مقدمة لا بد منها
ليست هذه المراجعات التي انوي القيام بها لمجموعة من المفاهيم الاجرائية البنيوية وما بعد البنيوية من دون موجب يبررها ذلك اني ابتغي من خلالها رفع التشوش الذي يحيط بمؤدى تلك المفاهيم والخلط الذي تفرزه بعض تطبيقاتها على النصوص الادبية والحاصل من اشتغال غير المختصين على المقتربات النقدية التي اتت بها النظريات البنيوية وما بعد البنيوية. أجد من الضرورة، قبل الانتقال الى لب الدراسة، الاشارة الى أن التدخلات غير المرحب بها، بسب كونها غير واعية وخاضعة لتاثيرات التعميمات البيداغوجية، البعض ممن يتجرؤون على ممارسة النقد، استخفافا اوتسلية، أدت الى اضطراب مفاهيمي فقدت معه المفاهيم البنيوية خصائصها الرئيسة بحدود تعلق الامر بالتناص، ادت الاشتغالات الكيفية المؤسسة، غالبا، على بعض القراءات العشوائية لترجمات غير دقيقة للنصوص البنيوية الى ان يغدو التناص، بالنسبة للبعض ممن اشتغل عليه وطبق الياته على نصوص محلية، صنوا للتلصص المعادل للسرقة ولقلة الحيلة المرادفة للجدب في الموهبة وللعسر في الخلق الموجِب لضيق الخيال وفقر الابداع. والحال أن التناص ليس من هذا ولا من ذلك في شيء.
في مفهومه
يرتبط التناص، من حيث كونه الية من اليات نقد ما بعد الحداثة التي تنفتح على النص بهدف استنطاق علاماته، بالمفاهيم البنيوية التي اجتاحت الفكر الغربي في ستينيات القرن الماضي من دون ان يعني ذلك انه، اي التناص، نتاج بنيوي صرف. ذلك ان البنيوية التقطته، كما ستفعل مع الكثير من المفاهيم الشكلانية التي اسست لظهور البنيوية، من باختين الذي كان يشير، دون ان يستخدم مصطلح التناص، في ثنايا افكاره عن الحوارية (le dialogisme)، التي هي، كفكرة وممارسة، أوسع بكثير من التناص، الى قضية أن كل نص يتشكل من فسيفساء من الاستشهادات تجعل من أي كتابة امتصاصا وتحويلا لفعل كتابي آخر سابق يُنتجُ، هو نفسه، نصا لا بد ان يكون موضع تقاطع مع نصوص أخرى تجد لها فيه اعادة قراءة وتكثيفا وتركيزا وانتقالا وتعميقا. للتناص، اذن، بُعدان: بعد علاقاتي يحفر طوليا حول النص بغية التحقق من الوجود الفعلي لنص داخل نص اخر على جميع المستويات اللغوية والثيماتية وبُعد تحويلي يحفر عرضيا في ثنايا النص نفسه بهدف استظهار الكيفية التي أُعيدَ بموجبها انتاجُ بنى نصية لنصٍ او نصوص اخرى ودراسة التحولات التي تطرا على تلك البنى النصية المشتركة.
