هذه هي الحلقة الثانية من سلسلة الأبحاث حول البلاغة الغربية التي تعد خصيصاً لمجلة علامات. إننا، في وضع يتطلب منا، أكثر مما كان يتطلب من سلامة موسى أو أمين الخولي أو مصطفى صادق الرافعي، النظر إلى الوراء لاستيعاب الإنجازات الضخمة لأجدادنا، من الغربيين هذه المرة، قبل وبعد استيعاب تراث أجدادنا من العرب. إن فهم هذه الإنجازات، لهو عمل لا يقدر بثمن، وذلك ليس لفهم الخطابات فقط بل لفهم الإيديولوجيا عامة، فهماً نقدياً، ولفهم الرسائل التي تصلنا عبر شتى وسائل الإعلام. إنه عمل يسعف على فهم واقعنا. إنه نقد الإعلام، والدعاية السياسية والإشهار، وما يعادل ذلك من أشكال العنف اللفظي أو الإشاري عموماً.
>إن المجال الممتاز الذي يزدهر فيه الحجاج، أي الجدل والخطابة، لهو ذلك الذي تتداخل فيه القيم. لقد كشف أفلاطون بشكل جيد، في حواره حول الشفقة، بأن المجال الممتاز للجدل قل أيضاً الحجاج] لهو ذلك الذي يفلت من قبضة الحساب والوزن والقياس، أي ذلك الذي نعالج فيه ما هو صائب وما هو باطل، ما هو جميل وما هو ذميم. وبصفة عامة : إن الأمر يتعلق بمجال ما هو مستحسن<.( هذا الموضوع هو الذي عالجناه في العدد الخامس من مجلة علامات. هذا يمثل المادة الخام لكل نص خطابي. نعود هنا لكي نلقي بعض الأضواء على تصور البلاغيين للأمور المتعلقة بالترتيب. آملين أن نعود في عدد لاحق إلى الأمور المتعلقة بالصياغة اللفظية.
يميز البلاغيون الغربيون بين مراحل خمس في إعداد الخطابة. الخطابة حيث تكون مجرد مشروع إلى الخطابة التي تلقى أمام المستمعين. وهذه المراحل الخمس هي :
الإيجاد : وهو عبارة عن تحديد المشكلة المطروحة والبحث عن الوسائل المناسبة للإقناع. وبالإضافة إلى الحجج هناك اتكاء على عنصري طبائع الخطيب وانفعالات الجمهور. فبالنسبة إلى الخطيب هناك صفة أساسية ينبغي أن يتصف بها لحظة إلقاء الخطبة، وتتمثل في الظهور بمظهر الصدق والثقة والإخلاص. يقول كروبيي : >إن الأشياء التي يريد الخطيب أن يقنعنا بصددها لا تكون فعالة بحسب ما تكون عليه في ذاتها، ...] بل إن اعتبار شخص ذلك الذي يتحدث يؤثر كثيراً في عملية الإقناع ...] إن الوسيلة الإقناعية الأكثر فعالية هي فضيلة ذلك الذي يتحدث.<(2) وبالنسبة إلى الحالة العاطفية للجمهور فهي تتمثل في الأحوال التي ينبغي للخطيب إثارتها فيه. ففي كل جنس من الخطابة هناك الانفعالات المناسبة المراد إثارتها. يقول بيتي : >لا يكون الخطيب موفقاً إلا حينما يكون على علم تام بقلب المستمع.<(3) وهذه المعرفة بطبيعة الجمهور تجعل الخطيب يتحكم في طرق التماس السبيل نحو قلبه. (الواقع أن هذا يمثل موضوع المقال الذي نشر في العدد السابق من مجلة علامات.) الترتيب : بعد إعداد المواد في الذهن ينتقل الخطيب إلى لحظة ترتيب هذه المواد، أي إلى لحظة الهيكلة وتهيئة مخطط مناسب للخطابة. (وهذا ما يشكل موضوع هذه المقالة). العبارة : هنا ينتقل الخطيب لكي يصوغ، لغوياً وبشكل ملموس، ما حشده في لحظة الإيجاد من حجج ومقومات طبائع الخطيب والجمهور، وما نظمه في لحظة الترتيب. ويلتقي هنا، في هذه اللحظة الصياغية، كل ما يتعلق بالنحو، أي عناصر السلامة اللغوية المجردة والتداولية أو المعاني باعتبار هذه تتعلق باستخدام اللغة في سياق ما، أي إن الأمر يتعلق بقابلية الفهم الواضح ضمن السياق. والمحسنات باعتبار هذه تنص على المحسنات الخارقة لقواعد لغوية ما. والحقيقة أن هذا شكل من أشكال الضرورة، أو تلك المتعلقة باصطناع قواعد زائدة على تلك التي يصطنعها النحاة بل عن تلك المطلوبة في فن شعري ما. في هذه الحالة نلتقي بما يمكن اعتباره قواعد زائدة يتكلفها الخطيب. وهذا أشبه ما يكون بـ "لزوم ما لا يلزم" .هذه المباحث كلها هي التي ستحظى بتسمية مشرفة عند المعاصرين ألا وهي الأسلوبية. وربما أطلق عليه آخرون شعرية أو بلاغة المحسنات مقابل بلاغة النزاع. المحسنات قد تتعلق بالأصوات أوالتركيب أو المعنى أوالأفكار.
الذاكرة : بعد لحظة الصياغة اللغوية تأتي اللحظة المسماة التذكر. وهي اللجوءإلى حفظ الخطابة عن ظهر قلب لكي يسهل الإلقاء. الإلقاء أوالأداء : وهنا نلتقي بالإلقاء الدرامي للخطابة. إن الأمر يتعلق بكل بساطة بما يسميه المعاصرون التعبير الشفوي.
الترتيب : يقول أحد البلاغيين المرموقين : >تتوفر اللغة اليونانية على كلمة واحدة هي >كوسموس< للدلالة على العالم وعلى النظام أو الترتيب. وذلك مقابل >الكاوس< التي تعني السديم. وهذا يعني أن المرحلة قبل الترتيب لا أهمية لها. وبمعنى آخر فإن مرحلة الإيجاد لا تكتسب الأهمية إلا بفضل ما نحن فيه الآن ألا وهو الترتـيـب<(4). ينقسم الترتيب بدوره كنص إلى المراحل الآتية : الافتتاح والمجمل والسرد أو التقسيم والحجاج أي الدفاع والتفنيد] والخاتمة. فبعد أن يعين الخطيب المواد الأساسية المطلوبة في الخطابة ينتقل إلى تنظيم هذه المواد الغفل لكي يرتبها في هيكل أو مخطط. وليس الترتيب مجرد تنظيم للوحدات الخطابية، أي للأفكار المتوفرة في المخزون الفكري للخطيب بل هو ترتيب أيضاً للصيغ اللغوية التي يتوفر عليها في مخزونه اللغوي وللصيغ الجمالية (أي المحسنات) التي يتوفر عليها في مخزونه البلاغي. وسنركز بالتوازي مع ذلك على المرحلة المسماة السرد وسماها اللاتينيون نراسيو وسماها أرسطو دييجزيس. وهي المعلومات المتعلقة بالحدث الذي يسند الحجاج أو الأركومنتاسيو في المصطلح اللاتيني. فقبل أن نشرع في عرض الحجج المؤيدة أو المفندة علينا أولاً أن نعرف الملف بتفاصيله وتشعباته. هذا العرض هو الذي يسمى السرد عند البلاغيين القدماء. إنه عرض المادة أو الأحداث كما يعتقد أنها قد وقعت أو وقعت بالفعل.
ليس هناك اتفاق عام بين منظري الخطابة حول الأجزاء المكونة لها. ففي الوقت الذي يعتبرها أرسطو أربعة وهي الافتتاح والعرض والحجاج والخاتمة. فإن كينتيليان يجدها خمسة وهي الافتتاح والسرد والحجاج والتفنيد والخاتمة. ويعتبرها سيسرون ستة وهي الافتتاح والسرد والتقسيم والإثبات والتفنيد والخاتمة. أما مارتيانوس مينوس فيجدها سبعة وهي الافتتاح والسرد والاستطراد والإجمال والتفصيل والحجاج والخاتمة،الخ.
