في أحد أيّام أكتوبر 1992، غيّرتُ سُكناي بأكادير، فانتقلتُ من بيت فسيح قليلاً، إلى آخرَ ضيّق، فيه غرفة واحدة، ومطبخ شديد الصِّغر، وحمّام أصغر من المطبخ... نقلتُ إلى مسكني ذاك سريراً ومتاعاً قليلاً، ومكتبة تضمّ عدداً لا بأس به من الكتب... تمّ الانتقال في غبش المساء، الذي كان مقروناً بضباب على جانب من الكثافة... وجدتُ مسكني الجديد مُوحِشاً، وبعد جولة مسائيّة جَلَتْ عنَّي قسطاً وافِراً من الهمّ، عدتُ إلى مأواي، وبدأتُ في تنظيم مكتبتي، ثمّ أخذتُ منها كتابين: «العاصفة» لشكسبير، - وكنت قد قرأتُه من قبل - و«طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عوّاد، وكنتُ قد اقتنيْتُه قبل أيّام قليلة، ولم أفتحه بعد... وبعد وقت قضيتُه مع شخصيات «العاصفة»: بروسبيرو وميراندا وآرييل، فتحتُ كتاب أديبنا اللبناني، وبدأتُ أتصفّحه، في عمليّة تعارفٍ أُولَى تسبق البدء في القراءة الفعليّة... لكنْ، سرعان ما شعرتُ بإحباطٍ حقيقيّ: لقد كانت هنالك ورقتان تنقصان الكتاب... وانزعجتُ حقّاً لذلك... بعد أن نمت، حلمتُ بأنّ تيْنك الورقتين تعترضان سبيلي وأنا ذاهب إلى مكان ما، ولكن ما إن أكاد أمسك بهما حتّى تُطَيِّرهما الرّيح إلى البعيد...
في اليوم الموالي، ما إن تجاوزتُ باب البيت إلى الخارج، حتّى استثارني مشهد عجيب، بدا لي كأنّه في حلم. كان هنالك ضباب خفيف يلفّ البيوت، وأشعّة الشّمس التي تتمكّن من اختراقه تصل إلى الشّارع واهنةً، ورأيتُ، على بعد نحو 300 متر، أناسا جالسين على كراسيّ، وكلّ منهم عاكف على القراءة... منحتُ نَفسي لحظةَ حُلم، فتساءلت: لِمَ لا يكون المقهى الذي يجلس فيه هؤلاء النّاس مكتبةً أيضاً؟... وإذ اقتربت منهم كثيراً، غاضَ اندهاشي، فقد كان اثنان من بين زبائن ذلك المقهى يقرآن صحيفتيهما، والكثيرون ممّن تبقّى يتفحّصون، بانغماس شديد، «برامج الرّهان على الخيول»...
وبدا أنّ المكتبة التي أنتجها حلم يقظتي ذاك قدْ تبخّرت أمام الواقع الخشن... لكنْ لِلْحلم سطوته أيضاً، فبعد ذلك الصّباح بزمن، جلستُ يوماً بذلك المقهى، ثمّ لاحظتُ أنّ شخصاً قريباً منّي، ذا نظّارتين سميكتين، كان يقرأ كتاباً فِعليّاَ. وإذ رآني أحاول أن ألمح عنوان الكتاب، بادر وأدار صورة غلافه نحوي. «الفهد»، بالفرنسيّة: ذلك كان العنوان... وتلك كانت رائعة الإيطاليّ جوزيبي تومازي دي لامبيدوزا... وبشطحة خيال بسيطة، ناصرتُ حُلم يقظتي السّابق، إذ لمْ يصعب عليّ أن أتصوّر أنّ ذلك المقهى كان أيضاً مكتبةً، تضمّ كتاباً واحداً -هو رواية لامبيدوزا تلك- ولا تُعيرُه إلّا لشخص واحد، هو ذلك الرّجل ذو النّظّارتين السّميكتين...
