سيطر موضوع "الحجاب" على الساحة الفكرية والاجتماعية واحتل حيّزا كبيرا من الجدل الثقافي الراهن. ولئن كان الأمر في ظاهره، متعلّقا بصورة المرأة وعلاقتها بالرجل وموقعها في المجتمع إلاّ أنّ المتأمّل في خطاب أنصار"الحجاب" من جهة، ودعاة"السفور" من جهة أخرى، ينتبه إلى أنّ التركيز على مظهر المرأة واختزال كلّ قضاياها في النقاب والخمار والحجاب والبرقع...يخفي في الواقع، قضايا أساسية تتصل بالديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والهوية والمواطنة، والخيارات الأيديولوجية وطريقة تمثّل الحداثة وغيرها من المسائل. وفي الواقع، تحجب عنا مسألة الحجاب قضايا أهمّ بكثير من تلك التي تظهرها.
لن نعالج ، في عملنا هذا، موضوع الحجاب من زاوية دينية تبرز "الحكم الشرعي" لزي النساء باعتباره فرضا مؤكدا أو تنظر في إمكانية تأويل آيات الحجاب تأويلا جديدا يراعي خصوصيات السياق التاريخي الثقافي للمجتمعات الإسلامية. كما أنّنا لن نتطرّق إلى موضوع الحجاب من زاوية سياسية تروم النظر في الرهانات التي تخفيها ظاهرة ’تحجيب’ النساء قسرا أو منعهن من ارتداء الحجاب. ثم إنّنا لن ننظر في الحجاب من زاوية اجتماعية نفسية تسعى إلى تحديد الأسباب التي تقف وراء تفشي الحجاب في جميع البلدان، سواء كانت عربية أو غربية وفي كلّ الأوساط الطبقية، سواء كانت أرستقراطية أو فقيرة فتلك جوانب كتب فيها قبلنا كثيرون بقطع النظر عن قيمة ما حبّروا.
أردنا في هذا العمل استقصاء صلة النساء بالحجاب باعتباره علامة سيميائية واضعين علاقتهن بأجسادهن موضع تساؤل محاولين تبيّن مدى إدراكهن لدلالات وضع هذه العلامة ومدى تأثيرها في شبكة علاقاتهن ورؤيتهن لذواتهن وللكون.
ننطلق في تحليلنا هذا بتوضيح مجموعة من الملاحظات الأساسية: أولّها أنّنا نختلف مع أغلب الذين سبقونا في تناول هذا الموضوع، في إصرارنا على استعمال صيغة الجمع "الحُجُب" بدل صيغة المفرد "الحجاب". فكلمة "الحجاب"، التي سادت في الخطاب العربي المعاصر تستعمل على الإطلاق، والحال أنّها لا تحوي دلالة واحدة، بل دلالات متعددة كما أنّ هذه العلامة تنهض بوظائف مختلفة حسب شخصية حاملتها وانتماءاتها الفكرية والثقافية وغيرها. وتتمثل الملاحظة الثانية في كون معالجة الحُجُب تقتضي الإقرار بأن لا مجال للتعميم. فكلّ محجبة تمثل حالة فردية ولا يمكن الانطلاق من تجربة امرأة واستقراء النتائج وتعميمها فيما بعد على الأخريات. فوراء الحُجُبحكايات نساء وحيوات.
أمّا الملاحظة الثالثة فتكمن في أنّ الحُجُبالتي شاعت في مجتمعاتنا المعاصرة تختلف مادة وشكلا وتوظيفا ودلالة عن المجتمعات التقليدية القديمة التي ظهرت فيها أغطية الرأس وتطورت على مر العصور. وتتمثل الملاحظة الأخيرة في أنّ تناول مسألة الحجب يختلف من مجتمع إلى آخر نظرا إلى أنّ العلامات السيميائية مرتبطة بسياقات متعددة منها التاريخي والديني والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والنفسي، وهي عوامل تجعل تحليل علاقة المرأة بالعلامة علاقة مخصوصة. فلبس التونسية اليوم للحجاب لا يتماثل مع صلة السعودية بهذه القطعة من القماش التي ترسخت ضمن منظومة التقاليد والعادات على امتداد الأزمان، ومن ثمة تبرر فئة من السعوديات أو الخليجيات نزعهن للعباءات والحجب في الطائرة بأنّ التزامهن بالزي التزام داخلي احتراما للموروث الاجتماعي. ويكفي النظر إلى أشكال الحُجُبوتنوعها واختلافها من بلد إلى آخر لتبيّن دور العرف والثقافة المحلية والأيديولوجيا في الظاهرة الدينية وأوضاع النساء.
حُجُب ودلالات
أدت العولمة إلى اختراق الحدود التي كانت تفصل المجتمعات عن بعضها البعض. فتحوّل الحجاب إلى شعار عابر ومتحرك في جميع الفضاءات، ووسيلة دعوية فاعلة حتى وإن ادّعت صاحبته غير ذلك. وما من شك أنّ هذه العلامة حبلى بمجموعة من الدلالات التي تصلها بعلامات سيميائية أخرى نجدها في عالم الإشهار، وفي ممارسات يومية متعددة. فالشاب الذي يرتدي قميصا عليه صورة "غيفارا" لا يعلم، في الغالب، تاريخ هذا الرمز إنّما يتخذه شكلا من أشكال التبادل الرمزي ووسيلة للتعبير تعكس حالة من حالات التواصل الاجتماعي. وفق هذا الطرح يتحوّل غطاء الرأس إلى أيقونة، وهو أمر يستدعي دراسته على هذا الأساس.