إن هذه الأجزاء التي يتحدث عنها البلاغيون توهم بأن كل أنواع الخطابة، ومهما اختلفت مواضيعها، تتألف دوماً من نفس العدد من المراحل وتقوم في نفس الآن على نفس الترتيب. والواقع ليس كذلك. إن الافتتاح، على سبيل المثال، تقوم وظيفته على إعداد الجمهور بإثارة اهتمامه وإفادته واستمالته. ومع ذلك فإن أرسطو نفسه يؤكد أن >الخطبة الاستشارية لا تستدعي بالضرورة هذا الافتتاح، إذ أن المستمعين يعلمون مسبقاً المشكل المطروح<.(5) ولكن يمكن أيضاً تجاوز مثل هذه المقدمات حينما لا يسعف الزمن بالتوقف عندها. يلاحظ أرسطو أن الافتتاح قد يهتم بالخطيب أو بالخصم أو بالموضوع أو بالمستمعين. فحينما يتعلق الأمر بتزيين صورة الخطيب في ذهن المستمعين ونفي ما ينال من هذه الصورة من شوائب فمن الطبيعي أن يبدأ الخطيب بهذه النقطة بالذات لأن المستمع لا يمكن أن يستمع إلى خطيب لا يحظى بسمعة جيدة. ولكن حينما يتعلق الأمر بمحاولة تلطيخ صورة الخصم فمن المستحب تأخير ذلك إلى خاتمة الخطابة وذلك سعياً إلى ترسيخ هذه اللحظة في أذهان القضاة. يتضح من هذا الذي تقدم أن المكان الذي يمكن أن يشغله أي مكون في الخطابة، عرضاً لحدث ما أو حجة ما، له دور وظيفي في الإقناع. إن هذا تابع للغاية المتوخاة وللوسيلة الأكثر فعالية لبلوغها.(6) الترتيب الطبيعي
إن الوضع المفهومي واللفظي الطبيعي المعتاد يسمى الترتيب الطبيعي الذي نجده على سبيل المثال في تعاقب الأحداث تعاقباً تاريخياً في السرد؛ أو في تعاقب أجزاء الجملة التعاقب المعتاد. إن الترتيب يبعث الإحساس بالوضوح وبالمصداقية الطبيعية، إلا أن ذلك يمكن أن يبعث الإحساس بالرتابة والملل.(7)
إن ما ينبغي الاحتفاظ به من هذا التعريف هو أن ...] الترتيب هو في المرتبة الأولى توزيع أو تقسيم. ينبغي أن نصنف الحجج وأن نعرف المكان الذي ينبغي أن تستعمل فيها : لا يمكن أن نحشر في أي مكان أية حجة أو أية فكرة. إن هناك نوعاً من الشبكة الأولية لكل خطاب : إننا، بعد تهيئة المستمع وبعد أن نلفت انتباهه، نعرض المشاكل والحجج لأجل إقناعه وتفنيد حجج الخصم. وهذه لا تأتي في النهاية إلا بعد أن يكون المستمع على علم بهذه الأحداث والمشاكل. وفي الأخير فإن هذا ينبغي أن يختصر، وفي نفس الآن فإن انفعالات المستمع ينبغي أن تكون منحازة لصالح القضية التي يدافع عنها. إن الأمر يتعلق > بمسار؛ وإن أي واحد يمكن أن يبرهن بسهولة على أن حكاية مضحكة وصناعة أخبار سارة وكئيبة للأصدقاء وفي ظروف متعددة أخرى من الحياة الاجتماعية فإنه يتبع بالتقريب نفس الترتيب المتكون من الأجزاء الأربعة، أي الافتتاح والسرد والحجاج والاختتام. الترتيب الصناعي
إن الترتيب المصنوع للوضع المعتاد يسمى الترتيب الصناعي. إن هذه الخاصية الصناعية تتمثل في التعاقب الذي لا يطابق السيرورة التاريخية للأحداث في السرد أوالتعاقبات غير المعتادة في اللغة لأجزاء من الجمل بالتقديم والتأخير أو بالحذف أو بالزيادة أو بالاعتراض. إن هذه المحسنات الخارقةللعادة، تقدم في صور الفكر كما تقدم في صور اللفظ. وإننا نجد لهذه ولتلك أثراً جمالياً لافتاً، وهي تسير في الاتجاه الذي ينتفي معه الشعور بالملل والرتابة. وبهذا ينزع السرد في هذه الحالة نزعة جمالية يكف معه عن أن يكون مجرد أداة إخبارية أو إعلامية. يتوجه السرد هنا الوجهة الجمالية أو الشعرية. ولهذا يمكن أن يستهلك النص في هذه الحالة استهلاكاً شعرياً. والخطر الذي يتهدد النص الخطابي في هذه الحالة هو فقدان الوظيفة الخطابية لكي يتحول إلى مجرد نص أدبي. ومع ذلك فإن هذا يضعف الإحساس بالمصداقية الطبيعية. ولعلنا لا نجد استعارة لوصف هذا التأرجح للخطاب بين هاتين الوظيفتين أبلغ من هذا النص لشلوفسكي وهو يسعى إلى المقارنة بين نمطي الخطاب : الأول نفعي خالص تغلب عليه الرتابة والثاني جمالي يمتاز بالطراوة والجاذبية. >إن الناس الذين يسكنون بجوارالشاطئ يصل بهم الأمر إلى التعود على خرير الموج إلى حد لا يكادون يسمعونه، ولنفس السبب لا نكاد نسمع الكلمات التي نتلفظ بها... إننا نتبادل النظرات، إلا أننا لا نكاد يرى بعضنا البعض. لقد اضمحل إدراكنا بالعالم. إن هذا الضغط القاسي للرتابة والعادة هو ما يطالب الشاعر باحتوائه. إن الشاعر وهو ينتزع الشيء من سياقه المعهود ويوحد التصورات المتباينة يوجه ضربة قاضية للكليشيهات اللفظية، كما يقضي على الاستجابات المتكررة دوماً ويرغمنا على إدراك أكثر سمواً للأشياء ولنسيجها المحسوس. إن عملية التحويل الخلاق للأشياء تعيد لنا رهافة إحساسنا وتكسب العالم المحيط بنا" الكثافة".< >الكثافة هي الخاصية الرئيسية لهذا العالم الخاص المتشكل من الأشياءالتي تم خلقها قصداً والتي تشكل في كليتها ما نسميه الفن < كثيراً ما عمدت الملخصات، لأجل فهم أهمية الترتيب، إلى الاستعارات. > إن النظام ضروري للجندي كما هو ضروري بالنسبة للجنرال، فكما أن جيشاً مهْما كان حجمه عظيماً فإنه ضعيف جداً إذا لم يكن هناك نظام قوي، وهكذا فإن حججاً كثيرة وقوانين كثيرة ودلائل سلطوية مع فيض الكلمات لا تخلف أي تأثير إذا لم يكن كل شيء موضوعاً في مكانه المناسب. وعلى العكس من ذلك فإن الكثرة تخنق ذاكرة المستمعين وتزعجها. ويعتبر سيسرون الخطاب نوعاً من البناء مبنيا من الكلمات والأفكار. نحن نعرف أننا حينما نريد أن نشيد بناءً ما، لا نؤلف، بعد أن نكون قد أعددنا المواد الضرورية، بين المواد على سبيل الصدفة وبدون نظام، وبدون احترام قواعد المعمار، وإنما نفعل ذلك بالاهتداء بالقواعد. وبهذا نكسب هذا البناء التنسيق الذي يسهم في نفس الآن في جماله وفي متانته وفي راحة أولئك الذين يريدون أن يسكنوا فيه. كذلك الأمر بالنسبة إلى الخطابة : إن النظام يقصي الفوضى ويعمم الوضوح ويكسبه الرقة واللطافة ويزيده قوة < (8). إن كل ما يمدحه هؤلاء البلاغيون في جسم الإنسان وفي الجيش وفي المعمار، أي ما يشكل نقطة التشابه هو التناغم والنظام والوضوح وهي في مجملها تمثل خصائص الجمالية الكلاسيكية. إن هذا النظام الذي يُتَحدث عنه هنا يفترض أن الحجة وحدها لايمكن أن تكون فعالة لمجرد أنها حجة جيدة، بل ينبغي بالضرورة، لكي تكون فعالة حقاً، أن تصاغ الصياغة المناسبة. وفي هذه الحالة تتدخل كل الأمور المتعلقة بالترتيب. وإن هذه المراعاة للسياق ولمتطلباته العينية المتوخية للإقناع هي التي تجعل الخطيب يهمل ذلك الترتيب الطبيعي الجاهز لكي يتدخل بالتعديل للنظام وذلك للفت انتباه المتلقي واستغلال ذلك لأجل إقناعه. إن المتلقي نفسه يعشق مثل هذه الخطابات التي تفاجئه بالترتيب المصطنع والغريب والجذاب. وهذه الحالة هي فرصة ثمينة تقدم للخطيب لاستغلالها لتمرير الرسالة التي لا تمر على سبيل الترتيب الطبيعي.
1- الافتتاح
هذا الجزء الافتتاحي ليس خاصاً بالخطابة، إنه مشترك بين مجموعة من الفنون. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الموسيقيون عن البريلود يتحدث الكوميديون عن البرولوك ويتحدث الخطباء عن الإكزورد، أي الافتتاح. يتعلق الأول بالجزء البدئي المختصر ووظيفته هي إفادة المتلقي ولفت انتباهه وكسب عطفه أي استمالته.
الفائدة تعني كون المتلقي موجوداً في حالة الاستعداد للاستفادة والفهم، ولهذا السبب ينبغي أن يقدم الخطيب عرضاً واضحاً ومختصراً للقضية التي ستطرح أو للأطروحة التي يحاول البرهنة عليها.
إن "لفت الانتباه" لحظة أساسية لأنها الوسيط بين الجمهور والقضية المطروحة في الخطابة. إن الجمهور قد يبدي بعض الفتور إزاء ما يسمع. وهذا الفتور قد يجد أصوله في تعقيد القضية. أوفي الأحوال النفسية للجمهور غير المكترث بالقضية بسبب التعب أو الملل أو في العادات السيئة لجمهور مدلل أو مبالغ في تشدده، الخ. وإذا استعصت القضية على فهم الجمهور وجب اللجوء إلى صدمه لأجل إثارة انتباهه. هذا الأثر الجاذب يكمن في تأكيد أن الموضوع الذي سيعالج يكتسي أهمية بالغة. وهناك طرق مختلفة للتمكن من التهيئة الملازمة للمستمع :
أ- إن الوسيلة الأكثر بساطة وطبيعية هي أن نطلب بشكل صريح من المستمع الانتباه لما سنقوله. ب- وبالنسبة لجمهور متعب ينبغي أن نلجأ إلى الوعد بأننا سنكون مختصرين في السرد (وهذا الوعد من شأنه إعفاء الجمهور من الملل) ويمكن أن يكون موضع ثقة إذا كان الافتتاح نفسه يلتزم بهذه الخاصية الاختصارية .