زمن «الصّندوق الأخضر»
تشكّلتْ أولى مكتباتي، بُعيْد بلوغي السّابعة بقليل، من كتب ثلاثة فيما أذكر. ذلك كان المنطلق. وتلك الكتب كانت هي «دمعة وابتسامة» لجبران، و«النّحو الواضح» – لا أذكر مؤلّفه- وكتاب ثالث من تأليف أساتذة مصريّين، من بينهم أحمد أمين. هذا الكتاب الثّالث كان أصفر الورق، لكنّه لم يكن من الكتب الصّفراء، وإنّما كان يضمّ بين دفّتيه مقطوعات طويلة من قصائد جميلة، خُصَّتْ كلٌّ منها بتقديم مُحَبِّب، وشُرِحت كلماتها الصّعبة في أسفل الصّفحة. وعن طريق هذا الكتاب، ترسَّخَتْ في ذاكرتي أسماء شعراء، مثل: عُمارة اليَمنيّ – الذي لم أقرأ له شيئاً منذ زمن الطّفولة ذاك – وكشاجم وصالح بن عبد القدّوس، وفيه قرأت للمتنبّي مقطوعة طويلة من قصيدته عن الحُمّى، وللمعرّي مقطوعات، إلخ.
المهمّ أنّ تلك الكتب وُضِعتْ في جانب من «الصّندوق الأخضر»، كما كنّا نُسَمّيه في بيتنا، وستضاف إليها كتب أخرى عديدة، من بينها أوّل ما قرأتُ بالفرنسيّة: «سفينة آدريان». وكنّا وقتها نقطن ببلدة لَمزيندة، وهي بلدة عُمّاليّة صغيرة... في الجانب الآخر من «الصّندوق الأخضر»، كانت دفاتري وكتبي المدرسيّة. وكان عندنا في البيت «صندوق» آخر له مكانته في حياتنا اليوميّة، هو «الصّندوق الأحمر». هذا الأخير كان يحتوي على الأوراق المهمّة للمرحوم والدي...
وكان عدد الكتب في الصّندوق الأخضر يتزايد، وكنتُ أرتّبها وأعيد ترتيبها بنشوة خَفِيّة، وكثيراً ما كنتُ أقضي ساعات في القراءة (جورجي زيدان، ألكسندر دوماس، المنفلوطي، والتر سكوت...)، وبعدها، أمضي إلى الخارج، وحين لا يكون هنالك أطفال ألعب معهم كرة القدم أو ما شابه، كنتُ أمضي عبر أرضٍ خلاء حتّى أصِل إلى مشارف مقبرة البلدة، وهنالك أبدأ في تخيّل حيوات المدفونين هنالك (قبل موتهم، وربّما حتّى بعده)... بعد زمن طويل، سأقرأ إنّ «الكتابة سفر إلى عالم الأموات»، وقد بدا لي أنّ في إدمان القراءة أيْضاً سفراً من ذلك القبيل.
المكتبة... والإدراك الخيالي للعالم
ثمّ انتقلنا من لمزيندة إلى بلدة أكبر منها: اليوسفيّة، وهي مدينة عُمّالية أيضاً، وتجاوزتُ مرحلة الدّراسة الابتدائيّة، وأصبحتُ تلميذا بالثّانويّ. وهنالك اكتشفتُ مكتبة بدتْ لي بديعة وقتها، ولا شكّ أنّها كانت فعلاً كذلك: إنّها المكتبة التّابعة لإدارة الفوسفاط (تُكْتب هذه الكلمة عندنا بالطّاء)... لقد كانتْ مُكوّنة من حجرتين كبيرتين، إحداهما انتَظمتْ على رفوفها كتب عربيّة (أو مترجمة إلى العربيّة) – وكانتْ تضمّ منها العشرات – والأخرى خُصِّصَتْ للكتب الفرنسيّة، وكانتْ تحتوي منها الكثير أيْضاً. وكنتُ أقطع الطّريق من حيّ «البلوك»، حيثُ سَكنّا زمناً، إلى تلك المكتبة، وأنا متوفّز لاستكشاف عوالم غير مألوفة، وبدأتُ أعتبر أنّ الذين لا يقرؤون يحرمون أنفسهم من قضاء أروع الأوقات، ولكم سُرِرْتُ، لاحقاً، حين قرأتُ في الجزء الأوّل من «كتاب الحيوان» للجاحظ: «قال أبو عمرو بنُ العلاء: ما دخلتُ على رجل قطُّ ولا مررتُ ببابه، فرأيتُهُ ينظر في دفترٍ وجليسُه فارغُ اليد، إلّا اعتقدتُ أنّه أفضلُ منه وأعقل»!
