في مطلع الثمانينيات بدأ الاهتمام الحقيقي بعلم السرد· لقد ظهرت نخبة من المتخرجين من الجامعة الأوروبية، والجامعة الفرنسية تحديدا، وأعادت النظر في طرائق دراسة العمل الأدبي لتخليصه من إرث بعض القراءات التي أسست على الأيديولوجية بمفهومها الظرفي الذي ارتبط بسياقات تاريخية محددة·
لقد ظلت الرواية في قبضة الأيديولوجي، وعادة ما أهملت أدبيتها لحساب الموضوعات والمواقف والرؤى، ما أسهم بشكل ما، في ظهور جدل ضحى بالجمال والأشكال، باستثناء دراسات قليلة اقتربت من الجوانب الفنية، في غياب الانضباط المنهجي وصفاء المفاهيم (1)، لكنها تظل، مهما كان الأمر، جهودا أسهمت في التأسيس لنقاش حول راهن الرواية وأفقها في السبعينيات ومطلع الثمانينيات·
ثمة حاليا عدول بيّن عن الخطى المرتبكة التي ميّزت النقد لفترة قاربت الثلاثين سنة· بيد أن هذا العدول بدوره ليس بديلا سماويا للمقاربات السابقة التي اجتهدت وفق قناعاتها·
تبدو العناية بعلم السرد في طريقها نحو احترافية واضحة المعالم من حيث المفاهيم والحقول المصطلحية الدقيقة إلى حدّ ما، بسبب الاستفادة من الدراسات الغربية في لغتها الأصلية، أو التي نقلت إلى العربية، إضافة إلى الجهود العربية في المناهج الجديدة التي استفادت من اللسانيات·
النقد الجامعي وعرض الشكل السردي
قدّمت في الجامعة عشرات الرسائل التي تناولت الرواية من منظور سردي، ونقصد هاهنا البحث عن التمفصلات السردية المنتجة للخطاب وأهم مميّزاتها، على مستوى التجليات على الأقل·
يبرز المنحى العام لهذه الدراسات اهتمامها بالعرض، أي بوصف الأشكال الناقلة للمعاني: الأنواع السردية، المستويات السردية، الوظائف السردية، الساردون، وقد تعنى أحيانا بلغة السرد وتبايناتها، دون أيّ تعليق أو استثمار لساني أو فني·
يلاحظ على هذه الدراسات توظيفها الدقيق لجهاز مصطلحي ومفهومي مؤسس على الطرح الغربي وبحوثه الجديدة في الحقول السردية والسيميائية واللسانية بشكل عام·
قام هذا النوع من النقد المتخصص بتفكيك البنى السردية إلى أجزاء، وقسّم الأجزاء إلى أجزاء، ليقدم الأثر في شكل مجموعة جداول تعكس كيفيات انتظامه سرديا: سرد تابع، سرد لاحق، سرد آني، سرد بطيء، سرد سريع، سرد من الدرجة الأولى، سرد من الدرجة الثانية، سارد داخل حكائي، سارد خارج حكائي، سارد متباين حكائي، سارد متماثل حكائي··· إلخ·
والظاهر أن هذه الدراسات، في مجملها، اتكأت على مقاربات جيرار جينيت في خطاب الحكاية، وبول ريكور في الزمن والقصة، إضافة إلى ما قدمه كل من ألبيريس وميشال بوتور·
بيد أن هيمنة الدراسة الجامعية لجيرار جينيت وجّهت التلقي السردي وجهة تقنية بيّنة، إذ أن بصماته تبدو واضحة المعالم في أغلب الاجتهادات المقدمة لنيل شهادات عليا (وستتواتر طروحاته في الملتقيات الوطنية والدولية وفي المقالات المنشورة في مختلف المجلات (2)·
سيطبق هذا المنهج ومصطلحاته على الرواية بصرامة أكاديمية واضحة، سواء تعلّق الأمر بالكتاب الأوائل: الطاهر وطار، عبد الحميد بن هدوقة، رشيد بوجدرة، محمد ديب، كاتب ياسين، مالك حدّاد، مرزاق بقطاش، الأعرج واسيني، جيلالي خلاص، محمد مفلاح، الحبيب السائح، الأمين الزاوي، أو الجيل الجديد: عياشي حميدة، بشير مفتي، ياسمينة صالح، عز الدين جلاوجي، عز الدين ميهوبي، إضافة إلى أسماء روائية كثيرة·
