كان مدمن خمر، ورغم ذلك فقد عاش طويلاً، وحين ذهبت لحضور جنازته، بالكاد كنت أكتم ضحكاتي، وأنا أستحضر المواقف التي جمعتني به، كان يكبرني بجيل أو رُبّما أكثر، ولكنّ مجالس الشُرب والمنتديات الثقافيّة والمساجد،كانت أكثر ما يجمع الناس، ويؤلفهم أو حتّى يفرّقهم، في تلك الحقبة العاصفة من تاريخنا المشحون بالمتناقضات، كانت تمثل مخابئاً أو مهارباً من الأحكام العرفيّة السائدة، والجو السياسي الخانق، وحتّى المقاهي كانت مراقبة، ومزروعة بالعسس والمخبرين! لم أكن من متعاطي الخمر بل كنت من متعاطي المعارضة السياسيّة، وكان هذا هو الجامع المشترك،بيني وبين كل الأطياف السياسية مؤمنين أو ملحدين، ما داموا يقفون في الصف المناهض للدولة وسياساتها!
آخر مرّة رأيته فيها، كان يشكو لي من عقوق ولده الوحيد، وتمرّده عليه، وقال لي وقتها سأجعلك تجلس معه لعلّه يتذكُّر أو يخشى!فعلاً صدّقت قصّته، وأخذتني الشّفقة به حين استشهد بالآية القرآنيّة، استشهاد المغلوب على أمره، هل يعقل أن يكون ابنه قد بلغ مرحلة الفرعنة، في تنكّره لوالده وجحوده له؟!
بالفعل ضربت موعداً مع الشاب في بيتي، وألهتني أمورٌ كثيرة، حتّى أنّني نسيت الموعد تماماً، وكنت في البيت حين دقّ جرس الباب فهرعت لفتحه، ووجدت قبالتي شاباً ملتحيّاً يلبس العباءة ويضع على رأسه عمامة الشيوخ، فوجئت تماماً فأنا لا تربطني أية علاقة بشخصيّة دينيّة رسميّة، وحين رأى الدهشة في عيني قال دون تلكّؤ:
- أنا ابن فلان!
صدمت فعلاً، وكنت بين أن أنفلت ضاحكاً من هذا المقلب الّذي أوقعني فيه صديقي، وبين أن أتماسك وألبس وجه الوقار والجديّة، حتّى يأخذني الشاب على محمل الجد!
جلسنا قبالة بعضنا صامتين ثُمّ نهضت لأحضر إناءً من العصير المثلّج، علّه يفلح في تهدئة الخواطر الثائرة، فيما بيني وبين الشاب، وبقيت صامتاً إلى أن بدأني هو بالحديث:
-هل شكا لك والدي منّي يا عمّي؟1
نطق "يا عمّي" في تردُّد ، حين لا حظ أنني أصغر من والده بكثير، ولعلّه تساءل في ذهنه، عن سرّهذه العلاقة الحميمة، بين شخصين يفصلهما جيلٌ أو أكثر!
قلت:
- لا عليك! ما الّذي يريده والدك منك؟!
لاحت على فمه ابتسامة خفيفة، ولا شكّ أنّه أدرك أّنني صحّحت فهمي للموضوع، حتى أعدت صياغة سؤالي بهذه الطريقة! بدل أن أن أبادره بالتقريع وكيل التُّهم!
وأجابني متمهّلاً:
- أنت تعرف والدي ، لقد أزعجه أن أنتظم في سلك القضاء الشرعي، رغم أنني خضت منافسةً حامية لأحصل على هذه الوظيفة، وما يزعجه بالضبط ليس الوظيفة وإنّما الزي، فحين أظهر إلى جانبه في المناسبات، وحضرتك تعلم أننا ملزمون بلبسه حفاظاً على هيبة القاضي في أعين العامة، فحين يقدّمني كابنه وأنا بهذا الزي ينفجر الناس ضاحكين، على المفارقة التي تفصل بين الأب والإبن!
ولم أملك أن أمسك نفسي عن الإسترسال في الضّحك ، حتّى هدأت موجاته بعد أن أخذت مداها كاملاً، فقلت مهدّئاً روع الشّاب:
- لا عليك، أترك المسألة علي، ولن يُلحّ عليك بعد اليوم، لا بخلع اللبس، ولا بترك الوظيفة!
ورفع الشاب يديه إلى السماء وهو يقول:
- الله يجيب الخير على إيدك! والله أنا محرج أن أواجهه فالله سبحانه وتعالى يقول "فلا تقل لهما أٌف"!
