عندما توفي كارل ماركس في 14 آذار 1883 ، حيث لم ينتظر بضعة أسابيع حتى يبلغ من العمر 65 عاماً، كتب صديقه فريدريك إنجلز الرثاء التالي: "أصبحت البشرية أقل برأس واحد، وهو الرأس الذي يعد أهم ما تملكه البشرية الآن". وفي مراسيم دفن الجنازة تنبأ إنجلز قائلاً: "إن اسمه، ومأثرته ستبقى حية على مدى قرون". وبدا مثل هذه التقييمات آنذاك مبالغا فيه. ولكن في خلال 100 عام ، اعترف نصف سكان الأرض تقريبا بالماركسية. وإلى الآن ما زال تأثير ماركس هائلاً. فهل تخلت روسيا عن تعاليمه بالكامل وإلى الأبد؟
المال يلد المال
قبل ماركس، ساد الاعتقاد بأن الفكر والعقل هما اللذان يتحكمان بالعالم. ولكن ماركس غيّر هذه النظرة حول التاريخ، وأكسبه أساساً مادياً. ففي حياة المجتمعات يحتل المجال الاقتصادي أهمية أكبر. إذ أن العلاقات التي تتبلور بين الأفراد في ميدان الإنتاج هي التي تحدد الأمور الأخرى. وإن تقدم القوى المنتجة هو محرك تطور البشرية. وقد اكتشف ماركس القانون الشامل لتناسب علاقات الإنتاج مع مستوى تطور القوى المنتجة. فهما يشكلان معاً اسلوب الإنتاج الذي يحدد البناء الفوقي للمجتمع ؛ أي السياسة والقانون والثقافة والأيديولوجيا والمؤسسات المناسبة لها.
إن جوهر تاريخ البشرية، حسب ماركس، هو النظم الاجتماعية الاقتصادية المتغيرة باستمرار. وقد أصبحت هذه الفكرة الآن حقيقة معترفا بها عالميا، ولكن اسم ماركس الذي اكتشف هذه الفكرة لا يذكر في كثير من الأحيان. وهذا ينطبق أيضا على العديد من القوانين الاقتصادية التي اكتشفها كارل ماركس.
في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو ، حيث تلقيت الدراسة، تم تدريس مادة الرأسمالية من قبل أناس على قدر كبير من المعرفة. وكان والدي يتولى رئاسة قسم الاقتصاد السياسي لسنوات عديدة، وذاع صيته كنابغة في هذا الميدان. وما زال أولئك الذين استمعوا إلى محاضراته يتذكرونه (نيكولاي ألكسندروفيتش) بالدفء والامتنان.
ذات مرة سألت والدي: "هل يمكن أن تلخص لي بكلمتين محتوى"الرأسمال"؟". أجابني باختصار: "التغلب على البرجوازية". وبمرور السنين أدركت أن الطابع الطبقي هو العنصر الحاسم في الواقع ، على الرغم من أنه بعيد عن أن يكون العنصر الوحيد.
"إن الهدف النهائي لمؤلفي - كما كتب ماركس في مقدمة "رأس المال" – هو إماطة اللثام عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث"، وإن هذا المجتمع "ليس من الكريستال الصلب، وانما هو كائن حي قادر على التغيير، وفي خضم عملية مستمرة من التغيير". ولكن كيف ندرس هذا "الكائن الحي" الاجتماعي؟ "عند تحليل الأشكال الاقتصادية" يوضح العالم كارل ماركس "لا يمكنك استخدام المجهر أو الكواشف الكيميائية، بل يجب أن تحل محل كليهما قوة التجريد ". وتتضمن منهجية ماركس الحركة من البسيط إلى المعقد ، ومن المجرد إلى الملموس.
يقدم ماركس تحليلاً دقيقاً لـ "الخلية الاقتصادية للمجتمع البورجوازي" ، وهي الشكل السلعي لناتج العمل ، أو شكل قيمة السلعة. فالعمل في مثل هذه الظروف متناقض: انه من ناحية ملموس ، وهو من الناحية الأخرى مجرد. الأول يخلق قيمة استعمالية محددة ، والثاني يخلق قيمة السلعة. إن عصارة العمل المجرد يكمن في السلعة ويحدد المعايير الكمية للتبادل. ويوضح ماركس أيضا كيف أدى تبادل السلع إلى ولادة المال، وكيف بدأ يتحول إلى رأسمال - حالة جديدة نوعا ما - أي المال الذي يولد المزيد من المال. ومن هنا – فإن القانون الأساسي للرأسمالية - نظرية فائض القيمة ، تكشف جوهر الاستغلال.
وعلى عكس من سبقوه، اعتبر ماركس هذا النموذج مخفياً تحت غطاء العلاقات النقدية للسلع. فتماماً كما لا يجبر أحد أي شخص عند بيع وشراء السلع، فان الكل يفعل فعله في السوق. لكن الأمر ليس على هذه الشاكلة. فهناك سلعة خاصة في السوق – أي قوة العمل. ويتم تحديد قيمتها من خلال مقدار الفوائد الكمية الضرورية لبقاء الشغيل على قيد الحياة، والأقل من ذلك ما تستطيع هذه القيمة أن تؤمنه خلال عملية الاستعمال. وهذه السلعة لا يمكن أن تختفي. حيث يجب بيعها في كل وقت ، لأنه من غير الممكن العيش بدون وسائل العيش.
ومشنقة ليست رهيبة
وهكذا ، لا يدفع الرأسمالي سوى جزء من عمل العامل، وفي بعض الأحيان جزءا تافها. ويسمح وجود العاطلين عن العمل لطبقة رجال الأعمال بخفض الأجور وزيادة أرباحهم. وتؤدي المنافسة بين الرساميل إلى تركيزها وتمركزها. ولا يعرف الصراع العنيف من أجل الربح أية حدود. ويستشهد ماركس بكلمات أحد الكتاب الإنجليز بأن الرأسمال الذي يربح بنسبة 100بالمائة "يدوس على جميع القوانين البشرية"، وإذا ما ارتفعت النسبة إلى 300 بالمائة فإنه يرتكب جرائم لا تخطر على بال أحد، حتى لو كان تحت هول المشنقة. وهنا كيف لا نستطيع أن نتذكر عقد التسعينات في روسيا، الذي اتسم بنقض الشرعية!
