كان طفلا مهاجرا من لبنان عبر "جزيرة أليس" في نيويورك، وأصبح شاعر أميركا الأكثر مبيعا لمؤلفاته، وقصته هي قصة أميركا. وخلال شهر حزيران الحالي، وهو شهر ترتفع فيه حالات الزفاف في أميركا كل عام، سيردد آلاف من عاقدي قران المتزوجين كلمات الشاعر المعروف بقلة، وصاحب الأسم الغريب: "الحياة بدون حب هي مثل شجرة بدون أزهار أو ثمار"، وسيسمع الأزواج، مع إعلان شرعية غيرتهم، وسوف توجه لهم النصيحة التالية: "وكونوا متماسكين وقريبين من بعضكم، لكن ليس قربا شديدا، لأن أعمدة المعبد تقف متباعدة، وشجرة البلوط وشجرة السرو لا تنموان في ظل إحداهما الأخرى". وسيتجمع المحبون الحاضرون في الزفاف، الذي يكون متوسط الحضور فيه 178 فردا، وسيومئون على نحو عاطفي، تحفزهم هذه الكلمات الرائعة.
الشاعر الأول
مؤلف هذه الأقوال المأثورة هو أكثر شعراء أميركا مبيعا حتى الآن، فاقه في حجم المبيعات فقط الكاتب المسرحي البريطاني وليام شكسبير والفيلسوف الصيني "لاوتزه"، وهو خليل جبران، الذي وصل إلى جزيرة أليس قبل 120 سنة في السابع من حزيران 1895.
وكطفل في الثانية عشرة، كان واحدا من 33289 طفلا مهاجرا في تلك السنة، وواحدا من 3,4 مليون مهاجر يافع من 1892 إلى 1954، مكونين لهجرة جماعية مسالمة ومنتجة وخلاقة.
ما يقارب من أربعين بالمئة من الأميركان اليوم لديهم أسلاف مروا من خلال جزيرة أليس في تلك الحقبة.
وبرغم كونه لم يصبح مواطنا أميركيا مطلقا بسبب عشقه للبنان، بات جبران شاعر أميركا الملحمي المتألق بفلسفات متعددة الثقافات، حيث قام هو ومهاجري أليس الآخرين من عرب ويهود وروس وبولنديين وألمان وإيطاليين، قاموا بتمهيد الطريق لثقافة فريدة من نوعها، سهلة الاستماع ومتجذرة بعمق، لتشكل ثقافة عالمية على نحو مذهل ومع ذلك أميركية الطابع بشكل واضح.
الهجرة بعمر صغير
بولادته في 1883، لجأ جبران ووالدته وثلاثة أشقاء من الاضطهاد العثماني، وسكنوا في شقة جنوب بوسطن. وبحلول أيلول 1895، كانت لغته الإنكليزية تتحسن كثيرا، برغم بقائه متعلقا بإرث مسيحيته المارونية، حيث عاد إلى لبنان في 1898 أربع سنين للدراسة.
شهد جبران نجاحات في أميركا، والفضل يعود بشكل خاص إلى مناصرة مخلصة وحبيبة عرضية، "ماري اليزابيث هاسكيل". وراق عمله الكبير "النبي"، المنشور في 1923، للأميركان الذين عاصروا عصر الإحباط، والتواقين إلى ما يرفع معنوياتهم، ليرحبوا بهذه الروحانية العربية الصوفية الطابع والمتهربة من الواقع وسط خضم حالة العوز في ثلاثينيات القرن العشرين.
وبحلول 1957، كان الكتاب الذي يكرر تناول الحب والزواج، والحرية والعمل، والملابس والطعام قد بيع منه مليون نسخة. وشهد عقد الستينيات موجة مبيعات ثانية لكتاب "النبي" كونه يمثل إتجاه من الثقافة المعاكسة ومناهض للمبادئ المجتمعية والسياسية والإقتصادية التقليدية، ليباع منه في تلك الفترة مئة مليون نسخة.
إنتهت حياة جبران القصيرة والمتقلبة في 1931، عندما إصيب صاحب الـ48 سنة بفشل وظائف الكبد، وتلقي بعض المصادر باللوم على السرطان المسبب لتليف الكبد. وبرغم قصر عمره، وأثناء رسمه لأكثر من سبعمئة صورة رائعة، نشر أكثر من إثني عشر كتابا، وألّف مئات القصائد المليئة بآلاف الشذرات العميقة الأفكار والسهلة الهضم والجديرة بالاستشهاد.
انتشار عالمي
قصائد "النبي" النثرية الست والعشرين، والمقولات الجديرة بالاستشهاد التي نشرها جبران موجودة في أكثر من أربعين لغة، وابهجت وألهمت الملايين.
أحد المعجبين، جون كينيدي، ربما أخذ تسمية إدارته والسطر الذي يقول "إسأل عمّا لا يمكن لبلدك تقديمه لك"، من رسالة جبران المفتوحة في 1925 المسماة "الحد الجديد"، حينما سأل جبران النواب اللبنانيين: "هل أنتم سياسيون تلتمسون ما يمكن لبلدكم أن يقدمه لكم، أو من المتحمسين لما يمكنم تأديته لبلدكم؟" وصنّف جبران النوع الأول من الساسة بـ "الطفيلي"، والآخر بـ "واحة في الصحراء".
