لم يعتبر النقد الأدبي في فرنسا نوعا من الأنواع الأدبية، هذا ما حاول أن يورده برونوتيير Brenetiere في أول مقاله «النقد»، وكما حاول أن يظهره بجلاء في الموسوعة الكبيرة على النحو التالي: «ليس النقد الأدبي نوعا من الأنواع الأدبية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فهو لا يماثل المسرحية أو الرواية، بل هو بالأحرى يقتضي وجود جميع الأنواع الأخرى؛ إنه الشعور الذي يقومها جماليا، إن صح هذا التعبير، والحكم الذي يطلق عليها». لم يعد هذا المفهوم مقبولا اليوم لأن النقد قد تطور في قرننا هذا، إلى درجة أن القرن العشرين أصبح يسمى بقرن النقد. وحيث ازدادت أهمية النقد إلى أن أصبح يجعلنا في دوامة من القلق لأنه أصبح يشمل كل الأنظمة العلمية والفلسفية، كما أصبح أيضا مصدر جل طاقات الأديب شرفا وتقديرا. وعند تصفحنا للنقد المعاصر الجديد نرى أنه تأثر بجل التيارات الفكرية الحديثة مثل: التحليل النفسي أو الماركسية أو البنيوية أو الوجودية…الخ.
وإذا ما نحن طرحنا سؤالا نتقصى فيه اتجاهات النقد الرئيسة يجب علينا أن نعترف بأن خصائص النقد الأدبي تنبع من خصائص الموضوع الذي ينصب عليه العمل الأدبي. والعمل الأدبي هذا موضوع عقلي بصورة محضة، وهذا يعني أنه لا يوجد إلا عند التقاء نشاطين فكريين: نشاط الكاتب ونشاط المتلقي. والنقد الأدبي بهذا المفهوم يختلف عن أشكال النقد الفني المتنوعة التصوير والموسيقى، لأن الحساسية لا تلعب فيه دورا قطعيا. والعمل الأدبي لا وجود له إلا عند التقاء نداءين: النداء الذي ينقله إلى الوجود، وبعبارة أخرى النداء الذي دفع الكاتب إلى خلقه، وكذا النداء الذي يخصنا نحن القراء والذي يطلب منا أن نمنحه جوابا. وجوابنا هذا قد يكون تأييدا أو رفضا، ويمثل أكثر أشكال النقد مباشرة وبساطة.
وعلى هذا النحو فإننا سوف نلاحظ منذ البداية أن النقد يظهر بالمقدار الذي يوجد به العمل الأدبي بالنسبة للمتلقي، وبواسطة هذا القارئ الذي يقرأ الأثر ويعيد خلقه. فالموضوع الذي ينطبق عليه النقد الأدبي يكون إذا ملتبسا بنوع خاص لأن الكاتب في عمله الأدبي [لا يعبر عن نفسه وفي الوقت نفسه يتوجه إلينا ويخاطبنا].
وبهذا المفهوم يتحدد الاتجاه الأول للنقد إزاء العمل الأدبي: فالعمل الأدبي عندما ينظر إليه في حد ذاته أو بعبارة أخرى باعتباره موضوعا مكتفيا بنفسه تكون مهمة النقد في هذه الحالة تصفية محضة، فهو يظهر ويفرز الأنواع من بين الأعمال الأدبية المختلفة، ويبرهن قواعد كل نوع، ويعرض على كل واحد من هذه الأنواع نماذج الكمال. ونحن هنا بصدد نقد مثالي يقوم على مفهوم النموذج الذي يتدخل ليعرض على الكاتب أو ليفرض عليه تقليد هذه النماذج. وهذا النقد يدور حول مفاهيم الروائع والمدارس الأدبية، ويرافقه، بهذا المعنى، تاريخ أدبي يتخذ هدفا له إحصاء هذه الروائع وتحليلها والدراسة المقارنة للمدارس التي تتعاقب أو تتقابل حسب محطات بسيطة من التوالد والتناقض، كالتقدم التقليدي: كلاسيكيـرومانتيكي.
والاتجاه الثاني لم يعد يفسر العمل الأدبي كموضوع طبيعي يتميز عن الموضوعات الأخرى ببعض السمات الجمالية المعترف بها بصورة شاملة، ولكنه أصبح يعتبره نتيجة لنشاط فكري معين. وقد أدى هذا إلى أن الناقد لم يعد يدرس العمل الأدبي كمجموعة من العلامات الموجهة إلى القارئ، ولكن كمجموعة علامات عبر بواسطتها شخص معين عن نفسه. فهنا بالضبط يتغير موضوع اهتمام النقد، ولم يعد يرتكز على العمل الأدبي وحده، ولكن أصبح يعكف على عبور الإنسان إلى عمله الأدبي، وعلى نحو هذه الظروف تتخذ دراسة التراجم الذاتية للكتاب أهمية قصوى في التحقيق. وهكذا تطور نوع من النقد النفسي لم يعد يضع قائمة بالأنواع الأدبية مع تصنيف النماذج لكل نوع، ولكنه صار يهتم بعطاء الكتاب، ويعرض على القارئ مجموعات من الصور الشخصية لتعريفه بأدب الأجيال المتعاقبة والبلدان المختلفة. ففي الحالة الأولى تكون مبادئ النقد جمالية، وفي الثانية تكون المبادئ النقدية نفسية وتاريخية بصورة جوهرية. بمعنى أن فضول النقد انتقل من الأدب إلى الإنسان.
وهذا التطور فتح المجال أمام توسع عظيم في النقد الأدبي الفرنسي، وعلى الخصوص منذ النصف الثاني من قرن التاسع عشر، لأنه حقا، غيّر تقدم دراسة التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتصور التقليدي للإنسان تغييرا عميقا، الشيء الذي أدى إلى تغيير طريقة تفكير العلاقة التي تربط العمل الأدبي بمؤلفه وكذا تطويرها تطويرا محسوسا. وهكذا فالنقاد في هذه الحقبة حاولوا أن يجعلوا النقد علماً من العلوم وليس فناً. وهذا ما جعل سانت بوف يصور المؤلفين ويفسرهم بواسطة خلقهم.
كما حاول تين Taine إخضاع الوقائع الأدبية أو الفنية إلى قوانين معينة،وهو يؤمن بحتمية العرق والوسط واللحظة التاريخية؛ والنقد الأدبي في هذه الفترة اتخذ نموذجا له مثل الإيديولوجيين وأتباع الفلسفة العلمية: أي عبادة الوقائع وتطبيع منهج مقارن مفاده أننا لا نستطيع اكتساب معرفة موضوع معين إلا بالملاحظة أو المقارنة، وفي هذا الصدد، يقول سانت بوف في كتابه أحاديث الاثنين: «في رأيي لا يمكن تعريف كاتب ما بصورة جيدة إلا بعد أن نسمي ونميز إلى جانبه الكتاب القريبين له، والكتاب المناقضين له، ولكن سانت بوف قام من تلقاء نفسه برد فعل ضد نزعة تين الدوغماطيقية، إذ لام تين في إحدى مقالاته عام 1864 على تجاهله أو إهماله الخاصية الفريدة للموهبة».