تتعدّد الحُجُب، فمنها:
- حجاب العادة السائد في بلدان الخليج منذ القدم (يتراوح بين كشف مقدّمة شعر الرأس والنقاب و...)
- - حجاب شرعي/الإسلامي يخضع لشروط ويعرّف بأنّه"كلّ لباس يكون ساتراً للرأس وفضفاضاً على الجسد بحيث لا يظهر أيّاً من أعضاء البدن التي حرّم الشرع إظهارها" فلا يكون ضيّقا ولا شفافا.
- الحجاب الإلزامي المفروض قسرا على النساء(إيران، السعودية،..)
- حجاب النجمات: الفنانات الشهيرات، وهو حجاب مركّب ومعقّد، يشمل غطاء الرأس الذي يعكس ذوق صاحبته وبصمتها الشخصية وله لوازم: مجوهرات وأدوات التجميل وعطور، ونظارة شمسية وعدسات لاصقة وغيرها من الوسائل التي تبرز الاحتفاء بجمال الهيئة والتضلع في ’لباس الشهرة’ والولع بالتفاصيل الدقيقة للزي.
- حجاب الداعيات الإسلاميات أو"الحجاب المحتشم"، المعتدل أو "التوفيقي"الذي يزاوج بين مقتضيات الحياء وتوابع الأناقة كما أنّه لا يقوم على معاداة أنوثة المرأة وإنّما يجعلها تبدي جانبا من زينتها.
- حجاب العقيدة والالتزام السياسي، وهو يُبين عن انتماء صاحبته إلى تيار إسلامي محدد كالسلفية، السلفية الجديدة، السلفية الجهادية،......والسمة الغالبة على هذا الحجاب التنميط إذ أنّه يستبدل الألوان الزاهية بالألوان الداكنة (الأسود، الرمادي، البني، الأبيض)، والأشكال المتنوعة والزخرف والزركشة بالبساطة.
- ’الحجاب المعاصر’ أو ’حجاب الموضة’ ويقوم على ابتداع طرق جديدة في تغطية الرأس منها استبدال الحجاب بالقبّعة أو لف الشعر بقطعة قماش مربوطة من خلف مع ترك العنق مكشوفا.... وتصدر حول أسلوب ارتدائه وتفاصيله دوريات ومجلات ومطبوعات وتخصص له برامج.
- الحجاب ’العلماني’/ الرأسمالي’ (انظر فضائية "الرأي" حصة 19 فبراير 2008) وهو حسب البعض "تبرّج يتمسّح في الزى الشرعي" لأنّه يروّج لقيم الاستهلاك ويرغّب المرأة في الأناقة الجديدة المستوحاة من التصاميم الغربية. ويواجه هذا الحجاب بانتقادات لاذعة وينسب الإسلاميون ظهوره إلى دعاة العلمانية الذين يواجهون الدين بأسلحة جديدة. فهو بالتالي وليد مؤامرة من الداخل والخارج.
ولئن اعتبر البعض أنّنا إزاء "فوضى الحجاب"، فإننا نذهب إلى أنّ تنوّع الحُجُب واختلاف التسميات المطلقة عليها يحيل إلى اتساع دلالاتها وتعدّد وظائفها. ويمكن أن نجمع الدلالات الرائجة في خطاب من تطرقوا إلى هذا الموضوع في الآتي:
- دلالة دينية مخبرة عن ’أسلمة’ المجتمعات الحديثة واتساع المد الإسلامي ومشيرة إلى التنافس بين مختلف التيارات ورغبتها في تسجيل حضورها في العالم من خلال وسائل عديدة: الكتب، الأموال، وأجساد النساء. لعلّ أهمّها ’الفكر الوهابي’ الذي غادر حدوده ليغزو بلدانا كانت فيما مضى منفتحة نسبيا (كالكويت والبحرين واليمن..) إذ بها اليوم تتقوقع على ذاتها بعد أن انتشرت بها العدوى.
- دلالة أيديولوجية سياسية. فالحجاب وسيلة للتمييز بين المنتمي إلى تيار إسلامي وغير المنتمي، وبين أتباع هذا الاتجاه وذاك (انظر مثلا لباس "القبيسيات" في سوريا).
- دلالة سوسيوثقافة تكشف النقاب عن الحراك الاجتماعي وتومئ إلى تغيير أصاب مختلف الأنساق والبنى. فالثقافة المهدّدة صارت اليوم تبحث عن وسائل مقاومة متعددة لتواجه بها ’أعداء الإسلام’ منها الحجاب الفاصل بين مقوّمات هويتنا وهويتهم، ديننا ودينهم، أخلاقنا وأخلاقهم، نساءنا ونساءهم إلى غير ذلك من الثنائيات المتضادة الموضّحة لعلاقة الأنا بالآخر.
- دلالة جندرية معبّرة عن الرغبة في رسم الحدود بين الجنسين بعد "التشويش" الذي حل بها. فيغدو الحجاب محددا جندريا يحول دون ’تشبّه النساء بالرجال والرجال بالنساء’ وانتشار ’الفوضى واللبس’ في الفضاء العمومي.
- دلالة نفسية تعكس حالة التأزم الذي تعانيها فئة من النساء. فهن منشطرات بين الطاعة والعصيان، الانصياع والتحكم.... فضلا عن شيوع حالة الخوف من النساء أو كرههن لدى صنف من الرجال.