ج- إن الوسائل التي يمكن بواستطها البلوغ إلى تفهم الموضوع وتتبعه باهتمام هي :
1- الالتفات، وهو التوجه بالكلام إلى أشخاص آخرين من غير القضاة المعنيين كأن يتوجه بالخطاب إلى الخصم. 2- التشخيص، 3- الشاهد، 4- المقارنة، 5- المجازات، وبالخصوص الاستعارات والسخرية.
إن الوسيلة الأكثر فعالية لإثارة الانتباه والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً باستمالة المتلقي هي إثارة التشوق لديه. ووسائل ذلك هي وصف الأشياء الجميلة : الطبيعة مثلا. ينبغي التنبيه هنا إلى أن الانتقال من هذه الأشياء الغريبة يكون في بعض الأحيان دقيقاً وحرجاً.
الاستمالة إنها تلازم المواقف المتأرجحة للقضاة. ففي القضايا التي يصعب أن نضبط فيها خطأً ما فإن تعاطف القاضي يمكن أن يلعب دوراً حاسماً. الوصفة الأولى تتعلق بالخطيب أو الموكل. ينبغي أن نطري أنفسنا باعتبارنا جديرين بتعاطف كل الناس. إن الخطيب يمتدح نفسه وذلك بوضع نفسه في الموضع الذي تلزمه الطيبوبة وذلك يعود إلى مقتضيات مهنته. عليه أن يلفت الأنظار إلى أن الوازع الأخلاقي هو الذي جعله يتحمل أعباء القضية وليس المصلحة المادية. أو إن البحث عن الحقيقة والشهادة عليها والمصلحة العامة ومواجهة احتمال انتصار الطرف الخصم الذي يجسد الظلم .
على الخطيب أن يتفادى تهمة الادعاء، إذ إن هذا في حال حصوله يؤدي إلى فقدان عطف الجمهور. ومما يكتسي أهمية بالغة الإخفاء المتواضع للفصاحة. وعلينا من الجهة الأخرى أن نبعث الشعور بأن خطابنا قد تم ارتجاله وبهذه الصفة فهو مجرد رد فعل إزاء الخطاب السابق. وتجريده من تعاطف الجمهور وبالخصوص الثناء على قدرته علي التمييز والحكم. إن الثناء على الجمهور ينبغي له أن يربط بالمشكل المطروح. وينبغي أن يتم ذلك بحذر وبشكل غير صارخ. إن إمتاع الجمهور ينال بواسطة أسلوب هو موضع عناية وخاضع للشروط التي يقتضيها الافتتاح.
ويكمن في الثناء على وجهة النظرالتي يتبناها الخطيب وفي الطعن في وجهة النظر التي يتبناها الخصم. يجوز في بعض الأحيان الإستغناء عن الافتتاح وذلك حينما يقتضي الداعي هذا الحذف. ففي الجنس الاستشاري ونظراً للطبيعة الاستعجالية للخطاب يمكن إختصار المقدمة بل يمكن حذفها. وفي الخطابة الاحتفالية يمكن أيضاً الاستغناء عن هذه المقدمة.
يمكن أيضاً اللجوء إلى أفكار تقديمية داخل الخطاب وبالخصوص الوسائل اللافتة. إن المكان الأفضل لمقدمة ثانية هي الحجاج؛ وهكذا يمكن أن نقيم هذا التوازي حينما نقدم في آخر الافتتاح على تقديم خلاصة السرد.
2- السرد
يعقب الافتتاحَ السردُ وهو العرض المفصل لما تم اختصاره في المجمل والمعروض في الافتتاح. فإذا كان محتوى الرسالة مبنيناً بشكل مفصل وفي شكل نقط، فإن المجمل يعقبه التفصيل وإذا كان محتوى الرسالة مترابط الأجزاء فإن المجمل يعقبه السرد.
ونحن سنتجاهل هنا هذا التدقيق التي لا يتشبث به إلا بعض البلاغيين. ويفضل الجمهور منهم تعميم المصطلح لكي يدل على هذه التغطية التي تتقدم العرض الحجاجي.
ينقسم السرد حسب محتواه إلى الأنواع التالية :
النوع الأول خاص بالخطبة القضائية، وفيه تثبت الأشياء بشكل يساهم فيه كل جزء في كسب القضية.
النوع الثاني هو عبارة عن سرد استطرادي. يقول باري : >النوع الثاني استطرادي ففيه نبتعد عن الموضوع، بعض الشيء، بغاية التوضيح أو التزيين. هنا تحشر حكاية الأمثلة.< النوع الثالث يطلق عليه السرد الأدبي وهو ينتمي إلى فن الشعر ويستعمل كتمرين في تكوين الخطباء. إن السرد الأدبي يمكن أن يتعلق بالأشياء والأفعال كما يمكنه أن ينصب على الأشخاص. أ- سرد الأشياء والأفعال التي تتفرع بحسب درجة الواقعية (التي تتحدد بواسطة ملامح الصدق والاحتمال) إلى ثلاثة فروع. منها الخرافة (الفابولا) وهي ليست حقيقية كما أنها ليست محتملة، والتاريخ هو أمر حقيقي (وهو في صياغته الأدبية محتمل) والتخييل الواقعي (الأركومينتو) ليس حقيقياً إلا أنه محتمل.
إن الخرافة تنقصها خاصية السرد الاحتمالي، ولهذا فإن نظرية الشعر قد أبدت دوماً عدم إمكان الدفاع عنها. إن وظيفتها هي الإمتاع. أما التاريخ فإن غايته هي الإفائدة المعنوية. إن التاريخ حقيقي إلا أنه يحتاج لكي يعرض أدبياً إلى الوسائل السردية الاحتمالية وتحديدا الأساس السيكولوجي للأحداث التاريخية الواقعية. هذا الأساس السيكولوجي يمكن أن يستعمل أدوات أي الوصف المفصل الإكفراسيس]. وهكذا فإن الخطابات التي تبدو كثيراً عند المؤرخين تسعى إلى تحقيق الاحتمال. ففي التاريخ يوضع الاحتمال في خدمة الصدق.
أما التخييل الواقعي الأركومنتوم] فهو روائي. وفيه نقدم ما يمكن حصوله باعتباره شيئاً حاصلاً. هذه المواد تتوفر على خاصية السرد الاحتمالي وتتطابق مع الوصف المكثف الشعري، أي الافتتاح العام للحدث تقديما مكثفاً، منسقا تنسيقاً متماسكاً أهلاً لبعث حالة انفعالية أو جمالية. إن غايته هي الإمتاع.
ب- السرد الذي يشدد على الشخصيات. وفيه يتم إبراز طبائعها وتقلبات الزمن عليها المبهجة أوالمحزنة وآمالها المحققة أوالخائبة. وبالنسبة إلى خاصية العرض نميز، تبعاً لأرسطو بين نوعين : ألأول هوالتقديم الدرامي للأشخاص. ويسمى أرسطو هذا دراماتيكون] الثاني هو الحكاية ويسميه أرسطو دييخيماتيكون]. وهنا نجد المخبر أوالراوي هوالذي يحكي الوقائع والخطابات (في الأسلوب غير المباشر) الثالث المكتون. هنا نجد المخبر يحكي ويسرد إلا أنه يعيد إنتاج خطابات الأشخاص في أسلوب مباشر. وفيما يتعلق بتعاقب الحكاية فإننا نميز السرد المتصل والسرد المنقطع. هذه التقطعات يمكن أن تتحقق في الاستطرادات كما يمكن أن تتحقق في الاستدلال الحجاجي.
جودة السرد ورداءته
إن جودة الخطاب عامة تكمن في القول الجيد (بيني ديسيري) والقصد العام بالنسبة إلى الخطاب يكمن في الإقناع. كذلك الأمر بالنسبة إلى السرد، ينبغي أن تكون له بطبيعة الحال، هذه المزية ويهدف إلى هذه الغاية. وفي الإطار العام للإقناع ينبغي أن نعتبر الإفادة الغاية الخاصة للسرد. الشيء الذي مهد في الافتتاح بواسطة واحدة من الحلقات الثلاث التي هي >إعداد المستمع للإستفادة<. في الحلقتين الأخريين تتفرغ إحداهما للفت نظر المستمع، وتتفرغ الثانية لاستمالته. وإلى جانب الفائدة يتدخل في نفس اللعبة الجزآن الآخران للإقناع : أي الإمتاع والإثارة. إلا أن الفائدة لا يمكن الاستغناء عنها، إنها النواة الأساسية. وتخدمه المزيات الثلاث الأخرى : الاختصار والوضوح والاحتمال. وبداخل تلك فإن المتعة والإثارة تلعبان وظيفة ثانوية.