وخرج الشاب وهو هاديء الخاطر، وقد أقنعته تماماً أنني سأغيّر سلوك والده نحوه!
أذكر أنّي صادفته مرّة وهو خارجٌ من البار، وقد تورّدت وجنتاه وشعّت عيناه وتضرّج وجهه، وما إن لمحني،حتّى تشبّث بذراعي وأقسم:
- والله لتيجي معي!سنتحدّث ونتسامر ونشرب ونأكل، انت طبعاً الكوكا كولا! وشفعها بضحكة!
ما إن وصلنا البيت، حتّى قال سأذهب لأغيّر ملابسي في الغرفة الأخرى، وبعدها سنبدأ سهرتنا الطويلة! ولمّا تأخّر وطال تأخّره، انتابتني الهواجس وخشيت أن يكون قد حصل له شيء، لو أنّه أفرط في المشروب! ونهضت من مقعدي، ومشيت إلى غرفة نومه ، كان الباب مفتوحاً، وكان هو ممدّداً على السرير ببدلته كامة وقد علا شخيره بنوباتٍ متقطعة، تناولت كيس المكسّرات من على جانبه، وبدأت جولة في البيت، لأعرف أين المطبخ، لأحضر شيئاً لأشربه،فجأةً لمحت رفوف الكتب،كانت غرفة المكتبة إلى يساري، فدخلت بلا تردّد وأشعلتُ النور، وأجلتُ عينيّ على الرفوف، لفتت نظري رصّة من المجلدات السوداء، خُطّت قاعدتها بكتابة مذهّبة، و اقتربت متفحصاً، كان تفسير " في ظلال القرآن" للشيخ سيّد قطب! ولم أستطع كتم فضولي : ماذا يفعل هذا الكتاب هنا، كدت أذهب لإيقاظه لأطرح عليه السؤال! تناولت أحد المجلدات واستغرقت في قراءته حتّى غلبني النعاس فنمت!
في الصباح استيقظ قبلي وأيقظني معتذراً:
- معلهش حقّك علي، لقد كنت مجهداً!
لم ألتفت إلى اعتذاره وبادرته بالسؤال:
- ماذا يفعل عندك " في ظلال القرآن"!
وأجاب وهو يُحرّك السُكّر في كأس الشاي!
- آه! هذا! وإلا كيف تعتقد أنني سأرد على هؤلاء الشيوخ المجانين، لا بد ان أقرأ ما يقولون! أليس كذلك!
استيقظت من خواطري وهم ينزلونه في القبر، فأجهشت بالبكاء، ولمحت ابنه على طرف القبر، فهرعت إليه وأخذته بالأحضان، وانهمرت دموعنا معاً!
أمسكت بعضديه، ونظرت في عينيه وقلت"
- يا بُني، أُدعُ له في كُلّ صلاة! لعلّ الله سبحانه يغفر له!
نزار حسين راشد
آخر مرّة رأيته فيها، كان يشكو لي من عقوق ولده الوحيد، وتمرّده عليه، وقال لي وقتها سأجعلك تجلس معه لعلّه يتذكُّر أو يخشى!فعلاً صدّقت قصّته، وأخذتني الشّفقة به حين استشهد بالآية القرآنيّة، استشهاد المغلوب على أمره، هل يعقل أن يكون ابنه قد بلغ مرحلة الفرعنة، في تنكّره لوالده وجحوده له؟!
بالفعل ضربت موعداً مع الشاب في بيتي، وألهتني أمورٌ كثيرة، حتّى أنّني نسيت الموعد تماماً، وكنت في البيت حين دقّ جرس الباب فهرعت لفتحه، ووجدت قبالتي شاباً ملتحيّاً يلبس العباءة ويضع على رأسه عمامة الشيوخ، فوجئت تماماً فأنا لا تربطني أية علاقة بشخصيّة دينيّة رسميّة، وحين رأى الدهشة في عيني قال دون تلكّؤ:
- أنا ابن فلان!
صدمت فعلاً، وكنت بين أن أنفلت ضاحكاً من هذا المقلب الّذي أوقعني فيه صديقي، وبين أن أتماسك وألبس وجه الوقار والجديّة، حتّى يأخذني الشاب على محمل الجد!
جلسنا قبالة بعضنا صامتين ثُمّ نهضت لأحضر إناءً من العصير المثلّج، علّه يفلح في تهدئة الخواطر الثائرة، فيما بيني وبين الشاب، وبقيت صامتاً إلى أن بدأني هو بالحديث:
-هل شكا لك والدي منّي يا عمّي؟1
نطق "يا عمّي" في تردُّد ، حين لا حظ أنني أصغر من والده بكثير، ولعلّه تساءل في ذهنه، عن سرّهذه العلاقة الحميمة، بين شخصين يفصلهما جيلٌ أو أكثر!
