يحيى الطاهر عبد الله
قصة الصعيدي الذي هدّه التعب فنام تحت حائط الجامع القديم
صحا على صرخة، ووجدها فوق رأسه تبكي، تلبس الأسود، تحمل بين يديها طفلاً ميتاً. قالت: يا فلان يا بن فلانة هل ضاقت بك الدنيا الواسعة فلم تجد غير هذا المكان تزاحمنا فيه أنا وأولادي.. لقد قتلت ابني يا قليل النظر.. وحتى يخفّ حزني على ولدي عليك أن تفارق بيوتها قبل أن يدركك صبح.
لتّ الصعيدي في الكلام وعجن ــ فال: أتيت إلى المكان ولم يكن بالمكان غيري.
فصرخت فيه : لو لم أكن جنية مؤمنة، بنت جنية مؤمنة، بنت جني مؤمن، لركبت كتفيك عامين قمريين كما تُركب الدواب يا دابة.
ضرط الصعيدي ضرطتين، ولمّ ذيل ثوبه وأطبق عليه بأسنانه وانطلق يسابق الريح وهو لا يصدق أنه أفلت من شر جنية تسكن الخفاء، ولا يراها ابن آدم إلا حين تريد هي لابن آدم أن يراها.. بعد وقتٍ صدّق أنه نجا وسأل نفسه: كيف أبارح أم القرى التي تلمّ عظام جدودي ؟.. سأذهب إلى حامل البخاري، حافظ كتاب الله المُهاب من الجن وأشتكي الجنية..
وقال :
وجدته قاعداً تحت العنبة وأمامه الحطب مشتعل، جعلت المسافة بيني وبينه قصبة ونصف قصبة وقلت السلام عليكم، ولما لم أسمع رده تقدمت وجعلت المسافة بيني وبينه قصبة وقلت السلام عليكم، ولما لم أسمع رده تقدمت وجعلت المسافة بيني وبينه نصف قصبة ورددت السلام فلم يرد ــ بينما النار التي أشّعها لا تزال مشتعلة، قلت ــ وقد فهمت: انتهى كل شيء إذن.. جاء الطوّاف قبلي وقضى الأمر، وحفنتُ من تراب الأرض بالكفين وكشحته على النار فخمدت، وقعدت أبكي.
( كانت اليد الكبيرة يا أميري قد رسمت له الطريق ــ خطين حديديين تجري فوقهما القطارات.. وأعمدة خشب تشد أسلاك التلغراف )
ولما وجد الصعيدي الطريقَ مرسومة أمامه مشي فيها، ظل يمشي وبلاد الله تترى حتى بلغ أم المدن، فدخلها حافياً متورم القدمين في اليوم الخامس من ذي الحجة وكان العام عام الذئب والدببة، وفي بحرٍ من الحديد والنار رأى الإنسان يحجل ويطلب الصدقة ورآه على البسكليت ورآه يدب ورآه بالأتوبيس وبالتروللي وبالتروماي ورآه يطير ورآه يسوق العربة، وقف يتفرج ويتعجب ونسي زمانه حتى جاء الرجل وسأله عن شخصيته. قال : فلان أبا فلان. قال الرجل: أنا أسأل عن بطاقتك ؟ قال: معي بطاقة. قال الرجل: هات، وأخذ الرجل البطاقةــ وقال: أنت المرسوم أمامي... يبقى الكلام المكتوب وتلك معضلة فأنا لا أقرأ، قال الصعيدي لنفسه: ما دام لا يقرأ.. وما دام الكلام المكتوب كله عني أنا.. وأنا الذي قلت هذا الكلام لكاتب البطاقات فكتب كاتب البطاقات بطاقتي.. إذن تلك فرصتي للتباهي، وقال للرجل: أنا أقرأ، ومضى ينظر في البطاقة ويتذكر كل ما قاله لكاتب البطاقة ويقوله للرجل. باغته الرجل ولطمه على فمه ليسكت فسكت، وظل الرجل يضربه بالكف على القفا وهو ساكت، ولم يكف الرجل عن ضربه حتى وقع الصعيدي في أول يومٍ له بأم المدن على الأرض مغشياً عليه، أفاق فوجد حواليه ناساً يجهلهم ويجهل قدر الشر وقدر الخير في نفوسهم ( الشر مطوي داخل كل نفس ولا يعلم مراحل النفوس يا أميري إلا الله ) كان عليه أن يتكلم معهم ليعرف مقاصدهم فتكلم، وكان عليهم أن يردوا على كلامه فردوا، وفهم الصعيدي أن الناس حوله ( متفرج ومشفق ومصلح وناصح )...