مكّنتْني تلك المكتبة من قراءة – جُزْئيّة أو كُلّية - لعدد كبير من الكتب: «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، «الكامل» للمبرِّد... إضافة إلى ما لم يكنْ لديّ من روايات جورجي زيدان، وإلى كتب عديدة لطه حُسين وروايات نجيب محفوظ – الذي كنتُ أفضّله على ثروت أباظة ويوسف السّباعي وإحسان عبد القدّوس – وإلى مسرحيّات توفيق الحكيم... وبالفرنسيّة، مكّنتْني من قراءة روايات عديدة لألكسندر دوماس وستاندال وبعضٍ من مسرحيات شكسبير... إضافة إلى روايات بوليسيّة، كانت في غالب الأحيان إمّا تلك التي كتبها غاستون لورو، أو التي ينشط في فضاءاتها أرسين لوبين وشيرلوك هولمز...
وهنا، أريد أن أتوقّف عند مسألة تبدو لي مهمّة، وهي التّالية: تأثير «العكوف المطوّل في المكتبة» (أقصد: إدمان القراءة، وقراءة الأدب على الخصوص) على إدراك الفرد للعالَم، فالباحثون في مجال اللسانيّات الإثنيّة يعتبرون أنّ لغةَ مجتمع ما تُحَدِّد نظرة النّاطقين بها إلى العالَم، وعلى سبيل المثال، فلو تصوّرْنا لغةً تُطلِق على اللونين الأزرق والأخضر اسْماً واحِداً، إذنْ لبدا اللونان المذكوران للنّاطقِين بتلك اللغة لوناً واحِداً... أمّا تأثير إدمان قراءة الأدب خاصّةً، فيتجلّى في الشّحن القويّ للخيال وفي شَحذه، بحيثُ يُصبِح لدى «المقيم» في المكتبة تداخُلٌ غيرُ مفتعل بتاتاً بين ما في الكتب وما في الواقع الأجرد، بشكل يتيح أن يخرج ناسٌ من الكتب ليتجسّدوا في الواقع، وأن يدخل آخرون من الواقع ليلتحقوا بمواقعهم كأبطال في روايات أو ما شابه...
وتوالى حضور المكتبات في حياتي، فرافقتْني في تنقّلي بين مدن عِدّة... وأنا الآن مُقيمٌ بِسَلا، وقد خصَّصْتُ لكتبي غرفة- مَكتبة، أعتبرها «غرفة الأسفار»، أو غرفة الإقلاع إلى عوالم مجهولة ومُغرية... فلديّ مكتبة من الصّنف المألوف، أي أنّها مُشَكّلة من رفوف وتضمّ كتباً وَرَقِيّة، ومكتبة أخرى إلكترونية تتضمّن عدداً كبيراً من الكتب، موزّعة على لوح إلكتروني و«قارئة» (جهاز إلكتروني للقراءة)... وما زالت مشتعلةً في الأعماق جذوةُ التّوق إلى تلك الأسفار التي في طاقتها أنْ تُجَدّد للمرء شباب وجدانه، كلّما حاولتْ أنْ تغزوَهُ غضونُ المألوف والمكرور!