لكن الرأسمالية تحفر قبرها. "فاحتكار الرأسمال يشكل قيوداً على اسلوب الإنتاج نفسه، الذي ترعرع معه وفي ظله. وإن تمركز وسائل الإنتاج والطابع الاجتماعي للعمل يصل إلى نقطة يصبح فيه غير منسجم مع التقوقع الرأسمالي. وعندها ينفجر الوضع، وتدق ساعة الملكية الخاصة الرأسمالية ".
لقد حلم الكثير من المفكرين (من توماس مور إلى نيكولاي تشيرنيشيفسكي) بمجتمع عادل ومنسجم، يعيش الجميع فيه بسعادة ورخاء. ولكن أفكار هؤلاء المفكرين بدت طوباوية، لأنهم لم يعثروا على العوامل الموضوعية والذاتية لتحقيق هدفهم.
ولقد عثر ماركس عليها. فقد تضمن "البيان الشيوعي" تحذيراً من أن: "هناك شبح يجول في أوروبا، هو شبح الشيوعية ... فلترتعش الطبقات الحاكمة امام الثورة الشيوعية. فليس لدى البروليتاريين ما يخسرونه، باستثناء قيودهم. وسيحصلون على العالم كله ". هذه الأفكار واكبت ماركس طوال حياته. وتنص مؤلفاته الاقتصادية السياسية على توضيح مفصل للاشتراكية. واعتقد ماركس أنه مع تفاقم التناقضات الأساسية للرأسمالية ، تبرز طبقة عاملة منظمة قادرة على أن تجعل شكل الإنتاج يتوافق مع طابعها. كما إن الديمقراطية البرلمانية تسمح بتطور الوعي السياسي للبروليتاريا ، وهي ضرورية لتحقيق الثورة بعد وصول الطبقة العاملة إلى السلطة بطريقة ديمقراطية. وينبغي على معظم الناس ان يكرروا الشكر إلى "سلطة البروليتاريا"، التي تهدف إلى تدمير الجهاز القمعي القديم. فهذا يفتح الطريق أمام مجتمع ذي نظام أرقى ، حيث "تصبح التنمية المجانية للجميع شرط التطور الحر للجميع". وفي هذه الحالة، ليست الثورات نفسها إلاّ قابلات التاريخ ، "تُسهل مخاض الولادة."
واعتبر ماركس أنه في البلدان التي تنعدم فيها الديمقراطية والرأسمالية المتطورة (كما هو الحال في روسيا)، لا تحرز الثورة الاشتراكية الظفر إذا لم تصبح ثورة على النطاق العالمي.
يوم جرّاء العربدة
ولد ماركس في 5 ايار 1818 في مدينة ترير الألمانية ، في مقاطعة الراين - بروسيا في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أنه قد أطلقت على كتابه "الرأسمال" صفة "الكتاب المقدس للطبقة العاملة" ، فإن مؤلفه قد انحدر من عائلة بورجوازية يهودية. والده كان رئيس نقابة المحامين في مدينة ترير، هنري (هيرشل) ماركس . وضمت عائلته العديد من الحاخامات من أصحاب مزارع الكروم. الأم يهودية هولندية، Henrietta Pressbur وكانت أيضاً من عائلة حاخامات.
درس كارل بامتياز في الجمنازيوم (الاعدادية)، حيث أظهر قدرات متميزة في مجموعة واسعة من المجالات، وكان يقرأ بلهفة. وبرز نضجه في مقالته البكر: "تأملات من الشباب في اختيار المهنة" حيث قال: "إذا كان الفرد يعمل لنفسه فقط، فمن الممكن أن يصبح عالماً مشهوراً، أو حكيماً عظيماً، أو شاعراً ممتازاً، إلاّ أنه لا يمكن أبدا أن يصبح أنساناً متكاملاً وعظيماً بحق..".
عندما بلغ ماركس سن السابعة عشر من العمر، وبناء على نصيحة والده، دخل كلية الحقوق في جامعة بون، حيث اجتذبته جدلية هيغل المثالية، التي كانت تهيمن على الفلسفة الألمانية. وفي شهادة ثناء له عند إتمام الدورة الأولى قيل " أنه قبع في السجن مدة يوم واحد بتهمة العربدة والسكر في الليل". وعندما علم والده بالأمر، قرر نقله إلى جامعة برلين ، حيث بدا له أنه: "كان هناك عدد أقل من الإغراءات خارج مقاعد الدراسة".
نيكولاي الأول ضد ماركس
عندما بلغ سن الثالثة والعشرين، حصل كارل ماركس على شهاة الدكتوراه في الفلسفة، وانضم الى "نادي البرفسورين" الذي كان يضم الهيغليين الشباب المتطرفين. ثم سرعان ما توجه إلى بون ، حيث كان ينوي العمل في الجامعة ، لكن لم يتسن له ذلك، فبدأ التعاون مع صحيفة "الراين" في كولونيا. وفي رسالة كتبها صاحب الصحيفة M.Hess إلى صديق له قال: "الدكتور ماركس - هذا هو اسم معبود الجماهير – هو شاب صغير. وهو الذي سيوجه الضربة القاضية إلى دين العصور الوسطى وسياساتها. إنه يجمع بين عمق الجدية الفلسفية ويقرنها بأعلى ملامح الذكاء؛ تخيل روسو، وفولتير، وهولباخ، وليسينغ، وهاينه وهيغل، وقد اندمجوا معا في شخص واحد – أقول اتحدوا وليس اختلطوا - هذا هو الدكتور ماركس ".
وسرعان ما تم تعيبن "معبود الجاهير" رئيساً لتحرير الصحيفة. واثر ذلك تضاعف ثلاث مرات عدد المشتركين في الصحيفة، كما سعى العديد من الكتاب إلى النشر فيها، بما في ذلك فريدريك إنجلز - وهو ابن صاحب مصنع ومثقف، سبق لماركس أن تعرف عليه في برلين. عرف فريدريك جيداً وضع الطبقة العاملة في إنجلترا ، وعلى غرار ماركس امتلك ناصية عدة لغات أجنبية وكان مولعاً بالفلسفة. ونما التعارف بينهما ليرتقي إلى صداقة حميمة.
وفي أثناء العمل في كتابة أحدى المقالات المتعلقة بالمشاكل القانونية ، اكتشف ماركس أن معرفته بالاقتصاد السياسي كانت سطحية، فقرر أن يغنيها. وهكذا يصبح الاقتصاد السياسي المجال الأساسي لتطبيق مهاراته، والذي سيطلق فيه ثورة علمية أصبحت الأساس لنظرة ثورية جديدة للعالم.
بعض مواطنينا يبدون جزئيا شكوكهم تجاه ماركس كونه "لا يحب الروس". وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق – فماركس لم يعجبه النظام الملكي. في مقالة نشرها في "الصحيفة الراينية" في 4 كانون الثاني 1843، وصف ماركس روسيا القيصرية بأنها الدعامة الأساسية للديكتاتوريات الأوروبية. وعندما علم القيصر الروسي نيقولا الأول بتلك المقالة، طلب من حليفه البروسي أن "يراقب" الصحافة بشكل أفضل. وعندها أمر الملك فريدريك ويليام الرابع بإغلاق هذا المنشور.
وبالإضافة إلى نشاط ماركس في حملات الخبز، كان أكثر نشاطاً في العديد من المطبوعات، لوكانت وجهات نظره أكثر راديكالية. وعند استشعاره خطر الاعتقال، انتقل كارل ماركس في خريف عام 1843 إلى فرنسا ، لكنه طُرد منها في عام 1849 ، وانتقل إلى لندن، حيث سيقضي بقية حياته.
في ظروف العوز
كان من الصعب للغاية على كارل ماركس خوض حياة الهجرة. ففي الهجرة لم يستطع ماركس وعائلته تأمين قوتهم في الأساس الا بفضل الدعم المالي الذي قدمه إنجلز، والميراث الشحيح والأرباح العرضية من عوائد كتابة المقالات في الصحف، والعوائد الهزيلة من نشر الكتب. وفي أحد رسائله يكتب ماركس هذه السطور: "زوجتي مريضة. ابنتي جيني مريضة. ليس لدي نقود للطبيب أو الدواء. في غضون 8-10 أيام لم تأكل الأسرة سوى الخبز والبطاطس ... نحن مدينون لدفع ايجار الشقة. لم ندفع للخباز الحساب ، وكذا الحال بالنسبة لبائع الخضار وبائع الحليب وتاجر الشاي والجزار". وعندها حاول ماركس بيع قدر من الحلى الفضية التي بحوزة الأسرة، ولكن الشرطة اعتقلته مشتبهة بكونه سرقها. وكان على جيني أن تثبت العكس وتخرج الزوج. لقد كان سوط الفقر حاداً جداً لدرجة أن الأمراض فتكت في سن مبكرة بأفراد من الأسرة ، ومات ثلاثة من أطفالهما.
كارل ماركس ( من اليسار) وصديقه فردريك انجلز ( من اليمين) مع بنات ماركس الثلاث
وعلى الرغم من كل ذلك، لم يتخل ماركس عن صياغة نظريته الاقتصادية. كان يقضي جل الوقت في مكتبة المتحف البريطاني، حيث أتقن العديد من العلوم الأخرى وتعرف على مواد واقعية ضخمة. وفي عام 1864 قام بتنظيم "رابطة العمال الدولية" ، التي سميت فيما بعد بالأممية الأولى. وفي وقت لاحق، نشأت خلافات حادة بين ماركس وقائد الفوضويين في روسيا ميخائيل باكونين. ففي جداله مع ماركس وأنصار الديكتاتورية الثورية ، أعلن باكونين: "إذا أخذنا أكثر الثوريين حماسة وأعطي سلطة مطلقة ، فسيتحول الحال في سنة إلى أسوأ من حكم الملك نفسه". بعد فترة تم طرد باكونين والفوضويين من المنظمة. ومع ذلك ، وفي مقال كتبه تحت عنوان"علاقاتي مع ماركس" في وقت لاحق، أشار باكونين إلى أن "ماركس يتحلى بعقل عظيم وهو عالم بكل سعة وجدية هذه الكلمة". واضاف باكونين: "إن ماركس كرس بحماس كل جهده لقضية البروليتاريا ، وقدم كل حياته لخدمة هذه القضية".
انتصار وتقديس
على الرغم من أن اسم ماركس كان معروفا على نطاق واسع خلال حياته، إلا أن الانتصار الحقيقي له جاء في وقت لاحق. لهذا انجذب العديد من المعجبين إلى انجلز، بما في ذلك من روسيا. واضطر مؤسس الماركسية الروسية جيورجي بليخانوف إلى الهجرة صوب أوروبا، وترجم إلى الروسية بيان الحزب الشيوعي وبعض الأعمال الأخرى لماركس وإنجلز.
كان الديمقراطيون الاشتراكيون الألمان من بين الذين تطوعوا لتقديم المساعدة إلى إنجلز في العمل على مخطوطات ماركس، ومنهم إدوارد بيرنشتاين وكارل كاوتسكي. وأخذت دائرة الماركسيين الثوريين تتسع باستمرار. ففي ألمانيا كانت هناك روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت ، وفي روسيا لينين ومارتوف وتروتسكي. وفي خضم ذلك بدأ الاحتكاك والصراع. وقام البعض بتوجيه الاتهامات للآخرين وتشويه تعاليم ماركس. وظهرت مفردات التأنيب والاتهام بـ "الإصلاحية" و "التحريفية" و "الانتهازية" و "الردة"، وما إلى ذلك. وخلال حياة ماركس، وعندما علم بكيفية تفسير افكاره من قبل ممثلي حزب العمال الفرنسي، اعلن ماركس أن: "هناك شيئا واحدا واضحا، هو أنني شخصياً لست ماركسيا".
واندلع صراع حاد بين مؤيدي تعاليم ماركس في روسيا بشكل خاص. وقد عارض ماركس مراراً "شيوعية الثكنات"، ووقف ضد الثورات المبكرة. وهذا ما يُشار إليه باستمرار من قبل بليخانوف ومارتوف. واعتقد لينين أنه بسبب التطور المتفاوت للرأسمالية في عصر الإمبريالية، يمكن للثورة أن تنجح في أضعف حلقاتها، التي اعتبرها روسيا.
قادت الحرب العالمية الأولى إلى تفاقم الوضع، ما أدى إلى سقوط النظام الملكي الروسي، ثم اندلاع ثورة أكتوبر. ورافقت تنفيذ المشروع الاشتراكي في "الحلقة الاضعف" ممارسات وحشية وانتهاك للحريات الأساسية، وتلك ممارسات لا تنسجم مع الخزين الأيديولوجي لماركس. وعقب ذلك طغت بيروقراطية الحزب والدولة على الماركسية، إضافة إلى ضرورات حماية مصالح الطبقة العاملة والشغيلة من التهديدات الداخلية والخارجية.