تحولاته
من جوليا كريستيفا الى جيرار جينيت
تعرض التناص، حاله في ذلك حال بقية مقتربات البنيوية، الى تحولات، وان لم تمس جوهره، لكنها افرزت، عموما، ثلاثة مستويات من الفهم لا تقترب من بعضها الا من ناحية اقرارها مبدأ ان وجود خلق فني منطلق من لا شيء محضُ وهمٍ ذلك أن كل نتاج لا بد أن يكون مؤسسا على احالات تناصية مثل المستوى الأول من فهم التناص جوليا كريستيفا ورولان بارت اضافة الى فيليب سوليرس وان كانت مساهمات هذا الاخير النقدية، في مجال التناص، قليلة لكنها مؤثرة من ناحية انفتاحها على افاق القراءة والتلقي وتهيئتها، بذلك، الارضية التي سيستند إليها المستوى الثاني من الفهم الما بعد بنيوي للتناص والذي سوف يمثله ميكاكيل ريفاتير وامبرتو ايكو اللذان سيذهبان بالربط الذي قام به سوليرس بين التناص وفعل القراءة المنتج الى مناطق ارحب تتجاوز بكثير مجرد كون التناص ظاهرة من ظواهر التلقي. المستوى الثالث من الفهم البنيوي للتناص سوف يمثله جيرار جينيت في كتابه “أطراس” الصادر سنة 1982. ملخص ما يعتقده فريق كريستيفا/بارت/سوليرس هو ان التناص ظاهرة نشأت بنشوء الأدب ويشير، في اوسع معانيه عمومية، الى واقعة انه في الكثير من الحالات، لاسيما في ميدان الادب، من الممكن لنص ما ان يحيل، بطرق متعددة ومتنوعة، الى نصوص اخرى او الى اجزاء من نصوص سابقة بل وحتى لاحقة. هذه الاحالة قد تتم بطريقة ظاهرة مباشرة كأن يورد الكاتب اقتباسا عن كاتب اخر او اسنادا او اشارة كما قد تكون الاحالة ضمنية وذلك عن طريق حشد، بطريقة يفترض كونها لا واعية، كلمات، جمل او اجزاء اوسع مستعارة من كاتب او كتاب اخرين. معنى ما سبق أن كل نص لا ينتج الا عن تداخل مع نص اخر او نصوص اخرى تعلن عن حضورها في النص الاول باشكال ومستويات تتنوع بين نصوص الثقافة السابقة ونصوص الثقافة المجاورة للكاتب وسياق انتاج نصه. هذا يعني أيضا ان الكاتب عندما يحرر نصا لا يحيل نفسه الى الواقع المحيط به فقط بل الى الأدب السابق لنصه. فهم كهذا لالية الكتابة والتاليف سيقود حتما جوليا كريستيفا، ومن بعدها رولان بارت، الى التصريح بان كل نص يمكن قراءته على انه محو وتحويل لنص اخر او نصوص اخرى.
اندماج
رغم ما في رأي كهذا من رفع والغاء لقدسية النص وتهديم لاسيجته وتبشير بانفتاحه على غيره من النصوص وتفاعله مع الثقافات السابقة والمجاورة واندماجه فيها وتدميره، من ثم، لخرافة الخلق المحض، رغم ما سبق يبقى الاعتراض على هذا الرأي واردا من جهة كونه فضفاضا وشديد العمومية وبعيدا عن التحديد والتقييد ما دام غير قادر على تقديم اجابات شافية لأسئلة يصعب عدم طرحها من قبيل تلك التي طرحتها ناتالي بيكه كرو مؤلفة كتاب “مقدمة للتناص” : اين تبدأ وتنتهي حدود التناص؟ هل يكفي حضور يتيم لنص داخل نص اخر كي نعتبر ذلك ظاهرة تناصية؟ هل نستطيع الاقرار بوجود التناص ما ان نلحظ وجود تشابه من نوع ما بين نصين او اكثر؟ كيف نميز ذلك؟ ما هي العلامات؟ الى اي حد يكون اثر نص ما علامة لا تقبل الشك بحضوره داخل نص اخر؟ رغم كل الاعتراضات والاسئلة المعلقة التي سنعثر على اجابات جزئية لها لدى المنظرين المابعد بنيويين، يبقى التناص لحظة فاصلة في تاريخ البنيوية من جهة انه وفر لها فرصة اصلاحية مكنتها من الخروج من سجن النص والانفتاح على سياقات انتاجه ومقاربة بناه من مرجعيات التاريخ والثقافة والموروث. سينطلق ميكائيل ريفاتير وامبرتو ايكو من هذا الانفتاح للنص على خارجه لاقامة تناص يستند في مشروعيته على فعل القراءة لا فعل الكتابة اي نقل التناص من محور الكاتب/الكاتب الى محور القارئ/النص. يرتكز مشروع ايكو/ريفاتير في التناص على مقاربة شمولية لهذا الاخير مع نظرية التأويل والتلقي تفترض ان القارئ هو الذي يوجد العلاقة التناصية بين النصوص. يعرف ريفاتير التناص على انه “ادراك القارئ لعلاقات بين نص ونصوص اخرى سبقته او اتت بعده.” أي ان ذكاء القارئ وذاكرته هما المعياران اللذان يجب الاحتكام اليهما في تشخيص التناص. اما بالنسبة لجيرار جينيت فالتناص ليس اسما اخر لدراسة مصادر الابداع ولا التاثير، الواعي او غير الواعي، الذي يخضع له الكاتب لحظة شروعه بكتابة نصه. هذا الفهم الجزئي الذي يركز على التعالق التناصي دون غيره، راجع، بحسب جينيت، الى بعض التبسيطات التي تعرض لها المصطلح التي قادت احيانا الى اعتبار التناص مجرد البحث عن مرجعيات نص ما داخل نصوص سابقة. يجب الاشارة الى ان جوليا كريستيفا حاولت، عندما تبدى لها الانحراف الحاصل في مفهوم التناص، اعادة التأكيد، نهاية سنوات السبعينات، على البعد التحويلي للممارسة التناصية وتحييد مبدأ ان يكون التناص ليس غير شكل من اشكال نقد مصادر نشوء النص. على يد جينيت، سيدخل التناص مرحلة النضج وان ليس بالشكل الذي يكفي لان نقول ان المفهوم محل الدراسة قد وصل مرحلة الكمال. في كتابه أطراس، يقترح جينيت مفهوما محددا للتناص يتجاوز بكثير التحري عن ممارسة الاقتباس او البحث عن المرجع. وبذلك ينأى جينيت بالتناص عن أن يكون مجرد تناول النص على انه مجموع مغلق دال على ذاته بذاته بل بكونه نتاجا مفتوحا ينتج عن تأويل وينفتح على تأويل. على هذا القياس، ليست القراءة التناصية مجردَ ذكرٍ دال على علم واسع بمصادر او استعارات مؤلف ما. بل هي ممارسة خصبة للكتابة الادبية تحث على الانتباه الى القراءة التي يقوم بها الكاتب للنصوص التي يتشربها ويغيرها داخل نصه الخاص. استنادا على هذا المعطى الأخير ساتعرض، في مناسبة لاحقة، الى دراسة التناص بمفهومه الجينيتي (نسبة الى جيرار جينيت) بين عدد من نصوص محلية وأخرى اجنبية. أول تلك الدراسات ستكون مخصصة لاستكشاف مدى التناص بين الفصل الاول من رواية الروائي التركي اورهان باموق “اسمي أحمر” وقصة “اينوما ايليش” للقاص والروائي العراقي علي عباس خفيف.
د. حسن سرحان
ليست هذه المراجعات التي انوي القيام بها لمجموعة من المفاهيم الاجرائية البنيوية وما بعد البنيوية من دون موجب يبررها ذلك اني ابتغي من خلالها رفع التشوش الذي يحيط بمؤدى تلك المفاهيم والخلط الذي تفرزه بعض تطبيقاتها على النصوص الادبية والحاصل من اشتغال غير المختصين على المقتربات النقدية التي اتت بها النظريات البنيوية وما بعد البنيوية. أجد من الضرورة، قبل الانتقال الى لب الدراسة، الاشارة الى أن التدخلات غير المرحب بها، بسب كونها غير واعية وخاضعة لتاثيرات التعميمات البيداغوجية، البعض ممن يتجرؤون على ممارسة النقد، استخفافا اوتسلية، أدت الى اضطراب مفاهيمي فقدت معه المفاهيم البنيوية خصائصها الرئيسة بحدود تعلق الامر بالتناص، ادت الاشتغالات الكيفية المؤسسة، غالبا، على بعض القراءات العشوائية لترجمات غير دقيقة للنصوص البنيوية الى ان يغدو التناص، بالنسبة للبعض ممن اشتغل عليه وطبق الياته على نصوص محلية، صنوا للتلصص المعادل للسرقة ولقلة الحيلة المرادفة للجدب في الموهبة وللعسر في الخلق الموجِب لضيق الخيال وفقر الابداع. والحال أن التناص ليس من هذا ولا من ذلك في شيء.
