك التي تبدو منفصلة عنه. فعلمنا لماذا سارع بعض الأنصار إلى اجتماع السقيفة، عقب وفاة النبي (ص) مباشرة، ودون مشورة المهاجرين وبقية الأنصار. وعلمنا لماذا أسرع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ابن الجراح إلى السقيفة فور معرفتهم اجتماع تلك الطائفة من أهل المدينة في السقيفة، تاركين شأن التجهيز لدفن النبي لآخرين من آل بيته. وعلمنا لماذا أسرع المهاجرون الثلاثة إلى سحب البساط من تحت أقدام الأنصار، فوراً دون مشاورة بقية المهاجرين والأنصار، واعتبار ذلك "فلتة" وقى الله المسلمين شرها كما قال عمر بن الخطاب بعد ذلك. وعلمنا لماذا كانت الخلافة بعد ذلك دولة بين المهاجرين دون الأنصار. ولماذا خرج الأنصار من كل شئونها بما في ذلك مجلس شوراها. وأدركنا سرّ سكوت الأنصار على احتكار المهاجرين لشئون الخلافة. وعلمنا أيضاً سرّ نهي النبي (ص) وصحابته الكبار عن تدوين الحديث النبوي أو الإكثار من روايته. وغير ذلك من التفاصيل التي نجحت المقولة في تفسيرها.
2. تعرض هذه المقولة التفسيرية صحابة الرسول الكبار من السابقين الأولين في صورة لائقة تنفي عنهم تبعات المقولات التفسيرية السابقة، التي تضعهم في خانة الباحثين عن السلطة، من أجل السلطة، والطامعين في المجد والشهرة والهيلمان الدنيوي، أو في خانة المتعصبين لعرقهم وأرومتهم. بكل ما يعنيه ذلك من تلميح بفشل النبي في اصطفاء نخبة ممتازة من الصحابة الزاهدين في متاع الدنيا، ومن تلميح خطير بكون تلك النخبة المقربة من النبي لم تكن محلاً للثقة في نقل هذا الدين والحفاظ عليه. وكلها معان تؤدي في نهاية المطاف إلى التشكيك في سلامة الدين نفسه.
3. تضع هذه المقولة التفسيرية القرآن في مقام النص المهيمن في تفسير ما عداه من النصوص، بعكس المقولات التفسيرية السابقة التي تضع النص القرآني تحت سلطان النص التاريخي يفسره كيف يشاء، أو تغيبه عن الشهود بالمرة. وبتعبير آخر فإن هذه المقولة تفسر التاريخ على ضوء القرآن، ولا تفسر القرآن على ضوء التاريخ، أو تتجاهله في عملية التفسير، كما فعلت المقولات السابقة.
4. تجمع هذه المقولة بين الاعتراف ببشرية مجتمع الصحابة بإمكانية وقوعه في الخطأ والضلال، وبين تنزيه الصحابة الكبار تحديداً من اقتراف الأخطاء الجسيمة، وهو ما يحقق معنى الواقعية الإسلامية دون تفريط ولا إفراط. أي دون الوقوع في فخ الاتهام العلماني لنوايا الصحابة وأخلاقهم، ودون الوقوع في فخ التقديس السلفي للصحابة وزمنهم، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، هي عملة القراءة المتحيزة غير الموضوعية.
5. حققت مغزى آيات سورة التوبة الماضية، إذ ليس من اللائق القول إن الصحابة (كبارهم على وجه التحديد) كانوا في غفلة عن مقاصدها ومعانيها، بدليل أنها لم تحرك ساكناً فيهم ولم تترك أثراً بينهم. وكأن القرآن كان يحدثنا عن طبقات المجتمع النبوي لمجرد الترف المعرفي ليس غير.
نقض المقولات السابقة:
لقد حظيت حادثة السقيفة وما تلاها من تحولات سياسية بعدد من المقولات التفسيرية قديماً وحديثاً، يمكننا إرجاعها إلى ثلاث مقولات أساسية، هي: مقولة (الأئمة من قريش) التي قال بها جمهور السنة، ومقولة (العصبية) التي طرحها العلامة ابن خلدون، ومقولة (الغلبة) التي قال بها كثير من الدارسين والمستشرقين المعاصرين. أما المقولة الأولى فهي بنصها رواية منسوبة إلى النبي (ص) يزعم أصحابها أنه قد وجه بجعل الخلافة في قريش، وعضدوا هذه الرواية بروايات أخرى مفسرة وشارطة. أما ابن خلدون فعلل جعل الأمر في قريش بقوة عصبيتهم "لأن قريشاً كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب فيهم، وكان سائر العرب يعترف لهم بذلك، فلو جعل الأمراء من سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم، ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكره، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة، والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم" (مقدمة ابن خلدون). وواضح أن ابن خلدون يرى أن الإمامة جعلت في قريش لقوتها وغلبتها، وكان يعتقد أن حقها في الإمامة زال بزوال قوتها وغلبتها، ومعنى ذلك أنه يفسر القرشية بالعصبية الغالبة. أما أصحاب مقولة (الغلبة) فيعتقدون أن الأمر برمته داخل في باب الأطماع البشرية، وأن الصحابة المهاجرين قد استبدوا بالأمر من دون المسلمين، استناداً إلى مكانتهم الأدبية بوصفهم جماعة النبي وقرابته، وإلى قوة شكيمتهم ومراسهم الحربي. غير أن هذه المقولات الثلاث لا تتمتع بقوة تفسيرية عالية، ويمكننا مناقشتها في السطور التالية.
