لا تكمن أهمية الشخصية الروائية في أنها وحدها، دونا عن باقي مكونات السرد، القادرة على انجاز الحدث ولا بوهم الحياة الذي يبثه فيها الكاتب وفق المنطق الذي تفرضه عليه التزاماته الفنية أو الأيديولوجية. ان الشخصية مهمة لأنها، ساعة بنائها في النص، يمكن أن تتحول، بما يشوبها من ذهول واختلال وعطب ذاكرة وهذيان، إلى دليل ينتج خطابا له سلطة.
هل تنتهي سلطة هذا الخطاب عند حدود النص كما أراد البنيويون عندما قيدوا الشخصية بطوق مفاهيمهم اللسانية الوظيفية التي لا تنظر الى الشخصية إلا من خلال الدور الذي تؤديه داخل التلفظ؟ هل تتجاوز سلطة الشخصية، كخطاب، حدود النص الى خارجه فتتعدى بذلك كونها دليلا لغويا وتنزاح حينئذ عن معناها البنيوي/السردي؟
يصعب وجود تصورٍ للشخصية الروائية صالح لكل العصور، فالتأويلات المقترحة لهذا المفهوم الإشكالي تعتمد كثيراً على الانشغالات الخاصة لكل حركة أدبية والهواجس الفنية والأيديولوجية لكل كاتب وناقد. لذا يبدو لنا تودوروف محقاً بملاحظته ان مفهوم الشخصية ظل، رغم كل الدراسات الإجرائية التي تناولته، واحدا من أكثر مصطلحات الشعرية الحديثة غموضا. مراجعة سريعة لبعض المتبنيات النظرية المتعلقة بالشخصية كفيلة بان تؤيد ما ذهب اليه تودوروف.
نظريات الشخصية
عند الحديث عن النظريات، لابد من العودة الى أرسطو باعتباره احد أوائل النقاد الذين فكروا بصياغة تصورات ناضجة تتعلق بدراسة الأدب. على انه يجب ملاحظة ان أرسطو، في كتابه الشعر، لم يتناول الشخصية الروائية بل تلك الموجودة في التراجيديا، اللون الأدبي الذي كان يعرفه عصر الفيلسوف اليوناني. بالنسبة لأرسطو فان الشخصية، المشتقة في اللاتينية من كلمة persona والتي تعني "قناع"، عبارة عن أثرٍ ثانوي خاضع للحدث الذي يتقدم على ما سواه في الأنساق التراتبية لفكر تلميذ أفلاطون. معنى ذلك أن الشخصية ليست أكثر من فاعل ظاهر ومعلوم ينجز فعلا مسندا اليه من قبل غيره. أليس في ذلك مقاربة بين وظيفة الشخصية في الدراما ووظيفة الفاعل في اللغة طالما أن الأمر منحصر بالنسبة لهذا كما بالنسبة لتلك بإنجاز الفعل القواعدي هنا والدرامي هناك؟ اذا ما صحت هذه المقاربة، وليس هو بمستبعد وان كنا هنا نقول أرسطو ما لم يصرح به، سيقود ذلك الى إقامة ربط محتمل بل ومحتمل جدا بين تصور أرسطو لوظائفية الشخصية وبين التصور الذي سوف يقترحه لهذه الأخيرة الشكلانيون الروس بداية القرن الماضي. استنادا الى مفهوم الفاعل في اللغة، سيصوغ الشكلانيون الروس تعريفهم للشخصية الروائية باعتبارها، مثل الفاعل القواعدي تماما، تشكلا لغويا بحتا لا وجود له في غير إطار اللغة. سيكون هذا الربط أكثر شرعية إذا ما لاحظنا أن الشخصية، عند أرسطو، لا تشير بالضرورة الى كائن بشري بل الى كل الموجودات التي تتحرك ضمن المتخيل السردي وهذا ما يتلاقى عموما مع مفهوم الشكلانيين. سيحتفظ المفهوم الارسطوطاليسي لوظائفية الشخصية بمجمل أثره على تقنيات كتابة الرواية حتى القرن السابع عشر. صحيح أن فهما جديدا بدا يتبلور خلال القرن الخامس عشر أخذت فيه الشخصية تشير الى كائن خيالي غير ان هذا التغير المعتد به من الناحية الفنية لن يشمل المستوى الوظائفي اذ ان الشخصية ستتحرك دوما ضمن الحيز الذي رسمه لها ارسطو بوصفها فاعلاً للحدث. كان يجب انتظار القرن الثامن عشر لرصد تحول محسوس في مفهوم الكائن الروائي وذلك عندما سيظهر تصور فلسفي جديد للشخص الذي سينظر اليه، من الآن فصاعدا، على انه فاعل يفكر. استجابة لهذا التحول، سينمحي من الرواية، على مهل لكن بشكل ملحوظ، النموذج البطولي الخارق للمألوف تاركا مكانه لصورة شخصية عادية تتمتع بحياة نفسية قريبة لتلك التي يمتلكها الأشخاص الحقيقيون. ابتداء من تلك الفترة سيشخصن الروائيون مخلوقاتهم أكثر فأكثر. تبلغ الشخصنة ابعد مدياتها مع ظهور الواقعية، بنسختها البلزاكية خصوصا، في القرن التاسع عشر. تعتبر ظاهرة الأنسنة هذه تجاوزا معقولا لنظرة ارسطو للشخصية الفنية التي ليس لها، بحسبه، ان تماثل او تسعى لان تتماثل مع شخوص الحياة.
