محمد تيمور ابن أحمد تيمور باشا، من مؤسسي الأدب القصصي والمسرحي في مصر. سافر إلى باريس لدراسة القانون، غير أنه عاد منها إلى القاهرة مع اشتعال الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وانصرف منذ ذلك الحين إلى كتابة القصص والمسرحيات، متأثراً فيها بالمذهب الواقعي. اشترك في تأسيس ((جمعية أنصار التمثيل)) ومثلت له على المسرح عدة كوميديات اجتماعية، مثل:"العصفور في القفص" و"الهاوية" وأوبريت "العشرة الطيبة" التي لحنها سيد درويش. وله مجموعة من القصص القصيرة بعنوان ((ما تراه العيون)).
نشأ في أسرة عريقة على خلفية أدبية واسعة وعلم وجاه، رحل إلى برلين لدراسة الطب لكن حبه وشغفه بالأدب جعلاه يهاجر إلى فرنسا ليطلع على الأدب الأوربي عموما والأدب الفرنسي خصوصا اللذان تركا الأثر الكبير في حياته وعلى قصصه وأعماله, ليعود إلى مصر بعد ثلاث سنوات عام 1914 فألف فرقة تمثيلية عائلية ووضع مسرحيات.
نهض بسوية المسرح المصري من خلال مقالاته النقدية واقتراحاته التي استخدمها بالتأثير الكبير للمسرح الفرنسي, علاقته القوية بأخيه الأصغر- الكاتب ورائد القصة المصرية محمود تيمور- وقربه منه كانت كقرب الجفن من العين حيث كان محمود يعتبر أخاه الأكبر مثله الأعلى وخير مرشد له من خلال التمسك بنصائحه وتوجيهاته وآرائه السديدة بما يملكه من ثقافة واسعة وبعد النظر وحكمة للرأي, حتى إن محمود تأثر به في كتاباته باتجاهه نحو المذهب الواقعي في الكتابة القصصية وألف مجموعته القصصية الأولى على غرارها.
شكلت كتابات محمد القصصية والمسرحية والشعرية والفكرية منظومة إبداعية متكاملة في مجال تحديث الأدب والفكر العربي حتى أن بعض المؤلفين قسموا الحياة الأدبية إلى عصرين هما عصر ما قبل تيمور وعصر ما بعد تيمور، فكانت كتاباته هي البداية الحقيقية للأدب العصري الحديث وبرع أيضاً في مجال القصة بوعي بناء فني ومضمون فكري وإرساء تقاليد القصة القصيرة باعتماده على موهبته الفذة وحسه الفني وثقافته الواسعة والسنين التي أمضاها في ربوع أوروبا بالإضافة إلى التحامه مع قضايا مجتمعه المصري فلم تكن إبداعاته محاكاة شكلية لأنماط الأدب الغربي بل كانت وسيلة لتوظيفها بتجسيد بلورة المضامين التي تهم أبناء شعبه.
يبرز وعي محمد المبكر بتقنيات القصة القصيرة فوقتها لم يكن لفن القصة وحتى الرواية أية تقاليد سابقة في الأدب العربي وربما مواكبته لانجازات رواد القصة كإدجار ألان بو وتشيخوف ومعاصرته لإرنست همنغواي التأثير الكبير لوضع القواعد الأساسية للقصة.
- في القطار - قصة قصيرة
صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته, ويرد للشيخ شبابه, ونسيم عليل ينعش الأفئدة ويسري عن النفس همومها, وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسأئل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء. تناولت ديوان “موسيه” وحاولت القراءة، فلم أنجح فألقيت به على الخوان وجلست على مقعد واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.
مكثت حيناً أفكر ثم نهضت واقفاً، وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد وهناك وقفت مفكراً ثم اهتديت للسفر ترويحاً للنفس، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله.