المزيات الضرورية
هذه المزيات هي الاختصار والوضوح والاحتمال. والواقع أن المنظرين غير متفقين بشأن ترتيب هذه العناصر. إذ إن سيسرون يرتبها بالكيفية الآتية : الوضوح والاختصار والاحتمال. ويرتبها هِرْموخِنيسْ بالكيفية التالية : الاختصار والوضوح والاحتمال. هذه المزيات ينبغي التشبث بها على امتداد الخطابة؛ إلا أنها ضرورية بشكل خاص في السرد الذي يشكل أساس الحجاج الذي هو بدوره العنصر المعتمد في المحاكمة.
إن قواعد الاختصار هي :
- ألا نبدأ الخطاب إلا من النقطة الضرورية دون أن نتكلف عناء العودة إلى الأصول الأبعد.
- الاقتصار على ما هو مهم دون التورط في التفاصيل.
- أن نتجنب عرض الوقائع كاملة، ولكن أن نعرض ما هو ضروري فقط.
- تجنب الاستطرادات. والتخلص؛ تجنب التكرار.
إن الاختصار يقع بين حدين. وإن الاقتراب من أحدهما يوقع في أحد عيوب الاختصار يقول بوالو : > إن كل كلام زائد في خطبنا يبعث الإحساس بالتفاهة والحقارة<.(10) وهذا الأمر يؤدي إلى تغافل الجمهور. ومقابل هذا العيب نجد المزيتين : السرد الواضح والسرد المحتمل.
وبالنسبة إلى قواعد الوضوح فهي :
-التزام عرض الأحداث مرتبة باحترام التسلسل الزمني الواقعي أو المفترض.
- تجنب الخلط والانتقالات بين المواضيع والرجوع إلى الوراء وحذف العناصر الضرورية لموضوعنا.
- احترام قواعد الاختصار. فبقدرما يكون السرد واضحاً بقدرما يكون مستساغاً.
- أما قواعد الاحتمال فهي :
- الالتزام بضرورات العادات والآراء الشائعة وطبيعة الأشياء.
- مراعاة شروط الأشخاص والفعل والزمن والمكان والكيفية والسبب. (11)
استعمال السرد
إن السرد هو الجزء المكمل للخطاب. إلا أن هناك قضايا لا تستدعي بطبيعتها السرد. من قبيل ذلك الخطابة الاستشارية. أجزاء السرد
يمكن، كما هو الأمر بالنسبة إلى كل شيء، التمييز، في السرد، بين الصدر والوسط والعجز. وبصفة عامة فإن تنسيق الأجزاء من اهتمام الترتيب. ومع ذلك وكما هو الأمر بالنسبة إلى الكثير من القضايا الأخرى لا يمكن السكوت عنها في الترتيب.
أ- الصدر : إن صدر السرد تابع للترتيب الطبيعي أو للترتيب الصناعي للسرد. وهكذا يمكن البدء بأي جزء من أجزاء السرد. ففي الأدب على سبيل المثال يتم البدء بالمصاحبات الظرفية. كالموضوع والزمان والمكان والأداة والشخص والكيف، الخ.
ب ــ الاستطراد : إنه عنصر مدعم لكل أجزاء الخطاب سواء تعلق الأمر بالافتتاح أم بالحجاج أم بالاختتام. وهو يدعم على وجه الخصوص السرد الذي يمكن أن يتحقق في بدايته أم في وسطه أم في منتهاه. ويسمىه اليونانيون البريكباسيس. ويسميه كينتيليان إيكسكورسوس. والواقع أن أي تعبير عاطفي وأي تفخيم وأي اعتراض للجمهور فهو استطراد. إن محتويات الاستطرادات تتمثل في الوصف الاحتفالي والسرد التزييني الذي يمكن أن يتمثل في كل الأشكال السردية. ويرتبط بالوصف السردي الاستطراد الوجداني، المستعمل على وجه الخصوص في خاتمة الخطابة .
ج- التخلص أو الانتقال : ينصح المنظرون البلاغيون بضرورة الابتعاد عن كل أنواع الوصل بين خاتمة السرد وبداية الحجاج. إن التخلص إلى الحجاج يوفر إمكانيتين إحداهما عاطفية والأخرى عقلية. إن الإمكانية العاطفية تقوم على الاستطراد في حين أن الإمكانية العقلية تقوم على الإجمال أو البروبوزيسيو].
إن الاستطراد العاطفي يخلق جواً لصالح القضية ومفيداً للحجاج لكي يمارس تأثيره بشكل حاسم. والواقع أن الاستطراد العاطفي في نهاية السرد يضطلع بدور افتتاح جديد قبل الحجاج. وفي الواقع فإن انعدام استطراد يغلق السرد يطالب بتعويضه بافتتاحية جديدة.
د- الإجمال أو البروبوزيسيو] هو النواة المفهومية لمحتوى السرد. هذه النواة يمكن أن يعبر عنها في نهاية السرد باعتبارها تلخيصاً للسرد. ويستعمل تبعاً لذلك كمدخل إلى الحجاج . 3- الحجاج
كما يعقب الافتتاحَ السردُ، يعقب السردَ الحجاجُ الذي يجعله أرسطو مفخرة الخطباء والنواة المركزية لكل خطابة بل لكل خطاب. (بل لكل كلام، ما دام الكلام هو الأداة لتحقيق التجمع). إذ ما الفخر الذي يمكن أن يجلبه حكي الحدث للخطيب، ما دام الحدث شيئاً معطى واقعياً؟. إن مظهر الموهبة الخطابية يتمثل في القدرات الحجاجية المبتكرة والمركبة على المادة الحدثية المحكية. إن التماس وحصول التخفيف عن متهم بارتكاب جريمة ما، لا يمكن تبريره لمجرد سوق الحدث. إن ذلك لا يمكن حصوله إلا بالقدرات الحجاجية للخطيب وكفاءته في استنباط الحجج المؤيدة لطلب البراءة أوالتخفيف. والواقع أن هذه الحلقة هي التي يتم تناولها ضمن مبحث الإيجاد. وما دام المقال السابق في علامات (العدد 5) قد كان مكرساً له، فإننا لن نخوض فيه الآن. ونكتفي هنا بإحالة القارئ عليه. 4- الخلاصة
إن الجزء المختصر الذي تنتهي به الخطابة يتطابق مع الاستنتاج ويلخص ما تمت البرهنة عليه في الحجاج. وبفضل هذا اليقين فإن المرافع يطلب من القاضي إصدار حكم لصالحه. ولهذه الخاتمة وظيفتان : أولاهما هي تثبيت درجة اليقين، وذلك بفضل التطابق بين السرد (البروبوزيسيو) والاستنتاج. وبفضل التكرار بشكل مختصر للحجج التي تم الإدلاء بها في الحجاج. وثانيهما هي إثارة عواطف مساندة للطرف المرافع من شأنها أن تدفع القاضي إلى إصدار حكم لصالحه. الحصيلة أو التعداد ووظيفتها الأساسية هي إنعاش الذاكرة. إلا أنها بفضل التعداد الملازم للاختصار فإنها تؤثر على العواطف. إن التعداد يقوم على الاختصار. ومع ذلك فلا ينبغي له أن يستخف بالتحسين. إن التعداد في رأي باري يعبر بشكل مغاير عما سبق قوله، إذ إن التنويع يذهب التقزز. للاختتام غايتان : الأولى هي إنعاش الذاكرة والثانية هي التأثير على عواطف المتلقي. يميز باري خمسة أجزاء في الخاتمة، وهي حسب رأي البلاغي الفرنسي : التلخيص والاختيار والأمر والتنويع والإثارة. في حين يذهب أرسطو إلى أن عناصر الخاتمة أربعة وهي >استمالة المستمع إلى جهة الخطيب وتنفيره من الخصم ؛الرفع والحط؛ التأثير العاطفي على المستمع؛ إنعاش الذاكرة<.(12) إن الخلاصة هي الفرصة الأخيرة للتأثير على القاضي في الاتجاه الإيجابي الذي يخدم قضيتنا وفي الاتجاه السلبي للخصم. ففي الوقت الذي يكون فيه اللجوء إلى العواطف في كل أجزاء الخطابة خفيفاً فإن أبواب العواطف في هذه اللحظة تفتح على مصراعيها. إن العواطف التي تنبغي إثارتها في هذه المناسبة هي إثارة سخط على الخصم من جهة، وإثارة الرأفة لصالح المدافع من الجهة الـأخرى. من أهم متطلبات جودة الاختتام نجد الإيجاز. إلا أن المحسنات البلاغية تزيد هذا الاختتام عذوبة. الإيجاز هو بهذا المعنى أداة عاطفية. ينصح بالاختصار على وجه الخصوص في الاستعطاف أوالرأفة. إذ إن الدموع لا تسكب بشكل دائم، إنها تجف بشكل سريع (13).
الهوامش
1-- Perelman (Ch.), L'Empire rhéthorique;, éd.Vrin, 1977, p.176
2 - - Varga (K.), Rhéthorique et littérature, éd. Didier, Paris, 1970, p. 43
3- - in Rhéthorique et littérature, p. 33
4 - - Manuel abrégé de rhétorique, p. 58
5 - - Reboul, Introduction à la rhéthorique, PUF, 1991, p.166
6 - - L'Empire rhétorique, p. 162
7-- Lausberg (K.), Elementos de retorica literaria, ed.Gredos, Madrid, 1975, p.38
8 - - Varga, Rhéthorique et littérature, p. 69
9 - Lausberg, Manual de retorica literaria, ed. Gredos, Madrid, 1975 p 59 تعتبر هذه الإحالة الأخيرة مرجعنا الأساسي في إعداد هذا المقال.