أغلب هذه الدراسات بقي متداولا في الجامعة، في أدراج المكتبة وفي قاعات المحاضرات، لكن المكتبة العامة لم تستفد من هذه التجربة بالنظر إلى سياسة النشر، وما نشر لم يوزع على المستويين المغاربي والعربي، ولم يوزع على جهات الوطن، ومن ثمة محدودية تأثيره، ما عدا عندما يتعلق الأمر بالأسماء المكرّسة نقديا، على غرار عبد الحميد بورايو، رشيد بن مالك، حسين خمري، أو بالنسبة للذين نشروا خارج البلد: سوريا، لبنان، الإمارات العربية المتحدة·
مع ذلك سيظل هذا التأثير نسبيا، في دائرة مغلقة تخص الجامعة والمخابر والأكاديميين، وعلماء السرد لأن احترافية علم السرد قد لا تعني الروائيين أبدا، وهذه أهمّ إشكالية تواجه هذه الدراسات·
طبيعة المنهج
إن الميل الكبير لعلم السرد نحو المقاربات التقنية جعله يركز على أرمادة من المصطلحات المعقدة التي قد تفيد الباحث في ضبط منطق السرد وكيفياته، ولابدّ أن هذه المعرفة ستؤهله إلى توسيع مداركه من أجل تحكم أكبر في الأجهزة التي ينتظم وفقها الفعل السردي وفلسفته (إن كانت هناك فلسفة سردية واعية)، لأن هناك فجوات كثيرة مسكوت عنها بحكم طبيعة المنهج وإكراهاته·
إن الطبيعة الواصفة للمنهج تحتم عليه عرض العمل الروائي في بنياته السردية المختلفة، دون أيّ تقييم أو تقويم، ما يعني أن العرض الحيادي للأثر لا يخدم مستقبل الرواية من حيث أنه لا يرى إلا ما هو قائم، ومن هنا فإنه لا يقترح أبدا ما يجب اقتراحه على صاحب الرواية رغم نيته في ذلك·
تمت الإشارة إلى هذه المعضلة في عدّة مناسبات: ماذا يقدّم علم السرد للرواية؟ شأنه شأن السيمياء·
لا تميز نوعية هذه الدراسات بين الطاهر وطار وبين مبتدئ له نصّ عبارة عن أخطاء مركبة، ولا بين رشيد بوجدرة وبين من طبع رواية تعيسة على نفقاته الخاصة بدار نشر مغمورة لا تتوفر لا على مقرّ ولا على لجنة قراءة مؤهلة، والأمثلة على ذلك كثيرة·
لقد جنت طبيعة المنهج، في بعض جوانبها، على العمل الروائي، عندما اعتمدت التطبيقات الآلية لمنظورات غيرية لها ما يسوّغها مرجعيا ووظيفيا وتداوليا·
يبدو لنا علم السرد غاية في الأهمية لمقدرته المذهلة على تفكيك العمل الروائي وجدولة أجزائه وتصنيفها، وتكمن أهميته الأخرى في القدرة على التمييز الدقيق بين نوع سردي وآخر، وهذا أمر جدير بالثناء، لكننا نلاحظ أنه يتوقف في المرحلة الحساسة التي تتطلب موقفا أو تعليقا أو رؤية·
يتطلب الموقف نوعا من العصيان، تمرّدا على حدود المنهج وصرامته، كما يتطلب أيضا، وهذا هو الأهم، أثاثا معرفيا يسوّغ موقف الناقد ويبرّره فنيا وجماليا تأسيسا على الزاد السردي في سيرورته من أجل تفادي الأحكام الصنمية التي تصدر عن قلّة معرفة·
أمّا راهن النقد السردي، كما هو مفهوم حاليا، وكما يمارس، فإنه يبرز انسحابه الجذري من فرضية تقديم خدمة للرواية، بالنظر إلى هويته ومجالات تحركه وأهدافه· إن تأسيسه على الكيف، كيفية المعنى وكيفية الحكي وكيفيات التمفصل سيجعله نقدا عديم المسؤولية، بانتظار آفاق أخرى وأدوات إجرائية مختلفة تخرجه من السجن الذي خلقه لنفسه·