بعد هذا جاءت مرحلة من المجادلات والحروب الكلامية بين النقاد، خاصة بين النقاد الدوغماطيقين والنقاد الانطباعيين؛ فـبرونوتيير )1849ـ1906( حكم على الأعمال باسم قيم مقدسة. وعلى هذا الاتجاه عارض جول لومتر Jules le maître )1853- 1914( وبقية النقاد الانطباعيين هذه القيم بالتعاطف المباشر وبفن التعبير وذلك بأصدق صورة ممكنة على الانطباعات التي يتركها العمل الأدبي في حساسية كل منا. وهذا يعني أن جول لومتر يستبدل الناقد الذي يحكم على الأعمال الأدبية بإصداره قرارات نهائية وقطعية بالناقد الذي ليس هو في الحقيقة غير قارئ هاوٍ ينقل انطباعاته إلى بقية القراء. وفي هذا الإطار يلومه الخصوم على استسلامه لكله العقلي، ولأنه لا يبحث ولو بمجرد محاولات عن بواعث أكثر عمومية من انطباعاته، أي عن تبريرات تتجاوزها.
وهكذا فالنقد التقليدي أقام ركائزه بصورة ضمنية على بديهيتين: الأولى ترى في العمل الأدبي انعكاسا للوسط ولشخصية الكاتب، وهذا الوسط، وهذه الشخصية نستطيع العثور عليها بفضل المناهج التاريخية. والثانية مفادها أن الكاتب يقول ما يريد قوله، وهذا يعني أن دراسة وسائل تعبير الفنان تسمح باكتشاف شخصيته، وبأن الشفافية تامة وكاملة بين حرفية النص وبين نوايا المؤلف ومقاصده. وهاتان البديهيتان هما اللتان زعزعهما التصور الجديد الذي زودتنا به علوم اللغة والعلوم الإنسانية، وخاصة التحليل النفسي، وهو تصور جديد نفهم بواسطته أنفسنا فهما جديدا. فلم يعد النقد الأدبي اليوم يتجه نحو التاريخ ليضع لنفسه أسسا علمية، وإنما أصبح يتجه نحو العلوم الإنسانية التي تجددت بفضل الماركسية والوجودية والتحليل النفسي وعلوم اللغة.
ونحن نجد رفض النقد المؤسس على التراجم الذاتية لدى جيد أيضا، وأكثر منه لدى فاليري الذين يركزان اهتمامهما على فن الكتابة. وقضية الكاتب بالنسبة لهما هي قضية اللغة ودراسة خصائصها. والناقد المعاصر جيرار جنيت يؤكد على أن الخلق الشخصي بالمعنى الحرفي للكلمة لا يوجد بالنسبة لـفاليري لأن ممارسة الأدب بالنسبة له تقتصر على لعب تركيبي واسع داخل نظام موجود بصورة مسبقة وهو اللغة. وعلى هذا المستوى ذكر لنا فاليري:
«يمكن أن نعتبر اللغة نفسها طرفة من الطرف الأدبية، ما دام كل خلق فني في هذا المجال يخضع ويقتصر على إحداث تركيبات في قوى مفردات اللغة، هذه المفردات المعطاة وفق أشكال مقررة سابقا».
وفي الختام فإن المحاولة الفنية لدى بروست تشابه أحيانا محاولة التحليل النفسي، مع الإبقاء على الفروق الدقيقة الضرورية؛ فهي عودة إلى الأعماق نحو ما لم يستطع العقل المجرد الاستحواذ عليه. وهكذا فقد نادى الأدباء المحدثون في فرنسا بصورة صريحة بالعودة إلى علم نفس الأعماق أو بجعل العمل الأدبي موضوعا ممتازا لعلم شكلي، والكتابة تتساءل، قبل كل شيء، عن واقعة الكتابة نفسها وعن سير لغتها. ورغم هذا يجب أن لا ننسى بأن النقاد الكبار في هذه الحقبة كانوا أيضا شاعرين بهذه المشاكل. فالناقد تيبودي حلل أسلوب فلوبير ووضع أسس ما يمكن أن يكون علم أسلوب حقيقي، وكما حاول أيضا اكتشاف شبكة جذرية من المواضيع لدى هذا الكاتب مستندا إلى بعض الصور الممتازة لديه. كما أن نقد التعاطف الذي نادى به الناقد شارل دي بوس )1882-1939( كان يهدف هو الآخر، مهما كانت انطباعية هذا الناقد إلى اكتشاف قواعد جذرية تنبع لدى الكاتب من تجربته الميتافيزيقية. وقد تأثر هنا نقد التعاطف أو نقد المشاركة الوجدانية بالبرغسونية إلى حد كبير، فقد كان هدفه الأخير-وهي نظرة الكاتب- هو التعبير عن نظرة للعالم ، وبذلك سبق نقد جورج بوليه ونقد جان بيير ريشار.
وأخيرا جاء النقد الوجودي الذي حاول أن يظهر الارتباط بين تقنية الكاتب وبين نظرته للعالم، وهكذا أعلن في بعض الأحيان ما سيكون عليه علم الشكل البنيوي. وبهذا التدريج ظهرت المدارس الحديثة في النقد الأدبي المعاصر، بحيث كان الانتقال من نقد كان يتركز بصورة جازمة في قيمة الأعمال الأدبية إلى نقد يهتم بإبراز كل ما يمكن أن يعبر عنه العمل الأدبي.
هذا الاهتمام بلغ درجة من الصراحة والشمول، حيث انتهى الأمر بهذا النقد إلى أنه لم يعد يقتصر على دراسة الصفة الأدبية للعمل الأدبي فحسب، ولكنه صار يؤسس نفسه كعلم تاريخي، ونفسي، ولغوي، هدفه إظهار الحقيقة.
وفي المجلة الأدبية يقدم لنا ريمون بيلور قراءة لآخر مؤلفات جيرار جنيت: المدخل إلى هندسة النص Introduction à l'Archi Texte، وفي هذا النصيبدي تعجبه من منظري الأدب أمثال: أوستين وارين ـ نورث روب فيراي ـ فيليب لوجين ـ روبيرت شولز ـ هيلين سايكوس ـ تودوروف- مايكل باختين؛ الذين حاولوا إقامة فهمهم لفن الشعر لأرسطو على نقاط ثلاث ليست واردة بالفعل في التقسيم الأرسطي للشعر. فهذا التقسيم الثلاثي بين الغنائي، والملحمي، والدرامي، لا نجده عند أفلاطون أو عند أرسطو. ربما وجدنا عند أفلاطون هذه الثلاثية، ولكنها تقتصر على الشعر الذي هو محاكاة أو تخييل، وقد أوردها أفلاطون على النحو التالي:
«الشعر السردي / ديثرامب / الشعر الدرامي / المأساة والملهاة / الشعر المختلط / الملحمة. أما في فن الشعر لأرسطو فإننا لا نجد النوع الأول. أما النوع المختلط فيصبح عنده سردا، وهو يختلف عن الدرامي الذي يبدو في هيئة ثنائية متعارضة».