- دلالة أخلاقية تصر على تقسيم الفضيلة والأخلاق تقسيماً حسب الجنس من جهة وربط الأخلاق بالتدين من جهة أخرى. ويترتب عن ذلك اعتبار الحجاب شعارا إشهاريا دالا على العفة والطاعة والإيمان ويتم في مقابل ذلك تجريد ’السافرة" من سائر الفضائل، والنظر إلى المرأة(محجّبة كانت أو غير محجّبة) على أنّها مركز الأيروسية وحدها.
- دلالة جنسانية ترتبط بوضع الجسد الأنثوي المسيّج داخل ثنائية الحجب/الكشف في مجتمعات بطريكية تختزل حضور المرأة في إثارة الرغبة والفتنة والغواية.... فتحاول تجريد هذا الجسد من "سحر الأنوثة’ أو وجهها الآثم. ولكن بين الصورة التي روّج لها المجتمع الذكوري والصورة التي ارتضتها المرأة لنفسها، حتى وإن كانت محجّبة... مسافة.
ولئن اختلفت الأسباب الداعية إلى إقبال النساء على التحجّب من مجتمع إلى آخر فإنّ ما ينبغي الانتباه إليه علاقة المرأة بغطاء الرأس والزي عموما، سواء كانت هذه الهيئة مفروضة عليها قسرا أو هي التي تبنتها.
الجسد الأنثوي والعلامة
الجسد الأنثوي حامل للعلامات معروض للملاحظة والمراقبة والعقاب، وهو موضوع للإدراك على كافة المستويات. كما أنّه نص مفتوح على كلّ الاحتمالات الممكنة للتأويل. ومن ثمّة تتعدد القراءات وزوايا الإبصار إلى هذا الجسد. فمنهم من لا يرى فيه إلاّ مواطن الجمال والسحر والغنج....ومنهم من يلفه العمى فيستقصي مواطن القبح والبشاعة والأذى....وبين الجسد الفتنة والجسد الآثم أجساد تتعدد صفاتها وتتنوع دلالاتها، وهو ما يؤكد أنّ فعل إدارك الجسد هو قائم بالأساس على عملية بناء. فنحن نحمل تصوّرا للأجساد يشبع هواماتنا ويستجيب لما ترسّخ في متخيّلنا. فعلاقة الناس بأجسادهم تعكس، في كلّ الثقافات، نمط علاقاتهم بالأشياء المحيطة بهم، كما أنّها تحدّد نمط علاقاتهم الاجتماعية. فما هي إذن علاقة المرأة بغطاء الرأس؟
مرتديات الحجاب ’المُسيّس’ المصحوب بالزي الشرعي"الإسلامي" الفضفاض يحرصن على طمس معالم الأنوثة لديهن ويجاهدن في سبيل تحويل أجسادهن إلى مجرد كتل "لحمية" عديمة الشكل بريئة من الفتنة. فيكون سلوكهن معبّرا عن مقت لهذا الجسد الأنثوي من جهة، ودخلنة للخطاب التأثيمي الذي لا يرى في المرأة إلاّ جسدا يستهدف القضاء على الرجال كيدا وإغراء وفتنة...من جهة ثانية. وما من شكّ أنّ معاداة المرأة لأنوثتها تدفعها إلى تبني سلوك مرضي فنرى بعضهن مهوسات برصد حركات أجسادهن (عدم التفريج بين الرجلين،الضمّ، مراقبة كلّ شعرة تنفلت من أسر الحجاب...)، واتخاذ سلوك التجنّب والخوف من النظر إلى الآخر.
أمّا اللواتي فرض عليهن الزي "الإسلامي" فإنّ صلتهن بأجسادهن قائمة على التعهّد ومتابعة كلّ ما يجري في عالم الموضة والتجميل. ولئن دعين إلى قصر زينتهن على الداخل: الفضاء الحميمي والالتزام بمجموعة من الأوامر فإنّهن برزن متبرّجات في العالم الخارجي، عابثات، لا يتوانين عن ملامسة الأصدقاء والرقص والغناء، بل المشاركة في مسابقات الجمال... وهذا يعني أنّ وراء الإذعان الشكلي للضغوط الاجتماعية القاهرة ’مقاومة’ تتجلّى في طريقة وضع الحجاب وفي حركات اليدين والسيقان وفي اختيار الألوان وفي وضع المساحيق وفي غيرها من السلوكيات التي تثير الاستغراب لدى شرائح كبيرة من الناس، وهي مقاومة لجأت إليها النسوة منذ عهود حين فرضت عليهن السلطة الذكورية الإلتزام بمجموعة من الأوامر كتقصير الأكمام، والكف عن جر الذيول....(يمكن الرجوع إلى تفاصيل أكثر، في كتابنا، "الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: قراءة جندرية، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007،ص381-383).