10- in H. Lausberg , Tome I , p. 269
11- Patillon , Michel : eléments de rhétorique classique , éd Nahan , p 18
12- Rhétorica , p . 294
13- Lausberg , op cit , p.363
المصدر:
موقع سعيد بنكراد - مجلة علامـات - العدد 6 - 1996
>إن المجال الممتاز الذي يزدهر فيه الحجاج، أي الجدل والخطابة، لهو ذلك الذي تتداخل فيه القيم. لقد كشف أفلاطون بشكل جيد، في حواره حول الشفقة، بأن المجال الممتاز للجدل قل أيضاً الحجاج] لهو ذلك الذي يفلت من قبضة الحساب والوزن والقياس، أي ذلك الذي نعالج فيه ما هو صائب وما هو باطل، ما هو جميل وما هو ذميم. وبصفة عامة : إن الأمر يتعلق بمجال ما هو مستحسن<.( هذا الموضوع هو الذي عالجناه في العدد الخامس من مجلة علامات. هذا يمثل المادة الخام لكل نص خطابي. نعود هنا لكي نلقي بعض الأضواء على تصور البلاغيين للأمور المتعلقة بالترتيب. آملين أن نعود في عدد لاحق إلى الأمور المتعلقة بالصياغة اللفظية.
يميز البلاغيون الغربيون بين مراحل خمس في إعداد الخطابة. الخطابة حيث تكون مجرد مشروع إلى الخطابة التي تلقى أمام المستمعين. وهذه المراحل الخمس هي :
الإيجاد : وهو عبارة عن تحديد المشكلة المطروحة والبحث عن الوسائل المناسبة للإقناع. وبالإضافة إلى الحجج هناك اتكاء على عنصري طبائع الخطيب وانفعالات الجمهور. فبالنسبة إلى الخطيب هناك صفة أساسية ينبغي أن يتصف بها لحظة إلقاء الخطبة، وتتمثل في الظهور بمظهر الصدق والثقة والإخلاص. يقول كروبيي : >إن الأشياء التي يريد الخطيب أن يقنعنا بصددها لا تكون فعالة بحسب ما تكون عليه في ذاتها، ...] بل إن اعتبار شخص ذلك الذي يتحدث يؤثر كثيراً في عملية الإقناع ...] إن الوسيلة الإقناعية الأكثر فعالية هي فضيلة ذلك الذي يتحدث.<(2) وبالنسبة إلى الحالة العاطفية للجمهور فهي تتمثل في الأحوال التي ينبغي للخطيب إثارتها فيه. ففي كل جنس من الخطابة هناك الانفعالات المناسبة المراد إثارتها. يقول بيتي : >لا يكون الخطيب موفقاً إلا حينما يكون على علم تام بقلب المستمع.<(3) وهذه المعرفة بطبيعة الجمهور تجعل الخطيب يتحكم في طرق التماس السبيل نحو قلبه. (الواقع أن هذا يمثل موضوع المقال الذي نشر في العدد السابق من مجلة علامات.) الترتيب : بعد إعداد المواد في الذهن ينتقل الخطيب إلى لحظة ترتيب هذه المواد، أي إلى لحظة الهيكلة وتهيئة مخطط مناسب للخطابة. (وهذا ما يشكل موضوع هذه المقالة). العبارة : هنا ينتقل الخطيب لكي يصوغ، لغوياً وبشكل ملموس، ما حشده في لحظة الإيجاد من حجج ومقومات طبائع الخطيب والجمهور، وما نظمه في لحظة الترتيب. ويلتقي هنا، في هذه اللحظة الصياغية، كل ما يتعلق بالنحو، أي عناصر السلامة اللغوية المجردة والتداولية أو المعاني باعتبار هذه تتعلق باستخدام اللغة في سياق ما، أي إن الأمر يتعلق بقابلية الفهم الواضح ضمن السياق. والمحسنات باعتبار هذه تنص على المحسنات الخارقة لقواعد لغوية ما. والحقيقة أن هذا شكل من أشكال الضرورة، أو تلك المتعلقة باصطناع قواعد زائدة على تلك التي يصطنعها النحاة بل عن تلك المطلوبة في فن شعري ما. في هذه الحالة نلتقي بما يمكن اعتباره قواعد زائدة يتكلفها الخطيب. وهذا أشبه ما يكون بـ "لزوم ما لا يلزم" .هذه المباحث كلها هي التي ستحظى بتسمية مشرفة عند المعاصرين ألا وهي الأسلوبية. وربما أطلق عليه آخرون شعرية أو بلاغة المحسنات مقابل بلاغة النزاع. المحسنات قد تتعلق بالأصوات أوالتركيب أو المعنى أوالأفكار.
الذاكرة : بعد لحظة الصياغة اللغوية تأتي اللحظة المسماة التذكر. وهي اللجوءإلى حفظ الخطابة عن ظهر قلب لكي يسهل الإلقاء. الإلقاء أوالأداء : وهنا نلتقي بالإلقاء الدرامي للخطابة. إن الأمر يتعلق بكل بساطة بما يسميه المعاصرون التعبير الشفوي.
الترتيب : يقول أحد البلاغيين المرموقين : >تتوفر اللغة اليونانية على كلمة واحدة هي >كوسموس< للدلالة على العالم وعلى النظام أو الترتيب. وذلك مقابل >الكاوس< التي تعني السديم. وهذا يعني أن المرحلة قبل الترتيب لا أهمية لها. وبمعنى آخر فإن مرحلة الإيجاد لا تكتسب الأهمية إلا بفضل ما نحن فيه الآن ألا وهو الترتـيـب<(4). ينقسم الترتيب بدوره كنص إلى المراحل الآتية : الافتتاح والمجمل والسرد أو التقسيم والحجاج أي الدفاع والتفنيد] والخاتمة. فبعد أن يعين الخطيب المواد الأساسية المطلوبة في الخطابة ينتقل إلى تنظيم هذه المواد الغفل لكي يرتبها في هيكل أو مخطط. وليس الترتيب مجرد تنظيم للوحدات الخطابية، أي للأفكار المتوفرة في المخزون الفكري للخطيب بل هو ترتيب أيضاً للصيغ اللغوية التي يتوفر عليها في مخزونه اللغوي وللصيغ الجمالية (أي المحسنات) التي يتوفر عليها في مخزونه البلاغي. وسنركز بالتوازي مع ذلك على المرحلة المسماة السرد وسماها اللاتينيون نراسيو وسماها أرسطو دييجزيس. وهي المعلومات المتعلقة بالحدث الذي يسند الحجاج أو الأركومنتاسيو في المصطلح اللاتيني. فقبل أن نشرع في عرض الحجج المؤيدة أو المفندة علينا أولاً أن نعرف الملف بتفاصيله وتشعباته. هذا العرض هو الذي يسمى السرد عند البلاغيين القدماء. إنه عرض المادة أو الأحداث كما يعتقد أنها قد وقعت أو وقعت بالفعل.
ليس هناك اتفاق عام بين منظري الخطابة حول الأجزاء المكونة لها. ففي الوقت الذي يعتبرها أرسطو أربعة وهي الافتتاح والعرض والحجاج والخاتمة. فإن كينتيليان يجدها خمسة وهي الافتتاح والسرد والحجاج والتفنيد والخاتمة. ويعتبرها سيسرون ستة وهي الافتتاح والسرد والتقسيم والإثبات والتفنيد والخاتمة. أما مارتيانوس مينوس فيجدها سبعة وهي الافتتاح والسرد والاستطراد والإجمال والتفصيل والحجاج والخاتمة،الخ.