بطريقة ما، لاتزال أفكار هذا الرجل القروي المولود في قرية صغيرة في جبل "بشاري" في شمال لبنان، والبالغ عمرها قرن من الزمان تقريبا، لاتزال ترن في مجتمعنا المليء بالتقنيات الحديثة الهائلة، ويعكس رنين جبران قوة الروح الإنسانية غير الممكننة، والتوق إلى فهم بسيط حتى لحياتنا المعقدة بشكل كبير.
"ما الجمال بالوجوه .. إنما الحسن شعاع القلوب"، كتب جبران، رافضا ما نطلق عليه حاليا "بنية مقاييس الجمال والفتنة" (Lookism). "أحقر فرد بين الرجال هو الذي يحوّل أحلامه إلى فضة وذهب"، كما يوعظ، متبرئا من المذهب المادي، منوّها في "النبي"،: "لا تعطي إلا القليل عندما تعطي من ممتلكاتك، لكن عندما تساعد الناس ستكون حينها معطاء بحق"، وبنبذه الأعمال السوقية، يزعم قائلا: "تعلمت الصمت من الثرثار، والتسامح من المتعصب، والطيّبة من القاسي، والغريب أنني لا أقر بفضل هؤلاء المعلمين."
صوت الأعراق المتعددة
كان جبران والعديد من أمثاله المارين بجزيرة أليس لطيفي الكلام، وبدا أنهم من الثوريين الثقافيين غير الضارين، معرفين الأميركان بأصوات ووجوه لأعراق متعددة غير موجودة في أميركا. تنوّع الأعراق المعقد هذا ممارس بشكل استحواذي في الجامعات الأميركية وفي أماكن عمل موظفي الشركات.
غير أن الأمر الأكثر قوة هو دور جبران في تشجيع التنوّع الحقيقي للفكر، وتوسيع القدرات الفكرية والآيديولوجية والروحانية لأميركا للتعامل مع المشاكل والأوضاع الخاصة، فباحتضانه لهويته العربية، ونشر إرثه المسيحي الروحاني، ساعد جبران على صياغة هوية أميركية جديدة. نصائح جبران التعليمية كانت عالمية على نحو شامل: "وفر علي الحوادث السياسية وصراعات السلطة، لأن كل الأرض هي موطني وجميع الناس هم أبناء بلدي".
كما كتب جبران أيضا في باب الإيمان والتوحيد: "أنت شقيقي وأنا أحبك. أنا أحبك عندما تسجد على الأرض في مسجدك، وتصلي في كنيسك. أنت وأنا أبناء دين واحد: الروح." هذا الدرس الخالد، التوحيدي المسالم، الأميركي بالمرة، مثل العديد من نصائحه التعليمية، مطلوب تطبيقها بشدة اليوم، خصوصا في موطن جبران الأصلي، الشرق الأوسط.
مجلة ديلي بيست الأميركية
الشاعر الأول
مؤلف هذه الأقوال المأثورة هو أكثر شعراء أميركا مبيعا حتى الآن، فاقه في حجم المبيعات فقط الكاتب المسرحي البريطاني وليام شكسبير والفيلسوف الصيني "لاوتزه"، وهو خليل جبران، الذي وصل إلى جزيرة أليس قبل 120 سنة في السابع من حزيران 1895.
وكطفل في الثانية عشرة، كان واحدا من 33289 طفلا مهاجرا في تلك السنة، وواحدا من 3,4 مليون مهاجر يافع من 1892 إلى 1954، مكونين لهجرة جماعية مسالمة ومنتجة وخلاقة.
ما يقارب من أربعين بالمئة من الأميركان اليوم لديهم أسلاف مروا من خلال جزيرة أليس في تلك الحقبة.
وبرغم كونه لم يصبح مواطنا أميركيا مطلقا بسبب عشقه للبنان، بات جبران شاعر أميركا الملحمي المتألق بفلسفات متعددة الثقافات، حيث قام هو ومهاجري أليس الآخرين من عرب ويهود وروس وبولنديين وألمان وإيطاليين، قاموا بتمهيد الطريق لثقافة فريدة من نوعها، سهلة الاستماع ومتجذرة بعمق، لتشكل ثقافة عالمية على نحو مذهل ومع ذلك أميركية الطابع بشكل واضح.
الهجرة بعمر صغير
بولادته في 1883، لجأ جبران ووالدته وثلاثة أشقاء من الاضطهاد العثماني، وسكنوا في شقة جنوب بوسطن. وبحلول أيلول 1895، كانت لغته الإنكليزية تتحسن كثيرا، برغم بقائه متعلقا بإرث مسيحيته المارونية، حيث عاد إلى لبنان في 1898 أربع سنين للدراسة.