أثر القراءة
لا أنْسى أنّي، في زمن الصِّبا، قرأتُ مرّةً عن شاعر عبّاسيّ أنّهُ لُقّب بـ«سَلْم الخاسِر» لأنّهُ باعَ مُصْحَفاً واشترى بثمنه طنبوراً، فكان من تأثير ذلك أنّ شخصاً كان يُدْعى لهويشْمي، وكان يأتي حامِلاً طنبوره ويُغَنّي ويرقص أمام أبواب منازل الحيّ، أضْحى عندي هو سَلْم الخاسر نفسه. ولم أكن أجد تناقضاً بين إدراكي أنّ لهويشمي هو، في وجه من الحقيقة، شخص مختلف عن سَلْم، وفي وجه آخر منها، هو سَلْم نفسُه... وكنتُ أقيمُ نفس النّوع من التّماهي بين عُمارة اليَمنيّ – الشّاعر الذي قتله صلاح الدّين الأيّوبي – وبين شخص رائع، كان يشتغل كاتِباً عُموميّاً ويسكن في حيّنا، من دون عائلة، وكان يُسَمّى أيضاً عُمارة، ومن غريب المفارقات أنّه، بدوره، لم يَمُتْ ميتة طبيعيّة، وإنّما اشتعلت النّار في إحدى غُرْفتي بيته، فمات في الغرفة الأخرى مختنقاً بالدُّخَان.
في اليوم الموالي، ما إن تجاوزتُ باب البيت إلى الخارج، حتّى استثارني مشهد عجيب، بدا لي كأنّه في حلم. كان هنالك ضباب خفيف يلفّ البيوت، وأشعّة الشّمس التي تتمكّن من اختراقه تصل إلى الشّارع واهنةً، ورأيتُ، على بعد نحو 300 متر، أناسا جالسين على كراسيّ، وكلّ منهم عاكف على القراءة... منحتُ نَفسي لحظةَ حُلم، فتساءلت: لِمَ لا يكون المقهى الذي يجلس فيه هؤلاء النّاس مكتبةً أيضاً؟... وإذ اقتربت منهم كثيراً، غاضَ اندهاشي، فقد كان اثنان من بين زبائن ذلك المقهى يقرآن صحيفتيهما، والكثيرون ممّن تبقّى يتفحّصون، بانغماس شديد، «برامج الرّهان على الخيول»...
وبدا أنّ المكتبة التي أنتجها حلم يقظتي ذاك قدْ تبخّرت أمام الواقع الخشن... لكنْ لِلْحلم سطوته أيضاً، فبعد ذلك الصّباح بزمن، جلستُ يوماً بذلك المقهى، ثمّ لاحظتُ أنّ شخصاً قريباً منّي، ذا نظّارتين سميكتين، كان يقرأ كتاباً فِعليّاَ. وإذ رآني أحاول أن ألمح عنوان الكتاب، بادر وأدار صورة غلافه نحوي. «الفهد»، بالفرنسيّة: ذلك كان العنوان... وتلك كانت رائعة الإيطاليّ جوزيبي تومازي دي لامبيدوزا... وبشطحة خيال بسيطة، ناصرتُ حُلم يقظتي السّابق، إذ لمْ يصعب عليّ أن أتصوّر أنّ ذلك المقهى كان أيضاً مكتبةً، تضمّ كتاباً واحداً -هو رواية لامبيدوزا تلك- ولا تُعيرُه إلّا لشخص واحد، هو ذلك الرّجل ذو النّظّارتين السّميكتين...
زمن «الصّندوق الأخضر»
تشكّلتْ أولى مكتباتي، بُعيْد بلوغي السّابعة بقليل، من كتب ثلاثة فيما أذكر. ذلك كان المنطلق. وتلك الكتب كانت هي «دمعة وابتسامة» لجبران، و«النّحو الواضح» – لا أذكر مؤلّفه- وكتاب ثالث من تأليف أساتذة مصريّين، من بينهم أحمد أمين. هذا الكتاب الثّالث كان أصفر الورق، لكنّه لم يكن من الكتب الصّفراء، وإنّما كان يضمّ بين دفّتيه مقطوعات طويلة من قصائد جميلة، خُصَّتْ كلٌّ منها بتقديم مُحَبِّب، وشُرِحت كلماتها الصّعبة في أسفل الصّفحة. وعن طريق هذا الكتاب، ترسَّخَتْ في ذاكرتي أسماء شعراء، مثل: عُمارة اليَمنيّ – الذي لم أقرأ له شيئاً منذ زمن الطّفولة ذاك – وكشاجم وصالح بن عبد القدّوس، وفيه قرأت للمتنبّي مقطوعة طويلة من قصيدته عن الحُمّى، وللمعرّي مقطوعات، إلخ.