وجلست في إحدى غرف القطار بجوار النافذة، ولم يكن بها أحد سواي وما لبثت في مكاني حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني “وادي النيل، الأهرام، المقطم “فابتعت إحداها وهممت بالقراءة وإذا بباب الغرفة قد انفتح ودخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة، نحيف القوام كث اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد. وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر قبل أن يتربع على المق، ثم بصق على الأرض ثلاثا ماسحا شفتيه بمنديل أحمر يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير، ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة وجعل يردد اسم الله والنبي والصحابة والأولياء الصالحين. فحولت نظري عنه فإذا بي أرى في الغرفة شاباً لا أدري من أين دخل علينا. ولعل انشغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله. نظرت إلى الفتى وتبادر إلى ذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه، وهو يعود إلى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه. نظرت إلى الشاب كما ينظر إليّ ثم أخرج من حافظته رواية من روايات مسامرات الشعب وهم بالقراءة بعد أن حول نظره عني الأستاذ، ونظرت إلى الساعة راجياً أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضاح الطلعة، حسن الهندام، دخل غرفتنا وهو يتبختر في مشيته ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس. جلس الأفندي وهو يبتسم واضعاً رجلا على رجل بعد أن قرأنا السلام، فرددناه رد الغريب على الغريب.
وساد السكون في الغرفة والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود, والأفندي ينظر لملابسه طوراً وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل منتظراً أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر خامس.
مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد فانفتح باب الغرفة ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ماسكاً مظلة أكل عليها الدهر وشرب. أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه. وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون وإلى أين ذاهبون ثم سمعنا صفير القطار ينبئ الناس بالمسير، وتحرك القطار بعد قليل، يقل من فيه إلى حيث هم قاصدون.
سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شبرا، فإذا بالشركسي يحملق في ثم قال موجها كلامه إلي:
ـ هل من أخبار جديدة يا أفندي؟
فقلت وأنا ممسك الجريدة بيدي ـ ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر اللهم إلا خبر وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.
ولم يهمني الرجل أن أتم كلامي لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني وابتدأ بالقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة. وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا وصعد منها أحد عمد القليوبية وهو رجل ضخم الجثة، كبير الشارب أفطس الأنف، وله وجه به آثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي ثم سار القطار قاصداً قليوب.
مكث الشركسي قليلاً يقرأ الجريدة ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحترق من الألم وقال:
ـ يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى.
فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت:
ـ وأية جناية ؟
ـ إنك مازلت شاباً لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح.
ـ وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟
فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب:
ـ هناك علاج آخر….
ـوما هو ؟
فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه وقال:
ـالسوط. إن السوط لا يكلف الحكومة شيئاً أما التعليم فيتطلب أموالا طائلة ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.
وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة حفظه الله كفاني مئونة الرد فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء:
ـ صدقت يا بيه صدقت ولو كنت تسكن الضياع لقلت أكثر من ذلك. إنا نعاني من الفلاح ما نعاني لنكبح جماحه، ونمنعه من ارتكاب الجرائم.
فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب وقال:
ـ حضراتكم تسكنون الأرياف؟
ـ أنا مولود بها يا بيه.
ـ ما شاء الله.
جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت على وجهه سيم الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مراراً فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتاً على ما فاه به الشركسي، فقلت له:
ـ الفلاح يا بيه مثلنا وحرام ألا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان. فالتفت إلى العمدة كأني وجهت الكلام إليه وقال:
ـ أنا أعلم الناس بالفلاح، ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل وإن شئت أن يقف على شئون الفلاح أجيبك. إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال. وأشار بيده إلى الشركسي:
ـ ولا ينبئك مثل خبير.
فاستشاط التلميذ غضباً، ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف:
ـ الفلاح يا حضرة العمدة..
فقاطعه العمدة قائلاً:
ـ قل يا سعادة البك لأني حزت الرتبة منذ عشرين سنة.
قال التلميذ:
ـ الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه فعمد إلى الإضرار بكم تخلصاً من إساءتكم. وإنه ليدهشني أن تكون فلاحاً وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين.