ويفسر جنيت ذلك بقوله أن تمييز أفلاطون الديثرامب والملحمة والتراجيديا أثر على نص أرسطو وأضاف إليه ـعند التأويلـ هذا التقسيم الثلاثي الذي لم يفكر فيه، ويبدو أن ذلك تم على ثلاث مراحل… وهكذا نرى امتناع جينيت عن الإصرار على ما وصل إليه نوعا من السخرية من منظري الأدب، ومحاولة للحد من هذه الوضعية العلمية التي تعتقد أن بوسعها إقامة علم الأدب.
فالتعامل مع الأعمال الأدبية بوصفها أسطورة، يعني تحليلها بمعزل عن أي مؤلف، لأن أحدا لا يدعي أن الأسطورة من تأليفه، وهي في الوقت نفسه بناء لغوي. إنها نموذج باهر للبناء اللغوي الذي يشكل كيانا أدبيا موضوعيا مستقلا بذاته. ومن جهة أخرى يرى جنيت أن «علم الأدب البنائي يتجنب كل المحاولات التي تنحو إلى اختزال العمل الأدبي، على نحو ما يصنعه التحليل النفسي أو الشروحات الماركسية. ومع ذلك فإن علم الأدب البنائي يقوم بطريقته الخاصة بنوع من الاختزال الداخلي، بمعنى أنه يصطدم بمادة العمل حتى يصل إلى هيكله العظمي. وهذه العملية ليست في الحقيقة سطحية ، بل هي تمثل ـإلى حد بعيدـ نظرةً حادةً أشبه ما تكون بالأشعة الحمراء التي تستطيع أن تتوغل في أعماق الشيء إذا هي سُلِّطت عليه من الخارج».
إن الوصول إلى هذا الهيكل العظمي للعمل الأدبي ـأو لنقل التزاماً بالمصطلح، هذا النظام الحائر لبنية العمل الأدبيـ لا يمكن أن يكون غاية في ذاته، لأنه من الطبيعي أن ينطوي العمل الأدبي على نظام داخلي، وحين يصبح الكشف عن هذا النظام مُتَضَمَّناً، يكون المنهج البنيوي مبررا، إذ أنه لا يمكن الكشف عن هذا النظام إلا بهذا المنهج.
على أن النقاد البنيويين لا يأخذون على البنيوية ما تنحو إليه من اختزال العمل الأدبي نفسه إلى نظام فحسب، بل يرون أنها تقوم أساسا على تجريد العمل الأدبي من جهتين أخرتين، « فهي تجرد بقدر ما تفصل الإنسان عن نتاجه الحضاري )ومن ثم ينشأ خطر الوقوع في الوهم الشكلي(، وهي تجرد بقدر ما تفصل الإنسان عن نتاجه الحضاري )ومن ثم يهدد اختفاء الإنسان لدى البنيويين لأن يصبح حقيقة».
وليس هدف هذا المقال تقديم عرض للبنيوية فضلا عن نقدها، وإنما كان وقوفنا عنده إدراكنا إلى أي مدى تُبذَل الجهود منذ أكثر من عقدين من الزمان، من أجل إقامة علم للأدب: يجاوز كثيرا كل الطموح العلمي الذي شغل مدرسة النقد الجديد منذ عشرينات هذا القرن، حيث يستقر العمل الأدبي في منظوره كيانا موضوعيا مستقلا قابلا للتحليل والوصف، مع إسقاط كل ركائز المناهج المعيارية، وكل أدواتها وفي مقدمتها الناقد نفسه في صورته التقليدية. إننا لا نجد مكانا لهذا الناقد في كتابات البنيويين ـإن وجدناهـ إلا في الهامش أو الظل، فهو في منظورهم من البقايا المتخلفة من الأزمنة القديمة. واتجاه العناية المتزايد إلى القارئ بدلا من الناقد ـعلى طرافتهاـ تشير في وضوح إلى محاولة تجنب الوقوع في دائرة الأحكام التقويمية، والإعلاء من قيمة الدراسات الوضعية. ومع ذلك لا بد أن نشير هنا إلى حقيقة مهمة، وهي أن كل الدراسات التطبيعية التي قام بها البنيويون لأعمال شعرية أو روائية، قد اختارت نماذجها من كبار الشعراء والروائيين المشهود لهم بالتفوق، وهذا الاختيار نفسه يتضمن التسليم ابتداء بقيمة هذه الأعمال الفنية.
وحقا إن محاولة إخضاع الظاهرة الأدبية، أو الحدث الأدبي لمناهج العلوم الطبيعية، إنما كانت تعبيرا عن إدراك الإنسانيين لتخلف مناهج الدراسات الإنسانية عامة إذا هي قيست بمناهج العلوم الأخرى، الشيء الذي جعلها تحرز تقدما مهما في العصر الحديث؛ ورغبة في هذه المناهج الإنسانية لتجاوز هذا التخلف وذلك باصطناع نفسها التي استخدمت في مجال الطبيعيات. فـجيرار جنيت الناقد الفرنسي المعاصر، استطاع أن يركب مع محللين ومكتشفين النظام أو النظم التي تحكمهم في استخلاص القوانين العامة للأدب وذلك من وراء هذه النظم.
كلنا يعلم أن طبيعة الظاهرة الأدبية تفرض لها وجودا خاصا، لأنها إجماع في شبكة من العلاقات بالغة التعقيد، تضم الذاتي والموضوعي، والفرد المبدع والجمهور المتلقي ومستويات الوعي والمناخ الاجتماعي والبعد التاريخي، وكلهاعناصر مرنة، تتبادل أماكنها من حيث الفاعلية من حالة إلى أخرى. ومن ثم لن يجد علماء الإنسانيات مخرجا من مأزقهم، إلا بأن يطوروا المناهج الإنسانية بما يلائم حقول مادة دراستهم.
وفي هذا الصدد ينبهنا جنيت إلى الانقلاب الذي أحدثه النقد البنيوي: «إذ كل حافزية فردية، تعسفية من الجهة الموضوعية، وذات أساس من الجهة الذاتية يمكن أن تعتبر دليلا على هيئة نفسية. في هذه الحالة ترد الفردية على أسلوبية الذات ما تنتزعه من أسلوبية الموضوع».
إن ما وراء الأشياء والألفاظ، إضافة إلى هذا الذي نجده في القول الشعري، يقتضي منا صياغة مفادها أن: النقد البنيوي هو تنويع لا متناهٍ حول المجازات. نراه فجأة يغوص في المركز الذي تصدر عنه الزمرة كلها. ودراسة مصورات الأشياء عند فوكو شبيهة بنظرتنا إليها.