قالوا: لا عليك..الرجل شرطة، وقالوا: أنت هنا ولست هناك، ونصحوه أن يغير محل إقامته وقالوا: بسيطة.. شُجّ حاجبك الأيسر، وقالوا ما دمت من صعيد مصر فقل لنا إلى أي طائفة من الصعايدة تريد أن تذهب ؟ وعدّدوا له قومه (باعة خضار وبوابون وعمال بناء وباعة جوّالون).. قال لهم: لا مال معي أشتري به الشيء لأبيعه، وقال لا أملك غير بدني..
قالوا: اذهب إلى عمال البناء، ووصفوا له الطريق. ذهب إلى عمال البناءء وكان النهار قد انقضى فوجدهم قد أشعلوا النار وتحلّقوها. ردّ السلام وقال: أنا ابن فلان. قالوا: أهلاهً أنت منّا. وحكى حكايته. قالوا له: ما حدث لك يا فلان حدث لعبد الحليم أفندي. تحسس جرح وأنّ، قال: ليت أمي ما تزوجت أبي ــ وكان قاعداً فرقد. أقاموه، وسقوه العدس الساخن ودعكوا قدميه بالماء الساخن والملح، ولاموه، لأنه أتى بمفرده، وقالوا له: الأرض مرسومة يا فلان.. ونحن لا نمشي هنا فرادى. وإذا مشينا فنحن قوم نعرف الحد ولا نتجاوز الحدود، واعتذروا عن ضيق ذات اليد، وقالوا: اليوم يوافق قبل نهاية الأسبوع بيوم، وها نحن لا نملك المال لنشتري البن لجرحك، وقام واحد منهم ودفس الرماد في جرحه، ووعدوه بشراء البن لما يقبضوا راتب الأسبوع. وقالوا له: لما ينتهي نهار الغد ينتهي الأسبوع.
ولما انتهى الأسبوع اشترى الصعايدة البن ودفسوه في جرح الصعيدي، واشتروا "منديل محلاوي" وربطوا به الجرح. وتتالت الأسابيع وجاء الشهر وشُفي الصعيدي من جرحه وأورام قدميه وطابت له الحياة مع أهله الصعايدة ــ إلا أنه في الليالي المقمرة كان يتجنبهم وينام مبكراً قبل أن تطلع القَمَرة. وظل يتنقّل معهم من مكان لمكان، ويبني معهم العمارات من الطوب والحديد والرمل والإسمنت ويغني مواويل حمراء ومربعات زرقاء واللوبالي الأخضر، لكنه لم يسمع صوت سواقي أم القرى.
ومن زملاء العمل اختار له معارف من أبناء المدن الحِرفيين سكان الحارات (الحدّادون... النجارون... عمال رصف البلاط... النقّاشون) ويزورهم في بيوتهم، ويشرب معهم ومع نسوتهم الشاي ويأكل مع أطفالهم البطاطا.
دعوه مرة إلى حفل ختان أحياه مطرب بأرغول وراقصة لحمها أبيض تدق الصاجات فيقوم ناس ويقعد ناس. قام مع القائمين وقعد مع القاعدين ــ وكان قد شرب الحشيش مع من شربوا الحشيش، وتذكر أم القرى البعيدة فترحم على روح جدوده وهاجت شجونه وتقدم من الميكروفون وأمسك بشلن ورق وأمر المطرب بالغناء لأم القرى، وتكلم في الميكروفون فلعلع صوته: السلام على الصعايدة الرجال يبنون العمارات ويعمّرون أم المدن. قام واحد من الحرفيين أهل الحيّ ودفع للمغني والراقصة ربع جنيه وتكلم في الميكروفون وقال: السلام على أرباب الحرفة الرجال من أبناء أم المدن فهم الذين يعمّرون أم المدن. وعلى كلام الحرفي قعدت الراقصة تعجن لحمها الأبيض وغنى المغني أغنية.
