«ما تعمل لنا شاي يا جرجس».
«دلوقت يا ريس؟».
«وماله؟».
«ده النهار قرب يطلع!».
«قوم يا أخي. قوم اعمل الشاي وتعالى استلم الدرج».
«كويس إنك فاكر. أنا قلت إنك نسيت».
«نسيت إيه وافتركت إيه يا جرجس؟ هو عهدة؟»
«مش قصدي».
«أمال إيه بس؟»
وضع سيجارته القصيرة السوداء بين شفتيه الممتلئتين.
كان العم جرجس قد وعدني بدرجه القديم لكي أضع فيه كتبي، وذلك بعد أن يستلم درج العم بيومي عند رحيله. وفي أول الليل، زارنا العم آدم وعدد آخر من زملاء الليلي القدامى الذين ودعوا العم بيومي ثم صعدوا إلى مكاتبهم. بعد ذلك انتهينا من تغيير الأختام وإغلاق دفتر الأحوال، ولم يعد أمامنا إلا وقت قليل لكي نخرج ثلاثتنا إلى الحوش وننتظر أول القادمين من وردية الصباح تحت الشجرة الكبيرة التي تحتلها العصافير.
وقال العم جرجس وهو يصب الشاي:
«شاي الوداع يا ريس».
التفت العم بيومي إلي وقال:
«وداع إيه يا ريس؟ هو أنا حاموت؟».
وقال العم جرجس ضاحكًا:
«ألف سلامة عليك يا ريس».
«لعلمك بقى، أنا في البيت باشرب شاي أكتر من هنا».
ومد يده إلى المفتاح النحاسي البلدي بمقبضه البيضاوي المشغول، وأداره في ثقب الدرج بمقدمته الجوزية النظيفة، وجذبه قليلًا إلى الخارج، وتناول علبة الكبريت، وأشعل السيجارة. ولمحت مجموعة من المظاريف الحكومية الممتلئة، واللفافات والعلب الورقية المرتبة بعناية. وجذب الدرج أكثر، واستطعت أن أرى كرة من الخيط الحريري الأبيض، وزجاجات صغيرة مغلقة، ومقص معدني دقيق، وكمية من الأقلام الخشبية. تناول العم بيومي أحد المظاريف، وأغلق الدرج مرة أخرى.
أخرج من المظروف صورة جماعية باهتة، تفرج عليها وقال:
«مين ده يا جرجس؟».
وقام العم جرجس من على الدكة الخشبية واقترب وهو يجفف أنفه بمنديله، وقال:
«وريني».
ومد يده، ولكن العم بيومي أبعدها، وبدأ يشير بإصبعه، ويوجه الكلام إلي:
«ده الخواجة شقال».
وقال العم جرجس:
«والجنرال متولي».
«وخالد ومحيي الأسمر، وحسن بحر، والريس ماكميلان».
وقال العم جرجس:
«أنا أهو».
كان في مثل سني. شعره مصفف كما هو الآن، ولكنه أسود، وسترته مفتوحة.
«والريس بيومي أهه».
كان العم بيومي أطولهم، يقف معتدلًا في طرف الصورة، ويبتسم.
وقال العم جرجس:
«أمال من ده؟»
«مش عارف مين ده».
«الله. ده المرحوم صالح».
«أيوه. صالح توفيق». والتفت إلي: «مات على الدكة دي. وده أنجلو، الشاعر»، وابتسم: «صاحب الدرج ده».
وأعاد الصورة إلى مكانها، وجذب الدرج أكثر، ووضع المظروف، ثم أعاد جذبه عن آخره. كان عميقا على نحو غريب، يمتد بعرض الطاولة ذات السطح الداكن المصقول، وبدأ يفحص العبوات الورقية والعلب المدورة القديمة التي امتلأت بزاد الليل. وفاحت روائح الفلفل الأسود المطحون والملح والشطة الناعمة والكمون والشاي والبن المحوج وزجاجات الزيت الحار والصمغ البلدي والخل والسبرتو الأحمر وجوز الطيب. كان يفض كل عبوة على حدة ويشمها ثم يعيدها إلى مكانها بحرص ودون تعليق، وتناول مظروفًا آخر وفتحه، وأخرج منه ورقة مطوية ومصقولة، ما أن فردها حتى كادت تنفصل إلى أربعة أقسام.
«شوف برقيات التهاني بتاعة زمان».
كانت نموذجًا قديمًا، ومصفرًا، في أعلاها صورة لولد وبنت يحملان باقة من الورود الملونة. وكانت عبارات التهنئة واسم «ماركوني» مطبوعة كلها بالإنجليزية، وطواها بعناية داخل المظروف، وأعاده إلى مكانه.
وقال العم جرجس:
«ما تدينا قلمين من دول».
«إنت بتكتب برصاص يا جرجس؟».
ابتسم العم جرجس ولم يرد.
«بتكتب بكوبيا؟».
«لا».
«طيب دول بقى أقلام رصاص، وأقلام كوبيا».
«للعيال يا ريس».
«حاضر يا سيدي. حاضر».
وأغلق الدرج بالمفتاح، ووضعه في جيب سترته، ونظر إلى ساعته وهو يقوم واقفًا:
«ياه، دي وردية الصبح قربت توصل».
وسبقنا إلى الخارج.
* النص مأخوذ عن:
وردية ليل، الطبعة الأولى/ ١٩٩٢. دار شرقيات للنشر والتوزيع. ص٢٧-٣٠
«دلوقت يا ريس؟».