سيكون من المدهش حقاً ملاحظة عدم وجود نظرية تدرس الشخصية الروائية وفق أسس علمية حتى بداية القرن العشرين الذي سيشهد ظهور أول مدرسة نقدية (الشكلانية الروسية) تُعنى بدراسة الأدب من حيث كونه علما تطبيقيا. سيكون من ثمرات هذا المنهج وضع الشخصية الروائية موضع تساؤل واستفهام كبيرين. يعد فلاديمير بروب من أوائل النقاد الذين اعتنوا بدراسة الكائنات السردية في كتابه مورفولوجيا الخرافة حيث أخضع الشخصيات في الحكاية الخرافية الى نمذجة بسيطة ترتكز على وحدة الأفعال الوظيفية التي يمنحها إياها السرد. سيشكل النموذج الذي يقترحه بروب، والذي سوف يختزله غريماس الى حد بعيد، القاعدة الصلبة للدراسات السردية للشخصية التي أخذت تتحول من كائن الى مجرد فاعل مما سيضع حدا لفكرة ان الشخصية لا يمكن ان تعرّف الا بمصطلحات ذات محتوى سيكولوجي. سيذهب الشكلانيون من بعد بروب الى ابعد من اختزال الشخصية الى بعدها الوظائفي حتى ان منهم، توماشفسكي مثلا، من سينكر على الشخصية الروائية لعب اي دور في صياغة المتن الحكائي. سيعمق البنيويون الفرنسيون من هذا المفهوم الاقصائي للشخصية في العمل التخييلي إذ لن تعود هذه الأخيرة ولا حتى فاعلا للحدث بل مجرد مشارك بسيط في صنعه. سيذهب رولان بارت الى حد نكران ان يكون للشخصية أية أهمية سردية. يقول بارت ما نصه: "ان ما هو في طريقه الى الزوال في رواية اليوم ليس الرواية، إنما الشخصية."
تشترك النظريات السابقة بنقطة واحدة تتمثل بتقاسمها مفهوما حضوريا للشخصية يختزلها الى مساحتها الوظائفية ويحصر حدود هذه الوظيفة بمساحة النص. إن شكلانية كهذه، بعيدا عن فائدتها النظرية، نتاج الجو الثقافي لسنوات الستينيات والتي وجدت لها في أعمال روب¬غرييه ونتالي ساروت تبريرات نظرية وتطبيقية. كان هدف نصوص عصر الشك هذه إلغاء الوهم الأيديولوجي للراوية التقليدية وذلك بإرجاعها الشخصية الى ما هي عليه أصلاً : نسيج من كلمات. لا بد من الإقرار بصعوبة الأخذ دائما بهذه الاعتبارات إذ أن قراءة الروايات، فضلا عن كونها تسلية ومتعة بالنسبة للقارئ، هي أيضا فعالية عقلية يطلب القارئ خلالها من الرواية ان تضعه على اتصال مع الواقع. كان توماشيفسكي قد لاحظ حاجة القارئ لأن يجد ربطا بين واقعه الحقيقي وعالم الشخصية المتخيل. إن إدراك المتلقي للطبيعة التخيلية للنتاج الروائي، لا تمنعه من أن يتلمس لدى ذلك النتاج بعض التواصل مع الفضاء الخارج نصي. ولعل قيمة النتاج الأدبي تكمن، بالنسبة لشريحة لا باس بها من القراء، في هذه الإحالة. حتى ذلك الصنف من الذين تستهويهم تقنيات الرواية الجديدة لا يستطيعون ان يجنبوا عقولهم، من الناحية النفسية على الأقل، الوقوع تحت غواية الإيهام المرجعي. وعلى هذا فان علاقة الشخصية كدالة بالشخص كـمدلول يستحيل تدميرها وسيكون عبثاً، على رأي تودوروف، نكران كل علاقة بين الاثنين.