في مفهومه
يرتبط التناص، من حيث كونه الية من اليات نقد ما بعد الحداثة التي تنفتح على النص بهدف استنطاق علاماته، بالمفاهيم البنيوية التي اجتاحت الفكر الغربي في ستينيات القرن الماضي من دون ان يعني ذلك انه، اي التناص، نتاج بنيوي صرف. ذلك ان البنيوية التقطته، كما ستفعل مع الكثير من المفاهيم الشكلانية التي اسست لظهور البنيوية، من باختين الذي كان يشير، دون ان يستخدم مصطلح التناص، في ثنايا افكاره عن الحوارية (le dialogisme)، التي هي، كفكرة وممارسة، أوسع بكثير من التناص، الى قضية أن كل نص يتشكل من فسيفساء من الاستشهادات تجعل من أي كتابة امتصاصا وتحويلا لفعل كتابي آخر سابق يُنتجُ، هو نفسه، نصا لا بد ان يكون موضع تقاطع مع نصوص أخرى تجد لها فيه اعادة قراءة وتكثيفا وتركيزا وانتقالا وتعميقا. للتناص، اذن، بُعدان: بعد علاقاتي يحفر طوليا حول النص بغية التحقق من الوجود الفعلي لنص داخل نص اخر على جميع المستويات اللغوية والثيماتية وبُعد تحويلي يحفر عرضيا في ثنايا النص نفسه بهدف استظهار الكيفية التي أُعيدَ بموجبها انتاجُ بنى نصية لنصٍ او نصوص اخرى ودراسة التحولات التي تطرا على تلك البنى النصية المشتركة.
تحولاته
من جوليا كريستيفا الى جيرار جينيت
تعرض التناص، حاله في ذلك حال بقية مقتربات البنيوية، الى تحولات، وان لم تمس جوهره، لكنها افرزت، عموما، ثلاثة مستويات من الفهم لا تقترب من بعضها الا من ناحية اقرارها مبدأ ان وجود خلق فني منطلق من لا شيء محضُ وهمٍ ذلك أن كل نتاج لا بد أن يكون مؤسسا على احالات تناصية مثل المستوى الأول من فهم التناص جوليا كريستيفا ورولان بارت اضافة الى فيليب سوليرس وان كانت مساهمات هذا الاخير النقدية، في مجال التناص، قليلة لكنها مؤثرة من ناحية انفتاحها على افاق القراءة والتلقي وتهيئتها، بذلك، الارضية التي سيستند إليها المستوى الثاني من الفهم الما بعد بنيوي للتناص والذي سوف يمثله ميكاكيل ريفاتير وامبرتو ايكو اللذان سيذهبان بالربط الذي قام به سوليرس بين التناص وفعل القراءة المنتج الى مناطق ارحب تتجاوز بكثير مجرد كون التناص ظاهرة من ظواهر التلقي. المستوى الثالث من الفهم البنيوي للتناص سوف يمثله جيرار جينيت في كتابه “أطراس” الصادر سنة 1982. ملخص ما يعتقده فريق كريستيفا/بارت/سوليرس هو ان التناص ظاهرة نشأت بنشوء الأدب ويشير، في اوسع معانيه عمومية، الى واقعة انه في الكثير من الحالات، لاسيما في ميدان الادب، من الممكن لنص ما ان يحيل، بطرق متعددة ومتنوعة، الى نصوص اخرى او الى اجزاء من نصوص سابقة بل وحتى لاحقة. هذه الاحالة قد تتم بطريقة ظاهرة مباشرة كأن يورد الكاتب اقتباسا عن كاتب اخر او اسنادا او اشارة كما قد تكون الاحالة ضمنية وذلك عن طريق حشد، بطريقة يفترض كونها لا واعية، كلمات، جمل او اجزاء اوسع مستعارة من كاتب او كتاب اخرين. معنى ما سبق أن كل نص لا ينتج الا عن تداخل مع نص اخر او نصوص اخرى تعلن عن حضورها في النص الاول باشكال ومستويات تتنوع بين نصوص الثقافة السابقة ونصوص الثقافة المجاورة للكاتب وسياق انتاج نصه. هذا يعني أيضا ان الكاتب عندما يحرر نصا لا يحيل نفسه الى الواقع المحيط به فقط بل الى الأدب السابق لنصه. فهم كهذا لالية الكتابة والتاليف سيقود حتما جوليا كريستيفا، ومن بعدها رولان بارت، الى التصريح بان كل نص يمكن قراءته على انه محو وتحويل لنص اخر او نصوص اخرى.