الروائي والموقف السردي
تضاف إلى إشكالية راهن علم السرد، كموقف حيادي يعنى بالتجليات العينية كما هي، علاقة الروائي بهذه الدراسات الجديدة الموغلة في تفاصيل الجملة السردية وهيئتها·
تتمثل أسوأ خدمة جليلة تقدمها للروائي في الإشارة إلى فجواته الفرضية، فالروائي مخلوق استثنائي نزل من السماء وفي قلمه بلاغة الخالق وملكة المخلوقات قاطبة· إن هذه النزعة الاستعلائية هي السائدة، ولا يمكن لأي نقد، مهما كانت عبقريته، ترميم الفجوات المتواترة في النص الروائي القديم والجديد·
النقد عدوّ مبين على جميع الأصعدة وفي كلّ الأوقات· أما عندما يتعلق بكيفيات استقبال علم السرد للنص السردي فتلك مسألة أخرى أكثر تعقيدا·
عادة ما تهتم الدراسات السردية الراهنة على مدوّنة مصطلحية مركبة استقت من البلاغة والنحو واللسانيات والمنطق والرياضيات ومختلف العلوم الأخرى، وقد تترجم إلى العربية بأشكال متباينة، فيها الخطأ والصواب والغموض والملابسات الكثيرة التي تغيّب المعنى أكثر مما تجليه (3)·
هناك اهتمام راهن بمفاهيم السرد ومصطلحاته الكثيرة، أكثر من الاهتمام بالرواية من حيث أنها موضوع الدراسة، لقد غدت الرواية في الدرجة الثانية أو الثالثة·
وسنجد المفاهيم والمصطلحات تتبوأ الممارسة النقدية، ما يسهم في اتساع المسافة بين الرواية والنقد ما لم نفكر في أرضية مشتركة، ولو مؤقتا، من أجل ترميم الفجوة التي تفصل النقد السردي عن المدونة الروائية·
يعترف الطاهر وطار بعدم اهتمامه بهذا النوع من المقاربات في ندوة أكاديمية بالجامعة: ''لو كنت أعرف بأن رواياتي تدرس بهذه الطريقة لما كتبت رواية واحدة''·
الموقف ذاته بالنسبة للروائي مرزاق بقطاش: ''هذا النقد لا يغني ولا يقدم لي شيئا، وكونه يأتي بعد نشر رواياتي فإنه لا يفيدني في شيء''·
يمكننا تعميم ذلك، ودون أي تردد، على الموقف العام للروائيين الذين يجدون صعوبة كبيرة في فهم ما يكتب عن أعمالهم الإبداعية: إنهم يرون في الدراسات السردية مجموعة من الترسيمات والطلاسم التي يتعذر القبض على معانيها ومقاصدها، وهم ملزمون، والحال هذه، بتكريس نشاط ذهني زائد، للاقتراب من تحليلات واصفة قد لا تفيدهم أصلا·
مأزق الدراسات السردية ومستقبل الرواية
يمكننا التأكيد على انمحاء شبه كلي للمجاورات والتماسات بين الدراسة السردية وانشغالات الروائيين في السنوات الأخيرة، وقد ينطبق ذلك على البلاد العربية قاطبة·
الروائيون مقتنعون بأنهم يستفيدون من الإبداعات الغربية، يعرفون السرد من خلال قراءة الأعمال الأمريكية والأوروبية والهالات العالمية: تولستوّي، دوستويفسكي جيمس جويس، وليم فوكيز، غابريال غارسيا ماركيز، مارسيل بروست، خوليو كورتزار·
هناك بدائل عينية تدعمهم وتسهم في تقوية المتخيّل السردي لديهم، وأفضل طريقة هي القراءة والاستيراد وغربلة المستورد لتوطينه·
أما الأشكال السردية فتكتسب بالتجربة والممارسة، بالمحاكاة والتجاوز والمراجعة المستمرة لما تمّ إنجازه في سياقات تاريخية فرضت خيارات سردية لها ما يبررها اجتماعيا وذاتيا·