المهمّ أنّ تلك الكتب وُضِعتْ في جانب من «الصّندوق الأخضر»، كما كنّا نُسَمّيه في بيتنا، وستضاف إليها كتب أخرى عديدة، من بينها أوّل ما قرأتُ بالفرنسيّة: «سفينة آدريان». وكنّا وقتها نقطن ببلدة لَمزيندة، وهي بلدة عُمّاليّة صغيرة... في الجانب الآخر من «الصّندوق الأخضر»، كانت دفاتري وكتبي المدرسيّة. وكان عندنا في البيت «صندوق» آخر له مكانته في حياتنا اليوميّة، هو «الصّندوق الأحمر». هذا الأخير كان يحتوي على الأوراق المهمّة للمرحوم والدي...
وكان عدد الكتب في الصّندوق الأخضر يتزايد، وكنتُ أرتّبها وأعيد ترتيبها بنشوة خَفِيّة، وكثيراً ما كنتُ أقضي ساعات في القراءة (جورجي زيدان، ألكسندر دوماس، المنفلوطي، والتر سكوت...)، وبعدها، أمضي إلى الخارج، وحين لا يكون هنالك أطفال ألعب معهم كرة القدم أو ما شابه، كنتُ أمضي عبر أرضٍ خلاء حتّى أصِل إلى مشارف مقبرة البلدة، وهنالك أبدأ في تخيّل حيوات المدفونين هنالك (قبل موتهم، وربّما حتّى بعده)... بعد زمن طويل، سأقرأ إنّ «الكتابة سفر إلى عالم الأموات»، وقد بدا لي أنّ في إدمان القراءة أيْضاً سفراً من ذلك القبيل.
المكتبة... والإدراك الخيالي للعالم
ثمّ انتقلنا من لمزيندة إلى بلدة أكبر منها: اليوسفيّة، وهي مدينة عُمّالية أيضاً، وتجاوزتُ مرحلة الدّراسة الابتدائيّة، وأصبحتُ تلميذا بالثّانويّ. وهنالك اكتشفتُ مكتبة بدتْ لي بديعة وقتها، ولا شكّ أنّها كانت فعلاً كذلك: إنّها المكتبة التّابعة لإدارة الفوسفاط (تُكْتب هذه الكلمة عندنا بالطّاء)... لقد كانتْ مُكوّنة من حجرتين كبيرتين، إحداهما انتَظمتْ على رفوفها كتب عربيّة (أو مترجمة إلى العربيّة) – وكانتْ تضمّ منها العشرات – والأخرى خُصِّصَتْ للكتب الفرنسيّة، وكانتْ تحتوي منها الكثير أيْضاً. وكنتُ أقطع الطّريق من حيّ «البلوك»، حيثُ سَكنّا زمناً، إلى تلك المكتبة، وأنا متوفّز لاستكشاف عوالم غير مألوفة، وبدأتُ أعتبر أنّ الذين لا يقرؤون يحرمون أنفسهم من قضاء أروع الأوقات، ولكم سُرِرْتُ، لاحقاً، حين قرأتُ في الجزء الأوّل من «كتاب الحيوان» للجاحظ: «قال أبو عمرو بنُ العلاء: ما دخلتُ على رجل قطُّ ولا مررتُ ببابه، فرأيتُهُ ينظر في دفترٍ وجليسُه فارغُ اليد، إلّا اعتقدتُ أنّه أفضلُ منه وأعقل»!
مكّنتْني تلك المكتبة من قراءة – جُزْئيّة أو كُلّية - لعدد كبير من الكتب: «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، «الكامل» للمبرِّد... إضافة إلى ما لم يكنْ لديّ من روايات جورجي زيدان، وإلى كتب عديدة لطه حُسين وروايات نجيب محفوظ – الذي كنتُ أفضّله على ثروت أباظة ويوسف السّباعي وإحسان عبد القدّوس – وإلى مسرحيّات توفيق الحكيم... وبالفرنسيّة، مكّنتْني من قراءة روايات عديدة لألكسندر دوماس وستاندال وبعضٍ من مسرحيات شكسبير... إضافة إلى روايات بوليسيّة، كانت في غالب الأحيان إمّا تلك التي كتبها غاستون لورو، أو التي ينشط في فضاءاتها أرسين لوبين وشيرلوك هولمز...