وكادت تنشب مشادّة بين الحِرفي والصعيدي، لولا الصعيدي العاقل الذي قام ودفع للراقصة والمغني نصف جنيه وقال في الميكروفون: السلام على الجميع.. السلام على كل الحاضرين من صعايدة وأهل حرفة.. السلام على الرجال يبنون العمارات ويعمّرون أم المدن. وقام حرفي خفيف الدم وحيّى الصعيدي العاقل ودفع نصف جنيه للراقصة والمغني، وقال في الميكروفون: الصعايدة ونحن نبني العمارات ونعمر أم المدن ولا نسكن في العمارات.. السلام على سكان العمارات.
فضحك الكل، وهكذا انتهت الليلة بخير.. ومن تلك الليلة وصاحبنا الصعيدي يكلم نفسه: نحن الصعايدة نبني العمارات.. ونحن وأهل الحرفة لا نسكن العمارات، لكننا نحن الصعايدة نترك الصعيدي منا – وهو أكبرنا سناً- على باب كل عمارة نبنيها، وسأل نفسه: متى يأتي دوري لأستريح وأقعد على دكة..
ظل صاحبنا يضرب في المُقبل بعدما طرح ونسي الحاضر، قال: الطيب محمد وقع من فوق إلى تحت فقُصفت رقبته وفقد دوره.. ومحمود الساكت فقد دوره ــ لما قبض عزرائيل روحه وهو نائم.. كذا عبد الباري حين أراد أن يتمخّط وهو قاعدٌ بيننا فتمخط روحه.. يأتي دوري لأصير بواباً قبل عبد الحارس وعبد الملك، وبعد حجاج ومحمود الظني وعبد الحاكم.
وفي نهارٍ مشمس، وكان يطلع الدعامات الخشبية المربوطة بالحبال وعلى كتفيه حمولة الرمل والإسمنت ــ طرح صاحبنا وضرب ونسي الحاضر، قال : لما ننتهي من بناء هذه العمارة سيقعد على بابها عبد الحاكم، ونمضي لنبني العمارة التي سأقعد على بابها أنا فوق دكة من الخشب.
في هذا النهار – يا أميري- ضيع الصعيدي عمره كما ضيعت بائعة اللبن الحمقاء اللبن.
___________
النص مأخوذ من " المختار من روائع القصة العربية الحديثة "، مهرجان القراءة للجميع 2000، ضمن إصدارات مكتبة الأسرة.
وهو ضمن المجموعة القصصية حكايات للأمير حتى ينام
قصة الصعيدي الذي هدّه التعب فنام تحت حائط الجامع القديم
صحا على صرخة، ووجدها فوق رأسه تبكي، تلبس الأسود، تحمل بين يديها طفلاً ميتاً. قالت: يا فلان يا بن فلانة هل ضاقت بك الدنيا الواسعة فلم تجد غير هذا المكان تزاحمنا فيه أنا وأولادي.. لقد قتلت ابني يا قليل النظر.. وحتى يخفّ حزني على ولدي عليك أن تفارق بيوتها قبل أن يدركك صبح.
لتّ الصعيدي في الكلام وعجن ــ فال: أتيت إلى المكان ولم يكن بالمكان غيري.
فصرخت فيه : لو لم أكن جنية مؤمنة، بنت جنية مؤمنة، بنت جني مؤمن، لركبت كتفيك عامين قمريين كما تُركب الدواب يا دابة.
ضرط الصعيدي ضرطتين، ولمّ ذيل ثوبه وأطبق عليه بأسنانه وانطلق يسابق الريح وهو لا يصدق أنه أفلت من شر جنية تسكن الخفاء، ولا يراها ابن آدم إلا حين تريد هي لابن آدم أن يراها.. بعد وقتٍ صدّق أنه نجا وسأل نفسه: كيف أبارح أم القرى التي تلمّ عظام جدودي ؟.. سأذهب إلى حامل البخاري، حافظ كتاب الله المُهاب من الجن وأشتكي الجنية..
وقال :
وجدته قاعداً تحت العنبة وأمامه الحطب مشتعل، جعلت المسافة بيني وبينه قصبة ونصف قصبة وقلت السلام عليكم، ولما لم أسمع رده تقدمت وجعلت المسافة بيني وبينه قصبة وقلت السلام عليكم، ولما لم أسمع رده تقدمت وجعلت المسافة بيني وبينه نصف قصبة ورددت السلام فلم يرد ــ بينما النار التي أشّعها لا تزال مشتعلة، قلت ــ وقد فهمت: انتهى كل شيء إذن.. جاء الطوّاف قبلي وقضى الأمر، وحفنتُ من تراب الأرض بالكفين وكشحته على النار فخمدت، وقعدت أبكي.