فكتاب مصورات/ أشكال لـجرار جنيت ـوهذا الذي يعنينا في هذا البحث بالضبطـ هو وبكل تأكيد، أحد المؤلفات الجيدة في هذا النقد. ويحبس النقد قوله مؤقتا على هذه المصورات لكنها في الحقيقة علم لغة توليدي. خير مثال على ذلك، الأثر المفتوحL'œuvre Ouverte لـأمبرتو إيكو Umberto Eco الذي ينشد مواده لا في الرسم أولا، ولكن في الموسيقى الحديثة شتوكهوزه Stockamsen، برغ Berg، بوسور Pousseur، بولز Bouliz. يعني الانفتاح عند الجدل بين المفسر والعمل الأدبي، فكم كان علم اللغات التوليدي يفتح الدلالات بحرية أمام المتكلم، وكذلك الموسيقى الجديدة، كما يريدها فردين في كتابه فن الشعر، وهي لا تتضمن أمرا تطرحه وليس لها من ثقل. وفي إطار فن الشعر أجاب جيرار جنيت: «كنت أود على حد التقريب أن آخذ مقعدي في الحقل النقدي الحديث، وبكل طواعية أعتقد وبصفة قانونية، ومن خلال ما علموني إياه منذ عشرات السنين، بأن طبيعة تسمية الشاعرية، تعني نظرية عامة للأشكال الأدبية. فهذا الاختيار لا يمثل قضية، وكل ما يفهم على أنه ليست هناك شاعرية ممكنة بدون تخطيط مسبق للنقد، أي على الأقل تخطيط للقراءة: فأرسطو كان في بادئ الأمر قارئا مجيدا قبل أن يكون ناقدا مجيدا…».
ويضيف جنيت قوله: «كل هذه مسالك مفتوحة لنقد يستطيع في نفس الوقت أن يرد إلى اللغة أو إلى الكلمة أصالتها؛ وأن يبين مع ذلك الهيئات التي يتعرض فيها المعنى المفتوح للالتحام، وللتاريخ، بقدر ما يصدق أن التاريخ هو الذي يخلق الدلالات ولا يفتحها، كما كان ينبه إلى ذلك كريماس بصدد التاريخ البنيوي. فيما يخص العمل الأدبي، تحاول البنيوية أن تطلعنا على بنية باطنية، وروسيه هو الذي يقدم لنا أفضل تحديد لذلك، وكان قد أعطانا نموذجا لدراسة بنيوية، حين درس الكوكبات الدالة في عصر الباروك في كتابه الأدب الفرنسي الباروكي. ونظرته للأمور تجد نظرة مثيلة لها تقريبا عند جاك أوديبرتي الذي لا ينطلق من حكم مسبق في كتابه موليير. كتاب يعد عجيبة صغرى شمس تشرق: الملك في تراث الباروك البنيوي. ينهض روسيه نهوضا موفقا بمشروع نقد موضوعاتي، إذ يكتب: « ليس من صورة تدرك إلا حيث ترسم توافق أو علاقة، خط قوة، شكل ملازم، لمحة )حضورات( أو أصداء، شبكة توافدات، ربما بنى تلك الثوابت الصورية، وتلك الارتباطات التي تنم عن عالم عقلي يبتدعه من جديد كل فنان حسب حاجاته…».
آه لو لم يكن للنقد أن يصير تلك العين، أو تجميع تلك الرؤى كلها في برج بابلي تقيم فيه، كما يبين فيلم آلان روب غرييه عن المكتبة الوطنية، ذاكرة كل العالم انتصار القول، انتصار العمل. لا يمكن إلغاء الكتابة، وفي النهاية تفرض القراءة نفسها حدثا لا يرد إلى غيره. وفي النهاية أيضا نجد الكلام متمكنا من وجوده، حتى أن دولوز يعترف عند بيير كلوسوفسكي بمجموعات لسانية. ونقول دون تلاعب بالكلام، أنه ليس مستبعدا بين المستحيلات أن يرسم منحنى إجمالي للتطور الذي حصل بين مفهوم مجموعات اللغة، كما كان يقول به اللغويون منذ ثلاثين سنة، والمجموعات اللسانية عند كلوسوفسكي، التي تنبسط في أوضاع لا تحصى، ومراتب أو مستويات المعاني المنضدة بعضها فوق بعض كأنها تأتي من أفواه مرتبة في سماء أرسطاليسية.
نعلم منذ الآن فصاعدا أن النقد الأدبي ليس ما وراء الأدب. نعرف أنه أدب أيضا ولكنه أدب مغاير. فلنكرر… يقول جنيت أننا نكتب هنا فصلا تتعذر كتابته، ونأسف أن لا نضعه في كتاب كامل. منذ قليل قال جورج بوليه يبشرنا بـفلسفة النقد: نتمناها بحرارة، وتجذر الإفادة من المجهود الذي بدله بيير شافر، مثلا في الجمالية العامة، أو في مختلف مجالات الموسيقى والفنون التشكيلية… إن النقد الأدبي والفني في الأيام الأخيرة حتى ما كان على يد الجامعيين أمثال أندري فيال André Vial وفلوشير Fluchére وروبير موزي Robert Mauzi، هو منازعة في الماهو جاهز في العالم السائر على علاته، وهو في الدرجة الأولى بعيد المكانة لكثير من الممارسات النظرية حسب رغبة ألتوسير. «وإلا يصبح كل نقد مصادرة على المطلوب، وحجة لا لشيء يحكم عليه مسبقا على حد قول مانوييل ديريزوهوأحد النقاد الأكثر أصالة بين أولئك الذين ينتمون علنا إلى البنيوية».
لا ندري إلى أين يصير النقد البنيوي؟ هذا هو السؤال الذي يردده جنيت في كل مقابلاته في مجال النقد. فالنقد البنيوي أمين لموضوع الثقافة، ويحاول جهده أن يكون أمينا لموضوع المستقبل. كم من مؤلف ينتظر الولادة! وكم من منظومة تبدي انغلاقا وتعرف مع ذلك كيف تنفتح! وكم لغوي يحاول استنفاذ البنى فيجعلها تتفتح فجأة مثل تلك الزهور التي يتلألأ بها حجر النحات، وتلك العمارات حيث تولد من جديد تحت أثر الدفع غير المنتظر من المعاكسة! تفدي البنيوية شوقا لاستنفاذ صور الشرح، لكنها لا تتحد في هذا الشوق. فكل شيء بداية مستمرة، والبنية الجوهرية تكمن في البداية المتجددة، في فجر الثقافة. هذا ما استطعنا أن نستشفه من مصورات جنيت الناقد الفرنسي الحديث الذي لا يتعصب لأي تيار نقدي كيف ما كان نوعه، ولكنه في الوقت نفسه يريد للنقد أن يتطور بتطور Mode الأعمال الأدبية الأخرى. فإن كان النقد يمثل موضة Modeوهذا ما أظهره لنا جنيت في مجلة: ماكزين ليتيرير، والذي ألح عليه في قضية جد هامة تتمثل في النوع الأدبي، فعلى الناقد أن يطيل النظر في هذه الحركة النقدية الجديدة مع التطلعات المستقبلية التي ربما قد تغير ملامح هذا النقد، أو تطعمه بشتى الميادين اللغوية الحديثة. وبهذا لا يمكن لنا إطلاقا أن نصدر أحكاما جزافية قد تسيء إلى ناقدنا من قريب أو بعيد، سيما أنه يريد أن يبقى سيد الأعمال الأدبية، لأنه يمثل الحكم النّزيه بالنسبة لكل ما استجد في ميدان الأدب.