وهكذا نمت وتعززت الايديولوجيا في الاتحاد السوفياتي. واتخذت الماركسية مظهر اللينينية ولاحقاً الستالينية. وتغلغل الاتجاه المناهض للرأسمالية الطبقية في المؤلفات العلمية والأدبية. وتحولت الاقتباسات المستنسخة من أعمال ماركس إلى أقراص دوائية. واستبدلت الماركسية في المؤسسات العلمية بقانون رباني وأصبحت عقيدة إيمانية. وتحول ماركس إلى طوباوي.
بعد الحرب العالمية الثانية، واصلت الماركسية مسيرتها المظفرة لتتحول إلى نظام اشتراكي عالمي. وأصبحت الماركسية جذابة أيضا على النطاق الخارجي، وظهرت بلدان "التوجه الاشتراكي". فأقدم الغرب الرأسمالي على تقديم تنازلات للشعب العامل، وأخذ يستوعب عدداً من عناصر التخطيط الاقتصادي من أجل التخفيف من الأزمات الاجتماعية بشكل ملحوظ.
وفي الشرق توفرت للماركسية فرصة تغلغل حقيقي في الصين عام 1949. وبقي ماو تسي تونغ بعد وفاة ستالين وفيا لأساليبه القاسية. ولم تكن "الثورة الثقافية" (1966-1976) أقل شأناً من تكشيرة القوة الستالينية في الثلاثينيات. وتقدم كيم ايل سونغ ليزيح الستار عن كاريكتير آخر للماركسية في كوريا الشمالية ممثلاً في "جوتشي"، وسار على الطريق الدموي بول بوت في بدعة الخمير الحمر في كمبوديا.
.
إنه توقع ذلك
لا يمكن للأفكار الأساسية لماركس أن تتعرض للشيخوخة. إنها أفكار خالدة ، شأنها في ذلك شأن اكتشافات أرخميدس وكوبرنيكوس وغاليليو وجيوردانو برونو. فما زالت رايات الماركسية ترفع من قبل قادة الصين وفيتنام وكوبا. وفي خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الاتحاد الروسي، شارك ثلاثة مرشحين شيوعيين أو من هم على صلة بهم من بين المرشحين الثمانية.
وتتأكد الأفكار الرئيسية لتعاليم ماركس. فالرأسمال العالمي يستمر في استغلال العالم. وتتحدث الثورة البرتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والأحداث في أوكرانيا وسوريا عن العدوان والأطماع الاستعمارية الجديدة للغرب، وخاصة من قبل الكتلة الأنجلوسكسونية، مما يشكل تهديداً لمصير العالم. كما تتعرض روسيا لضغوط خاصة، لأن واشنطن ولندن لا تود أن ترى روسيا تحقق طموحها في التطوير الذاتي والخروج عن المسار الذي حدد لها كتابع لهما وكمصدّر للمواد الخام.
أما فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة علينا، فإن مفتري الأوليغاركية يحاولون انقاذ أصحابها من الضربة. وهم يجادلون بأنه لا ينبغي أن يتعرض أصحاب المليارات للأضرار جراء سوء الحسابات السياسية، ولا يسمح بإتخاذ إجراءات التأميم دون "تعويض عادل" ، وليس عبر "المصادرة". لماذا يتناسى البعض بطريقة أو بأخرى أن ملكية الاوليغاركية تعود إلى "مزادات الرهن العقاري" التي جرت في التسعينيات من القرن الماضي ، إضافة إلى الطرق الملتوية المشابهة لتصفية ممتلكات شعوب الاتحاد السوفياتي السابق. وقد جرى الحديث مرارا حول تأميم الخسائر بهدف خصخصة الأرباح لاحقا. وبهذا فإن العقوبات تمس مصالح الشعب، أما الفئة الاوليغاركية فتحصل عادة على المساعدات والدعم من الحكومة المقربة منها. إذن فأفكار ماركس تؤكدها حقائق الواقع الروسي المعاصر.
اعادة العبقري!
وفقا لدراسة استطلاعية أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية في أواخر عام ،1999 في عشية الألفية الجديدة ، تم الأعتراف بأن ماركس هو أعظم مفكر في الألفية المنقضية، تماماً كما جرى التقدير لألبرت أينشتاين صاحب النظرية النسبية وإسحاق نيوتن صاحب قانون الجاذبية وتشارلز داروين صاحب الأفكار حول أصل الأنواع والإنسان. وبمقدار ما يقترن العقل عند ماركس بالوجدان ونكران الذات، فمن الممكن تسمية ماركس باعتباره إنسان الألفية.
تؤكد الكتب المدرسية وبرامج المعاهد الرائدة في العالم ومنظمات الأبحاث في جامعة كولومبيا في نيويورك Open Syllabus Project أن أعمال ماركس تحتل المركز الثالث في الجامعات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا. كما يحتل ماركس بين الأمريكيين وعلماء الاجتماع الآخرين في الغرب، كقاعدة عامة ، مقاماً متقدماً يبلغ المركز الأول. وتشير صحيفة "الغارديان" الإنجليزية الى إن: "الحقيقة المذهلة في عصرنا بكوارثه الاقتصادية هي إحياء الاهتمام بماركس والتعاليم الماركسية. إذ يزداد حجم مبيعات مؤلف ماركس في الاقتصاد السياسي "الرأسمال". ويتجدد الاهتمام بالماركسية، خاصة في أوساط الشباب، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن ماركس وفّر الأدوات لتحليل الرأسمالية، وعلى وجه الخصوص أزمات الرأسمالية. وتعد الماركسية بالنسبة للشباب تعاليم نقية ، وهم لا يربطونها بالگولاگ*".
لقد استبدلنا (في روسيا) تأليه ماركس السابق بأسطورة وجهت اللعنة له. فاختفى اسمه من المناهج الدراسية للجامعات الروسية، ويجري اخفاء أفكاره. لقد بذل الليبراليون المحليون ومن ورائهم أقطاب الرأسمال، كل ما هو ممكن لتحقيق هذه الغاية.
أفلم يحن الوقت أخيراً ، لإعادة رجل الألفية إلى مكانه اللائق؟
"مقتطفات"
_______
*عن مجلة "ليتراتورنيا غازيتا" الروسية
**جيورجي نيقولايفيتش تسوغولوف، ولد في 11 أيلول عام 1941، اقتصادي سوفييتي وروسي، صحفي، دكتور في العلوم الاقتصادية، بروفسور في الجامعة العالمية في موسكو، أكاديمي في الأكاديمية الأوربية للأمن والصراعات الدولية، وعضو في عدد من الأكاديميات. عضو اتحاد الكتاب الروس وحائز على جوائز أدبية.