قلت:
- لا عليك! ما الّذي يريده والدك منك؟!
لاحت على فمه ابتسامة خفيفة، ولا شكّ أنّه أدرك أّنني صحّحت فهمي للموضوع، حتى أعدت صياغة سؤالي بهذه الطريقة! بدل أن أن أبادره بالتقريع وكيل التُّهم!
وأجابني متمهّلاً:
- أنت تعرف والدي ، لقد أزعجه أن أنتظم في سلك القضاء الشرعي، رغم أنني خضت منافسةً حامية لأحصل على هذه الوظيفة، وما يزعجه بالضبط ليس الوظيفة وإنّما الزي، فحين أظهر إلى جانبه في المناسبات، وحضرتك تعلم أننا ملزمون بلبسه حفاظاً على هيبة القاضي في أعين العامة، فحين يقدّمني كابنه وأنا بهذا الزي ينفجر الناس ضاحكين، على المفارقة التي تفصل بين الأب والإبن!
ولم أملك أن أمسك نفسي عن الإسترسال في الضّحك ، حتّى هدأت موجاته بعد أن أخذت مداها كاملاً، فقلت مهدّئاً روع الشّاب:
- لا عليك، أترك المسألة علي، ولن يُلحّ عليك بعد اليوم، لا بخلع اللبس، ولا بترك الوظيفة!
ورفع الشاب يديه إلى السماء وهو يقول:
- الله يجيب الخير على إيدك! والله أنا محرج أن أواجهه فالله سبحانه وتعالى يقول "فلا تقل لهما أٌف"!
وخرج الشاب وهو هاديء الخاطر، وقد أقنعته تماماً أنني سأغيّر سلوك والده نحوه!
أذكر أنّي صادفته مرّة وهو خارجٌ من البار، وقد تورّدت وجنتاه وشعّت عيناه وتضرّج وجهه، وما إن لمحني،حتّى تشبّث بذراعي وأقسم:
- والله لتيجي معي!سنتحدّث ونتسامر ونشرب ونأكل، انت طبعاً الكوكا كولا! وشفعها بضحكة!
ما إن وصلنا البيت، حتّى قال سأذهب لأغيّر ملابسي في الغرفة الأخرى، وبعدها سنبدأ سهرتنا الطويلة! ولمّا تأخّر وطال تأخّره، انتابتني الهواجس وخشيت أن يكون قد حصل له شيء، لو أنّه أفرط في المشروب! ونهضت من مقعدي، ومشيت إلى غرفة نومه ، كان الباب مفتوحاً، وكان هو ممدّداً على السرير ببدلته كامة وقد علا شخيره بنوباتٍ متقطعة، تناولت كيس المكسّرات من على جانبه، وبدأت جولة في البيت، لأعرف أين المطبخ، لأحضر شيئاً لأشربه،فجأةً لمحت رفوف الكتب،كانت غرفة المكتبة إلى يساري، فدخلت بلا تردّد وأشعلتُ النور، وأجلتُ عينيّ على الرفوف، لفتت نظري رصّة من المجلدات السوداء، خُطّت قاعدتها بكتابة مذهّبة، و اقتربت متفحصاً، كان تفسير " في ظلال القرآن" للشيخ سيّد قطب! ولم أستطع كتم فضولي : ماذا يفعل هذا الكتاب هنا، كدت أذهب لإيقاظه لأطرح عليه السؤال! تناولت أحد المجلدات واستغرقت في قراءته حتّى غلبني النعاس فنمت!
في الصباح استيقظ قبلي وأيقظني معتذراً:
- معلهش حقّك علي، لقد كنت مجهداً!
لم ألتفت إلى اعتذاره وبادرته بالسؤال:
- ماذا يفعل عندك " في ظلال القرآن"!
وأجاب وهو يُحرّك السُكّر في كأس الشاي!
- آه! هذا! وإلا كيف تعتقد أنني سأرد على هؤلاء الشيوخ المجانين، لا بد ان أقرأ ما يقولون! أليس كذلك!
استيقظت من خواطري وهم ينزلونه في القبر، فأجهشت بالبكاء، ولمحت ابنه على طرف القبر، فهرعت إليه وأخذته بالأحضان، وانهمرت دموعنا معاً!
أمسكت بعضديه، ونظرت في عينيه وقلت"
- يا بُني، أُدعُ له في كُلّ صلاة! لعلّ الله سبحانه يغفر له!
نزار حسين راشد