د. عبد السلام فزازي
- عن ايلاف
وإذا ما نحن طرحنا سؤالا نتقصى فيه اتجاهات النقد الرئيسة يجب علينا أن نعترف بأن خصائص النقد الأدبي تنبع من خصائص الموضوع الذي ينصب عليه العمل الأدبي. والعمل الأدبي هذا موضوع عقلي بصورة محضة، وهذا يعني أنه لا يوجد إلا عند التقاء نشاطين فكريين: نشاط الكاتب ونشاط المتلقي. والنقد الأدبي بهذا المفهوم يختلف عن أشكال النقد الفني المتنوعة التصوير والموسيقى، لأن الحساسية لا تلعب فيه دورا قطعيا. والعمل الأدبي لا وجود له إلا عند التقاء نداءين: النداء الذي ينقله إلى الوجود، وبعبارة أخرى النداء الذي دفع الكاتب إلى خلقه، وكذا النداء الذي يخصنا نحن القراء والذي يطلب منا أن نمنحه جوابا. وجوابنا هذا قد يكون تأييدا أو رفضا، ويمثل أكثر أشكال النقد مباشرة وبساطة.
وعلى هذا النحو فإننا سوف نلاحظ منذ البداية أن النقد يظهر بالمقدار الذي يوجد به العمل الأدبي بالنسبة للمتلقي، وبواسطة هذا القارئ الذي يقرأ الأثر ويعيد خلقه. فالموضوع الذي ينطبق عليه النقد الأدبي يكون إذا ملتبسا بنوع خاص لأن الكاتب في عمله الأدبي [لا يعبر عن نفسه وفي الوقت نفسه يتوجه إلينا ويخاطبنا].
وبهذا المفهوم يتحدد الاتجاه الأول للنقد إزاء العمل الأدبي: فالعمل الأدبي عندما ينظر إليه في حد ذاته أو بعبارة أخرى باعتباره موضوعا مكتفيا بنفسه تكون مهمة النقد في هذه الحالة تصفية محضة، فهو يظهر ويفرز الأنواع من بين الأعمال الأدبية المختلفة، ويبرهن قواعد كل نوع، ويعرض على كل واحد من هذه الأنواع نماذج الكمال. ونحن هنا بصدد نقد مثالي يقوم على مفهوم النموذج الذي يتدخل ليعرض على الكاتب أو ليفرض عليه تقليد هذه النماذج. وهذا النقد يدور حول مفاهيم الروائع والمدارس الأدبية، ويرافقه، بهذا المعنى، تاريخ أدبي يتخذ هدفا له إحصاء هذه الروائع وتحليلها والدراسة المقارنة للمدارس التي تتعاقب أو تتقابل حسب محطات بسيطة من التوالد والتناقض، كالتقدم التقليدي: كلاسيكيـرومانتيكي.
والاتجاه الثاني لم يعد يفسر العمل الأدبي كموضوع طبيعي يتميز عن الموضوعات الأخرى ببعض السمات الجمالية المعترف بها بصورة شاملة، ولكنه أصبح يعتبره نتيجة لنشاط فكري معين. وقد أدى هذا إلى أن الناقد لم يعد يدرس العمل الأدبي كمجموعة من العلامات الموجهة إلى القارئ، ولكن كمجموعة علامات عبر بواسطتها شخص معين عن نفسه. فهنا بالضبط يتغير موضوع اهتمام النقد، ولم يعد يرتكز على العمل الأدبي وحده، ولكن أصبح يعكف على عبور الإنسان إلى عمله الأدبي، وعلى نحو هذه الظروف تتخذ دراسة التراجم الذاتية للكتاب أهمية قصوى في التحقيق. وهكذا تطور نوع من النقد النفسي لم يعد يضع قائمة بالأنواع الأدبية مع تصنيف النماذج لكل نوع، ولكنه صار يهتم بعطاء الكتاب، ويعرض على القارئ مجموعات من الصور الشخصية لتعريفه بأدب الأجيال المتعاقبة والبلدان المختلفة. ففي الحالة الأولى تكون مبادئ النقد جمالية، وفي الثانية تكون المبادئ النقدية نفسية وتاريخية بصورة جوهرية. بمعنى أن فضول النقد انتقل من الأدب إلى الإنسان.
وهذا التطور فتح المجال أمام توسع عظيم في النقد الأدبي الفرنسي، وعلى الخصوص منذ النصف الثاني من قرن التاسع عشر، لأنه حقا، غيّر تقدم دراسة التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتصور التقليدي للإنسان تغييرا عميقا، الشيء الذي أدى إلى تغيير طريقة تفكير العلاقة التي تربط العمل الأدبي بمؤلفه وكذا تطويرها تطويرا محسوسا. وهكذا فالنقاد في هذه الحقبة حاولوا أن يجعلوا النقد علماً من العلوم وليس فناً. وهذا ما جعل سانت بوف يصور المؤلفين ويفسرهم بواسطة خلقهم.
كما حاول تين Taine إخضاع الوقائع الأدبية أو الفنية إلى قوانين معينة،وهو يؤمن بحتمية العرق والوسط واللحظة التاريخية؛ والنقد الأدبي في هذه الفترة اتخذ نموذجا له مثل الإيديولوجيين وأتباع الفلسفة العلمية: أي عبادة الوقائع وتطبيع منهج مقارن مفاده أننا لا نستطيع اكتساب معرفة موضوع معين إلا بالملاحظة أو المقارنة، وفي هذا الصدد، يقول سانت بوف في كتابه أحاديث الاثنين: «في رأيي لا يمكن تعريف كاتب ما بصورة جيدة إلا بعد أن نسمي ونميز إلى جانبه الكتاب القريبين له، والكتاب المناقضين له، ولكن سانت بوف قام من تلقاء نفسه برد فعل ضد نزعة تين الدوغماطيقية، إذ لام تين في إحدى مقالاته عام 1864 على تجاهله أو إهماله الخاصية الفريدة للموهبة».
