فلاح رحيم - اقتناص المعنى..

بديهيات مدهشة

من البديهيات التي تحكم حواراتنا الفكرية والتأويلية قناعتنا بأن المعنى بيّن بذاته لا يمثل مشكلة. أعرف ما تعنيه وتعرف ما أعني. قد يكون السبب في هذا التخندق والانغلاق ان حواراتنا لم تعد حوارات بقدر ما هي تهيئة موتورة للجوء إلى القوة، وفي هذا السياق يتحول المعنى إلى راية مقدسة ثابتة الدلالة تمهد للعنف. وهو حال يستدعي وقفة قصيرة عند مفكر كبير أثارت بديهيات ثبات المعنى دهشته فأنتج لنا واحداً من أهم الكتب الفلسفية في القرن العشرين، وأعني به هانز جورج غادامير وكتابه "الحقيقة والمنهج" (1960).
لقد أصبح هذا الكتاب متاحاً للقارئ العربي الآن، بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدوره، ظل خلالها ينتظر همّة مترجمين مولعين بالمشقة (ربما لأن أسئلتنا شاقة) هما حسن ناظم وعلي حاكم صالح (صدرت طبعته الأولى عن دار أويا، 2007). بهذا يكون لحديثنا مصدره لمن يرغب في الاستزادة. بقي المعنى في الفكر الغربي أمراً مفروغاً منه وبديهية لا تخضع للسؤال حتى القرن الثامن عشر. وكان أول جدال طرح قضية المعنى طرحاً إشكالياً جدالاً ذا طابع ديني، إذ تحدّى الإصلاح البروتستانتي المعاني التي كرستها الكنيسة الكاثوليكية وأعاد تقويمها. وسرعان ما انتقلت روح المراجعة إلى القانون البشري مع ظهور الديمقراطية الدستورية، فتزايدت الجدالات بصدد فحوى القوانين وتأويلها.
لكن التشبث بفكرة ثبات المعنى وتصوّره لقية مكتملة مخبوءة في عقل المؤلف أو نصه، وما على القارئ إلا الوصول إليها ليطمئن، تواصلت ووجدت مدافعين عنها لا يُستهان بهم. أبرز من يمثل هذا الموقف من المعنى في الفكر النقدي المعاصر هو الناقد والمفكر الأمريكي أ. د. هيرش في كتابه "مصداقية التأويل" (1967) وهو غالباً ما يرد في كتب النقد الأدبي مدافعاً عن استقلال المعنى وتحصنه في قصد المؤلف. لكن علينا التروي في تقويم أهمية ما يقول هذا المفكر لأنه يمثل بديهية شائعة نشاطره إياها دون أن نعي أحياناً. وسأعتمد هنا المقارنة بين هيرش وغادامير التي قدمها الناقد الأميركي بول فراي في محاضرته عن التأويل في أرشيف جامعة ييل.

الانسان غاية

ينطلق هيرش من قناعة عمانوئيل كانت بأن الإنسان هو الغاية القصوى للفكر وأن من المستهجن تحويل الإنسان إلى وسيلة ذرائعية تخدم غايات المؤوّل ونواياه. على وفق هذا يكون لزاماً توخي الدقة في فهم مقولات الإنسان كما هي في ذاتها والامتناع عن فرض نوايانا ومقاصدنا الخاصة على ما يقول. يجب تعطيل سؤال الحقيقة في مواجهة المعنى، أي أن علينا فهم ما يقال بحياد دون إثارة سؤال صوابه وخطئه وما نراه نحن فيه. وهو موقف تنويري باهر استقر بديهيةً في الثقافة الغربية. ليس من تكريم للمعنى خير من التعامل معه بحياد.
تثير هذه القضية البديهية لدى هيرش دهشة غادامير الذي يرفض المنهجية التاريخية المبسطة في التأويل. ولابد من فهم التاريخية التي يناصبها غادامير العداء، فهي ليست التاريخية الجديدة التي تحتفي بظرفية النص، بل يقصد بها غادامير الإيمان المطلق بقدرة المؤول على الاستغناء عن افتراضاته المسبقة وعن ذاتيته ليقدم فهماً محايداً علمياً موضوعياً للمعنى كما هو في عقل المؤلف. ينطلق غادامير من قناعة أساسية هي تناهي الكائن البشري وانتماؤه الحتمي للتاريخ واللغة، وهو ما يعني أننا ننطلق في كل ممارساتنا الفكرية من أفق ثقافي يمتد بعيداً عن ذواتنا في عمق التاريخ من جهة، وفي آخرية اللغة من جهة أخرى. هل نستطيع أن نتجرد من هذا الأفق؟ نغادره إلى موقع علمي محايد لا يعترف بأي تقليد أو ميراث؟ دعوى كانط، ومن بعده هيرش، أن هذا أمر ممكن ومطلوب (وهي دعوى مغرية لا يمكن شطبها دون روية فهي رهان التنوير الأكبر)، لكن المثقفين العرب والعراقيين تحديداً يدركون في يومنا هذا أن علمانيتهم وتنويرهم المتعالي على الولاءات الثقافية المحصورة في التاريخ واللغة تبطن لدى الكثيرين منهم استجابة محيّرة لهذه الولاءات الضيقة. نشهد اليوم كيف تغلب النعرات الطائفية والقومية والجهوية على الخطاب العلماني نفسه فتكون بمثابة لاوعي مكبوت له.