وهنا، أريد أن أتوقّف عند مسألة تبدو لي مهمّة، وهي التّالية: تأثير «العكوف المطوّل في المكتبة» (أقصد: إدمان القراءة، وقراءة الأدب على الخصوص) على إدراك الفرد للعالَم، فالباحثون في مجال اللسانيّات الإثنيّة يعتبرون أنّ لغةَ مجتمع ما تُحَدِّد نظرة النّاطقين بها إلى العالَم، وعلى سبيل المثال، فلو تصوّرْنا لغةً تُطلِق على اللونين الأزرق والأخضر اسْماً واحِداً، إذنْ لبدا اللونان المذكوران للنّاطقِين بتلك اللغة لوناً واحِداً... أمّا تأثير إدمان قراءة الأدب خاصّةً، فيتجلّى في الشّحن القويّ للخيال وفي شَحذه، بحيثُ يُصبِح لدى «المقيم» في المكتبة تداخُلٌ غيرُ مفتعل بتاتاً بين ما في الكتب وما في الواقع الأجرد، بشكل يتيح أن يخرج ناسٌ من الكتب ليتجسّدوا في الواقع، وأن يدخل آخرون من الواقع ليلتحقوا بمواقعهم كأبطال في روايات أو ما شابه...
وتوالى حضور المكتبات في حياتي، فرافقتْني في تنقّلي بين مدن عِدّة... وأنا الآن مُقيمٌ بِسَلا، وقد خصَّصْتُ لكتبي غرفة- مَكتبة، أعتبرها «غرفة الأسفار»، أو غرفة الإقلاع إلى عوالم مجهولة ومُغرية... فلديّ مكتبة من الصّنف المألوف، أي أنّها مُشَكّلة من رفوف وتضمّ كتباً وَرَقِيّة، ومكتبة أخرى إلكترونية تتضمّن عدداً كبيراً من الكتب، موزّعة على لوح إلكتروني و«قارئة» (جهاز إلكتروني للقراءة)... وما زالت مشتعلةً في الأعماق جذوةُ التّوق إلى تلك الأسفار التي في طاقتها أنْ تُجَدّد للمرء شباب وجدانه، كلّما حاولتْ أنْ تغزوَهُ غضونُ المألوف والمكرور!
أثر القراءة
لا أنْسى أنّي، في زمن الصِّبا، قرأتُ مرّةً عن شاعر عبّاسيّ أنّهُ لُقّب بـ«سَلْم الخاسِر» لأنّهُ باعَ مُصْحَفاً واشترى بثمنه طنبوراً، فكان من تأثير ذلك أنّ شخصاً كان يُدْعى لهويشْمي، وكان يأتي حامِلاً طنبوره ويُغَنّي ويرقص أمام أبواب منازل الحيّ، أضْحى عندي هو سَلْم الخاسر نفسه. ولم أكن أجد تناقضاً بين إدراكي أنّ لهويشمي هو، في وجه من الحقيقة، شخص مختلف عن سَلْم، وفي وجه آخر منها، هو سَلْم نفسُه... وكنتُ أقيمُ نفس النّوع من التّماهي بين عُمارة اليَمنيّ – الشّاعر الذي قتله صلاح الدّين الأيّوبي – وبين شخص رائع، كان يشتغل كاتِباً عُموميّاً ويسكن في حيّنا، من دون عائلة، وكان يُسَمّى أيضاً عُمارة، ومن غريب المفارقات أنّه، بدوره، لم يَمُتْ ميتة طبيعيّة، وإنّما اشتعلت النّار في إحدى غُرْفتي بيته، فمات في الغرفة الأخرى مختنقاً بالدُّخَان.