بعد هذا جاءت مرحلة من المجادلات والحروب الكلامية بين النقاد، خاصة بين النقاد الدوغماطيقين والنقاد الانطباعيين؛ فـبرونوتيير )1849ـ1906( حكم على الأعمال باسم قيم مقدسة. وعلى هذا الاتجاه عارض جول لومتر Jules le maître )1853- 1914( وبقية النقاد الانطباعيين هذه القيم بالتعاطف المباشر وبفن التعبير وذلك بأصدق صورة ممكنة على الانطباعات التي يتركها العمل الأدبي في حساسية كل منا. وهذا يعني أن جول لومتر يستبدل الناقد الذي يحكم على الأعمال الأدبية بإصداره قرارات نهائية وقطعية بالناقد الذي ليس هو في الحقيقة غير قارئ هاوٍ ينقل انطباعاته إلى بقية القراء. وفي هذا الإطار يلومه الخصوم على استسلامه لكله العقلي، ولأنه لا يبحث ولو بمجرد محاولات عن بواعث أكثر عمومية من انطباعاته، أي عن تبريرات تتجاوزها.
وهكذا فالنقد التقليدي أقام ركائزه بصورة ضمنية على بديهيتين: الأولى ترى في العمل الأدبي انعكاسا للوسط ولشخصية الكاتب، وهذا الوسط، وهذه الشخصية نستطيع العثور عليها بفضل المناهج التاريخية. والثانية مفادها أن الكاتب يقول ما يريد قوله، وهذا يعني أن دراسة وسائل تعبير الفنان تسمح باكتشاف شخصيته، وبأن الشفافية تامة وكاملة بين حرفية النص وبين نوايا المؤلف ومقاصده. وهاتان البديهيتان هما اللتان زعزعهما التصور الجديد الذي زودتنا به علوم اللغة والعلوم الإنسانية، وخاصة التحليل النفسي، وهو تصور جديد نفهم بواسطته أنفسنا فهما جديدا. فلم يعد النقد الأدبي اليوم يتجه نحو التاريخ ليضع لنفسه أسسا علمية، وإنما أصبح يتجه نحو العلوم الإنسانية التي تجددت بفضل الماركسية والوجودية والتحليل النفسي وعلوم اللغة.
ونحن نجد رفض النقد المؤسس على التراجم الذاتية لدى جيد أيضا، وأكثر منه لدى فاليري الذين يركزان اهتمامهما على فن الكتابة. وقضية الكاتب بالنسبة لهما هي قضية اللغة ودراسة خصائصها. والناقد المعاصر جيرار جنيت يؤكد على أن الخلق الشخصي بالمعنى الحرفي للكلمة لا يوجد بالنسبة لـفاليري لأن ممارسة الأدب بالنسبة له تقتصر على لعب تركيبي واسع داخل نظام موجود بصورة مسبقة وهو اللغة. وعلى هذا المستوى ذكر لنا فاليري:
«يمكن أن نعتبر اللغة نفسها طرفة من الطرف الأدبية، ما دام كل خلق فني في هذا المجال يخضع ويقتصر على إحداث تركيبات في قوى مفردات اللغة، هذه المفردات المعطاة وفق أشكال مقررة سابقا».
وفي الختام فإن المحاولة الفنية لدى بروست تشابه أحيانا محاولة التحليل النفسي، مع الإبقاء على الفروق الدقيقة الضرورية؛ فهي عودة إلى الأعماق نحو ما لم يستطع العقل المجرد الاستحواذ عليه. وهكذا فقد نادى الأدباء المحدثون في فرنسا بصورة صريحة بالعودة إلى علم نفس الأعماق أو بجعل العمل الأدبي موضوعا ممتازا لعلم شكلي، والكتابة تتساءل، قبل كل شيء، عن واقعة الكتابة نفسها وعن سير لغتها. ورغم هذا يجب أن لا ننسى بأن النقاد الكبار في هذه الحقبة كانوا أيضا شاعرين بهذه المشاكل. فالناقد تيبودي حلل أسلوب فلوبير ووضع أسس ما يمكن أن يكون علم أسلوب حقيقي، وكما حاول أيضا اكتشاف شبكة جذرية من المواضيع لدى هذا الكاتب مستندا إلى بعض الصور الممتازة لديه. كما أن نقد التعاطف الذي نادى به الناقد شارل دي بوس )1882-1939( كان يهدف هو الآخر، مهما كانت انطباعية هذا الناقد إلى اكتشاف قواعد جذرية تنبع لدى الكاتب من تجربته الميتافيزيقية. وقد تأثر هنا نقد التعاطف أو نقد المشاركة الوجدانية بالبرغسونية إلى حد كبير، فقد كان هدفه الأخير-وهي نظرة الكاتب- هو التعبير عن نظرة للعالم ، وبذلك سبق نقد جورج بوليه ونقد جان بيير ريشار.
وأخيرا جاء النقد الوجودي الذي حاول أن يظهر الارتباط بين تقنية الكاتب وبين نظرته للعالم، وهكذا أعلن في بعض الأحيان ما سيكون عليه علم الشكل البنيوي. وبهذا التدريج ظهرت المدارس الحديثة في النقد الأدبي المعاصر، بحيث كان الانتقال من نقد كان يتركز بصورة جازمة في قيمة الأعمال الأدبية إلى نقد يهتم بإبراز كل ما يمكن أن يعبر عنه العمل الأدبي.
هذا الاهتمام بلغ درجة من الصراحة والشمول، حيث انتهى الأمر بهذا النقد إلى أنه لم يعد يقتصر على دراسة الصفة الأدبية للعمل الأدبي فحسب، ولكنه صار يؤسس نفسه كعلم تاريخي، ونفسي، ولغوي، هدفه إظهار الحقيقة.
وفي المجلة الأدبية يقدم لنا ريمون بيلور قراءة لآخر مؤلفات جيرار جنيت: المدخل إلى هندسة النص Introduction à l'Archi Texte، وفي هذا النصيبدي تعجبه من منظري الأدب أمثال: أوستين وارين ـ نورث روب فيراي ـ فيليب لوجين ـ روبيرت شولز ـ هيلين سايكوس ـ تودوروف- مايكل باختين؛ الذين حاولوا إقامة فهمهم لفن الشعر لأرسطو على نقاط ثلاث ليست واردة بالفعل في التقسيم الأرسطي للشعر. فهذا التقسيم الثلاثي بين الغنائي، والملحمي، والدرامي، لا نجده عند أفلاطون أو عند أرسطو. ربما وجدنا عند أفلاطون هذه الثلاثية، ولكنها تقتصر على الشعر الذي هو محاكاة أو تخييل، وقد أوردها أفلاطون على النحو التالي:
«الشعر السردي / ديثرامب / الشعر الدرامي / المأساة والملهاة / الشعر المختلط / الملحمة. أما في فن الشعر لأرسطو فإننا لا نجد النوع الأول. أما النوع المختلط فيصبح عنده سردا، وهو يختلف عن الدرامي الذي يبدو في هيئة ثنائية متعارضة».
ويفسر جنيت ذلك بقوله أن تمييز أفلاطون الديثرامب والملحمة والتراجيديا أثر على نص أرسطو وأضاف إليه ـعند التأويلـ هذا التقسيم الثلاثي الذي لم يفكر فيه، ويبدو أن ذلك تم على ثلاث مراحل… وهكذا نرى امتناع جينيت عن الإصرار على ما وصل إليه نوعا من السخرية من منظري الأدب، ومحاولة للحد من هذه الوضعية العلمية التي تعتقد أن بوسعها إقامة علم الأدب.