وإذا تأمّلنا في واقع المرأة التي اختارت لبس الحجاب العصري (الموضة/ العلماني/التبرّج المقنّع) أدركنا أنّ وراء التشبّث بالعلامة رغبة في إظهار الجسد الأنثوي في صورة جديدة أيروسية. فليس الحجاب في مثل هذه الحالة، إلاّ وسيلة جديدة في عرض مفاتن الجسد الأنثوي وانفلاته من السائد والمشترك والمنمّط والاتباعي، وهو أمر يخبر عن تحوّل طرأ على علاقة المرأة بالحجاب من جهة، وبجسدها وبالناظر من جهة ثانية. فالحجاب لم يعد عائقا أمام حبّ البروز وعرض المفاتن كما كان من قبل، بل بات يشدّ أنظار الجموع : شيبا وشبابا، رجالا ونساء: الكلّ يقف مفتونا بسحر جمال تناسق الألوان وتعدّد الأشكال وزخرفة الرسوم وتجميل العيون بالعدسات اللاصقة والأشفار الصناعية والمساحيق المتعددة الألوان وإبراز شكل الفم... صحيح أنّ الشعر غُطي، ولكن صار موطن الجمال في الوجه والقد المتمايل و... وهكذا أبرزت المحجّبة مفاتنها أكثر ممّا سترت. ولم تعد سهام إبليس ترشق السافرات بل المحجّبات المتبرّجات. ولئن قال الشاعر قديما:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبّد
فقد جاز القول اليوم:
قل للمحجّبة في الخمار الملّون ماذا فعلت بالمارين في الطرق
إنّ طريقة توظيف الحجاب لممارسة الغنج والاستمتاع بنظرات الإعجاب، والشعور بالنرجسية لا تومئ إلى وعي حصل لدى المرأة، بل هي دليل ارتداد على مستوى إدراك صورة الأنا وعلاقتها بالآخر وبالأشياء. ذلك أنّ المحجّبة التي تعرض مفاتنها تثبت دخلنتها للمعايير الذكورية التي لا ترى في الجسد الأنثوي إلاّ شيئا أو بضاعة معدّة للاستهلاك. وسواء تحدثنا عن ثقافة إغراء ’السافرات’ أو المحجّبات المتبرّجات، فإنّ هذه الثقافة لا تحرّر المرأة، حتى وإن ادعت صاحبتها أنّ لها وعيا مختلفا بجسدها، فهي مالكة هذا الجسد وتتحكّم في طريقة تقديمه فتحجبه أو تعريه عن إرادة، كما أنّها قد تتخذ الحجاب شكلا من أشكال الاحتجاج بالزي. بيد أنّ هذا الوعي يتعارض، في تقديرنا، مع ما تقوم عليه الشّريعة الإسلاميّة من مرتكزات تتعلّق بالمعاملات، وخاصّة فيما يتصل بعقد النّكاح، وبمفهوم الحجاب الإسلاميّ وشروطه والقيم التي يرمز إليها حسب المدافعين عنه(العفّة، الطهارة، الستر، التقوى، الإيمان، الحياء...).
تخفي الحُجُب أزمة وعي لدى الفرد في المجتمعات العربية المعاصرة وتكشف النقاب عمّا ترتب من ممارسة الإكراه والضغط على النساء من نتائج خطيرة، إن كان ذلك على مستوى السلوك وموقف الفرد من الآخر وصلته بالمنظومة الأخلاقية وبالدين. ونتفق مع ما ذهب إليه نبيل عبد الفتاح، حين اعتبر أنّ الحجاب قد تحوّل في الوسط الأرستقراطي إلى نوع من استعراض للتديّن الظاهري. وهو أمر يعكس استشراء التديّن الشكلاني الطقوسي على حساب الروحانيات.
نخلص إلى القول إنّ تعدّد دلالات الحُجُب تُبين عن التغيير الطارئ على الأزياء وعلى صلة الأفراد بالأشياء ومدى تصرفهم في العلامات. فالحجاب المعاصر/ العلماني ليس خارج عالم الموضة، بل إنّه صار يسجّل حضوره في عدة قاعات عروض أزياء في العواصم العالمية. ويومئ هذا التغيير في نسق الأزياء إلى ظهور مرحلة جديدة في تاريخ الأزياء العربية يمكن التمعّن فيها لتبيّن تاريخ اللباس من جهة، وتاريخ الجسد من جهة أخرى.
لقد صار من الصعب "تديين" الفضاء العمومي والتحكّم فيه وإفراغه من كلّ أشكال التعدد والتنّوع والاختلاف. فالحضور الأيديولوجي للإسلام السياسي باتت تزاحمه علامات أخرى تشي بالتوتر، بل بالصراع الداخلي بين دعاة الحجاب الشرعي ومروّجي "لباس الشهرة" "الحجاب العلماني" الحجاب المزوّر" "التبرّج المقنّع"...وصار التراشق بالتهم لا بين المحجّبات و"السافرات" فحسب، بل بين المحجّبات الملتزمات بالزي الشرعي والمحجّبات المتبرّجات. وهكذا صارت "الحصون مهدّدة من الداخل، ولم تعد غير المحجّبة وحدها المدانة أخلاقيا، بل صارت المحجّبة هي أيضا موضع استهجان بل تكفير. فهؤلاء النسوة "كاسيات عاريات" (اللباس الشفاف والضيق) "ويتشبهن بالكافرات وبالرجال (الحجاب البنطلوني).
ولم يعد ينظر إلى جميع المحجّبات على أنّهن عنوان الفضيلة والحياء والإيمان والأمومة المقدسة. فهنّ "الدرر المصونة" و"المحصنات البعيدات عن التهم والنواقص". وفي السياق نفسه لم يعد الحجاب بصيغة الإطلاق شعار الهوية الإسلامية وعنوان المشروع المجتمعي لدعاة تطبيق الشريعة أو حجّة على "التخلّف والرجعيّة والتزمّت وانعدام الوعي".
وفضلا عن ذلك لم يعد الحجاب يهدف إلـى"حجب الجانب الأنثوي" في المرأة والتركيز على إنسانيتها. كما أنّه لم يعد يضطلع بمهمّة حماية المرأة من"الذئاب" التي تتحرّش بالنساء. ليس الحجاب حينئذ ’الحصن الحصين’ والملاذ العتيد للمرأة. فالتوسّل بالعلامة لبلوغ بر الأمان وهم معبّر عن عسر التخلّص من ربقة الصور النمطية التي تقرن المرأة بالإيروس وتنفي صلتها باللوغوس.
* جامعية وباحثة تونسية
.
لن نعالج ، في عملنا هذا، موضوع الحجاب من زاوية دينية تبرز "الحكم الشرعي" لزي النساء باعتباره فرضا مؤكدا أو تنظر في إمكانية تأويل آيات الحجاب تأويلا جديدا يراعي خصوصيات السياق التاريخي الثقافي للمجتمعات الإسلامية. كما أنّنا لن نتطرّق إلى موضوع الحجاب من زاوية سياسية تروم النظر في الرهانات التي تخفيها ظاهرة ’تحجيب’ النساء قسرا أو منعهن من ارتداء الحجاب. ثم إنّنا لن ننظر في الحجاب من زاوية اجتماعية نفسية تسعى إلى تحديد الأسباب التي تقف وراء تفشي الحجاب في جميع البلدان، سواء كانت عربية أو غربية وفي كلّ الأوساط الطبقية، سواء كانت أرستقراطية أو فقيرة فتلك جوانب كتب فيها قبلنا كثيرون بقطع النظر عن قيمة ما حبّروا.
أردنا في هذا العمل استقصاء صلة النساء بالحجاب باعتباره علامة سيميائية واضعين علاقتهن بأجسادهن موضع تساؤل محاولين تبيّن مدى إدراكهن لدلالات وضع هذه العلامة ومدى تأثيرها في شبكة علاقاتهن ورؤيتهن لذواتهن وللكون.
ننطلق في تحليلنا هذا بتوضيح مجموعة من الملاحظات الأساسية: أولّها أنّنا نختلف مع أغلب الذين سبقونا في تناول هذا الموضوع، في إصرارنا على استعمال صيغة الجمع "الحُجُب" بدل صيغة المفرد "الحجاب". فكلمة "الحجاب"، التي سادت في الخطاب العربي المعاصر تستعمل على الإطلاق، والحال أنّها لا تحوي دلالة واحدة، بل دلالات متعددة كما أنّ هذه العلامة تنهض بوظائف مختلفة حسب شخصية حاملتها وانتماءاتها الفكرية والثقافية وغيرها. وتتمثل الملاحظة الثانية في كون معالجة الحُجُب تقتضي الإقرار بأن لا مجال للتعميم. فكلّ محجبة تمثل حالة فردية ولا يمكن الانطلاق من تجربة امرأة واستقراء النتائج وتعميمها فيما بعد على الأخريات. فوراء الحُجُبحكايات نساء وحيوات.
أمّا الملاحظة الثالثة فتكمن في أنّ الحُجُبالتي شاعت في مجتمعاتنا المعاصرة تختلف مادة وشكلا وتوظيفا ودلالة عن المجتمعات التقليدية القديمة التي ظهرت فيها أغطية الرأس وتطورت على مر العصور. وتتمثل الملاحظة الأخيرة في أنّ تناول مسألة الحجب يختلف من مجتمع إلى آخر نظرا إلى أنّ العلامات السيميائية مرتبطة بسياقات متعددة منها التاريخي والديني والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والنفسي، وهي عوامل تجعل تحليل علاقة المرأة بالعلامة علاقة مخصوصة. فلبس التونسية اليوم للحجاب لا يتماثل مع صلة السعودية بهذه القطعة من القماش التي ترسخت ضمن منظومة التقاليد والعادات على امتداد الأزمان، ومن ثمة تبرر فئة من السعوديات أو الخليجيات نزعهن للعباءات والحجب في الطائرة بأنّ التزامهن بالزي التزام داخلي احتراما للموروث الاجتماعي. ويكفي النظر إلى أشكال الحُجُبوتنوعها واختلافها من بلد إلى آخر لتبيّن دور العرف والثقافة المحلية والأيديولوجيا في الظاهرة الدينية وأوضاع النساء.
حُجُب ودلالات
أدت العولمة إلى اختراق الحدود التي كانت تفصل المجتمعات عن بعضها البعض. فتحوّل الحجاب إلى شعار عابر ومتحرك في جميع الفضاءات، ووسيلة دعوية فاعلة حتى وإن ادّعت صاحبته غير ذلك. وما من شك أنّ هذه العلامة حبلى بمجموعة من الدلالات التي تصلها بعلامات سيميائية أخرى نجدها في عالم الإشهار، وفي ممارسات يومية متعددة. فالشاب الذي يرتدي قميصا عليه صورة "غيفارا" لا يعلم، في الغالب، تاريخ هذا الرمز إنّما يتخذه شكلا من أشكال التبادل الرمزي ووسيلة للتعبير تعكس حالة من حالات التواصل الاجتماعي. وفق هذا الطرح يتحوّل غطاء الرأس إلى أيقونة، وهو أمر يستدعي دراسته على هذا الأساس.
تتعدّد الحُجُب، فمنها:
- حجاب العادة السائد في بلدان الخليج منذ القدم (يتراوح بين كشف مقدّمة شعر الرأس والنقاب و...)
- - حجاب شرعي/الإسلامي يخضع لشروط ويعرّف بأنّه"كلّ لباس يكون ساتراً للرأس وفضفاضاً على الجسد بحيث لا يظهر أيّاً من أعضاء البدن التي حرّم الشرع إظهارها" فلا يكون ضيّقا ولا شفافا.
- الحجاب الإلزامي المفروض قسرا على النساء(إيران، السعودية،..)
- حجاب النجمات: الفنانات الشهيرات، وهو حجاب مركّب ومعقّد، يشمل غطاء الرأس الذي يعكس ذوق صاحبته وبصمتها الشخصية وله لوازم: مجوهرات وأدوات التجميل وعطور، ونظارة شمسية وعدسات لاصقة وغيرها من الوسائل التي تبرز الاحتفاء بجمال الهيئة والتضلع في ’لباس الشهرة’ والولع بالتفاصيل الدقيقة للزي.
- حجاب الداعيات الإسلاميات أو"الحجاب المحتشم"، المعتدل أو "التوفيقي"الذي يزاوج بين مقتضيات الحياء وتوابع الأناقة كما أنّه لا يقوم على معاداة أنوثة المرأة وإنّما يجعلها تبدي جانبا من زينتها.
- حجاب العقيدة والالتزام السياسي، وهو يُبين عن انتماء صاحبته إلى تيار إسلامي محدد كالسلفية، السلفية الجديدة، السلفية الجهادية،......والسمة الغالبة على هذا الحجاب التنميط إذ أنّه يستبدل الألوان الزاهية بالألوان الداكنة (الأسود، الرمادي، البني، الأبيض)، والأشكال المتنوعة والزخرف والزركشة بالبساطة.
- ’الحجاب المعاصر’ أو ’حجاب الموضة’ ويقوم على ابتداع طرق جديدة في تغطية الرأس منها استبدال الحجاب بالقبّعة أو لف الشعر بقطعة قماش مربوطة من خلف مع ترك العنق مكشوفا.... وتصدر حول أسلوب ارتدائه وتفاصيله دوريات ومجلات ومطبوعات وتخصص له برامج.
- الحجاب ’العلماني’/ الرأسمالي’ (انظر فضائية "الرأي" حصة 19 فبراير 2008) وهو حسب البعض "تبرّج يتمسّح في الزى الشرعي" لأنّه يروّج لقيم الاستهلاك ويرغّب المرأة في الأناقة الجديدة المستوحاة من التصاميم الغربية. ويواجه هذا الحجاب بانتقادات لاذعة وينسب الإسلاميون ظهوره إلى دعاة العلمانية الذين يواجهون الدين بأسلحة جديدة. فهو بالتالي وليد مؤامرة من الداخل والخارج.
ولئن اعتبر البعض أنّنا إزاء "فوضى الحجاب"، فإننا نذهب إلى أنّ تنوّع الحُجُب واختلاف التسميات المطلقة عليها يحيل إلى اتساع دلالاتها وتعدّد وظائفها. ويمكن أن نجمع الدلالات الرائجة في خطاب من تطرقوا إلى هذا الموضوع في الآتي:
- دلالة دينية مخبرة عن ’أسلمة’ المجتمعات الحديثة واتساع المد الإسلامي ومشيرة إلى التنافس بين مختلف التيارات ورغبتها في تسجيل حضورها في العالم من خلال وسائل عديدة: الكتب، الأموال، وأجساد النساء. لعلّ أهمّها ’الفكر الوهابي’ الذي غادر حدوده ليغزو بلدانا كانت فيما مضى منفتحة نسبيا (كالكويت والبحرين واليمن..) إذ بها اليوم تتقوقع على ذاتها بعد أن انتشرت بها العدوى.
- دلالة أيديولوجية سياسية. فالحجاب وسيلة للتمييز بين المنتمي إلى تيار إسلامي وغير المنتمي، وبين أتباع هذا الاتجاه وذاك (انظر مثلا لباس "القبيسيات" في سوريا).
- دلالة سوسيوثقافة تكشف النقاب عن الحراك الاجتماعي وتومئ إلى تغيير أصاب مختلف الأنساق والبنى. فالثقافة المهدّدة صارت اليوم تبحث عن وسائل مقاومة متعددة لتواجه بها ’أعداء الإسلام’ منها الحجاب الفاصل بين مقوّمات هويتنا وهويتهم، ديننا ودينهم، أخلاقنا وأخلاقهم، نساءنا ونساءهم إلى غير ذلك من الثنائيات المتضادة الموضّحة لعلاقة الأنا بالآخر.
- دلالة جندرية معبّرة عن الرغبة في رسم الحدود بين الجنسين بعد "التشويش" الذي حل بها. فيغدو الحجاب محددا جندريا يحول دون ’تشبّه النساء بالرجال والرجال بالنساء’ وانتشار ’الفوضى واللبس’ في الفضاء العمومي.
- دلالة نفسية تعكس حالة التأزم الذي تعانيها فئة من النساء. فهن منشطرات بين الطاعة والعصيان، الانصياع والتحكم.... فضلا عن شيوع حالة الخوف من النساء أو كرههن لدى صنف من الرجال.
- دلالة أخلاقية تصر على تقسيم الفضيلة والأخلاق تقسيماً حسب الجنس من جهة وربط الأخلاق بالتدين من جهة أخرى. ويترتب عن ذلك اعتبار الحجاب شعارا إشهاريا دالا على العفة والطاعة والإيمان ويتم في مقابل ذلك تجريد ’السافرة" من سائر الفضائل، والنظر إلى المرأة(محجّبة كانت أو غير محجّبة) على أنّها مركز الأيروسية وحدها.