«وماله؟».
«ده النهار قرب يطلع!».
«قوم يا أخي. قوم اعمل الشاي وتعالى استلم الدرج».
«كويس إنك فاكر. أنا قلت إنك نسيت».
«نسيت إيه وافتركت إيه يا جرجس؟ هو عهدة؟»
«مش قصدي».
«أمال إيه بس؟»
وضع سيجارته القصيرة السوداء بين شفتيه الممتلئتين.
كان العم جرجس قد وعدني بدرجه القديم لكي أضع فيه كتبي، وذلك بعد أن يستلم درج العم بيومي عند رحيله. وفي أول الليل، زارنا العم آدم وعدد آخر من زملاء الليلي القدامى الذين ودعوا العم بيومي ثم صعدوا إلى مكاتبهم. بعد ذلك انتهينا من تغيير الأختام وإغلاق دفتر الأحوال، ولم يعد أمامنا إلا وقت قليل لكي نخرج ثلاثتنا إلى الحوش وننتظر أول القادمين من وردية الصباح تحت الشجرة الكبيرة التي تحتلها العصافير.
وقال العم جرجس وهو يصب الشاي:
«شاي الوداع يا ريس».
التفت العم بيومي إلي وقال:
«وداع إيه يا ريس؟ هو أنا حاموت؟».
وقال العم جرجس ضاحكًا:
«ألف سلامة عليك يا ريس».
«لعلمك بقى، أنا في البيت باشرب شاي أكتر من هنا».
ومد يده إلى المفتاح النحاسي البلدي بمقبضه البيضاوي المشغول، وأداره في ثقب الدرج بمقدمته الجوزية النظيفة، وجذبه قليلًا إلى الخارج، وتناول علبة الكبريت، وأشعل السيجارة. ولمحت مجموعة من المظاريف الحكومية الممتلئة، واللفافات والعلب الورقية المرتبة بعناية. وجذب الدرج أكثر، واستطعت أن أرى كرة من الخيط الحريري الأبيض، وزجاجات صغيرة مغلقة، ومقص معدني دقيق، وكمية من الأقلام الخشبية. تناول العم بيومي أحد المظاريف، وأغلق الدرج مرة أخرى.
أخرج من المظروف صورة جماعية باهتة، تفرج عليها وقال:
«مين ده يا جرجس؟».
وقام العم جرجس من على الدكة الخشبية واقترب وهو يجفف أنفه بمنديله، وقال:
«وريني».
ومد يده، ولكن العم بيومي أبعدها، وبدأ يشير بإصبعه، ويوجه الكلام إلي:
«ده الخواجة شقال».
وقال العم جرجس:
«والجنرال متولي».
«وخالد ومحيي الأسمر، وحسن بحر، والريس ماكميلان».
وقال العم جرجس:
«أنا أهو».
كان في مثل سني. شعره مصفف كما هو الآن، ولكنه أسود، وسترته مفتوحة.
«والريس بيومي أهه».
كان العم بيومي أطولهم، يقف معتدلًا في طرف الصورة، ويبتسم.
وقال العم جرجس:
«أمال من ده؟»
«مش عارف مين ده».
«الله. ده المرحوم صالح».
«أيوه. صالح توفيق». والتفت إلي: «مات على الدكة دي. وده أنجلو، الشاعر»، وابتسم: «صاحب الدرج ده».
وأعاد الصورة إلى مكانها، وجذب الدرج أكثر، ووضع المظروف، ثم أعاد جذبه عن آخره. كان عميقا على نحو غريب، يمتد بعرض الطاولة ذات السطح الداكن المصقول، وبدأ يفحص العبوات الورقية والعلب المدورة القديمة التي امتلأت بزاد الليل. وفاحت روائح الفلفل الأسود المطحون والملح والشطة الناعمة والكمون والشاي والبن المحوج وزجاجات الزيت الحار والصمغ البلدي والخل والسبرتو الأحمر وجوز الطيب. كان يفض كل عبوة على حدة ويشمها ثم يعيدها إلى مكانها بحرص ودون تعليق، وتناول مظروفًا آخر وفتحه، وأخرج منه ورقة مطوية ومصقولة، ما أن فردها حتى كادت تنفصل إلى أربعة أقسام.
«شوف برقيات التهاني بتاعة زمان».
كانت نموذجًا قديمًا، ومصفرًا، في أعلاها صورة لولد وبنت يحملان باقة من الورود الملونة. وكانت عبارات التهنئة واسم «ماركوني» مطبوعة كلها بالإنجليزية، وطواها بعناية داخل المظروف، وأعاده إلى مكانه.
وقال العم جرجس:
«ما تدينا قلمين من دول».
«إنت بتكتب برصاص يا جرجس؟».
ابتسم العم جرجس ولم يرد.
«بتكتب بكوبيا؟».
«لا».
«طيب دول بقى أقلام رصاص، وأقلام كوبيا».
«للعيال يا ريس».
«حاضر يا سيدي. حاضر».
وأغلق الدرج بالمفتاح، ووضعه في جيب سترته، ونظر إلى ساعته وهو يقوم واقفًا:
«ياه، دي وردية الصبح قربت توصل».
وسبقنا إلى الخارج.
* النص مأخوذ عن:
وردية ليل، الطبعة الأولى/ ١٩٩٢. دار شرقيات للنشر والتوزيع. ص٢٧-٣٠