نظريات القراءة
فضلا عن محاولة إلغائها اية إحالة وظائفية للنص الى ما هو خارجه، تشترك النظريات اللغوية السابقة بنقطة أخرى تتمثل بعدم إعارتها اي اهتمام نوعي لدور القارئ كمشارك في تشكيل صورة الشخصية. تعتبر النقطة الأخيرة مركز الضعف في الخطاب السردي. بفضل إسهامات ياوس وايسر وبالخصوص فنسنت جوف سيظهر منهج تلقي جديد للشخصية مبني على نظريات القراءة التي تدرس الشخصية وفق علاقتها مع القارئ. في هذا الاتجاه، فإن دراسة فنسنت جوف المعنونة أثر الشخصية في الرواية مهمة بشكل استثنائي كونها تشكل تبدلا في مسار التعامل النظري مع الشخصية اذ لم يعد الأمر يتعلق بمعرفة ما هي الشخصية بالنسبة للمؤلف بل مالذي من الممكن ان تعنيه بالنسبة للقارئ. في هذه الحالة فان النتاج الأدبي بعد أن كان يُدرس على انه بنية مستقلة سيتم تناوله على أساس كونه اتصالا. اذا كان الأدب فعالية ذهنية، يتساءل فنسنت جوف، فكيف لا يتم التركيز على غير نشاط الكاتب ونسيان ملايين القراء الذين بدونهم لا وجود للنص. بهذا المعنى فان القارئ الفاعل هو الذي يعطي للنص حياة وديمومة. ومع وجود العديد من العلامات التي تدفع الى الظن ان "شخص وشخصية" يكادان يعنيان الشيء نفسه في هذا المنهج فان جوف ينكر هذا الاستنتاج. ان الشخصية الروائية، يؤكد جوف، ليست حقيقية بالكامل ذلك انه من غير الممكن تصور وجود شخصية مطابقة للشخص بشكل تام وهذا يعني ان الشخصية واقع تخييلي بمقدوره ان يطرح نفسه منافساً للواقع الحقيقي.
د. حسن سرحان
* عن الصباح
هل تنتهي سلطة هذا الخطاب عند حدود النص كما أراد البنيويون عندما قيدوا الشخصية بطوق مفاهيمهم اللسانية الوظيفية التي لا تنظر الى الشخصية إلا من خلال الدور الذي تؤديه داخل التلفظ؟ هل تتجاوز سلطة الشخصية، كخطاب، حدود النص الى خارجه فتتعدى بذلك كونها دليلا لغويا وتنزاح حينئذ عن معناها البنيوي/السردي؟
يصعب وجود تصورٍ للشخصية الروائية صالح لكل العصور، فالتأويلات المقترحة لهذا المفهوم الإشكالي تعتمد كثيراً على الانشغالات الخاصة لكل حركة أدبية والهواجس الفنية والأيديولوجية لكل كاتب وناقد. لذا يبدو لنا تودوروف محقاً بملاحظته ان مفهوم الشخصية ظل، رغم كل الدراسات الإجرائية التي تناولته، واحدا من أكثر مصطلحات الشعرية الحديثة غموضا. مراجعة سريعة لبعض المتبنيات النظرية المتعلقة بالشخصية كفيلة بان تؤيد ما ذهب اليه تودوروف.