اندماج
رغم ما في رأي كهذا من رفع والغاء لقدسية النص وتهديم لاسيجته وتبشير بانفتاحه على غيره من النصوص وتفاعله مع الثقافات السابقة والمجاورة واندماجه فيها وتدميره، من ثم، لخرافة الخلق المحض، رغم ما سبق يبقى الاعتراض على هذا الرأي واردا من جهة كونه فضفاضا وشديد العمومية وبعيدا عن التحديد والتقييد ما دام غير قادر على تقديم اجابات شافية لأسئلة يصعب عدم طرحها من قبيل تلك التي طرحتها ناتالي بيكه كرو مؤلفة كتاب “مقدمة للتناص” : اين تبدأ وتنتهي حدود التناص؟ هل يكفي حضور يتيم لنص داخل نص اخر كي نعتبر ذلك ظاهرة تناصية؟ هل نستطيع الاقرار بوجود التناص ما ان نلحظ وجود تشابه من نوع ما بين نصين او اكثر؟ كيف نميز ذلك؟ ما هي العلامات؟ الى اي حد يكون اثر نص ما علامة لا تقبل الشك بحضوره داخل نص اخر؟ رغم كل الاعتراضات والاسئلة المعلقة التي سنعثر على اجابات جزئية لها لدى المنظرين المابعد بنيويين، يبقى التناص لحظة فاصلة في تاريخ البنيوية من جهة انه وفر لها فرصة اصلاحية مكنتها من الخروج من سجن النص والانفتاح على سياقات انتاجه ومقاربة بناه من مرجعيات التاريخ والثقافة والموروث. سينطلق ميكائيل ريفاتير وامبرتو ايكو من هذا الانفتاح للنص على خارجه لاقامة تناص يستند في مشروعيته على فعل القراءة لا فعل الكتابة اي نقل التناص من محور الكاتب/الكاتب الى محور القارئ/النص. يرتكز مشروع ايكو/ريفاتير في التناص على مقاربة شمولية لهذا الاخير مع نظرية التأويل والتلقي تفترض ان القارئ هو الذي يوجد العلاقة التناصية بين النصوص. يعرف ريفاتير التناص على انه “ادراك القارئ لعلاقات بين نص ونصوص اخرى سبقته او اتت بعده.” أي ان ذكاء القارئ وذاكرته هما المعياران اللذان يجب الاحتكام اليهما في تشخيص التناص. اما بالنسبة لجيرار جينيت فالتناص ليس اسما اخر لدراسة مصادر الابداع ولا التاثير، الواعي او غير الواعي، الذي يخضع له الكاتب لحظة شروعه بكتابة نصه. هذا الفهم الجزئي الذي يركز على التعالق التناصي دون غيره، راجع، بحسب جينيت، الى بعض التبسيطات التي تعرض لها المصطلح التي قادت احيانا الى اعتبار التناص مجرد البحث عن مرجعيات نص ما داخل نصوص سابقة. يجب الاشارة الى ان جوليا كريستيفا حاولت، عندما تبدى لها الانحراف الحاصل في مفهوم التناص، اعادة التأكيد، نهاية سنوات السبعينات، على البعد التحويلي للممارسة التناصية وتحييد مبدأ ان يكون التناص ليس غير شكل من اشكال نقد مصادر نشوء النص. على يد جينيت، سيدخل التناص مرحلة النضج وان ليس بالشكل الذي يكفي لان نقول ان المفهوم محل الدراسة قد وصل مرحلة الكمال. في كتابه أطراس، يقترح جينيت مفهوما محددا للتناص يتجاوز بكثير التحري عن ممارسة الاقتباس او البحث عن المرجع. وبذلك ينأى جينيت بالتناص عن أن يكون مجرد تناول النص على انه مجموع مغلق دال على ذاته بذاته بل بكونه نتاجا مفتوحا ينتج عن تأويل وينفتح على تأويل. على هذا القياس، ليست القراءة التناصية مجردَ ذكرٍ دال على علم واسع بمصادر او استعارات مؤلف ما. بل هي ممارسة خصبة للكتابة الادبية تحث على الانتباه الى القراءة التي يقوم بها الكاتب للنصوص التي يتشربها ويغيرها داخل نصه الخاص. استنادا على هذا المعطى الأخير ساتعرض، في مناسبة لاحقة، الى دراسة التناص بمفهومه الجينيتي (نسبة الى جيرار جينيت) بين عدد من نصوص محلية وأخرى اجنبية. أول تلك الدراسات ستكون مخصصة لاستكشاف مدى التناص بين الفصل الاول من رواية الروائي التركي اورهان باموق “اسمي أحمر” وقصة “اينوما ايليش” للقاص والروائي العراقي علي عباس خفيف.
د. حسن سرحان