إن هذه الأجزاء التي يتحدث عنها البلاغيون توهم بأن كل أنواع الخطابة، ومهما اختلفت مواضيعها، تتألف دوماً من نفس العدد من المراحل وتقوم في نفس الآن على نفس الترتيب. والواقع ليس كذلك. إن الافتتاح، على سبيل المثال، تقوم وظيفته على إعداد الجمهور بإثارة اهتمامه وإفادته واستمالته. ومع ذلك فإن أرسطو نفسه يؤكد أن >الخطبة الاستشارية لا تستدعي بالضرورة هذا الافتتاح، إذ أن المستمعين يعلمون مسبقاً المشكل المطروح<.(5) ولكن يمكن أيضاً تجاوز مثل هذه المقدمات حينما لا يسعف الزمن بالتوقف عندها. يلاحظ أرسطو أن الافتتاح قد يهتم بالخطيب أو بالخصم أو بالموضوع أو بالمستمعين. فحينما يتعلق الأمر بتزيين صورة الخطيب في ذهن المستمعين ونفي ما ينال من هذه الصورة من شوائب فمن الطبيعي أن يبدأ الخطيب بهذه النقطة بالذات لأن المستمع لا يمكن أن يستمع إلى خطيب لا يحظى بسمعة جيدة. ولكن حينما يتعلق الأمر بمحاولة تلطيخ صورة الخصم فمن المستحب تأخير ذلك إلى خاتمة الخطابة وذلك سعياً إلى ترسيخ هذه اللحظة في أذهان القضاة. يتضح من هذا الذي تقدم أن المكان الذي يمكن أن يشغله أي مكون في الخطابة، عرضاً لحدث ما أو حجة ما، له دور وظيفي في الإقناع. إن هذا تابع للغاية المتوخاة وللوسيلة الأكثر فعالية لبلوغها.(6) الترتيب الطبيعي
إن الوضع المفهومي واللفظي الطبيعي المعتاد يسمى الترتيب الطبيعي الذي نجده على سبيل المثال في تعاقب الأحداث تعاقباً تاريخياً في السرد؛ أو في تعاقب أجزاء الجملة التعاقب المعتاد. إن الترتيب يبعث الإحساس بالوضوح وبالمصداقية الطبيعية، إلا أن ذلك يمكن أن يبعث الإحساس بالرتابة والملل.(7)
إن ما ينبغي الاحتفاظ به من هذا التعريف هو أن ...] الترتيب هو في المرتبة الأولى توزيع أو تقسيم. ينبغي أن نصنف الحجج وأن نعرف المكان الذي ينبغي أن تستعمل فيها : لا يمكن أن نحشر في أي مكان أية حجة أو أية فكرة. إن هناك نوعاً من الشبكة الأولية لكل خطاب : إننا، بعد تهيئة المستمع وبعد أن نلفت انتباهه، نعرض المشاكل والحجج لأجل إقناعه وتفنيد حجج الخصم. وهذه لا تأتي في النهاية إلا بعد أن يكون المستمع على علم بهذه الأحداث والمشاكل. وفي الأخير فإن هذا ينبغي أن يختصر، وفي نفس الآن فإن انفعالات المستمع ينبغي أن تكون منحازة لصالح القضية التي يدافع عنها. إن الأمر يتعلق > بمسار؛ وإن أي واحد يمكن أن يبرهن بسهولة على أن حكاية مضحكة وصناعة أخبار سارة وكئيبة للأصدقاء وفي ظروف متعددة أخرى من الحياة الاجتماعية فإنه يتبع بالتقريب نفس الترتيب المتكون من الأجزاء الأربعة، أي الافتتاح والسرد والحجاج والاختتام. الترتيب الصناعي
إن الترتيب المصنوع للوضع المعتاد يسمى الترتيب الصناعي. إن هذه الخاصية الصناعية تتمثل في التعاقب الذي لا يطابق السيرورة التاريخية للأحداث في السرد أوالتعاقبات غير المعتادة في اللغة لأجزاء من الجمل بالتقديم والتأخير أو بالحذف أو بالزيادة أو بالاعتراض. إن هذه المحسنات الخارقةللعادة، تقدم في صور الفكر كما تقدم في صور اللفظ. وإننا نجد لهذه ولتلك أثراً جمالياً لافتاً، وهي تسير في الاتجاه الذي ينتفي معه الشعور بالملل والرتابة. وبهذا ينزع السرد في هذه الحالة نزعة جمالية يكف معه عن أن يكون مجرد أداة إخبارية أو إعلامية. يتوجه السرد هنا الوجهة الجمالية أو الشعرية. ولهذا يمكن أن يستهلك النص في هذه الحالة استهلاكاً شعرياً. والخطر الذي يتهدد النص الخطابي في هذه الحالة هو فقدان الوظيفة الخطابية لكي يتحول إلى مجرد نص أدبي. ومع ذلك فإن هذا يضعف الإحساس بالمصداقية الطبيعية. ولعلنا لا نجد استعارة لوصف هذا التأرجح للخطاب بين هاتين الوظيفتين أبلغ من هذا النص لشلوفسكي وهو يسعى إلى المقارنة بين نمطي الخطاب : الأول نفعي خالص تغلب عليه الرتابة والثاني جمالي يمتاز بالطراوة والجاذبية. >إن الناس الذين يسكنون بجوارالشاطئ يصل بهم الأمر إلى التعود على خرير الموج إلى حد لا يكادون يسمعونه، ولنفس السبب لا نكاد نسمع الكلمات التي نتلفظ بها... إننا نتبادل النظرات، إلا أننا لا نكاد يرى بعضنا البعض. لقد اضمحل إدراكنا بالعالم. إن هذا الضغط القاسي للرتابة والعادة هو ما يطالب الشاعر باحتوائه. إن الشاعر وهو ينتزع الشيء من سياقه المعهود ويوحد التصورات المتباينة يوجه ضربة قاضية للكليشيهات اللفظية، كما يقضي على الاستجابات المتكررة دوماً ويرغمنا على إدراك أكثر سمواً للأشياء ولنسيجها المحسوس. إن عملية التحويل الخلاق للأشياء تعيد لنا رهافة إحساسنا وتكسب العالم المحيط بنا" الكثافة".< >الكثافة هي الخاصية الرئيسية لهذا العالم الخاص المتشكل من الأشياءالتي تم خلقها قصداً والتي تشكل في كليتها ما نسميه الفن < كثيراً ما عمدت الملخصات، لأجل فهم أهمية الترتيب، إلى الاستعارات. > إن النظام ضروري للجندي كما هو ضروري بالنسبة للجنرال، فكما أن جيشاً مهْما كان حجمه عظيماً فإنه ضعيف جداً إذا لم يكن هناك نظام قوي، وهكذا فإن حججاً كثيرة وقوانين كثيرة ودلائل سلطوية مع فيض الكلمات لا تخلف أي تأثير إذا لم يكن كل شيء موضوعاً في مكانه المناسب. وعلى العكس من ذلك فإن الكثرة تخنق ذاكرة المستمعين وتزعجها. ويعتبر سيسرون الخطاب نوعاً من البناء مبنيا من الكلمات والأفكار. نحن نعرف أننا حينما نريد أن نشيد بناءً ما، لا نؤلف، بعد أن نكون قد أعددنا المواد الضرورية، بين المواد على سبيل الصدفة وبدون نظام، وبدون احترام قواعد المعمار، وإنما نفعل ذلك بالاهتداء بالقواعد. وبهذا نكسب هذا البناء التنسيق الذي يسهم في نفس الآن في جماله وفي متانته وفي راحة أولئك الذين يريدون أن يسكنوا فيه. كذلك الأمر بالنسبة إلى الخطابة : إن النظام يقصي الفوضى ويعمم الوضوح ويكسبه الرقة واللطافة ويزيده قوة < (8). إن كل ما يمدحه هؤلاء البلاغيون في جسم الإنسان وفي الجيش وفي المعمار، أي ما يشكل نقطة التشابه هو التناغم والنظام والوضوح وهي في مجملها تمثل خصائص الجمالية الكلاسيكية. إن هذا النظام الذي يُتَحدث عنه هنا يفترض أن الحجة وحدها لايمكن أن تكون فعالة لمجرد أنها حجة جيدة، بل ينبغي بالضرورة، لكي تكون فعالة حقاً، أن تصاغ الصياغة المناسبة. وفي هذه الحالة تتدخل كل الأمور المتعلقة بالترتيب. وإن هذه المراعاة للسياق ولمتطلباته العينية المتوخية للإقناع هي التي تجعل الخطيب يهمل ذلك الترتيب الطبيعي الجاهز لكي يتدخل بالتعديل للنظام وذلك للفت انتباه المتلقي واستغلال ذلك لأجل إقناعه. إن المتلقي نفسه يعشق مثل هذه الخطابات التي تفاجئه بالترتيب المصطنع والغريب والجذاب. وهذه الحالة هي فرصة ثمينة تقدم للخطيب لاستغلالها لتمرير الرسالة التي لا تمر على سبيل الترتيب الطبيعي.
1- الافتتاح
هذا الجزء الافتتاحي ليس خاصاً بالخطابة، إنه مشترك بين مجموعة من الفنون. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الموسيقيون عن البريلود يتحدث الكوميديون عن البرولوك ويتحدث الخطباء عن الإكزورد، أي الافتتاح. يتعلق الأول بالجزء البدئي المختصر ووظيفته هي إفادة المتلقي ولفت انتباهه وكسب عطفه أي استمالته.
الفائدة تعني كون المتلقي موجوداً في حالة الاستعداد للاستفادة والفهم، ولهذا السبب ينبغي أن يقدم الخطيب عرضاً واضحاً ومختصراً للقضية التي ستطرح أو للأطروحة التي يحاول البرهنة عليها.
إن "لفت الانتباه" لحظة أساسية لأنها الوسيط بين الجمهور والقضية المطروحة في الخطابة. إن الجمهور قد يبدي بعض الفتور إزاء ما يسمع. وهذا الفتور قد يجد أصوله في تعقيد القضية. أوفي الأحوال النفسية للجمهور غير المكترث بالقضية بسبب التعب أو الملل أو في العادات السيئة لجمهور مدلل أو مبالغ في تشدده، الخ. وإذا استعصت القضية على فهم الجمهور وجب اللجوء إلى صدمه لأجل إثارة انتباهه. هذا الأثر الجاذب يكمن في تأكيد أن الموضوع الذي سيعالج يكتسي أهمية بالغة. وهناك طرق مختلفة للتمكن من التهيئة الملازمة للمستمع :
أ- إن الوسيلة الأكثر بساطة وطبيعية هي أن نطلب بشكل صريح من المستمع الانتباه لما سنقوله. ب- وبالنسبة لجمهور متعب ينبغي أن نلجأ إلى الوعد بأننا سنكون مختصرين في السرد (وهذا الوعد من شأنه إعفاء الجمهور من الملل) ويمكن أن يكون موضع ثقة إذا كان الافتتاح نفسه يلتزم بهذه الخاصية الاختصارية .