( كانت اليد الكبيرة يا أميري قد رسمت له الطريق ــ خطين حديديين تجري فوقهما القطارات.. وأعمدة خشب تشد أسلاك التلغراف )
ولما وجد الصعيدي الطريقَ مرسومة أمامه مشي فيها، ظل يمشي وبلاد الله تترى حتى بلغ أم المدن، فدخلها حافياً متورم القدمين في اليوم الخامس من ذي الحجة وكان العام عام الذئب والدببة، وفي بحرٍ من الحديد والنار رأى الإنسان يحجل ويطلب الصدقة ورآه على البسكليت ورآه يدب ورآه بالأتوبيس وبالتروللي وبالتروماي ورآه يطير ورآه يسوق العربة، وقف يتفرج ويتعجب ونسي زمانه حتى جاء الرجل وسأله عن شخصيته. قال : فلان أبا فلان. قال الرجل: أنا أسأل عن بطاقتك ؟ قال: معي بطاقة. قال الرجل: هات، وأخذ الرجل البطاقةــ وقال: أنت المرسوم أمامي... يبقى الكلام المكتوب وتلك معضلة فأنا لا أقرأ، قال الصعيدي لنفسه: ما دام لا يقرأ.. وما دام الكلام المكتوب كله عني أنا.. وأنا الذي قلت هذا الكلام لكاتب البطاقات فكتب كاتب البطاقات بطاقتي.. إذن تلك فرصتي للتباهي، وقال للرجل: أنا أقرأ، ومضى ينظر في البطاقة ويتذكر كل ما قاله لكاتب البطاقة ويقوله للرجل. باغته الرجل ولطمه على فمه ليسكت فسكت، وظل الرجل يضربه بالكف على القفا وهو ساكت، ولم يكف الرجل عن ضربه حتى وقع الصعيدي في أول يومٍ له بأم المدن على الأرض مغشياً عليه، أفاق فوجد حواليه ناساً يجهلهم ويجهل قدر الشر وقدر الخير في نفوسهم ( الشر مطوي داخل كل نفس ولا يعلم مراحل النفوس يا أميري إلا الله ) كان عليه أن يتكلم معهم ليعرف مقاصدهم فتكلم، وكان عليهم أن يردوا على كلامه فردوا، وفهم الصعيدي أن الناس حوله ( متفرج ومشفق ومصلح وناصح )...
قالوا: لا عليك..الرجل شرطة، وقالوا: أنت هنا ولست هناك، ونصحوه أن يغير محل إقامته وقالوا: بسيطة.. شُجّ حاجبك الأيسر، وقالوا ما دمت من صعيد مصر فقل لنا إلى أي طائفة من الصعايدة تريد أن تذهب ؟ وعدّدوا له قومه (باعة خضار وبوابون وعمال بناء وباعة جوّالون).. قال لهم: لا مال معي أشتري به الشيء لأبيعه، وقال لا أملك غير بدني..
قالوا: اذهب إلى عمال البناء، ووصفوا له الطريق. ذهب إلى عمال البناءء وكان النهار قد انقضى فوجدهم قد أشعلوا النار وتحلّقوها. ردّ السلام وقال: أنا ابن فلان. قالوا: أهلاهً أنت منّا. وحكى حكايته. قالوا له: ما حدث لك يا فلان حدث لعبد الحليم أفندي. تحسس جرح وأنّ، قال: ليت أمي ما تزوجت أبي ــ وكان قاعداً فرقد. أقاموه، وسقوه العدس الساخن ودعكوا قدميه بالماء الساخن والملح، ولاموه، لأنه أتى بمفرده، وقالوا له: الأرض مرسومة يا فلان.. ونحن لا نمشي هنا فرادى. وإذا مشينا فنحن قوم نعرف الحد ولا نتجاوز الحدود، واعتذروا عن ضيق ذات اليد، وقالوا: اليوم يوافق قبل نهاية الأسبوع بيوم، وها نحن لا نملك المال لنشتري البن لجرحك، وقام واحد منهم ودفس الرماد في جرحه، ووعدوه بشراء البن لما يقبضوا راتب الأسبوع. وقالوا له: لما ينتهي نهار الغد ينتهي الأسبوع.