شهد جبران نجاحات في أميركا، والفضل يعود بشكل خاص إلى مناصرة مخلصة وحبيبة عرضية، "ماري اليزابيث هاسكيل". وراق عمله الكبير "النبي"، المنشور في 1923، للأميركان الذين عاصروا عصر الإحباط، والتواقين إلى ما يرفع معنوياتهم، ليرحبوا بهذه الروحانية العربية الصوفية الطابع والمتهربة من الواقع وسط خضم حالة العوز في ثلاثينيات القرن العشرين.
وبحلول 1957، كان الكتاب الذي يكرر تناول الحب والزواج، والحرية والعمل، والملابس والطعام قد بيع منه مليون نسخة. وشهد عقد الستينيات موجة مبيعات ثانية لكتاب "النبي" كونه يمثل إتجاه من الثقافة المعاكسة ومناهض للمبادئ المجتمعية والسياسية والإقتصادية التقليدية، ليباع منه في تلك الفترة مئة مليون نسخة.
إنتهت حياة جبران القصيرة والمتقلبة في 1931، عندما إصيب صاحب الـ48 سنة بفشل وظائف الكبد، وتلقي بعض المصادر باللوم على السرطان المسبب لتليف الكبد. وبرغم قصر عمره، وأثناء رسمه لأكثر من سبعمئة صورة رائعة، نشر أكثر من إثني عشر كتابا، وألّف مئات القصائد المليئة بآلاف الشذرات العميقة الأفكار والسهلة الهضم والجديرة بالاستشهاد.
انتشار عالمي
قصائد "النبي" النثرية الست والعشرين، والمقولات الجديرة بالاستشهاد التي نشرها جبران موجودة في أكثر من أربعين لغة، وابهجت وألهمت الملايين.
أحد المعجبين، جون كينيدي، ربما أخذ تسمية إدارته والسطر الذي يقول "إسأل عمّا لا يمكن لبلدك تقديمه لك"، من رسالة جبران المفتوحة في 1925 المسماة "الحد الجديد"، حينما سأل جبران النواب اللبنانيين: "هل أنتم سياسيون تلتمسون ما يمكن لبلدكم أن يقدمه لكم، أو من المتحمسين لما يمكنم تأديته لبلدكم؟" وصنّف جبران النوع الأول من الساسة بـ "الطفيلي"، والآخر بـ "واحة في الصحراء".
بطريقة ما، لاتزال أفكار هذا الرجل القروي المولود في قرية صغيرة في جبل "بشاري" في شمال لبنان، والبالغ عمرها قرن من الزمان تقريبا، لاتزال ترن في مجتمعنا المليء بالتقنيات الحديثة الهائلة، ويعكس رنين جبران قوة الروح الإنسانية غير الممكننة، والتوق إلى فهم بسيط حتى لحياتنا المعقدة بشكل كبير.
"ما الجمال بالوجوه .. إنما الحسن شعاع القلوب"، كتب جبران، رافضا ما نطلق عليه حاليا "بنية مقاييس الجمال والفتنة" (Lookism). "أحقر فرد بين الرجال هو الذي يحوّل أحلامه إلى فضة وذهب"، كما يوعظ، متبرئا من المذهب المادي، منوّها في "النبي"،: "لا تعطي إلا القليل عندما تعطي من ممتلكاتك، لكن عندما تساعد الناس ستكون حينها معطاء بحق"، وبنبذه الأعمال السوقية، يزعم قائلا: "تعلمت الصمت من الثرثار، والتسامح من المتعصب، والطيّبة من القاسي، والغريب أنني لا أقر بفضل هؤلاء المعلمين."
صوت الأعراق المتعددة
كان جبران والعديد من أمثاله المارين بجزيرة أليس لطيفي الكلام، وبدا أنهم من الثوريين الثقافيين غير الضارين، معرفين الأميركان بأصوات ووجوه لأعراق متعددة غير موجودة في أميركا. تنوّع الأعراق المعقد هذا ممارس بشكل استحواذي في الجامعات الأميركية وفي أماكن عمل موظفي الشركات.
غير أن الأمر الأكثر قوة هو دور جبران في تشجيع التنوّع الحقيقي للفكر، وتوسيع القدرات الفكرية والآيديولوجية والروحانية لأميركا للتعامل مع المشاكل والأوضاع الخاصة، فباحتضانه لهويته العربية، ونشر إرثه المسيحي الروحاني، ساعد جبران على صياغة هوية أميركية جديدة. نصائح جبران التعليمية كانت عالمية على نحو شامل: "وفر علي الحوادث السياسية وصراعات السلطة، لأن كل الأرض هي موطني وجميع الناس هم أبناء بلدي".
كما كتب جبران أيضا في باب الإيمان والتوحيد: "أنت شقيقي وأنا أحبك. أنا أحبك عندما تسجد على الأرض في مسجدك، وتصلي في كنيسك. أنت وأنا أبناء دين واحد: الروح." هذا الدرس الخالد، التوحيدي المسالم، الأميركي بالمرة، مثل العديد من نصائحه التعليمية، مطلوب تطبيقها بشدة اليوم، خصوصا في موطن جبران الأصلي، الشرق الأوسط.
مجلة ديلي بيست الأميركية