فهز العمدة رأسه ونظر إلى الشركسي وقال:
ـ هذه هي نتائج التعليم.
فقال الشركسي:
ـ نام وقام فوجد نفسه قائم مقام.
أما الأفندي ذو الهندام الحسن فإنه قهقهه وصفق بيديه وقال للتلميذ.
ـ برافو يا أفندي، برافو، برافو…
ونظر إليه الشركسي وقد انتفخت أوداجه وتعسر عليه التنفس وقال:
ـ ومن تكون أنت؟
ـ ابن الحظ والأنس يا أُنس.
وقهقهه عدة ضحكات متوالية.
ولم يبق في قوس الشركسي منزع فصاح وهو يبصق على الأرض طورا وعلى الأستاذ وعلى حذاء العمدة تارة:
ـ أدب سيس فلاح.
ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة لولا أن التفت العمدة إلى الأستاذ وقال:
ـ أنت خير الحاكمين يا سيدنا فاحكم لنا في هذه القضية. فهز الأستاذ رأسه وتنحنح وبصق على الأرض وقال:
ـ وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله جل وعلا؟
ـ هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟
ـفقال الأستاذ :
ـ بسم الله الرحمن الرحيم “إنا فتحنا لك فتحا مبينا. “قال النبي عليه الصلاة والسلام لا تعلموا أولاد السفلة العلم”.
وعاد الأستاذ إلى خموله وإطباق أجفانه مستسلماً للذهول، فضحك التلميذ وهو يقول:
ـ حرام عليك يا أستاذ. إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم فما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.
فأفاق الأستاذ من غفلته وقال:
ـ واحسرتاه إنكم من يوم ما تعلمتم الرطن فسدت عليكم أخلاقكم ونسيت أوامر دينكم ومنكم من تبجح واستكبر وأنكر وجود الخالق.
فصاح الشركسي والعمدة “لك الله يا أستاذ ” وقال الشركسي:
ـ كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه، واليوم يشتمه ويهم بصفعه.
وقال العمدة:
ـ كان الولد لا يرى وجه عمته والآن يجالس امرأة أخيه.
ووقف القطار في قليوب وقرأت الجميع السلام وغادرتهم وسرت في طريقي إلى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دوي القطار وصفيره وهو يعدو بين المروج الخضراء لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث.
نشأ في أسرة عريقة على خلفية أدبية واسعة وعلم وجاه، رحل إلى برلين لدراسة الطب لكن حبه وشغفه بالأدب جعلاه يهاجر إلى فرنسا ليطلع على الأدب الأوربي عموما والأدب الفرنسي خصوصا اللذان تركا الأثر الكبير في حياته وعلى قصصه وأعماله, ليعود إلى مصر بعد ثلاث سنوات عام 1914 فألف فرقة تمثيلية عائلية ووضع مسرحيات.
نهض بسوية المسرح المصري من خلال مقالاته النقدية واقتراحاته التي استخدمها بالتأثير الكبير للمسرح الفرنسي, علاقته القوية بأخيه الأصغر- الكاتب ورائد القصة المصرية محمود تيمور- وقربه منه كانت كقرب الجفن من العين حيث كان محمود يعتبر أخاه الأكبر مثله الأعلى وخير مرشد له من خلال التمسك بنصائحه وتوجيهاته وآرائه السديدة بما يملكه من ثقافة واسعة وبعد النظر وحكمة للرأي, حتى إن محمود تأثر به في كتاباته باتجاهه نحو المذهب الواقعي في الكتابة القصصية وألف مجموعته القصصية الأولى على غرارها.