ولما انتهى الأسبوع اشترى الصعايدة البن ودفسوه في جرح الصعيدي، واشتروا "منديل محلاوي" وربطوا به الجرح. وتتالت الأسابيع وجاء الشهر وشُفي الصعيدي من جرحه وأورام قدميه وطابت له الحياة مع أهله الصعايدة ــ إلا أنه في الليالي المقمرة كان يتجنبهم وينام مبكراً قبل أن تطلع القَمَرة. وظل يتنقّل معهم من مكان لمكان، ويبني معهم العمارات من الطوب والحديد والرمل والإسمنت ويغني مواويل حمراء ومربعات زرقاء واللوبالي الأخضر، لكنه لم يسمع صوت سواقي أم القرى.
ومن زملاء العمل اختار له معارف من أبناء المدن الحِرفيين سكان الحارات (الحدّادون... النجارون... عمال رصف البلاط... النقّاشون) ويزورهم في بيوتهم، ويشرب معهم ومع نسوتهم الشاي ويأكل مع أطفالهم البطاطا.
دعوه مرة إلى حفل ختان أحياه مطرب بأرغول وراقصة لحمها أبيض تدق الصاجات فيقوم ناس ويقعد ناس. قام مع القائمين وقعد مع القاعدين ــ وكان قد شرب الحشيش مع من شربوا الحشيش، وتذكر أم القرى البعيدة فترحم على روح جدوده وهاجت شجونه وتقدم من الميكروفون وأمسك بشلن ورق وأمر المطرب بالغناء لأم القرى، وتكلم في الميكروفون فلعلع صوته: السلام على الصعايدة الرجال يبنون العمارات ويعمّرون أم المدن. قام واحد من الحرفيين أهل الحيّ ودفع للمغني والراقصة ربع جنيه وتكلم في الميكروفون وقال: السلام على أرباب الحرفة الرجال من أبناء أم المدن فهم الذين يعمّرون أم المدن. وعلى كلام الحرفي قعدت الراقصة تعجن لحمها الأبيض وغنى المغني أغنية.
وكادت تنشب مشادّة بين الحِرفي والصعيدي، لولا الصعيدي العاقل الذي قام ودفع للراقصة والمغني نصف جنيه وقال في الميكروفون: السلام على الجميع.. السلام على كل الحاضرين من صعايدة وأهل حرفة.. السلام على الرجال يبنون العمارات ويعمّرون أم المدن. وقام حرفي خفيف الدم وحيّى الصعيدي العاقل ودفع نصف جنيه للراقصة والمغني، وقال في الميكروفون: الصعايدة ونحن نبني العمارات ونعمر أم المدن ولا نسكن في العمارات.. السلام على سكان العمارات.
فضحك الكل، وهكذا انتهت الليلة بخير.. ومن تلك الليلة وصاحبنا الصعيدي يكلم نفسه: نحن الصعايدة نبني العمارات.. ونحن وأهل الحرفة لا نسكن العمارات، لكننا نحن الصعايدة نترك الصعيدي منا – وهو أكبرنا سناً- على باب كل عمارة نبنيها، وسأل نفسه: متى يأتي دوري لأستريح وأقعد على دكة..
ظل صاحبنا يضرب في المُقبل بعدما طرح ونسي الحاضر، قال: الطيب محمد وقع من فوق إلى تحت فقُصفت رقبته وفقد دوره.. ومحمود الساكت فقد دوره ــ لما قبض عزرائيل روحه وهو نائم.. كذا عبد الباري حين أراد أن يتمخّط وهو قاعدٌ بيننا فتمخط روحه.. يأتي دوري لأصير بواباً قبل عبد الحارس وعبد الملك، وبعد حجاج ومحمود الظني وعبد الحاكم.
وفي نهارٍ مشمس، وكان يطلع الدعامات الخشبية المربوطة بالحبال وعلى كتفيه حمولة الرمل والإسمنت ــ طرح صاحبنا وضرب ونسي الحاضر، قال : لما ننتهي من بناء هذه العمارة سيقعد على بابها عبد الحاكم، ونمضي لنبني العمارة التي سأقعد على بابها أنا فوق دكة من الخشب.
في هذا النهار – يا أميري- ضيع الصعيدي عمره كما ضيعت بائعة اللبن الحمقاء اللبن.
___________
النص مأخوذ من " المختار من روائع القصة العربية الحديثة "، مهرجان القراءة للجميع 2000، ضمن إصدارات مكتبة الأسرة.
وهو ضمن المجموعة القصصية حكايات للأمير حتى ينام