ج- إن الوسائل التي يمكن بواستطها البلوغ إلى تفهم الموضوع وتتبعه باهتمام هي :
1- الالتفات، وهو التوجه بالكلام إلى أشخاص آخرين من غير القضاة المعنيين كأن يتوجه بالخطاب إلى الخصم. 2- التشخيص، 3- الشاهد، 4- المقارنة، 5- المجازات، وبالخصوص الاستعارات والسخرية.
إن الوسيلة الأكثر فعالية لإثارة الانتباه والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً باستمالة المتلقي هي إثارة التشوق لديه. ووسائل ذلك هي وصف الأشياء الجميلة : الطبيعة مثلا. ينبغي التنبيه هنا إلى أن الانتقال من هذه الأشياء الغريبة يكون في بعض الأحيان دقيقاً وحرجاً.
الاستمالة إنها تلازم المواقف المتأرجحة للقضاة. ففي القضايا التي يصعب أن نضبط فيها خطأً ما فإن تعاطف القاضي يمكن أن يلعب دوراً حاسماً. الوصفة الأولى تتعلق بالخطيب أو الموكل. ينبغي أن نطري أنفسنا باعتبارنا جديرين بتعاطف كل الناس. إن الخطيب يمتدح نفسه وذلك بوضع نفسه في الموضع الذي تلزمه الطيبوبة وذلك يعود إلى مقتضيات مهنته. عليه أن يلفت الأنظار إلى أن الوازع الأخلاقي هو الذي جعله يتحمل أعباء القضية وليس المصلحة المادية. أو إن البحث عن الحقيقة والشهادة عليها والمصلحة العامة ومواجهة احتمال انتصار الطرف الخصم الذي يجسد الظلم .
على الخطيب أن يتفادى تهمة الادعاء، إذ إن هذا في حال حصوله يؤدي إلى فقدان عطف الجمهور. ومما يكتسي أهمية بالغة الإخفاء المتواضع للفصاحة. وعلينا من الجهة الأخرى أن نبعث الشعور بأن خطابنا قد تم ارتجاله وبهذه الصفة فهو مجرد رد فعل إزاء الخطاب السابق. وتجريده من تعاطف الجمهور وبالخصوص الثناء على قدرته علي التمييز والحكم. إن الثناء على الجمهور ينبغي له أن يربط بالمشكل المطروح. وينبغي أن يتم ذلك بحذر وبشكل غير صارخ. إن إمتاع الجمهور ينال بواسطة أسلوب هو موضع عناية وخاضع للشروط التي يقتضيها الافتتاح.
ويكمن في الثناء على وجهة النظرالتي يتبناها الخطيب وفي الطعن في وجهة النظر التي يتبناها الخصم. يجوز في بعض الأحيان الإستغناء عن الافتتاح وذلك حينما يقتضي الداعي هذا الحذف. ففي الجنس الاستشاري ونظراً للطبيعة الاستعجالية للخطاب يمكن إختصار المقدمة بل يمكن حذفها. وفي الخطابة الاحتفالية يمكن أيضاً الاستغناء عن هذه المقدمة.
يمكن أيضاً اللجوء إلى أفكار تقديمية داخل الخطاب وبالخصوص الوسائل اللافتة. إن المكان الأفضل لمقدمة ثانية هي الحجاج؛ وهكذا يمكن أن نقيم هذا التوازي حينما نقدم في آخر الافتتاح على تقديم خلاصة السرد.
2- السرد
يعقب الافتتاحَ السردُ وهو العرض المفصل لما تم اختصاره في المجمل والمعروض في الافتتاح. فإذا كان محتوى الرسالة مبنيناً بشكل مفصل وفي شكل نقط، فإن المجمل يعقبه التفصيل وإذا كان محتوى الرسالة مترابط الأجزاء فإن المجمل يعقبه السرد.
ونحن سنتجاهل هنا هذا التدقيق التي لا يتشبث به إلا بعض البلاغيين. ويفضل الجمهور منهم تعميم المصطلح لكي يدل على هذه التغطية التي تتقدم العرض الحجاجي.
ينقسم السرد حسب محتواه إلى الأنواع التالية :
النوع الأول خاص بالخطبة القضائية، وفيه تثبت الأشياء بشكل يساهم فيه كل جزء في كسب القضية.
النوع الثاني هو عبارة عن سرد استطرادي. يقول باري : >النوع الثاني استطرادي ففيه نبتعد عن الموضوع، بعض الشيء، بغاية التوضيح أو التزيين. هنا تحشر حكاية الأمثلة.< النوع الثالث يطلق عليه السرد الأدبي وهو ينتمي إلى فن الشعر ويستعمل كتمرين في تكوين الخطباء. إن السرد الأدبي يمكن أن يتعلق بالأشياء والأفعال كما يمكنه أن ينصب على الأشخاص. أ- سرد الأشياء والأفعال التي تتفرع بحسب درجة الواقعية (التي تتحدد بواسطة ملامح الصدق والاحتمال) إلى ثلاثة فروع. منها الخرافة (الفابولا) وهي ليست حقيقية كما أنها ليست محتملة، والتاريخ هو أمر حقيقي (وهو في صياغته الأدبية محتمل) والتخييل الواقعي (الأركومينتو) ليس حقيقياً إلا أنه محتمل.
إن الخرافة تنقصها خاصية السرد الاحتمالي، ولهذا فإن نظرية الشعر قد أبدت دوماً عدم إمكان الدفاع عنها. إن وظيفتها هي الإمتاع. أما التاريخ فإن غايته هي الإفائدة المعنوية. إن التاريخ حقيقي إلا أنه يحتاج لكي يعرض أدبياً إلى الوسائل السردية الاحتمالية وتحديدا الأساس السيكولوجي للأحداث التاريخية الواقعية. هذا الأساس السيكولوجي يمكن أن يستعمل أدوات أي الوصف المفصل الإكفراسيس]. وهكذا فإن الخطابات التي تبدو كثيراً عند المؤرخين تسعى إلى تحقيق الاحتمال. ففي التاريخ يوضع الاحتمال في خدمة الصدق.
أما التخييل الواقعي الأركومنتوم] فهو روائي. وفيه نقدم ما يمكن حصوله باعتباره شيئاً حاصلاً. هذه المواد تتوفر على خاصية السرد الاحتمالي وتتطابق مع الوصف المكثف الشعري، أي الافتتاح العام للحدث تقديما مكثفاً، منسقا تنسيقاً متماسكاً أهلاً لبعث حالة انفعالية أو جمالية. إن غايته هي الإمتاع.
ب- السرد الذي يشدد على الشخصيات. وفيه يتم إبراز طبائعها وتقلبات الزمن عليها المبهجة أوالمحزنة وآمالها المحققة أوالخائبة. وبالنسبة إلى خاصية العرض نميز، تبعاً لأرسطو بين نوعين : ألأول هوالتقديم الدرامي للأشخاص. ويسمى أرسطو هذا دراماتيكون] الثاني هو الحكاية ويسميه أرسطو دييخيماتيكون]. وهنا نجد المخبر أوالراوي هوالذي يحكي الوقائع والخطابات (في الأسلوب غير المباشر) الثالث المكتون. هنا نجد المخبر يحكي ويسرد إلا أنه يعيد إنتاج خطابات الأشخاص في أسلوب مباشر. وفيما يتعلق بتعاقب الحكاية فإننا نميز السرد المتصل والسرد المنقطع. هذه التقطعات يمكن أن تتحقق في الاستطرادات كما يمكن أن تتحقق في الاستدلال الحجاجي.
جودة السرد ورداءته
إن جودة الخطاب عامة تكمن في القول الجيد (بيني ديسيري) والقصد العام بالنسبة إلى الخطاب يكمن في الإقناع. كذلك الأمر بالنسبة إلى السرد، ينبغي أن تكون له بطبيعة الحال، هذه المزية ويهدف إلى هذه الغاية. وفي الإطار العام للإقناع ينبغي أن نعتبر الإفادة الغاية الخاصة للسرد. الشيء الذي مهد في الافتتاح بواسطة واحدة من الحلقات الثلاث التي هي >إعداد المستمع للإستفادة<. في الحلقتين الأخريين تتفرغ إحداهما للفت نظر المستمع، وتتفرغ الثانية لاستمالته. وإلى جانب الفائدة يتدخل في نفس اللعبة الجزآن الآخران للإقناع : أي الإمتاع والإثارة. إلا أن الفائدة لا يمكن الاستغناء عنها، إنها النواة الأساسية. وتخدمه المزيات الثلاث الأخرى : الاختصار والوضوح والاحتمال. وبداخل تلك فإن المتعة والإثارة تلعبان وظيفة ثانوية.
المزيات الضرورية
هذه المزيات هي الاختصار والوضوح والاحتمال. والواقع أن المنظرين غير متفقين بشأن ترتيب هذه العناصر. إذ إن سيسرون يرتبها بالكيفية الآتية : الوضوح والاختصار والاحتمال. ويرتبها هِرْموخِنيسْ بالكيفية التالية : الاختصار والوضوح والاحتمال. هذه المزيات ينبغي التشبث بها على امتداد الخطابة؛ إلا أنها ضرورية بشكل خاص في السرد الذي يشكل أساس الحجاج الذي هو بدوره العنصر المعتمد في المحاكمة.