مقاربة النص

يرى غادامير أن القراءة تعاملٌ مع نص لا مؤلف. وأن القارئ مجبر على مقاربة النص من صُلب أفقه الثقافي الذي تكوّن قارئاً فيه، وهو أفق يعجز القارئ نفسه عن الإحاطة بكل أبعاده بسبب تناهيه في التاريخ واللغة. هنالك للنص بالمقابل أفقه المتناهي الخاص وما القراءة إلا لقاء الأفقين وحوارهما على أرضية مشتركة بصدد الاختلاف بينهما. ولابد هنا من تحديد المسعى الخاص بغادامير (وبه يفارق كانط وهيرش) ذلك أن القراءة بحسبه لا تهدف إلى فهم بارد محايد للنص. مثل هذا الفهم متعذر أصلاً لأننا لا نستطيع إلا أن نسقط أفقنا على النص، كما أن هذا الأفق بالرغم من تناهيه هو وسيلتنا الأمضى إلى فهم النص (كما جادل مارتن هيدغر أستاذ غادامير من قبل). بدلاً من الحياد نحن نحاور النص بجدية تامة تفتقد إليها القراءة المحايدة التي تعطل سؤال الحقيقة وتكتفي بالفهم الموضوعي السلبي. غاية القراءة لدى غادامير هي الانتقال من النص إلى تاريخ فاعل يكون للنص فيه تأثيره الحيوي في حياتنا وقراراتنا. إنها البديل عن القراءة التي تسجن النص في أفقه وتمتنع عن التفاعل معه تفاعل آفاق تقرّ بتناهيها وتنشغل بالممارسة والعيش المشترك. بهذا المعنى تكون النزعة التاريخية التي يناصبها غادامير العداء (نزعة الفهم الموضوعي الأحادي للنص) لا أخلاقية في جوهرها لأنها لا تطرح السؤال الأخلاقي أصلاً. هنالك لدينا موقفان لا يسهل الحكم بينهما. موقف هيرش الإنسانوي الذي يرفع لواء الفهم الموضوعي المحايد للقصد، وموقف غادامير الأخلاقي الذي يرى في الحياد الموضوعي إنكاراً لحقائق التحيّز المتجذر في أفق كل واحد منا وفي تناهيه. والحق أن هيرش أدرك صعوبة الاكتفاء بمقاربة محايدة للنصوص أقرب إلى اللامبالاة، فعمد إلى تطوير تمييزه المعروف بين "المعنى" meaning و "المغزى" أو "الدلالة" significance . فالمعنى بالنسبة له هو قصد المؤلف الكامن في النص كموناً محايداً عنا وعن نوايانا، أما المغزى فهو مرحلة لاحقة لاكتناه المعنى تبدأ حين نحاكمه على وفق قناعاتنا وحين نستخدمه من أجل قضية أو في جدال. يردّ غادامير أن هذا الفصل نظري بحت ومستحيل عند القراءة لأسباب لا يتسع المجال للخوض فيها. ما يهمنا في هذه الوقفة القصيرة تصوير عمق الدهشة التي تنبثق من النظر النقدي في مصادرات سهلة تفتقد الدقة تحكم حواراتنا ومواقفنا، وكان غادامير ممن أثارت دهشتهم فقطع في تأملها شوطاً بعيداً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...