فالتعامل مع الأعمال الأدبية بوصفها أسطورة، يعني تحليلها بمعزل عن أي مؤلف، لأن أحدا لا يدعي أن الأسطورة من تأليفه، وهي في الوقت نفسه بناء لغوي. إنها نموذج باهر للبناء اللغوي الذي يشكل كيانا أدبيا موضوعيا مستقلا بذاته. ومن جهة أخرى يرى جنيت أن «علم الأدب البنائي يتجنب كل المحاولات التي تنحو إلى اختزال العمل الأدبي، على نحو ما يصنعه التحليل النفسي أو الشروحات الماركسية. ومع ذلك فإن علم الأدب البنائي يقوم بطريقته الخاصة بنوع من الاختزال الداخلي، بمعنى أنه يصطدم بمادة العمل حتى يصل إلى هيكله العظمي. وهذه العملية ليست في الحقيقة سطحية ، بل هي تمثل ـإلى حد بعيدـ نظرةً حادةً أشبه ما تكون بالأشعة الحمراء التي تستطيع أن تتوغل في أعماق الشيء إذا هي سُلِّطت عليه من الخارج».
إن الوصول إلى هذا الهيكل العظمي للعمل الأدبي ـأو لنقل التزاماً بالمصطلح، هذا النظام الحائر لبنية العمل الأدبيـ لا يمكن أن يكون غاية في ذاته، لأنه من الطبيعي أن ينطوي العمل الأدبي على نظام داخلي، وحين يصبح الكشف عن هذا النظام مُتَضَمَّناً، يكون المنهج البنيوي مبررا، إذ أنه لا يمكن الكشف عن هذا النظام إلا بهذا المنهج.
على أن النقاد البنيويين لا يأخذون على البنيوية ما تنحو إليه من اختزال العمل الأدبي نفسه إلى نظام فحسب، بل يرون أنها تقوم أساسا على تجريد العمل الأدبي من جهتين أخرتين، « فهي تجرد بقدر ما تفصل الإنسان عن نتاجه الحضاري )ومن ثم ينشأ خطر الوقوع في الوهم الشكلي(، وهي تجرد بقدر ما تفصل الإنسان عن نتاجه الحضاري )ومن ثم يهدد اختفاء الإنسان لدى البنيويين لأن يصبح حقيقة».
وليس هدف هذا المقال تقديم عرض للبنيوية فضلا عن نقدها، وإنما كان وقوفنا عنده إدراكنا إلى أي مدى تُبذَل الجهود منذ أكثر من عقدين من الزمان، من أجل إقامة علم للأدب: يجاوز كثيرا كل الطموح العلمي الذي شغل مدرسة النقد الجديد منذ عشرينات هذا القرن، حيث يستقر العمل الأدبي في منظوره كيانا موضوعيا مستقلا قابلا للتحليل والوصف، مع إسقاط كل ركائز المناهج المعيارية، وكل أدواتها وفي مقدمتها الناقد نفسه في صورته التقليدية. إننا لا نجد مكانا لهذا الناقد في كتابات البنيويين ـإن وجدناهـ إلا في الهامش أو الظل، فهو في منظورهم من البقايا المتخلفة من الأزمنة القديمة. واتجاه العناية المتزايد إلى القارئ بدلا من الناقد ـعلى طرافتهاـ تشير في وضوح إلى محاولة تجنب الوقوع في دائرة الأحكام التقويمية، والإعلاء من قيمة الدراسات الوضعية. ومع ذلك لا بد أن نشير هنا إلى حقيقة مهمة، وهي أن كل الدراسات التطبيعية التي قام بها البنيويون لأعمال شعرية أو روائية، قد اختارت نماذجها من كبار الشعراء والروائيين المشهود لهم بالتفوق، وهذا الاختيار نفسه يتضمن التسليم ابتداء بقيمة هذه الأعمال الفنية.
وحقا إن محاولة إخضاع الظاهرة الأدبية، أو الحدث الأدبي لمناهج العلوم الطبيعية، إنما كانت تعبيرا عن إدراك الإنسانيين لتخلف مناهج الدراسات الإنسانية عامة إذا هي قيست بمناهج العلوم الأخرى، الشيء الذي جعلها تحرز تقدما مهما في العصر الحديث؛ ورغبة في هذه المناهج الإنسانية لتجاوز هذا التخلف وذلك باصطناع نفسها التي استخدمت في مجال الطبيعيات. فـجيرار جنيت الناقد الفرنسي المعاصر، استطاع أن يركب مع محللين ومكتشفين النظام أو النظم التي تحكمهم في استخلاص القوانين العامة للأدب وذلك من وراء هذه النظم.
كلنا يعلم أن طبيعة الظاهرة الأدبية تفرض لها وجودا خاصا، لأنها إجماع في شبكة من العلاقات بالغة التعقيد، تضم الذاتي والموضوعي، والفرد المبدع والجمهور المتلقي ومستويات الوعي والمناخ الاجتماعي والبعد التاريخي، وكلهاعناصر مرنة، تتبادل أماكنها من حيث الفاعلية من حالة إلى أخرى. ومن ثم لن يجد علماء الإنسانيات مخرجا من مأزقهم، إلا بأن يطوروا المناهج الإنسانية بما يلائم حقول مادة دراستهم.
وفي هذا الصدد ينبهنا جنيت إلى الانقلاب الذي أحدثه النقد البنيوي: «إذ كل حافزية فردية، تعسفية من الجهة الموضوعية، وذات أساس من الجهة الذاتية يمكن أن تعتبر دليلا على هيئة نفسية. في هذه الحالة ترد الفردية على أسلوبية الذات ما تنتزعه من أسلوبية الموضوع».
إن ما وراء الأشياء والألفاظ، إضافة إلى هذا الذي نجده في القول الشعري، يقتضي منا صياغة مفادها أن: النقد البنيوي هو تنويع لا متناهٍ حول المجازات. نراه فجأة يغوص في المركز الذي تصدر عنه الزمرة كلها. ودراسة مصورات الأشياء عند فوكو شبيهة بنظرتنا إليها.