- دلالة جنسانية ترتبط بوضع الجسد الأنثوي المسيّج داخل ثنائية الحجب/الكشف في مجتمعات بطريكية تختزل حضور المرأة في إثارة الرغبة والفتنة والغواية.... فتحاول تجريد هذا الجسد من "سحر الأنوثة’ أو وجهها الآثم. ولكن بين الصورة التي روّج لها المجتمع الذكوري والصورة التي ارتضتها المرأة لنفسها، حتى وإن كانت محجّبة... مسافة.
ولئن اختلفت الأسباب الداعية إلى إقبال النساء على التحجّب من مجتمع إلى آخر فإنّ ما ينبغي الانتباه إليه علاقة المرأة بغطاء الرأس والزي عموما، سواء كانت هذه الهيئة مفروضة عليها قسرا أو هي التي تبنتها.
الجسد الأنثوي والعلامة
الجسد الأنثوي حامل للعلامات معروض للملاحظة والمراقبة والعقاب، وهو موضوع للإدراك على كافة المستويات. كما أنّه نص مفتوح على كلّ الاحتمالات الممكنة للتأويل. ومن ثمّة تتعدد القراءات وزوايا الإبصار إلى هذا الجسد. فمنهم من لا يرى فيه إلاّ مواطن الجمال والسحر والغنج....ومنهم من يلفه العمى فيستقصي مواطن القبح والبشاعة والأذى....وبين الجسد الفتنة والجسد الآثم أجساد تتعدد صفاتها وتتنوع دلالاتها، وهو ما يؤكد أنّ فعل إدارك الجسد هو قائم بالأساس على عملية بناء. فنحن نحمل تصوّرا للأجساد يشبع هواماتنا ويستجيب لما ترسّخ في متخيّلنا. فعلاقة الناس بأجسادهم تعكس، في كلّ الثقافات، نمط علاقاتهم بالأشياء المحيطة بهم، كما أنّها تحدّد نمط علاقاتهم الاجتماعية. فما هي إذن علاقة المرأة بغطاء الرأس؟
مرتديات الحجاب ’المُسيّس’ المصحوب بالزي الشرعي"الإسلامي" الفضفاض يحرصن على طمس معالم الأنوثة لديهن ويجاهدن في سبيل تحويل أجسادهن إلى مجرد كتل "لحمية" عديمة الشكل بريئة من الفتنة. فيكون سلوكهن معبّرا عن مقت لهذا الجسد الأنثوي من جهة، ودخلنة للخطاب التأثيمي الذي لا يرى في المرأة إلاّ جسدا يستهدف القضاء على الرجال كيدا وإغراء وفتنة...من جهة ثانية. وما من شكّ أنّ معاداة المرأة لأنوثتها تدفعها إلى تبني سلوك مرضي فنرى بعضهن مهوسات برصد حركات أجسادهن (عدم التفريج بين الرجلين،الضمّ، مراقبة كلّ شعرة تنفلت من أسر الحجاب...)، واتخاذ سلوك التجنّب والخوف من النظر إلى الآخر.
أمّا اللواتي فرض عليهن الزي "الإسلامي" فإنّ صلتهن بأجسادهن قائمة على التعهّد ومتابعة كلّ ما يجري في عالم الموضة والتجميل. ولئن دعين إلى قصر زينتهن على الداخل: الفضاء الحميمي والالتزام بمجموعة من الأوامر فإنّهن برزن متبرّجات في العالم الخارجي، عابثات، لا يتوانين عن ملامسة الأصدقاء والرقص والغناء، بل المشاركة في مسابقات الجمال... وهذا يعني أنّ وراء الإذعان الشكلي للضغوط الاجتماعية القاهرة ’مقاومة’ تتجلّى في طريقة وضع الحجاب وفي حركات اليدين والسيقان وفي اختيار الألوان وفي وضع المساحيق وفي غيرها من السلوكيات التي تثير الاستغراب لدى شرائح كبيرة من الناس، وهي مقاومة لجأت إليها النسوة منذ عهود حين فرضت عليهن السلطة الذكورية الإلتزام بمجموعة من الأوامر كتقصير الأكمام، والكف عن جر الذيول....(يمكن الرجوع إلى تفاصيل أكثر، في كتابنا، "الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: قراءة جندرية، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007،ص381-383).