إن قواعد الاختصار هي :
- ألا نبدأ الخطاب إلا من النقطة الضرورية دون أن نتكلف عناء العودة إلى الأصول الأبعد.
- الاقتصار على ما هو مهم دون التورط في التفاصيل.
- أن نتجنب عرض الوقائع كاملة، ولكن أن نعرض ما هو ضروري فقط.
- تجنب الاستطرادات. والتخلص؛ تجنب التكرار.
إن الاختصار يقع بين حدين. وإن الاقتراب من أحدهما يوقع في أحد عيوب الاختصار يقول بوالو : > إن كل كلام زائد في خطبنا يبعث الإحساس بالتفاهة والحقارة<.(10) وهذا الأمر يؤدي إلى تغافل الجمهور. ومقابل هذا العيب نجد المزيتين : السرد الواضح والسرد المحتمل.
وبالنسبة إلى قواعد الوضوح فهي :
-التزام عرض الأحداث مرتبة باحترام التسلسل الزمني الواقعي أو المفترض.
- تجنب الخلط والانتقالات بين المواضيع والرجوع إلى الوراء وحذف العناصر الضرورية لموضوعنا.
- احترام قواعد الاختصار. فبقدرما يكون السرد واضحاً بقدرما يكون مستساغاً.
- أما قواعد الاحتمال فهي :
- الالتزام بضرورات العادات والآراء الشائعة وطبيعة الأشياء.
- مراعاة شروط الأشخاص والفعل والزمن والمكان والكيفية والسبب. (11)
استعمال السرد
إن السرد هو الجزء المكمل للخطاب. إلا أن هناك قضايا لا تستدعي بطبيعتها السرد. من قبيل ذلك الخطابة الاستشارية. أجزاء السرد
يمكن، كما هو الأمر بالنسبة إلى كل شيء، التمييز، في السرد، بين الصدر والوسط والعجز. وبصفة عامة فإن تنسيق الأجزاء من اهتمام الترتيب. ومع ذلك وكما هو الأمر بالنسبة إلى الكثير من القضايا الأخرى لا يمكن السكوت عنها في الترتيب.
أ- الصدر : إن صدر السرد تابع للترتيب الطبيعي أو للترتيب الصناعي للسرد. وهكذا يمكن البدء بأي جزء من أجزاء السرد. ففي الأدب على سبيل المثال يتم البدء بالمصاحبات الظرفية. كالموضوع والزمان والمكان والأداة والشخص والكيف، الخ.
ب ــ الاستطراد : إنه عنصر مدعم لكل أجزاء الخطاب سواء تعلق الأمر بالافتتاح أم بالحجاج أم بالاختتام. وهو يدعم على وجه الخصوص السرد الذي يمكن أن يتحقق في بدايته أم في وسطه أم في منتهاه. ويسمىه اليونانيون البريكباسيس. ويسميه كينتيليان إيكسكورسوس. والواقع أن أي تعبير عاطفي وأي تفخيم وأي اعتراض للجمهور فهو استطراد. إن محتويات الاستطرادات تتمثل في الوصف الاحتفالي والسرد التزييني الذي يمكن أن يتمثل في كل الأشكال السردية. ويرتبط بالوصف السردي الاستطراد الوجداني، المستعمل على وجه الخصوص في خاتمة الخطابة .
ج- التخلص أو الانتقال : ينصح المنظرون البلاغيون بضرورة الابتعاد عن كل أنواع الوصل بين خاتمة السرد وبداية الحجاج. إن التخلص إلى الحجاج يوفر إمكانيتين إحداهما عاطفية والأخرى عقلية. إن الإمكانية العاطفية تقوم على الاستطراد في حين أن الإمكانية العقلية تقوم على الإجمال أو البروبوزيسيو].
إن الاستطراد العاطفي يخلق جواً لصالح القضية ومفيداً للحجاج لكي يمارس تأثيره بشكل حاسم. والواقع أن الاستطراد العاطفي في نهاية السرد يضطلع بدور افتتاح جديد قبل الحجاج. وفي الواقع فإن انعدام استطراد يغلق السرد يطالب بتعويضه بافتتاحية جديدة.
د- الإجمال أو البروبوزيسيو] هو النواة المفهومية لمحتوى السرد. هذه النواة يمكن أن يعبر عنها في نهاية السرد باعتبارها تلخيصاً للسرد. ويستعمل تبعاً لذلك كمدخل إلى الحجاج . 3- الحجاج
كما يعقب الافتتاحَ السردُ، يعقب السردَ الحجاجُ الذي يجعله أرسطو مفخرة الخطباء والنواة المركزية لكل خطابة بل لكل خطاب. (بل لكل كلام، ما دام الكلام هو الأداة لتحقيق التجمع). إذ ما الفخر الذي يمكن أن يجلبه حكي الحدث للخطيب، ما دام الحدث شيئاً معطى واقعياً؟. إن مظهر الموهبة الخطابية يتمثل في القدرات الحجاجية المبتكرة والمركبة على المادة الحدثية المحكية. إن التماس وحصول التخفيف عن متهم بارتكاب جريمة ما، لا يمكن تبريره لمجرد سوق الحدث. إن ذلك لا يمكن حصوله إلا بالقدرات الحجاجية للخطيب وكفاءته في استنباط الحجج المؤيدة لطلب البراءة أوالتخفيف. والواقع أن هذه الحلقة هي التي يتم تناولها ضمن مبحث الإيجاد. وما دام المقال السابق في علامات (العدد 5) قد كان مكرساً له، فإننا لن نخوض فيه الآن. ونكتفي هنا بإحالة القارئ عليه. 4- الخلاصة
إن الجزء المختصر الذي تنتهي به الخطابة يتطابق مع الاستنتاج ويلخص ما تمت البرهنة عليه في الحجاج. وبفضل هذا اليقين فإن المرافع يطلب من القاضي إصدار حكم لصالحه. ولهذه الخاتمة وظيفتان : أولاهما هي تثبيت درجة اليقين، وذلك بفضل التطابق بين السرد (البروبوزيسيو) والاستنتاج. وبفضل التكرار بشكل مختصر للحجج التي تم الإدلاء بها في الحجاج. وثانيهما هي إثارة عواطف مساندة للطرف المرافع من شأنها أن تدفع القاضي إلى إصدار حكم لصالحه. الحصيلة أو التعداد ووظيفتها الأساسية هي إنعاش الذاكرة. إلا أنها بفضل التعداد الملازم للاختصار فإنها تؤثر على العواطف. إن التعداد يقوم على الاختصار. ومع ذلك فلا ينبغي له أن يستخف بالتحسين. إن التعداد في رأي باري يعبر بشكل مغاير عما سبق قوله، إذ إن التنويع يذهب التقزز. للاختتام غايتان : الأولى هي إنعاش الذاكرة والثانية هي التأثير على عواطف المتلقي. يميز باري خمسة أجزاء في الخاتمة، وهي حسب رأي البلاغي الفرنسي : التلخيص والاختيار والأمر والتنويع والإثارة. في حين يذهب أرسطو إلى أن عناصر الخاتمة أربعة وهي >استمالة المستمع إلى جهة الخطيب وتنفيره من الخصم ؛الرفع والحط؛ التأثير العاطفي على المستمع؛ إنعاش الذاكرة<.(12) إن الخلاصة هي الفرصة الأخيرة للتأثير على القاضي في الاتجاه الإيجابي الذي يخدم قضيتنا وفي الاتجاه السلبي للخصم. ففي الوقت الذي يكون فيه اللجوء إلى العواطف في كل أجزاء الخطابة خفيفاً فإن أبواب العواطف في هذه اللحظة تفتح على مصراعيها. إن العواطف التي تنبغي إثارتها في هذه المناسبة هي إثارة سخط على الخصم من جهة، وإثارة الرأفة لصالح المدافع من الجهة الـأخرى. من أهم متطلبات جودة الاختتام نجد الإيجاز. إلا أن المحسنات البلاغية تزيد هذا الاختتام عذوبة. الإيجاز هو بهذا المعنى أداة عاطفية. ينصح بالاختصار على وجه الخصوص في الاستعطاف أوالرأفة. إذ إن الدموع لا تسكب بشكل دائم، إنها تجف بشكل سريع (13).
الهوامش
1-- Perelman (Ch.), L'Empire rhéthorique;, éd.Vrin, 1977, p.176
2 - - Varga (K.), Rhéthorique et littérature, éd. Didier, Paris, 1970, p. 43
3- - in Rhéthorique et littérature, p. 33
4 - - Manuel abrégé de rhétorique, p. 58
5 - - Reboul, Introduction à la rhéthorique, PUF, 1991, p.166
6 - - L'Empire rhétorique, p. 162
7-- Lausberg (K.), Elementos de retorica literaria, ed.Gredos, Madrid, 1975, p.38
8 - - Varga, Rhéthorique et littérature, p. 69
9 - Lausberg, Manual de retorica literaria, ed. Gredos, Madrid, 1975 p 59 تعتبر هذه الإحالة الأخيرة مرجعنا الأساسي في إعداد هذا المقال.
10- in H. Lausberg , Tome I , p. 269
11- Patillon , Michel : eléments de rhétorique classique , éd Nahan , p 18
12- Rhétorica , p . 294
13- Lausberg , op cit , p.363
المصدر:
موقع سعيد بنكراد - مجلة علامـات - العدد 6 - 1996