ليس من السهل أن أقفز على استفزاز العنونة : هل للشاعر البريكان لحظة خاصة ؟ ما نوعها مثلا ؟ يتبادر الى الذهن اولا انها مرتبطة بفترة الريادة التي افتتحها السياب و نازك وأمدها البريكان بجرعات شعرية نشطة و مميزة ، الجواب : لا ، لحظة البريكان هي لحظة وعي متقدم بمفهمة الشعر ، ويمكن ايضاحها كالتالي : يبدأ الشاعر _ أي شاعر _ جماليا و مهموما بمطاردة الصور البلاغية و اقتناص الموضوعات التي تثبت جدارته في سوق الشعر اذا صح القول خاصة واننا نشهد عبر عصورنا الادبية كافة تنافسا شديدا في باحة هذه السوق ! الشاعر في هذه المرحلة بلاغي جمالي ، واقعه المقولة و قلما يشغله الواقع الحي ربما الا اذا وفّر مناسبة لقول شعري يتوخاه و يتصيده ، بعض الشعراء يمكث في هذه المنطقة و لا يغادرها حتى موته و بعضهم يكتشف أن الدفاع عن الجمال المخبوء فينا و المهدد ابدا أهم من صناعته في الشعر ، إنقاذ الانسان أهم من الغناء له وهو خلف القضبان ! الشاعر البلاغي يغنّي للسجناء و شاعر المشروع يصرخ لأجل تحريرهم ، ما جدوى الغناء للعبيد ؟ هنا ينتقل هذا النوع من الشعراء من الجمال الى الحكمة بل من غنائية الجمال الى نكد الحكمة ، الى الأسئلة الوجودية عبر الشعر ، بلاغته في فك لغز المصائر المجهولة و منصته الروح ! الشاعر الحكيم شاعر مشروع وهو لا يزهد في البلاغة ولا الجمال بل يعيد تصويب البوصلة نحو موضوعات اكثر جدوى ، بعد هذا الشوط تشيخ السيقان في الركض ويذبل لمعان الجوائز في عين الشاعر ، يعتزل الاشياء و الاشياء تعتزله ايضا بعد ان تدرك ان لا فائدة منه ! لا يصلح للإعلام و لا للتهريج و لا للتسليع ، هذا الرجل نخرت روحه الحكمة واستبد به المعنى ، لا يصلح سوى للتحديق بصمت ، النوم احيانا ، و النوم هنا درجة من درجات الموت ! ما يعني ان الموت هو اليقين الاخير الذي يشبع نهم الحكمة ، وحده القادر على هذه المهمة وهو الانتقال ا الاهم و الأفدح في تحولات الشاعر من الجمال الى الحكمة ثم اخيرا الى الموت صمتا ! ليصرخ على حين غرة : لا مجد في المجد .. فخذ يا ضياع ، هذه هي كلمة البريكان الفاصلة و لحظته الباذخة التي ودّع فيها الجوائز و المجد و سطوة الحضور على منصات لا مصير لها سوى الزوال .. لحظة البريكان لحظة وعي تنقّل من الطموح الى الزهد عبر رواق الحكمة وهي ليست تشاؤما او نكوصا بل هي صرخة مطالبة بحياة أعلى وتيرة ، حياة تليق بالشعر و الشاعر .. هذه هي اللحظة !
جمال جاسم أمين
يناير 2017
جمال جاسم أمين
يناير 2017