فكتاب مصورات/ أشكال لـجرار جنيت ـوهذا الذي يعنينا في هذا البحث بالضبطـ هو وبكل تأكيد، أحد المؤلفات الجيدة في هذا النقد. ويحبس النقد قوله مؤقتا على هذه المصورات لكنها في الحقيقة علم لغة توليدي. خير مثال على ذلك، الأثر المفتوحL'œuvre Ouverte لـأمبرتو إيكو Umberto Eco الذي ينشد مواده لا في الرسم أولا، ولكن في الموسيقى الحديثة شتوكهوزه Stockamsen، برغ Berg، بوسور Pousseur، بولز Bouliz. يعني الانفتاح عند الجدل بين المفسر والعمل الأدبي، فكم كان علم اللغات التوليدي يفتح الدلالات بحرية أمام المتكلم، وكذلك الموسيقى الجديدة، كما يريدها فردين في كتابه فن الشعر، وهي لا تتضمن أمرا تطرحه وليس لها من ثقل. وفي إطار فن الشعر أجاب جيرار جنيت: «كنت أود على حد التقريب أن آخذ مقعدي في الحقل النقدي الحديث، وبكل طواعية أعتقد وبصفة قانونية، ومن خلال ما علموني إياه منذ عشرات السنين، بأن طبيعة تسمية الشاعرية، تعني نظرية عامة للأشكال الأدبية. فهذا الاختيار لا يمثل قضية، وكل ما يفهم على أنه ليست هناك شاعرية ممكنة بدون تخطيط مسبق للنقد، أي على الأقل تخطيط للقراءة: فأرسطو كان في بادئ الأمر قارئا مجيدا قبل أن يكون ناقدا مجيدا…».
ويضيف جنيت قوله: «كل هذه مسالك مفتوحة لنقد يستطيع في نفس الوقت أن يرد إلى اللغة أو إلى الكلمة أصالتها؛ وأن يبين مع ذلك الهيئات التي يتعرض فيها المعنى المفتوح للالتحام، وللتاريخ، بقدر ما يصدق أن التاريخ هو الذي يخلق الدلالات ولا يفتحها، كما كان ينبه إلى ذلك كريماس بصدد التاريخ البنيوي. فيما يخص العمل الأدبي، تحاول البنيوية أن تطلعنا على بنية باطنية، وروسيه هو الذي يقدم لنا أفضل تحديد لذلك، وكان قد أعطانا نموذجا لدراسة بنيوية، حين درس الكوكبات الدالة في عصر الباروك في كتابه الأدب الفرنسي الباروكي. ونظرته للأمور تجد نظرة مثيلة لها تقريبا عند جاك أوديبرتي الذي لا ينطلق من حكم مسبق في كتابه موليير. كتاب يعد عجيبة صغرى شمس تشرق: الملك في تراث الباروك البنيوي. ينهض روسيه نهوضا موفقا بمشروع نقد موضوعاتي، إذ يكتب: « ليس من صورة تدرك إلا حيث ترسم توافق أو علاقة، خط قوة، شكل ملازم، لمحة )حضورات( أو أصداء، شبكة توافدات، ربما بنى تلك الثوابت الصورية، وتلك الارتباطات التي تنم عن عالم عقلي يبتدعه من جديد كل فنان حسب حاجاته…».
آه لو لم يكن للنقد أن يصير تلك العين، أو تجميع تلك الرؤى كلها في برج بابلي تقيم فيه، كما يبين فيلم آلان روب غرييه عن المكتبة الوطنية، ذاكرة كل العالم انتصار القول، انتصار العمل. لا يمكن إلغاء الكتابة، وفي النهاية تفرض القراءة نفسها حدثا لا يرد إلى غيره. وفي النهاية أيضا نجد الكلام متمكنا من وجوده، حتى أن دولوز يعترف عند بيير كلوسوفسكي بمجموعات لسانية. ونقول دون تلاعب بالكلام، أنه ليس مستبعدا بين المستحيلات أن يرسم منحنى إجمالي للتطور الذي حصل بين مفهوم مجموعات اللغة، كما كان يقول به اللغويون منذ ثلاثين سنة، والمجموعات اللسانية عند كلوسوفسكي، التي تنبسط في أوضاع لا تحصى، ومراتب أو مستويات المعاني المنضدة بعضها فوق بعض كأنها تأتي من أفواه مرتبة في سماء أرسطاليسية.
نعلم منذ الآن فصاعدا أن النقد الأدبي ليس ما وراء الأدب. نعرف أنه أدب أيضا ولكنه أدب مغاير. فلنكرر… يقول جنيت أننا نكتب هنا فصلا تتعذر كتابته، ونأسف أن لا نضعه في كتاب كامل. منذ قليل قال جورج بوليه يبشرنا بـفلسفة النقد: نتمناها بحرارة، وتجذر الإفادة من المجهود الذي بدله بيير شافر، مثلا في الجمالية العامة، أو في مختلف مجالات الموسيقى والفنون التشكيلية… إن النقد الأدبي والفني في الأيام الأخيرة حتى ما كان على يد الجامعيين أمثال أندري فيال André Vial وفلوشير Fluchére وروبير موزي Robert Mauzi، هو منازعة في الماهو جاهز في العالم السائر على علاته، وهو في الدرجة الأولى بعيد المكانة لكثير من الممارسات النظرية حسب رغبة ألتوسير. «وإلا يصبح كل نقد مصادرة على المطلوب، وحجة لا لشيء يحكم عليه مسبقا على حد قول مانوييل ديريزوهوأحد النقاد الأكثر أصالة بين أولئك الذين ينتمون علنا إلى البنيوية».
لا ندري إلى أين يصير النقد البنيوي؟ هذا هو السؤال الذي يردده جنيت في كل مقابلاته في مجال النقد. فالنقد البنيوي أمين لموضوع الثقافة، ويحاول جهده أن يكون أمينا لموضوع المستقبل. كم من مؤلف ينتظر الولادة! وكم من منظومة تبدي انغلاقا وتعرف مع ذلك كيف تنفتح! وكم لغوي يحاول استنفاذ البنى فيجعلها تتفتح فجأة مثل تلك الزهور التي يتلألأ بها حجر النحات، وتلك العمارات حيث تولد من جديد تحت أثر الدفع غير المنتظر من المعاكسة! تفدي البنيوية شوقا لاستنفاذ صور الشرح، لكنها لا تتحد في هذا الشوق. فكل شيء بداية مستمرة، والبنية الجوهرية تكمن في البداية المتجددة، في فجر الثقافة. هذا ما استطعنا أن نستشفه من مصورات جنيت الناقد الفرنسي الحديث الذي لا يتعصب لأي تيار نقدي كيف ما كان نوعه، ولكنه في الوقت نفسه يريد للنقد أن يتطور بتطور Mode الأعمال الأدبية الأخرى. فإن كان النقد يمثل موضة Modeوهذا ما أظهره لنا جنيت في مجلة: ماكزين ليتيرير، والذي ألح عليه في قضية جد هامة تتمثل في النوع الأدبي، فعلى الناقد أن يطيل النظر في هذه الحركة النقدية الجديدة مع التطلعات المستقبلية التي ربما قد تغير ملامح هذا النقد، أو تطعمه بشتى الميادين اللغوية الحديثة. وبهذا لا يمكن لنا إطلاقا أن نصدر أحكاما جزافية قد تسيء إلى ناقدنا من قريب أو بعيد، سيما أنه يريد أن يبقى سيد الأعمال الأدبية، لأنه يمثل الحكم النّزيه بالنسبة لكل ما استجد في ميدان الأدب.
د. عبد السلام فزازي
- عن ايلاف