**الگولاگ هي معسكرات الاعتقال التي انشأت في العهد الستاليني في الاتحاد السوفييتي.
* طريق الشعب الثلاثاء 22 ايار
المال يلد المال
قبل ماركس، ساد الاعتقاد بأن الفكر والعقل هما اللذان يتحكمان بالعالم. ولكن ماركس غيّر هذه النظرة حول التاريخ، وأكسبه أساساً مادياً. ففي حياة المجتمعات يحتل المجال الاقتصادي أهمية أكبر. إذ أن العلاقات التي تتبلور بين الأفراد في ميدان الإنتاج هي التي تحدد الأمور الأخرى. وإن تقدم القوى المنتجة هو محرك تطور البشرية. وقد اكتشف ماركس القانون الشامل لتناسب علاقات الإنتاج مع مستوى تطور القوى المنتجة. فهما يشكلان معاً اسلوب الإنتاج الذي يحدد البناء الفوقي للمجتمع ؛ أي السياسة والقانون والثقافة والأيديولوجيا والمؤسسات المناسبة لها.
إن جوهر تاريخ البشرية، حسب ماركس، هو النظم الاجتماعية الاقتصادية المتغيرة باستمرار. وقد أصبحت هذه الفكرة الآن حقيقة معترفا بها عالميا، ولكن اسم ماركس الذي اكتشف هذه الفكرة لا يذكر في كثير من الأحيان. وهذا ينطبق أيضا على العديد من القوانين الاقتصادية التي اكتشفها كارل ماركس.
في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو ، حيث تلقيت الدراسة، تم تدريس مادة الرأسمالية من قبل أناس على قدر كبير من المعرفة. وكان والدي يتولى رئاسة قسم الاقتصاد السياسي لسنوات عديدة، وذاع صيته كنابغة في هذا الميدان. وما زال أولئك الذين استمعوا إلى محاضراته يتذكرونه (نيكولاي ألكسندروفيتش) بالدفء والامتنان.
ذات مرة سألت والدي: "هل يمكن أن تلخص لي بكلمتين محتوى"الرأسمال"؟". أجابني باختصار: "التغلب على البرجوازية". وبمرور السنين أدركت أن الطابع الطبقي هو العنصر الحاسم في الواقع ، على الرغم من أنه بعيد عن أن يكون العنصر الوحيد.
"إن الهدف النهائي لمؤلفي - كما كتب ماركس في مقدمة "رأس المال" – هو إماطة اللثام عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث"، وإن هذا المجتمع "ليس من الكريستال الصلب، وانما هو كائن حي قادر على التغيير، وفي خضم عملية مستمرة من التغيير". ولكن كيف ندرس هذا "الكائن الحي" الاجتماعي؟ "عند تحليل الأشكال الاقتصادية" يوضح العالم كارل ماركس "لا يمكنك استخدام المجهر أو الكواشف الكيميائية، بل يجب أن تحل محل كليهما قوة التجريد ". وتتضمن منهجية ماركس الحركة من البسيط إلى المعقد ، ومن المجرد إلى الملموس.
يقدم ماركس تحليلاً دقيقاً لـ "الخلية الاقتصادية للمجتمع البورجوازي" ، وهي الشكل السلعي لناتج العمل ، أو شكل قيمة السلعة. فالعمل في مثل هذه الظروف متناقض: انه من ناحية ملموس ، وهو من الناحية الأخرى مجرد. الأول يخلق قيمة استعمالية محددة ، والثاني يخلق قيمة السلعة. إن عصارة العمل المجرد يكمن في السلعة ويحدد المعايير الكمية للتبادل. ويوضح ماركس أيضا كيف أدى تبادل السلع إلى ولادة المال، وكيف بدأ يتحول إلى رأسمال - حالة جديدة نوعا ما - أي المال الذي يولد المزيد من المال. ومن هنا – فإن القانون الأساسي للرأسمالية - نظرية فائض القيمة ، تكشف جوهر الاستغلال.
وعلى عكس من سبقوه، اعتبر ماركس هذا النموذج مخفياً تحت غطاء العلاقات النقدية للسلع. فتماماً كما لا يجبر أحد أي شخص عند بيع وشراء السلع، فان الكل يفعل فعله في السوق. لكن الأمر ليس على هذه الشاكلة. فهناك سلعة خاصة في السوق – أي قوة العمل. ويتم تحديد قيمتها من خلال مقدار الفوائد الكمية الضرورية لبقاء الشغيل على قيد الحياة، والأقل من ذلك ما تستطيع هذه القيمة أن تؤمنه خلال عملية الاستعمال. وهذه السلعة لا يمكن أن تختفي. حيث يجب بيعها في كل وقت ، لأنه من غير الممكن العيش بدون وسائل العيش.
ومشنقة ليست رهيبة
وهكذا ، لا يدفع الرأسمالي سوى جزء من عمل العامل، وفي بعض الأحيان جزءا تافها. ويسمح وجود العاطلين عن العمل لطبقة رجال الأعمال بخفض الأجور وزيادة أرباحهم. وتؤدي المنافسة بين الرساميل إلى تركيزها وتمركزها. ولا يعرف الصراع العنيف من أجل الربح أية حدود. ويستشهد ماركس بكلمات أحد الكتاب الإنجليز بأن الرأسمال الذي يربح بنسبة 100بالمائة "يدوس على جميع القوانين البشرية"، وإذا ما ارتفعت النسبة إلى 300 بالمائة فإنه يرتكب جرائم لا تخطر على بال أحد، حتى لو كان تحت هول المشنقة. وهنا كيف لا نستطيع أن نتذكر عقد التسعينات في روسيا، الذي اتسم بنقض الشرعية!
لكن الرأسمالية تحفر قبرها. "فاحتكار الرأسمال يشكل قيوداً على اسلوب الإنتاج نفسه، الذي ترعرع معه وفي ظله. وإن تمركز وسائل الإنتاج والطابع الاجتماعي للعمل يصل إلى نقطة يصبح فيه غير منسجم مع التقوقع الرأسمالي. وعندها ينفجر الوضع، وتدق ساعة الملكية الخاصة الرأسمالية ".
لقد حلم الكثير من المفكرين (من توماس مور إلى نيكولاي تشيرنيشيفسكي) بمجتمع عادل ومنسجم، يعيش الجميع فيه بسعادة ورخاء. ولكن أفكار هؤلاء المفكرين بدت طوباوية، لأنهم لم يعثروا على العوامل الموضوعية والذاتية لتحقيق هدفهم.
ولقد عثر ماركس عليها. فقد تضمن "البيان الشيوعي" تحذيراً من أن: "هناك شبح يجول في أوروبا، هو شبح الشيوعية ... فلترتعش الطبقات الحاكمة امام الثورة الشيوعية. فليس لدى البروليتاريين ما يخسرونه، باستثناء قيودهم. وسيحصلون على العالم كله ". هذه الأفكار واكبت ماركس طوال حياته. وتنص مؤلفاته الاقتصادية السياسية على توضيح مفصل للاشتراكية. واعتقد ماركس أنه مع تفاقم التناقضات الأساسية للرأسمالية ، تبرز طبقة عاملة منظمة قادرة على أن تجعل شكل الإنتاج يتوافق مع طابعها. كما إن الديمقراطية البرلمانية تسمح بتطور الوعي السياسي للبروليتاريا ، وهي ضرورية لتحقيق الثورة بعد وصول الطبقة العاملة إلى السلطة بطريقة ديمقراطية. وينبغي على معظم الناس ان يكرروا الشكر إلى "سلطة البروليتاريا"، التي تهدف إلى تدمير الجهاز القمعي القديم. فهذا يفتح الطريق أمام مجتمع ذي نظام أرقى ، حيث "تصبح التنمية المجانية للجميع شرط التطور الحر للجميع". وفي هذه الحالة، ليست الثورات نفسها إلاّ قابلات التاريخ ، "تُسهل مخاض الولادة."
واعتبر ماركس أنه في البلدان التي تنعدم فيها الديمقراطية والرأسمالية المتطورة (كما هو الحال في روسيا)، لا تحرز الثورة الاشتراكية الظفر إذا لم تصبح ثورة على النطاق العالمي.
يوم جرّاء العربدة
ولد ماركس في 5 ايار 1818 في مدينة ترير الألمانية ، في مقاطعة الراين - بروسيا في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أنه قد أطلقت على كتابه "الرأسمال" صفة "الكتاب المقدس للطبقة العاملة" ، فإن مؤلفه قد انحدر من عائلة بورجوازية يهودية. والده كان رئيس نقابة المحامين في مدينة ترير، هنري (هيرشل) ماركس . وضمت عائلته العديد من الحاخامات من أصحاب مزارع الكروم. الأم يهودية هولندية، Henrietta Pressbur وكانت أيضاً من عائلة حاخامات.
درس كارل بامتياز في الجمنازيوم (الاعدادية)، حيث أظهر قدرات متميزة في مجموعة واسعة من المجالات، وكان يقرأ بلهفة. وبرز نضجه في مقالته البكر: "تأملات من الشباب في اختيار المهنة" حيث قال: "إذا كان الفرد يعمل لنفسه فقط، فمن الممكن أن يصبح عالماً مشهوراً، أو حكيماً عظيماً، أو شاعراً ممتازاً، إلاّ أنه لا يمكن أبدا أن يصبح أنساناً متكاملاً وعظيماً بحق..".
عندما بلغ ماركس سن السابعة عشر من العمر، وبناء على نصيحة والده، دخل كلية الحقوق في جامعة بون، حيث اجتذبته جدلية هيغل المثالية، التي كانت تهيمن على الفلسفة الألمانية. وفي شهادة ثناء له عند إتمام الدورة الأولى قيل " أنه قبع في السجن مدة يوم واحد بتهمة العربدة والسكر في الليل". وعندما علم والده بالأمر، قرر نقله إلى جامعة برلين ، حيث بدا له أنه: "كان هناك عدد أقل من الإغراءات خارج مقاعد الدراسة".
نيكولاي الأول ضد ماركس
عندما بلغ سن الثالثة والعشرين، حصل كارل ماركس على شهاة الدكتوراه في الفلسفة، وانضم الى "نادي البرفسورين" الذي كان يضم الهيغليين الشباب المتطرفين. ثم سرعان ما توجه إلى بون ، حيث كان ينوي العمل في الجامعة ، لكن لم يتسن له ذلك، فبدأ التعاون مع صحيفة "الراين" في كولونيا. وفي رسالة كتبها صاحب الصحيفة M.Hess إلى صديق له قال: "الدكتور ماركس - هذا هو اسم معبود الجماهير – هو شاب صغير. وهو الذي سيوجه الضربة القاضية إلى دين العصور الوسطى وسياساتها. إنه يجمع بين عمق الجدية الفلسفية ويقرنها بأعلى ملامح الذكاء؛ تخيل روسو، وفولتير، وهولباخ، وليسينغ، وهاينه وهيغل، وقد اندمجوا معا في شخص واحد – أقول اتحدوا وليس اختلطوا - هذا هو الدكتور ماركس ".
وسرعان ما تم تعيبن "معبود الجاهير" رئيساً لتحرير الصحيفة. واثر ذلك تضاعف ثلاث مرات عدد المشتركين في الصحيفة، كما سعى العديد من الكتاب إلى النشر فيها، بما في ذلك فريدريك إنجلز - وهو ابن صاحب مصنع ومثقف، سبق لماركس أن تعرف عليه في برلين. عرف فريدريك جيداً وضع الطبقة العاملة في إنجلترا ، وعلى غرار ماركس امتلك ناصية عدة لغات أجنبية وكان مولعاً بالفلسفة. ونما التعارف بينهما ليرتقي إلى صداقة حميمة.
وفي أثناء العمل في كتابة أحدى المقالات المتعلقة بالمشاكل القانونية ، اكتشف ماركس أن معرفته بالاقتصاد السياسي كانت سطحية، فقرر أن يغنيها. وهكذا يصبح الاقتصاد السياسي المجال الأساسي لتطبيق مهاراته، والذي سيطلق فيه ثورة علمية أصبحت الأساس لنظرة ثورية جديدة للعالم.
بعض مواطنينا يبدون جزئيا شكوكهم تجاه ماركس كونه "لا يحب الروس". وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق – فماركس لم يعجبه النظام الملكي. في مقالة نشرها في "الصحيفة الراينية" في 4 كانون الثاني 1843، وصف ماركس روسيا القيصرية بأنها الدعامة الأساسية للديكتاتوريات الأوروبية. وعندما علم القيصر الروسي نيقولا الأول بتلك المقالة، طلب من حليفه البروسي أن "يراقب" الصحافة بشكل أفضل. وعندها أمر الملك فريدريك ويليام الرابع بإغلاق هذا المنشور.
وبالإضافة إلى نشاط ماركس في حملات الخبز، كان أكثر نشاطاً في العديد من المطبوعات، لوكانت وجهات نظره أكثر راديكالية. وعند استشعاره خطر الاعتقال، انتقل كارل ماركس في خريف عام 1843 إلى فرنسا ، لكنه طُرد منها في عام 1849 ، وانتقل إلى لندن، حيث سيقضي بقية حياته.
في ظروف العوز
كان من الصعب للغاية على كارل ماركس خوض حياة الهجرة. ففي الهجرة لم يستطع ماركس وعائلته تأمين قوتهم في الأساس الا بفضل الدعم المالي الذي قدمه إنجلز، والميراث الشحيح والأرباح العرضية من عوائد كتابة المقالات في الصحف، والعوائد الهزيلة من نشر الكتب. وفي أحد رسائله يكتب ماركس هذه السطور: "زوجتي مريضة. ابنتي جيني مريضة. ليس لدي نقود للطبيب أو الدواء. في غضون 8-10 أيام لم تأكل الأسرة سوى الخبز والبطاطس ... نحن مدينون لدفع ايجار الشقة. لم ندفع للخباز الحساب ، وكذا الحال بالنسبة لبائع الخضار وبائع الحليب وتاجر الشاي والجزار". وعندها حاول ماركس بيع قدر من الحلى الفضية التي بحوزة الأسرة، ولكن الشرطة اعتقلته مشتبهة بكونه سرقها. وكان على جيني أن تثبت العكس وتخرج الزوج. لقد كان سوط الفقر حاداً جداً لدرجة أن الأمراض فتكت في سن مبكرة بأفراد من الأسرة ، ومات ثلاثة من أطفالهما.
كارل ماركس ( من اليسار) وصديقه فردريك انجلز ( من اليمين) مع بنات ماركس الثلاث
وعلى الرغم من كل ذلك، لم يتخل ماركس عن صياغة نظريته الاقتصادية. كان يقضي جل الوقت في مكتبة المتحف البريطاني، حيث أتقن العديد من العلوم الأخرى وتعرف على مواد واقعية ضخمة. وفي عام 1864 قام بتنظيم "رابطة العمال الدولية" ، التي سميت فيما بعد بالأممية الأولى. وفي وقت لاحق، نشأت خلافات حادة بين ماركس وقائد الفوضويين في روسيا ميخائيل باكونين. ففي جداله مع ماركس وأنصار الديكتاتورية الثورية ، أعلن باكونين: "إذا أخذنا أكثر الثوريين حماسة وأعطي سلطة مطلقة ، فسيتحول الحال في سنة إلى أسوأ من حكم الملك نفسه". بعد فترة تم طرد باكونين والفوضويين من المنظمة. ومع ذلك ، وفي مقال كتبه تحت عنوان"علاقاتي مع ماركس" في وقت لاحق، أشار باكونين إلى أن "ماركس يتحلى بعقل عظيم وهو عالم بكل سعة وجدية هذه الكلمة". واضاف باكونين: "إن ماركس كرس بحماس كل جهده لقضية البروليتاريا ، وقدم كل حياته لخدمة هذه القضية".
انتصار وتقديس
على الرغم من أن اسم ماركس كان معروفا على نطاق واسع خلال حياته، إلا أن الانتصار الحقيقي له جاء في وقت لاحق. لهذا انجذب العديد من المعجبين إلى انجلز، بما في ذلك من روسيا. واضطر مؤسس الماركسية الروسية جيورجي بليخانوف إلى الهجرة صوب أوروبا، وترجم إلى الروسية بيان الحزب الشيوعي وبعض الأعمال الأخرى لماركس وإنجلز.
كان الديمقراطيون الاشتراكيون الألمان من بين الذين تطوعوا لتقديم المساعدة إلى إنجلز في العمل على مخطوطات ماركس، ومنهم إدوارد بيرنشتاين وكارل كاوتسكي. وأخذت دائرة الماركسيين الثوريين تتسع باستمرار. ففي ألمانيا كانت هناك روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت ، وفي روسيا لينين ومارتوف وتروتسكي. وفي خضم ذلك بدأ الاحتكاك والصراع. وقام البعض بتوجيه الاتهامات للآخرين وتشويه تعاليم ماركس. وظهرت مفردات التأنيب والاتهام بـ "الإصلاحية" و "التحريفية" و "الانتهازية" و "الردة"، وما إلى ذلك. وخلال حياة ماركس، وعندما علم بكيفية تفسير افكاره من قبل ممثلي حزب العمال الفرنسي، اعلن ماركس أن: "هناك شيئا واحدا واضحا، هو أنني شخصياً لست ماركسيا".
واندلع صراع حاد بين مؤيدي تعاليم ماركس في روسيا بشكل خاص. وقد عارض ماركس مراراً "شيوعية الثكنات"، ووقف ضد الثورات المبكرة. وهذا ما يُشار إليه باستمرار من قبل بليخانوف ومارتوف. واعتقد لينين أنه بسبب التطور المتفاوت للرأسمالية في عصر الإمبريالية، يمكن للثورة أن تنجح في أضعف حلقاتها، التي اعتبرها روسيا.
قادت الحرب العالمية الأولى إلى تفاقم الوضع، ما أدى إلى سقوط النظام الملكي الروسي، ثم اندلاع ثورة أكتوبر. ورافقت تنفيذ المشروع الاشتراكي في "الحلقة الاضعف" ممارسات وحشية وانتهاك للحريات الأساسية، وتلك ممارسات لا تنسجم مع الخزين الأيديولوجي لماركس. وعقب ذلك طغت بيروقراطية الحزب والدولة على الماركسية، إضافة إلى ضرورات حماية مصالح الطبقة العاملة والشغيلة من التهديدات الداخلية والخارجية.
وهكذا نمت وتعززت الايديولوجيا في الاتحاد السوفياتي. واتخذت الماركسية مظهر اللينينية ولاحقاً الستالينية. وتغلغل الاتجاه المناهض للرأسمالية الطبقية في المؤلفات العلمية والأدبية. وتحولت الاقتباسات المستنسخة من أعمال ماركس إلى أقراص دوائية. واستبدلت الماركسية في المؤسسات العلمية بقانون رباني وأصبحت عقيدة إيمانية. وتحول ماركس إلى طوباوي.
بعد الحرب العالمية الثانية، واصلت الماركسية مسيرتها المظفرة لتتحول إلى نظام اشتراكي عالمي. وأصبحت الماركسية جذابة أيضا على النطاق الخارجي، وظهرت بلدان "التوجه الاشتراكي". فأقدم الغرب الرأسمالي على تقديم تنازلات للشعب العامل، وأخذ يستوعب عدداً من عناصر التخطيط الاقتصادي من أجل التخفيف من الأزمات الاجتماعية بشكل ملحوظ.
وفي الشرق توفرت للماركسية فرصة تغلغل حقيقي في الصين عام 1949. وبقي ماو تسي تونغ بعد وفاة ستالين وفيا لأساليبه القاسية. ولم تكن "الثورة الثقافية" (1966-1976) أقل شأناً من تكشيرة القوة الستالينية في الثلاثينيات. وتقدم كيم ايل سونغ ليزيح الستار عن كاريكتير آخر للماركسية في كوريا الشمالية ممثلاً في "جوتشي"، وسار على الطريق الدموي بول بوت في بدعة الخمير الحمر في كمبوديا.
.
إنه توقع ذلك
لا يمكن للأفكار الأساسية لماركس أن تتعرض للشيخوخة. إنها أفكار خالدة ، شأنها في ذلك شأن اكتشافات أرخميدس وكوبرنيكوس وغاليليو وجيوردانو برونو. فما زالت رايات الماركسية ترفع من قبل قادة الصين وفيتنام وكوبا. وفي خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الاتحاد الروسي، شارك ثلاثة مرشحين شيوعيين أو من هم على صلة بهم من بين المرشحين الثمانية.
وتتأكد الأفكار الرئيسية لتعاليم ماركس. فالرأسمال العالمي يستمر في استغلال العالم. وتتحدث الثورة البرتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والأحداث في أوكرانيا وسوريا عن العدوان والأطماع الاستعمارية الجديدة للغرب، وخاصة من قبل الكتلة الأنجلوسكسونية، مما يشكل تهديداً لمصير العالم. كما تتعرض روسيا لضغوط خاصة، لأن واشنطن ولندن لا تود أن ترى روسيا تحقق طموحها في التطوير الذاتي والخروج عن المسار الذي حدد لها كتابع لهما وكمصدّر للمواد الخام.
أما فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة علينا، فإن مفتري الأوليغاركية يحاولون انقاذ أصحابها من الضربة. وهم يجادلون بأنه لا ينبغي أن يتعرض أصحاب المليارات للأضرار جراء سوء الحسابات السياسية، ولا يسمح بإتخاذ إجراءات التأميم دون "تعويض عادل" ، وليس عبر "المصادرة". لماذا يتناسى البعض بطريقة أو بأخرى أن ملكية الاوليغاركية تعود إلى "مزادات الرهن العقاري" التي جرت في التسعينيات من القرن الماضي ، إضافة إلى الطرق الملتوية المشابهة لتصفية ممتلكات شعوب الاتحاد السوفياتي السابق. وقد جرى الحديث مرارا حول تأميم الخسائر بهدف خصخصة الأرباح لاحقا. وبهذا فإن العقوبات تمس مصالح الشعب، أما الفئة الاوليغاركية فتحصل عادة على المساعدات والدعم من الحكومة المقربة منها. إذن فأفكار ماركس تؤكدها حقائق الواقع الروسي المعاصر.
اعادة العبقري!
وفقا لدراسة استطلاعية أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية في أواخر عام ،1999 في عشية الألفية الجديدة ، تم الأعتراف بأن ماركس هو أعظم مفكر في الألفية المنقضية، تماماً كما جرى التقدير لألبرت أينشتاين صاحب النظرية النسبية وإسحاق نيوتن صاحب قانون الجاذبية وتشارلز داروين صاحب الأفكار حول أصل الأنواع والإنسان. وبمقدار ما يقترن العقل عند ماركس بالوجدان ونكران الذات، فمن الممكن تسمية ماركس باعتباره إنسان الألفية.
تؤكد الكتب المدرسية وبرامج المعاهد الرائدة في العالم ومنظمات الأبحاث في جامعة كولومبيا في نيويورك Open Syllabus Project أن أعمال ماركس تحتل المركز الثالث في الجامعات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا. كما يحتل ماركس بين الأمريكيين وعلماء الاجتماع الآخرين في الغرب، كقاعدة عامة ، مقاماً متقدماً يبلغ المركز الأول. وتشير صحيفة "الغارديان" الإنجليزية الى إن: "الحقيقة المذهلة في عصرنا بكوارثه الاقتصادية هي إحياء الاهتمام بماركس والتعاليم الماركسية. إذ يزداد حجم مبيعات مؤلف ماركس في الاقتصاد السياسي "الرأسمال". ويتجدد الاهتمام بالماركسية، خاصة في أوساط الشباب، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن ماركس وفّر الأدوات لتحليل الرأسمالية، وعلى وجه الخصوص أزمات الرأسمالية. وتعد الماركسية بالنسبة للشباب تعاليم نقية ، وهم لا يربطونها بالگولاگ*".
لقد استبدلنا (في روسيا) تأليه ماركس السابق بأسطورة وجهت اللعنة له. فاختفى اسمه من المناهج الدراسية للجامعات الروسية، ويجري اخفاء أفكاره. لقد بذل الليبراليون المحليون ومن ورائهم أقطاب الرأسمال، كل ما هو ممكن لتحقيق هذه الغاية.
أفلم يحن الوقت أخيراً ، لإعادة رجل الألفية إلى مكانه اللائق؟
"مقتطفات"
_______
*عن مجلة "ليتراتورنيا غازيتا" الروسية
**جيورجي نيقولايفيتش تسوغولوف، ولد في 11 أيلول عام 1941، اقتصادي سوفييتي وروسي، صحفي، دكتور في العلوم الاقتصادية، بروفسور في الجامعة العالمية في موسكو، أكاديمي في الأكاديمية الأوربية للأمن والصراعات الدولية، وعضو في عدد من الأكاديميات. عضو اتحاد الكتاب الروس وحائز على جوائز أدبية.
**الگولاگ هي معسكرات الاعتقال التي انشأت في العهد الستاليني في الاتحاد السوفييتي.
* طريق الشعب الثلاثاء 22 ايار