نقض المقولة الأولى:
يزعم جمهور السنة أن النبي (ص) قد وجه بجعل الأمر في قريش، وبناء على هذا جعلوا "القرشية" شرطاً من شروط الإمامة الكبرى (الرياسة العامة)، ومن الواضح أن هذا الزعم غير دقيق للاعتبارات الآتية:
1. هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا تفيد إلا الظن، وقد ادعى بعضهم تواتره معنوياً، إلا أن بعض نقاد الحديث قد نقض هذا الزعم بكفاءة، منهم محمد العزاني في كتاب (الأئمة من قريش). ولم يكن الأمر يحتاج إلى كل ذلك العناء الذي بذله الأستاذ العزاني، إذا ما علمنا أن التواتر المزعوم عندهم ليس نقل الكافة عن الكافة، الذي كان يشترطه الأصوليون الكبار أمثال الشافعي، وإنما هو شكل من أشكال التحايل العلمي يعتمد أصحابه على تكثير سواد طرق الروايات الأحادية بغض النظر عن صحتها، وبغض النظر عن تناقضها واختلافها، كما أثبت المحدث العزاني في كتابه المذكور.
2. إذا كان النبي (ص) قد وجه بجعل الخلافة في قريش _ وهو بالمناسبة قول قد يؤيد ما ذهبنا إليه من محاولة قطع الطريق أمام المنافقين_ فكيف خفي ذلك على سعد بن عباده وهو من كبار الأنصار، وقد تورط في مكيدة من تدبير المنافقين، أرادوا منها شرعنة موقفهم، بجعله على رأسهم في السقيفة. وقد ذهب مغاضباً رافضاً مبايعة أبي بكر أو غيره، وغادر المدينة إلى الشام حتى مات، وقيل اغتيل، واتهمت الجن بقتله!.
3. ثم كيف يكتفي النبي بتعيين القبيلة التي ستتولى أمر المسلمين من بعده، دون أن يضيف أي تفصيلات تمنع الشقاق بينهم بعد ذلك؟. وكيف يوجه النبي توجيهاً كهذا ثم يجهله الأنصار؟!. وهل كان هؤلاء سيقدمون على اجتماع السقيفة لو أن هذا التوجيه كان معلوماً لديهم؟!
نقض المقولة الثانية:
أما مقولة العصبية التي طرحها ابن خلدون، فيمكن مؤاخذتها في النقاط الآتية:
1. قد تستطيع هذه المقولة تفسير احتكار الخلافة في قريش آنذاك، ولكنها لا تستطيع أن تفسر خلو مجلس شورى الخلافة من أنصاري واحد.
2. أما قول ابن خلدون " فلو جعل الأمراء من سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم". فلا يحظى برصيد واقعي لأن هذا التكتيك إما يستهدف الأنصار، وهؤلاء عصبية الدين عندهم مقدمة على عصبية القبيلة، فضلاً عن كونه يعد استعداءً لهم لا معنى له، وإما أنه يستهدف القبائل التي أسلمت في عام الفتح وقبله وهؤلاء قد ارتد كثير منهم بعد وفاة النبي (ص) غير آبهين بعصبية قريش وهيبتها.
نقض المقولة الثالثة:
وكذلك لا يمكننا القبول بمقولة الغلبة للاعتبارات الآتية:
1. لأنها تقدم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من فئات المجتمع النبوي، في صورة لا تتفق مع مكانتهم في القرآن الكريم، ولا تتفق مع المنطقي من صورتهم التاريخية. ومقولة "إنهم بشر" التي تطرح في هذا السياق قد تبرر بعض أخطائهم، إلا أنها لا تعني تحولهم من ملحمة الإسلام والتضحية بالنفس والنفيس مع النبي (ص) إلى ملحمة الاحتيال والطمع السياسيين بعد وفاته بساعات.
2. لا تستطيع هذه المقولة أن تفسر سكوت الأنصار على استلاب الخلافة منهم بالغلبة، وهم أصحاب الأرض (المدينة المنورة)، وأصحاب الأغلبية العددية فيها. وكل الدلائل قد دلت على أنهم سلموا الأمر للمهاجرين راضين غير كارهين.
3. قلنا من قبل إن فكرة الخلافة لم تكن واردة في رؤوس الأنصار منذ البداية، مما يدفعنا إلى الشك في دوافع الذين استعجلوا اجتماع السقيفة منهم. وليس صحيحاً ما قاله خليل عبد الكريم في كتابه (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية) من أن الأوس والخزرج كانت تنقصهم "الحنكة" السياسية، فزهدوا في أمر الخلافة والملك. بدليل أنهم الأمة الوحيدة في وسط الجزيرة العربية التي فكرت في تنصيب "ملك" عليها قبيل دخول النبي (ص) المدينة المنورة، ولولا قدوم الإسلام والرسول إليهم لكان عبد الله بن سلول قد نصب ملكاً متوجاً على الأوس والخزرج.