نظريات الشخصية
عند الحديث عن النظريات، لابد من العودة الى أرسطو باعتباره احد أوائل النقاد الذين فكروا بصياغة تصورات ناضجة تتعلق بدراسة الأدب. على انه يجب ملاحظة ان أرسطو، في كتابه الشعر، لم يتناول الشخصية الروائية بل تلك الموجودة في التراجيديا، اللون الأدبي الذي كان يعرفه عصر الفيلسوف اليوناني. بالنسبة لأرسطو فان الشخصية، المشتقة في اللاتينية من كلمة persona والتي تعني "قناع"، عبارة عن أثرٍ ثانوي خاضع للحدث الذي يتقدم على ما سواه في الأنساق التراتبية لفكر تلميذ أفلاطون. معنى ذلك أن الشخصية ليست أكثر من فاعل ظاهر ومعلوم ينجز فعلا مسندا اليه من قبل غيره. أليس في ذلك مقاربة بين وظيفة الشخصية في الدراما ووظيفة الفاعل في اللغة طالما أن الأمر منحصر بالنسبة لهذا كما بالنسبة لتلك بإنجاز الفعل القواعدي هنا والدرامي هناك؟ اذا ما صحت هذه المقاربة، وليس هو بمستبعد وان كنا هنا نقول أرسطو ما لم يصرح به، سيقود ذلك الى إقامة ربط محتمل بل ومحتمل جدا بين تصور أرسطو لوظائفية الشخصية وبين التصور الذي سوف يقترحه لهذه الأخيرة الشكلانيون الروس بداية القرن الماضي. استنادا الى مفهوم الفاعل في اللغة، سيصوغ الشكلانيون الروس تعريفهم للشخصية الروائية باعتبارها، مثل الفاعل القواعدي تماما، تشكلا لغويا بحتا لا وجود له في غير إطار اللغة. سيكون هذا الربط أكثر شرعية إذا ما لاحظنا أن الشخصية، عند أرسطو، لا تشير بالضرورة الى كائن بشري بل الى كل الموجودات التي تتحرك ضمن المتخيل السردي وهذا ما يتلاقى عموما مع مفهوم الشكلانيين. سيحتفظ المفهوم الارسطوطاليسي لوظائفية الشخصية بمجمل أثره على تقنيات كتابة الرواية حتى القرن السابع عشر. صحيح أن فهما جديدا بدا يتبلور خلال القرن الخامس عشر أخذت فيه الشخصية تشير الى كائن خيالي غير ان هذا التغير المعتد به من الناحية الفنية لن يشمل المستوى الوظائفي اذ ان الشخصية ستتحرك دوما ضمن الحيز الذي رسمه لها ارسطو بوصفها فاعلاً للحدث. كان يجب انتظار القرن الثامن عشر لرصد تحول محسوس في مفهوم الكائن الروائي وذلك عندما سيظهر تصور فلسفي جديد للشخص الذي سينظر اليه، من الآن فصاعدا، على انه فاعل يفكر. استجابة لهذا التحول، سينمحي من الرواية، على مهل لكن بشكل ملحوظ، النموذج البطولي الخارق للمألوف تاركا مكانه لصورة شخصية عادية تتمتع بحياة نفسية قريبة لتلك التي يمتلكها الأشخاص الحقيقيون. ابتداء من تلك الفترة سيشخصن الروائيون مخلوقاتهم أكثر فأكثر. تبلغ الشخصنة ابعد مدياتها مع ظهور الواقعية، بنسختها البلزاكية خصوصا، في القرن التاسع عشر. تعتبر ظاهرة الأنسنة هذه تجاوزا معقولا لنظرة ارسطو للشخصية الفنية التي ليس لها، بحسبه، ان تماثل او تسعى لان تتماثل مع شخوص الحياة.
سيكون من المدهش حقاً ملاحظة عدم وجود نظرية تدرس الشخصية الروائية وفق أسس علمية حتى بداية القرن العشرين الذي سيشهد ظهور أول مدرسة نقدية (الشكلانية الروسية) تُعنى بدراسة الأدب من حيث كونه علما تطبيقيا. سيكون من ثمرات هذا المنهج وضع الشخصية الروائية موضع تساؤل واستفهام كبيرين. يعد فلاديمير بروب من أوائل النقاد الذين اعتنوا بدراسة الكائنات السردية في كتابه مورفولوجيا الخرافة حيث أخضع الشخصيات في الحكاية الخرافية الى نمذجة بسيطة ترتكز على وحدة الأفعال الوظيفية التي يمنحها إياها السرد. سيشكل النموذج الذي يقترحه بروب، والذي سوف يختزله غريماس الى حد بعيد، القاعدة الصلبة للدراسات السردية للشخصية التي أخذت تتحول من كائن الى مجرد فاعل مما سيضع حدا لفكرة ان الشخصية لا يمكن ان تعرّف الا بمصطلحات ذات محتوى سيكولوجي. سيذهب الشكلانيون من بعد بروب الى ابعد من اختزال الشخصية الى بعدها الوظائفي حتى ان منهم، توماشفسكي مثلا، من سينكر على الشخصية الروائية لعب اي دور في صياغة المتن الحكائي. سيعمق البنيويون الفرنسيون من هذا المفهوم الاقصائي للشخصية في العمل التخييلي إذ لن تعود هذه الأخيرة ولا حتى فاعلا للحدث بل مجرد مشارك بسيط في صنعه. سيذهب رولان بارت الى حد نكران ان يكون للشخصية أية أهمية سردية. يقول بارت ما نصه: "ان ما هو في طريقه الى الزوال في رواية اليوم ليس الرواية، إنما الشخصية."