وإذا كان الكاتب لا يستوعب ما يكتب عن أعماله، فمعنى ذلك أن هناك خللا كبيرا في علاقة الكتابة الإبداعية بالنقد كما هو متصور وممارس حاليا في الجامعة وفي المجلات المتخصصة أو المحكمة· ما عدا إن كان هذا النوع النقدي موجّها لتحضير شهادات أو لتأليف كتب لا تفيد مستقبل الإبداع الروائي، بقدر ما تفيد نخبة متمكنة من المنهج لأغراض مهنية·
تقفيلة: البحث عن استراتيجية جديدة
أصبحت مسألة البحث عن استراتيجية جديدة لربط علم السرد بالرواية الجزائرية مسألة أكيدة سيكتشف ضرورتها نقاد الرواية من أجل التقريب بين عالمين متباعدين ومتنافرين إلى حدّ كبير (4)·
لا مجال للهرب من الظلام بالجري في الظلام· يبدو أن النقد السردي بحاجة إلى مراجعة منطلقاته وأهدافه إذا كان يرغب في تقديم قبس للرواية، كما أن الرواية بحاجة إلى أن تعرف نفسها وشكلها وتفاصيلها بالالتفات إلى الجهود النقدية، ولو قليلا جدا، ووحده هذا التناغم قادر على المزاوجة بين الجهدين المتخاصمين بطريقة تقلّل من جدوى الكتابة والقراءة معا وتدفع إلى شيء من العبث عند هذا وذاك·
والحال أن هذه الصورة القاتمة هي التي تميّز الساحة الأدبية حاليا، مع استثناءات قليلة ليست ذات تأثير كبير، ويمثل هذا الاستثناء الروائيون الذين يساهمون في الحركة النقدية، أو النقاد الذين يكتبون الرواية، وهم على قلّتهم يحاولون التوفيق بين هذين القطبين بحثا عن تحسين العلاقة بينهما·
1 هناك مجموعة من الدراسات قام بها عبد الله ركيبي ومحمد مصايف وعمر بن قينة·
2 أشير إلى المجلات التي كنت فيها رئيس تحرير أو مدير تحرير: القصة، الخطاب، معارف، آمال، المعنى، التبيين·
3 أنظر كتابنا: الترجمة والمصطلح، دار العلوم ناشرون، بيروت .2009
4 تناولنا هذا الموضوع قبل سنوات في كتابنا: ''السرد ووهم المرجع''، وهو مجموعة من المقاربات السردية للرواية الجزائرية·
لقد ظلت الرواية في قبضة الأيديولوجي، وعادة ما أهملت أدبيتها لحساب الموضوعات والمواقف والرؤى، ما أسهم بشكل ما، في ظهور جدل ضحى بالجمال والأشكال، باستثناء دراسات قليلة اقتربت من الجوانب الفنية، في غياب الانضباط المنهجي وصفاء المفاهيم (1)، لكنها تظل، مهما كان الأمر، جهودا أسهمت في التأسيس لنقاش حول راهن الرواية وأفقها في السبعينيات ومطلع الثمانينيات·
ثمة حاليا عدول بيّن عن الخطى المرتبكة التي ميّزت النقد لفترة قاربت الثلاثين سنة· بيد أن هذا العدول بدوره ليس بديلا سماويا للمقاربات السابقة التي اجتهدت وفق قناعاتها·
تبدو العناية بعلم السرد في طريقها نحو احترافية واضحة المعالم من حيث المفاهيم والحقول المصطلحية الدقيقة إلى حدّ ما، بسبب الاستفادة من الدراسات الغربية في لغتها الأصلية، أو التي نقلت إلى العربية، إضافة إلى الجهود العربية في المناهج الجديدة التي استفادت من اللسانيات·
النقد الجامعي وعرض الشكل السردي
قدّمت في الجامعة عشرات الرسائل التي تناولت الرواية من منظور سردي، ونقصد هاهنا البحث عن التمفصلات السردية المنتجة للخطاب وأهم مميّزاتها، على مستوى التجليات على الأقل·
يبرز المنحى العام لهذه الدراسات اهتمامها بالعرض، أي بوصف الأشكال الناقلة للمعاني: الأنواع السردية، المستويات السردية، الوظائف السردية، الساردون، وقد تعنى أحيانا بلغة السرد وتبايناتها، دون أيّ تعليق أو استثمار لساني أو فني·
يلاحظ على هذه الدراسات توظيفها الدقيق لجهاز مصطلحي ومفهومي مؤسس على الطرح الغربي وبحوثه الجديدة في الحقول السردية والسيميائية واللسانية بشكل عام·
قام هذا النوع من النقد المتخصص بتفكيك البنى السردية إلى أجزاء، وقسّم الأجزاء إلى أجزاء، ليقدم الأثر في شكل مجموعة جداول تعكس كيفيات انتظامه سرديا: سرد تابع، سرد لاحق، سرد آني، سرد بطيء، سرد سريع، سرد من الدرجة الأولى، سرد من الدرجة الثانية، سارد داخل حكائي، سارد خارج حكائي، سارد متباين حكائي، سارد متماثل حكائي··· إلخ·
والظاهر أن هذه الدراسات، في مجملها، اتكأت على مقاربات جيرار جينيت في خطاب الحكاية، وبول ريكور في الزمن والقصة، إضافة إلى ما قدمه كل من ألبيريس وميشال بوتور·
بيد أن هيمنة الدراسة الجامعية لجيرار جينيت وجّهت التلقي السردي وجهة تقنية بيّنة، إذ أن بصماته تبدو واضحة المعالم في أغلب الاجتهادات المقدمة لنيل شهادات عليا (وستتواتر طروحاته في الملتقيات الوطنية والدولية وفي المقالات المنشورة في مختلف المجلات (2)·
سيطبق هذا المنهج ومصطلحاته على الرواية بصرامة أكاديمية واضحة، سواء تعلّق الأمر بالكتاب الأوائل: الطاهر وطار، عبد الحميد بن هدوقة، رشيد بوجدرة، محمد ديب، كاتب ياسين، مالك حدّاد، مرزاق بقطاش، الأعرج واسيني، جيلالي خلاص، محمد مفلاح، الحبيب السائح، الأمين الزاوي، أو الجيل الجديد: عياشي حميدة، بشير مفتي، ياسمينة صالح، عز الدين جلاوجي، عز الدين ميهوبي، إضافة إلى أسماء روائية كثيرة·
أغلب هذه الدراسات بقي متداولا في الجامعة، في أدراج المكتبة وفي قاعات المحاضرات، لكن المكتبة العامة لم تستفد من هذه التجربة بالنظر إلى سياسة النشر، وما نشر لم يوزع على المستويين المغاربي والعربي، ولم يوزع على جهات الوطن، ومن ثمة محدودية تأثيره، ما عدا عندما يتعلق الأمر بالأسماء المكرّسة نقديا، على غرار عبد الحميد بورايو، رشيد بن مالك، حسين خمري، أو بالنسبة للذين نشروا خارج البلد: سوريا، لبنان، الإمارات العربية المتحدة·
مع ذلك سيظل هذا التأثير نسبيا، في دائرة مغلقة تخص الجامعة والمخابر والأكاديميين، وعلماء السرد لأن احترافية علم السرد قد لا تعني الروائيين أبدا، وهذه أهمّ إشكالية تواجه هذه الدراسات·
طبيعة المنهج
إن الميل الكبير لعلم السرد نحو المقاربات التقنية جعله يركز على أرمادة من المصطلحات المعقدة التي قد تفيد الباحث في ضبط منطق السرد وكيفياته، ولابدّ أن هذه المعرفة ستؤهله إلى توسيع مداركه من أجل تحكم أكبر في الأجهزة التي ينتظم وفقها الفعل السردي وفلسفته (إن كانت هناك فلسفة سردية واعية)، لأن هناك فجوات كثيرة مسكوت عنها بحكم طبيعة المنهج وإكراهاته·
إن الطبيعة الواصفة للمنهج تحتم عليه عرض العمل الروائي في بنياته السردية المختلفة، دون أيّ تقييم أو تقويم، ما يعني أن العرض الحيادي للأثر لا يخدم مستقبل الرواية من حيث أنه لا يرى إلا ما هو قائم، ومن هنا فإنه لا يقترح أبدا ما يجب اقتراحه على صاحب الرواية رغم نيته في ذلك·
تمت الإشارة إلى هذه المعضلة في عدّة مناسبات: ماذا يقدّم علم السرد للرواية؟ شأنه شأن السيمياء·
لا تميز نوعية هذه الدراسات بين الطاهر وطار وبين مبتدئ له نصّ عبارة عن أخطاء مركبة، ولا بين رشيد بوجدرة وبين من طبع رواية تعيسة على نفقاته الخاصة بدار نشر مغمورة لا تتوفر لا على مقرّ ولا على لجنة قراءة مؤهلة، والأمثلة على ذلك كثيرة·
لقد جنت طبيعة المنهج، في بعض جوانبها، على العمل الروائي، عندما اعتمدت التطبيقات الآلية لمنظورات غيرية لها ما يسوّغها مرجعيا ووظيفيا وتداوليا·
يبدو لنا علم السرد غاية في الأهمية لمقدرته المذهلة على تفكيك العمل الروائي وجدولة أجزائه وتصنيفها، وتكمن أهميته الأخرى في القدرة على التمييز الدقيق بين نوع سردي وآخر، وهذا أمر جدير بالثناء، لكننا نلاحظ أنه يتوقف في المرحلة الحساسة التي تتطلب موقفا أو تعليقا أو رؤية·
يتطلب الموقف نوعا من العصيان، تمرّدا على حدود المنهج وصرامته، كما يتطلب أيضا، وهذا هو الأهم، أثاثا معرفيا يسوّغ موقف الناقد ويبرّره فنيا وجماليا تأسيسا على الزاد السردي في سيرورته من أجل تفادي الأحكام الصنمية التي تصدر عن قلّة معرفة·
أمّا راهن النقد السردي، كما هو مفهوم حاليا، وكما يمارس، فإنه يبرز انسحابه الجذري من فرضية تقديم خدمة للرواية، بالنظر إلى هويته ومجالات تحركه وأهدافه· إن تأسيسه على الكيف، كيفية المعنى وكيفية الحكي وكيفيات التمفصل سيجعله نقدا عديم المسؤولية، بانتظار آفاق أخرى وأدوات إجرائية مختلفة تخرجه من السجن الذي خلقه لنفسه·
الروائي والموقف السردي
تضاف إلى إشكالية راهن علم السرد، كموقف حيادي يعنى بالتجليات العينية كما هي، علاقة الروائي بهذه الدراسات الجديدة الموغلة في تفاصيل الجملة السردية وهيئتها·
تتمثل أسوأ خدمة جليلة تقدمها للروائي في الإشارة إلى فجواته الفرضية، فالروائي مخلوق استثنائي نزل من السماء وفي قلمه بلاغة الخالق وملكة المخلوقات قاطبة· إن هذه النزعة الاستعلائية هي السائدة، ولا يمكن لأي نقد، مهما كانت عبقريته، ترميم الفجوات المتواترة في النص الروائي القديم والجديد·
النقد عدوّ مبين على جميع الأصعدة وفي كلّ الأوقات· أما عندما يتعلق بكيفيات استقبال علم السرد للنص السردي فتلك مسألة أخرى أكثر تعقيدا·
عادة ما تهتم الدراسات السردية الراهنة على مدوّنة مصطلحية مركبة استقت من البلاغة والنحو واللسانيات والمنطق والرياضيات ومختلف العلوم الأخرى، وقد تترجم إلى العربية بأشكال متباينة، فيها الخطأ والصواب والغموض والملابسات الكثيرة التي تغيّب المعنى أكثر مما تجليه (3)·
هناك اهتمام راهن بمفاهيم السرد ومصطلحاته الكثيرة، أكثر من الاهتمام بالرواية من حيث أنها موضوع الدراسة، لقد غدت الرواية في الدرجة الثانية أو الثالثة·
وسنجد المفاهيم والمصطلحات تتبوأ الممارسة النقدية، ما يسهم في اتساع المسافة بين الرواية والنقد ما لم نفكر في أرضية مشتركة، ولو مؤقتا، من أجل ترميم الفجوة التي تفصل النقد السردي عن المدونة الروائية·
يعترف الطاهر وطار بعدم اهتمامه بهذا النوع من المقاربات في ندوة أكاديمية بالجامعة: ''لو كنت أعرف بأن رواياتي تدرس بهذه الطريقة لما كتبت رواية واحدة''·
الموقف ذاته بالنسبة للروائي مرزاق بقطاش: ''هذا النقد لا يغني ولا يقدم لي شيئا، وكونه يأتي بعد نشر رواياتي فإنه لا يفيدني في شيء''·
يمكننا تعميم ذلك، ودون أي تردد، على الموقف العام للروائيين الذين يجدون صعوبة كبيرة في فهم ما يكتب عن أعمالهم الإبداعية: إنهم يرون في الدراسات السردية مجموعة من الترسيمات والطلاسم التي يتعذر القبض على معانيها ومقاصدها، وهم ملزمون، والحال هذه، بتكريس نشاط ذهني زائد، للاقتراب من تحليلات واصفة قد لا تفيدهم أصلا·
مأزق الدراسات السردية ومستقبل الرواية
يمكننا التأكيد على انمحاء شبه كلي للمجاورات والتماسات بين الدراسة السردية وانشغالات الروائيين في السنوات الأخيرة، وقد ينطبق ذلك على البلاد العربية قاطبة·
الروائيون مقتنعون بأنهم يستفيدون من الإبداعات الغربية، يعرفون السرد من خلال قراءة الأعمال الأمريكية والأوروبية والهالات العالمية: تولستوّي، دوستويفسكي جيمس جويس، وليم فوكيز، غابريال غارسيا ماركيز، مارسيل بروست، خوليو كورتزار·
هناك بدائل عينية تدعمهم وتسهم في تقوية المتخيّل السردي لديهم، وأفضل طريقة هي القراءة والاستيراد وغربلة المستورد لتوطينه·
أما الأشكال السردية فتكتسب بالتجربة والممارسة، بالمحاكاة والتجاوز والمراجعة المستمرة لما تمّ إنجازه في سياقات تاريخية فرضت خيارات سردية لها ما يبررها اجتماعيا وذاتيا·
وإذا كان الكاتب لا يستوعب ما يكتب عن أعماله، فمعنى ذلك أن هناك خللا كبيرا في علاقة الكتابة الإبداعية بالنقد كما هو متصور وممارس حاليا في الجامعة وفي المجلات المتخصصة أو المحكمة· ما عدا إن كان هذا النوع النقدي موجّها لتحضير شهادات أو لتأليف كتب لا تفيد مستقبل الإبداع الروائي، بقدر ما تفيد نخبة متمكنة من المنهج لأغراض مهنية·
تقفيلة: البحث عن استراتيجية جديدة
أصبحت مسألة البحث عن استراتيجية جديدة لربط علم السرد بالرواية الجزائرية مسألة أكيدة سيكتشف ضرورتها نقاد الرواية من أجل التقريب بين عالمين متباعدين ومتنافرين إلى حدّ كبير (4)·
لا مجال للهرب من الظلام بالجري في الظلام· يبدو أن النقد السردي بحاجة إلى مراجعة منطلقاته وأهدافه إذا كان يرغب في تقديم قبس للرواية، كما أن الرواية بحاجة إلى أن تعرف نفسها وشكلها وتفاصيلها بالالتفات إلى الجهود النقدية، ولو قليلا جدا، ووحده هذا التناغم قادر على المزاوجة بين الجهدين المتخاصمين بطريقة تقلّل من جدوى الكتابة والقراءة معا وتدفع إلى شيء من العبث عند هذا وذاك·
والحال أن هذه الصورة القاتمة هي التي تميّز الساحة الأدبية حاليا، مع استثناءات قليلة ليست ذات تأثير كبير، ويمثل هذا الاستثناء الروائيون الذين يساهمون في الحركة النقدية، أو النقاد الذين يكتبون الرواية، وهم على قلّتهم يحاولون التوفيق بين هذين القطبين بحثا عن تحسين العلاقة بينهما·
1 هناك مجموعة من الدراسات قام بها عبد الله ركيبي ومحمد مصايف وعمر بن قينة·
2 أشير إلى المجلات التي كنت فيها رئيس تحرير أو مدير تحرير: القصة، الخطاب، معارف، آمال، المعنى، التبيين·
3 أنظر كتابنا: الترجمة والمصطلح، دار العلوم ناشرون، بيروت .2009
4 تناولنا هذا الموضوع قبل سنوات في كتابنا: ''السرد ووهم المرجع''، وهو مجموعة من المقاربات السردية للرواية الجزائرية·