شكلت كتابات محمد القصصية والمسرحية والشعرية والفكرية منظومة إبداعية متكاملة في مجال تحديث الأدب والفكر العربي حتى أن بعض المؤلفين قسموا الحياة الأدبية إلى عصرين هما عصر ما قبل تيمور وعصر ما بعد تيمور، فكانت كتاباته هي البداية الحقيقية للأدب العصري الحديث وبرع أيضاً في مجال القصة بوعي بناء فني ومضمون فكري وإرساء تقاليد القصة القصيرة باعتماده على موهبته الفذة وحسه الفني وثقافته الواسعة والسنين التي أمضاها في ربوع أوروبا بالإضافة إلى التحامه مع قضايا مجتمعه المصري فلم تكن إبداعاته محاكاة شكلية لأنماط الأدب الغربي بل كانت وسيلة لتوظيفها بتجسيد بلورة المضامين التي تهم أبناء شعبه.
يبرز وعي محمد المبكر بتقنيات القصة القصيرة فوقتها لم يكن لفن القصة وحتى الرواية أية تقاليد سابقة في الأدب العربي وربما مواكبته لانجازات رواد القصة كإدجار ألان بو وتشيخوف ومعاصرته لإرنست همنغواي التأثير الكبير لوضع القواعد الأساسية للقصة.
- في القطار - قصة قصيرة
صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته, ويرد للشيخ شبابه, ونسيم عليل ينعش الأفئدة ويسري عن النفس همومها, وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسأئل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء. تناولت ديوان “موسيه” وحاولت القراءة، فلم أنجح فألقيت به على الخوان وجلست على مقعد واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.
مكثت حيناً أفكر ثم نهضت واقفاً، وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد وهناك وقفت مفكراً ثم اهتديت للسفر ترويحاً للنفس، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله.
وجلست في إحدى غرف القطار بجوار النافذة، ولم يكن بها أحد سواي وما لبثت في مكاني حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني “وادي النيل، الأهرام، المقطم “فابتعت إحداها وهممت بالقراءة وإذا بباب الغرفة قد انفتح ودخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة، نحيف القوام كث اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد. وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر قبل أن يتربع على المق، ثم بصق على الأرض ثلاثا ماسحا شفتيه بمنديل أحمر يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير، ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة وجعل يردد اسم الله والنبي والصحابة والأولياء الصالحين. فحولت نظري عنه فإذا بي أرى في الغرفة شاباً لا أدري من أين دخل علينا. ولعل انشغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله. نظرت إلى الفتى وتبادر إلى ذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه، وهو يعود إلى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه. نظرت إلى الشاب كما ينظر إليّ ثم أخرج من حافظته رواية من روايات مسامرات الشعب وهم بالقراءة بعد أن حول نظره عني الأستاذ، ونظرت إلى الساعة راجياً أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضاح الطلعة، حسن الهندام، دخل غرفتنا وهو يتبختر في مشيته ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس. جلس الأفندي وهو يبتسم واضعاً رجلا على رجل بعد أن قرأنا السلام، فرددناه رد الغريب على الغريب.
وساد السكون في الغرفة والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود, والأفندي ينظر لملابسه طوراً وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل منتظراً أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر خامس.
مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد فانفتح باب الغرفة ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ماسكاً مظلة أكل عليها الدهر وشرب. أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه. وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون وإلى أين ذاهبون ثم سمعنا صفير القطار ينبئ الناس بالمسير، وتحرك القطار بعد قليل، يقل من فيه إلى حيث هم قاصدون.
سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شبرا، فإذا بالشركسي يحملق في ثم قال موجها كلامه إلي:
ـ هل من أخبار جديدة يا أفندي؟
فقلت وأنا ممسك الجريدة بيدي ـ ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر اللهم إلا خبر وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.
ولم يهمني الرجل أن أتم كلامي لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني وابتدأ بالقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة. وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا وصعد منها أحد عمد القليوبية وهو رجل ضخم الجثة، كبير الشارب أفطس الأنف، وله وجه به آثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي ثم سار القطار قاصداً قليوب.
مكث الشركسي قليلاً يقرأ الجريدة ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحترق من الألم وقال:
ـ يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى.
فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت:
ـ وأية جناية ؟
ـ إنك مازلت شاباً لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح.