وإذا تأمّلنا في واقع المرأة التي اختارت لبس الحجاب العصري (الموضة/ العلماني/التبرّج المقنّع) أدركنا أنّ وراء التشبّث بالعلامة رغبة في إظهار الجسد الأنثوي في صورة جديدة أيروسية. فليس الحجاب في مثل هذه الحالة، إلاّ وسيلة جديدة في عرض مفاتن الجسد الأنثوي وانفلاته من السائد والمشترك والمنمّط والاتباعي، وهو أمر يخبر عن تحوّل طرأ على علاقة المرأة بالحجاب من جهة، وبجسدها وبالناظر من جهة ثانية. فالحجاب لم يعد عائقا أمام حبّ البروز وعرض المفاتن كما كان من قبل، بل بات يشدّ أنظار الجموع : شيبا وشبابا، رجالا ونساء: الكلّ يقف مفتونا بسحر جمال تناسق الألوان وتعدّد الأشكال وزخرفة الرسوم وتجميل العيون بالعدسات اللاصقة والأشفار الصناعية والمساحيق المتعددة الألوان وإبراز شكل الفم... صحيح أنّ الشعر غُطي، ولكن صار موطن الجمال في الوجه والقد المتمايل و... وهكذا أبرزت المحجّبة مفاتنها أكثر ممّا سترت. ولم تعد سهام إبليس ترشق السافرات بل المحجّبات المتبرّجات. ولئن قال الشاعر قديما:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبّد
فقد جاز القول اليوم:
قل للمحجّبة في الخمار الملّون ماذا فعلت بالمارين في الطرق
إنّ طريقة توظيف الحجاب لممارسة الغنج والاستمتاع بنظرات الإعجاب، والشعور بالنرجسية لا تومئ إلى وعي حصل لدى المرأة، بل هي دليل ارتداد على مستوى إدراك صورة الأنا وعلاقتها بالآخر وبالأشياء. ذلك أنّ المحجّبة التي تعرض مفاتنها تثبت دخلنتها للمعايير الذكورية التي لا ترى في الجسد الأنثوي إلاّ شيئا أو بضاعة معدّة للاستهلاك. وسواء تحدثنا عن ثقافة إغراء ’السافرات’ أو المحجّبات المتبرّجات، فإنّ هذه الثقافة لا تحرّر المرأة، حتى وإن ادعت صاحبتها أنّ لها وعيا مختلفا بجسدها، فهي مالكة هذا الجسد وتتحكّم في طريقة تقديمه فتحجبه أو تعريه عن إرادة، كما أنّها قد تتخذ الحجاب شكلا من أشكال الاحتجاج بالزي. بيد أنّ هذا الوعي يتعارض، في تقديرنا، مع ما تقوم عليه الشّريعة الإسلاميّة من مرتكزات تتعلّق بالمعاملات، وخاصّة فيما يتصل بعقد النّكاح، وبمفهوم الحجاب الإسلاميّ وشروطه والقيم التي يرمز إليها حسب المدافعين عنه(العفّة، الطهارة، الستر، التقوى، الإيمان، الحياء...).
تخفي الحُجُب أزمة وعي لدى الفرد في المجتمعات العربية المعاصرة وتكشف النقاب عمّا ترتب من ممارسة الإكراه والضغط على النساء من نتائج خطيرة، إن كان ذلك على مستوى السلوك وموقف الفرد من الآخر وصلته بالمنظومة الأخلاقية وبالدين. ونتفق مع ما ذهب إليه نبيل عبد الفتاح، حين اعتبر أنّ الحجاب قد تحوّل في الوسط الأرستقراطي إلى نوع من استعراض للتديّن الظاهري. وهو أمر يعكس استشراء التديّن الشكلاني الطقوسي على حساب الروحانيات.
نخلص إلى القول إنّ تعدّد دلالات الحُجُب تُبين عن التغيير الطارئ على الأزياء وعلى صلة الأفراد بالأشياء ومدى تصرفهم في العلامات. فالحجاب المعاصر/ العلماني ليس خارج عالم الموضة، بل إنّه صار يسجّل حضوره في عدة قاعات عروض أزياء في العواصم العالمية. ويومئ هذا التغيير في نسق الأزياء إلى ظهور مرحلة جديدة في تاريخ الأزياء العربية يمكن التمعّن فيها لتبيّن تاريخ اللباس من جهة، وتاريخ الجسد من جهة أخرى.
لقد صار من الصعب "تديين" الفضاء العمومي والتحكّم فيه وإفراغه من كلّ أشكال التعدد والتنّوع والاختلاف. فالحضور الأيديولوجي للإسلام السياسي باتت تزاحمه علامات أخرى تشي بالتوتر، بل بالصراع الداخلي بين دعاة الحجاب الشرعي ومروّجي "لباس الشهرة" "الحجاب العلماني" الحجاب المزوّر" "التبرّج المقنّع"...وصار التراشق بالتهم لا بين المحجّبات و"السافرات" فحسب، بل بين المحجّبات الملتزمات بالزي الشرعي والمحجّبات المتبرّجات. وهكذا صارت "الحصون مهدّدة من الداخل، ولم تعد غير المحجّبة وحدها المدانة أخلاقيا، بل صارت المحجّبة هي أيضا موضع استهجان بل تكفير. فهؤلاء النسوة "كاسيات عاريات" (اللباس الشفاف والضيق) "ويتشبهن بالكافرات وبالرجال (الحجاب البنطلوني).
ولم يعد ينظر إلى جميع المحجّبات على أنّهن عنوان الفضيلة والحياء والإيمان والأمومة المقدسة. فهنّ "الدرر المصونة" و"المحصنات البعيدات عن التهم والنواقص". وفي السياق نفسه لم يعد الحجاب بصيغة الإطلاق شعار الهوية الإسلامية وعنوان المشروع المجتمعي لدعاة تطبيق الشريعة أو حجّة على "التخلّف والرجعيّة والتزمّت وانعدام الوعي".
وفضلا عن ذلك لم يعد الحجاب يهدف إلـى"حجب الجانب الأنثوي" في المرأة والتركيز على إنسانيتها. كما أنّه لم يعد يضطلع بمهمّة حماية المرأة من"الذئاب" التي تتحرّش بالنساء. ليس الحجاب حينئذ ’الحصن الحصين’ والملاذ العتيد للمرأة. فالتوسّل بالعلامة لبلوغ بر الأمان وهم معبّر عن عسر التخلّص من ربقة الصور النمطية التي تقرن المرأة بالإيروس وتنفي صلتها باللوغوس.
* جامعية وباحثة تونسية
.