تشترك النظريات السابقة بنقطة واحدة تتمثل بتقاسمها مفهوما حضوريا للشخصية يختزلها الى مساحتها الوظائفية ويحصر حدود هذه الوظيفة بمساحة النص. إن شكلانية كهذه، بعيدا عن فائدتها النظرية، نتاج الجو الثقافي لسنوات الستينيات والتي وجدت لها في أعمال روب¬غرييه ونتالي ساروت تبريرات نظرية وتطبيقية. كان هدف نصوص عصر الشك هذه إلغاء الوهم الأيديولوجي للراوية التقليدية وذلك بإرجاعها الشخصية الى ما هي عليه أصلاً : نسيج من كلمات. لا بد من الإقرار بصعوبة الأخذ دائما بهذه الاعتبارات إذ أن قراءة الروايات، فضلا عن كونها تسلية ومتعة بالنسبة للقارئ، هي أيضا فعالية عقلية يطلب القارئ خلالها من الرواية ان تضعه على اتصال مع الواقع. كان توماشيفسكي قد لاحظ حاجة القارئ لأن يجد ربطا بين واقعه الحقيقي وعالم الشخصية المتخيل. إن إدراك المتلقي للطبيعة التخيلية للنتاج الروائي، لا تمنعه من أن يتلمس لدى ذلك النتاج بعض التواصل مع الفضاء الخارج نصي. ولعل قيمة النتاج الأدبي تكمن، بالنسبة لشريحة لا باس بها من القراء، في هذه الإحالة. حتى ذلك الصنف من الذين تستهويهم تقنيات الرواية الجديدة لا يستطيعون ان يجنبوا عقولهم، من الناحية النفسية على الأقل، الوقوع تحت غواية الإيهام المرجعي. وعلى هذا فان علاقة الشخصية كدالة بالشخص كـمدلول يستحيل تدميرها وسيكون عبثاً، على رأي تودوروف، نكران كل علاقة بين الاثنين.
نظريات القراءة
فضلا عن محاولة إلغائها اية إحالة وظائفية للنص الى ما هو خارجه، تشترك النظريات اللغوية السابقة بنقطة أخرى تتمثل بعدم إعارتها اي اهتمام نوعي لدور القارئ كمشارك في تشكيل صورة الشخصية. تعتبر النقطة الأخيرة مركز الضعف في الخطاب السردي. بفضل إسهامات ياوس وايسر وبالخصوص فنسنت جوف سيظهر منهج تلقي جديد للشخصية مبني على نظريات القراءة التي تدرس الشخصية وفق علاقتها مع القارئ. في هذا الاتجاه، فإن دراسة فنسنت جوف المعنونة أثر الشخصية في الرواية مهمة بشكل استثنائي كونها تشكل تبدلا في مسار التعامل النظري مع الشخصية اذ لم يعد الأمر يتعلق بمعرفة ما هي الشخصية بالنسبة للمؤلف بل مالذي من الممكن ان تعنيه بالنسبة للقارئ. في هذه الحالة فان النتاج الأدبي بعد أن كان يُدرس على انه بنية مستقلة سيتم تناوله على أساس كونه اتصالا. اذا كان الأدب فعالية ذهنية، يتساءل فنسنت جوف، فكيف لا يتم التركيز على غير نشاط الكاتب ونسيان ملايين القراء الذين بدونهم لا وجود للنص. بهذا المعنى فان القارئ الفاعل هو الذي يعطي للنص حياة وديمومة. ومع وجود العديد من العلامات التي تدفع الى الظن ان "شخص وشخصية" يكادان يعنيان الشيء نفسه في هذا المنهج فان جوف ينكر هذا الاستنتاج. ان الشخصية الروائية، يؤكد جوف، ليست حقيقية بالكامل ذلك انه من غير الممكن تصور وجود شخصية مطابقة للشخص بشكل تام وهذا يعني ان الشخصية واقع تخييلي بمقدوره ان يطرح نفسه منافساً للواقع الحقيقي.
د. حسن سرحان
* عن الصباح