ـ وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟
فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب:
ـ هناك علاج آخر….
ـوما هو ؟
فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه وقال:
ـالسوط. إن السوط لا يكلف الحكومة شيئاً أما التعليم فيتطلب أموالا طائلة ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.
وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة حفظه الله كفاني مئونة الرد فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء:
ـ صدقت يا بيه صدقت ولو كنت تسكن الضياع لقلت أكثر من ذلك. إنا نعاني من الفلاح ما نعاني لنكبح جماحه، ونمنعه من ارتكاب الجرائم.
فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب وقال:
ـ حضراتكم تسكنون الأرياف؟
ـ أنا مولود بها يا بيه.
ـ ما شاء الله.
جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت على وجهه سيم الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مراراً فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتاً على ما فاه به الشركسي، فقلت له:
ـ الفلاح يا بيه مثلنا وحرام ألا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان. فالتفت إلى العمدة كأني وجهت الكلام إليه وقال:
ـ أنا أعلم الناس بالفلاح، ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل وإن شئت أن يقف على شئون الفلاح أجيبك. إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال. وأشار بيده إلى الشركسي:
ـ ولا ينبئك مثل خبير.
فاستشاط التلميذ غضباً، ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف:
ـ الفلاح يا حضرة العمدة..
فقاطعه العمدة قائلاً:
ـ قل يا سعادة البك لأني حزت الرتبة منذ عشرين سنة.
قال التلميذ:
ـ الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه فعمد إلى الإضرار بكم تخلصاً من إساءتكم. وإنه ليدهشني أن تكون فلاحاً وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين.
فهز العمدة رأسه ونظر إلى الشركسي وقال:
ـ هذه هي نتائج التعليم.
فقال الشركسي:
ـ نام وقام فوجد نفسه قائم مقام.
أما الأفندي ذو الهندام الحسن فإنه قهقهه وصفق بيديه وقال للتلميذ.
ـ برافو يا أفندي، برافو، برافو…
ونظر إليه الشركسي وقد انتفخت أوداجه وتعسر عليه التنفس وقال:
ـ ومن تكون أنت؟
ـ ابن الحظ والأنس يا أُنس.
وقهقهه عدة ضحكات متوالية.
ولم يبق في قوس الشركسي منزع فصاح وهو يبصق على الأرض طورا وعلى الأستاذ وعلى حذاء العمدة تارة:
ـ أدب سيس فلاح.
ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة لولا أن التفت العمدة إلى الأستاذ وقال:
ـ أنت خير الحاكمين يا سيدنا فاحكم لنا في هذه القضية. فهز الأستاذ رأسه وتنحنح وبصق على الأرض وقال:
ـ وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله جل وعلا؟
ـ هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟
ـفقال الأستاذ :
ـ بسم الله الرحمن الرحيم “إنا فتحنا لك فتحا مبينا. “قال النبي عليه الصلاة والسلام لا تعلموا أولاد السفلة العلم”.
وعاد الأستاذ إلى خموله وإطباق أجفانه مستسلماً للذهول، فضحك التلميذ وهو يقول:
ـ حرام عليك يا أستاذ. إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم فما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.
فأفاق الأستاذ من غفلته وقال:
ـ واحسرتاه إنكم من يوم ما تعلمتم الرطن فسدت عليكم أخلاقكم ونسيت أوامر دينكم ومنكم من تبجح واستكبر وأنكر وجود الخالق.
فصاح الشركسي والعمدة “لك الله يا أستاذ ” وقال الشركسي:
ـ كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه، واليوم يشتمه ويهم بصفعه.
وقال العمدة:
ـ كان الولد لا يرى وجه عمته والآن يجالس امرأة أخيه.
ووقف القطار في قليوب وقرأت الجميع السلام وغادرتهم وسرت في طريقي إلى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دوي القطار وصفيره وهو يعدو بين المروج الخضراء لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث.