فجأة قررت هجر المدرسة والمجيء الى بغداد.. كنت حينذاك في العشرين من عمري، كتلة نار وسيوف.
وتلقفني شارع الرشيد.. الفساتين الملونة والزجاج.. وقلت لنفسي من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو قمة الجبل. وكانت الدهشة تشدني من كل جانب حتى وصلت الى (مقهى الزهاوي) حيث يجلس محمد هادي الدفتري وخضر الطائي وعبدالرحمن البناء.
وكانت حماستي الجهنمية وولعي الشديد بالمناقشة والجدل، وافكاري المتطرفة في الشعر والادب قد وضعتني تدريجيا في المكان اللائق بين اصدقائي الجدد.
وفي تلك الايام الرهيبة التقيت بوجه الجوع الاصفر،، فكنت لا اتناول في اليوم اكثر من وجبة واحدة.
صمونة نصف سمراء مع كأس من الشربت.
اما النوم فهو المشكلة الرئيسية التي كانت تشغل اكبر مساحة من ذهني،، وقد وجدت الحل اخيرا في عدم النوم، فكنت اذرع المدينة عرضا وطولا الى ان يبزغ الفجر، وعندما كان يهيمن النعاس على عيني كنت الجأ الى اقرب بستان للحصول على غفوة صغيرة. وكان عدوي الوحيد في تلك الفنادق الهوائية هو البعوض.. ولم ازل امقت هذه المخلوقات اللئيمة حتى هذه اللحظة.
وكانت الزيارات بين ادباء وشعراء المقاهي عادة طريفة تشكل نواة متفجرة للحوار والمصادمات الادبية.. وكانت جماعة مقهى (حسن العجمي) تضم البراك والجواهري وجلال الحنفي وكمال الجبوري وغيرهم.. وكنا نحن ادباء الشباب نعامل كل هؤلاء بتقدير فائق، وكانوا بدورهم يشيدون بنتاجاتنا فيساهمون بدفعنا للتجديد والابتكار، وشيئا فشيئا بدأت اصبح نقطة لتجمع ادبي جديد، فانتقلنا ومعي كل من رشيد ياسين وبلند الحيدري وزهير احمد القيسي الى (مقهى البلدية) وكان شعراء وادباء الكليات يهرعون الينا بمجرد الانتهاء من دروسهم، ومن هؤلاء بدر شاكر السياب وعبدالرزاق عبدالواحد واكرم الوتري.. فقد كانت تلك المقاهي جامعات حقيقية للادب والشعر، وكنا نعيش في جو من الصداقة الصميمية.. ومع اننا لم نكن نمارس التفكير السياسي بصورة جدية فقد كانت حياتنا سلسلة من العذابات والحرمان.. الا اننا كنا نمثل اسلوبا فريدا من ناحية تطبيق الاشتراكية.. فعلبة الدخان التي كان يملكها احدنا تطرح على الطاولة لتكون مشاعة للجميع.. وكان اكثرنا مالا هو الذي يدفع ثمن اكواب الشاي.. واحيانا كنا نفرض على ادباء دار المعلمين العالية دعوتنا الى تناول الطعام في مطعم الكلية.. وفي الواقع كنا نحسدهم كثيرا، ولطالما طلبنا منهم ان يصفوا لنا الاكلات الشهية والفواكه ليأتى بها الينا.. كذلك كنا نشترك في نظم القصائد وكتابة المقالات النقدية. ولعل الاخ زهير احمد القيسي هو الوحيد الذي لم يزل يحتفظ بتلك المنظومات التاريخية.. وكان رشيد ياسين من عناصر الازعاج بيننا فقد كان يستغل معرفته بالنحو لاثارة بعضنا، فكنا نتهمه بالجمود وقد نذهب الى ابعد من ذلك فنسخر من سيبويه وكل فلاسفة اللغة.. وهكذا نضطره الى السكوت ثم الضحك. وبعدها تحولنا الى (مقهى الدفاع) وهنا التحق بمجموعتنا عدد من المثقفين والكتاب وعلى رأسهم المسرحي صفاء مصطفى وكمال القيسي والممثل يحيى فائق وغائب طعمة فرمان، ومصطفى الفكيكي – صاحب مجلة الراصد الان- وفي هذا المقهى بدأت محبتنا للشطرنج، حيث كان يلتقي اباطرة هذه اللعبة كالسيد عبدالرزاق المدرس والشيخ عبدالكريم الطحان الذي يعتبر مؤسس المدرسة العراقية في هذا الفن، ومن هذه الاجواء بالذات ولدت الشخصيات الحقيقية لرواية (خمسة اصوات): وفي تلك الفترة وصل جبرا ابراهيم جبرا الى العراق وانضم الى جماعة (كافيه سويس) والتي كانت ترتبط بنا ايضا ولكننا لم نكن لنهتم بهم كثيرا لما يبدو عليهم من مظاهر الترف البرجوازي ومن هؤلاء الرسام جواد سليم ونجيب المانع وعبدالملك نوري ونزار سليم،، وكان ساطع عبدالرزاق هو حلقة الوصل بين الجماعتين، وقد استطاع بمساعدة بلند الحيدري سحبي الى ذلك المقهى الانيق، ولكن وفائي الطبقي كان يدفعني الى العودة الى اصدقائي القدماء، واخيرا قررت الانتقال الى المقر الجديد في (مقهى الصباح) في باب المعظم. فقد كان السأم من وجوه الزبائن المدمنة وتكرار المنظر الواحد من الاسباب التي تدفعنا الى الانتقال من مكان الى آخر، ولكننا قد نتحمل كل شيء اذا كانت علاقتنا بصاحب المقهى مرنة وودية، ولكل كلمة من هاتين الكلمتين اكثر من معنى واحد.. فالمرونة تعني الاستجابة لطلباتنا الكثيرة وعدم الالحاح باسترجاع الديون المتراكمة! اما بالنسبة للمودة، فنحن نريد من صاحب المقهى ان يستقبلنا ويودعنا بالترحيب والابتسام. كانت جلساتنا الطويلة تبدأ من شروق الشمس ولا تنتهي قبل الساعة الثامنة مساء حيث نتسرب الى الحانات المجاورة لمنطقة الميدان، والذي كان قلب بغداد النابض حينذاك، والحقيقة ان المقهى كان يعتبر البيت الدائم لكل منا، وحتى الاعضاء الذين كانوا يقيمون في بغداد كانوا يتناولون الغداء معنا في اكثر الاحيان وكنا نقدر مثل هذه التضحية العظيمة، لانهم يحرمون انفسهم من اطايب الطعام من اجل البقاء بقربنا، واذا حدث وذهب احدهم لرؤية اهله فانه سرعان ما يعود لكي لاتفوته زيارة بعض الادباء لنا، فقد كان عدد الزوار يزداد يوما بعد آخر، ومن هؤلاء الدكتور محمد جواد رضا الملقب بـ(دعبل) والشاعر كاظم التميمي والناصري وصفاء الحيدري والكاتب عبدالرزاق الشيخ علي وعبدالصاحب الملائكة والناقد طالب السامرائي، ولم يكن هذا الزائر او ذاك ليأتي لمجرد رؤيتنا فقط، بل ليقرأ علينا قصيدته او قصته الجديدة، وكانت مثل هذه الاعمال الادبية تطرح من قبل صاحبها للنقد والمناقشة بكل تواضع للحصول على تزكيتها او الحكم باعدامها وقد يستمر الجدل حول قصيدة واحدة ساعات طويلة، وغالبا ما كنا نحن الذين نقرر صلاحها للنشر،، فقد كنا نسيطر عن طريق غير مباشر على الصفحات الادبية التي كانت تخصص في بعض الجرائد، حيث كان معظم المشرفين على تحرير تلك الزوايا الادبية من حاشيتنا، وكان باستطاعتنا ان نثلم شهرة اي شاعر او اديب يحاول الخروج او التمرد على مفاهيمنا الادبية والفنية، اما المجلات الادبية العالية فقد كانت هي الحلم الاوحد الذي يقوم ويقعد معنا، فعندما كان يحصل انسان ما على امتياز مجلة ادبية، كنا نركض اليه من المقاهي كافة لكي نضع مجلته ضمن نفوذنا الادبي، واذكر بهذه المناسبة ان واحدا من هؤلاء قد طلب من عبدالملك نوري قصة لاتحمل اي طابع سياسي وطلب مني قصيدة خالية من الصور الجنسية وقصيدة من عبدالوهاب البياتي بعيدة عن الاشارات الثورية، وعندما قلنا لماذا؟ اجاب وهو يتلفت حوله: لانني اخاف من الحكومة! وعندئذ صحنا بصوت واحد.. ولذا نقترح عليك ان تطبع الغلاف وحده وتكتب عليه.. بما انني اخشى السجن فقد قررت اصدار مجلتي بهذا الشكل الفريد.. وهنا كان لابد لنا من ان نمنح هذا المتأدب المسكين احد الالقاب البهلوانية التي كنا نطلقها على امثاله، وقد فاز بقلب (الطائر الخرافي).. وبقدر ما كنا منسجمين من ناحية اتجاهاتنا الفكرية العامة كنا نختلف احيانا من حيث اساليبنا وطموحاتنا الفردية، ولعلي الوحيد الذي لم يدخل في صميم المشاحنات الادبية، التي كانت تحدث دائما بين الادباء والتي غالبا ماكانت تؤدي الى الخصام وقطع العلاقات، واشهر تلك الخصومات هي التي كانت تحدث بين السياب من جهة وعبدالوهاب البياتي وكاظم جواد من جهة اخرى، وكان كاظم هو مركز الثقل في هذه المعارك فان انضمامه الى احد الطرفين كان يعني فوز ذلك الطرف.. وكان كل من الفريقين يحاول الاستعانة بي، الاّ انني كنت ارفض مثل هذه المواقف واعمل على ازالة الجفاء وتقريب وجهات النظر بين الجبهتين فقد كان الصراع في حقيقته يدور حول الزعامة الشعرية! وهو عمل كنت انظر اليه من جانبي باستخفاف وبامتعاض، لاني لم اكن مؤمنا بمثل هذه السخافة، سخافة الامارة والامتياز الادبي، ومع اني كنت اعتقد ان هذه المنازعات تخلق رجة لا غنى عنها للحركة الادبية، ولكنني لم اكن اسمح بتطورها الى درجة العنف ولذلك كنت اقف ضدها باستمرار. كان انتقالنا الى (مقهى الصباح) في بداية عام 1948 وهو العام الذي صدر فيه ديوان بدر شاكر السياب (ازهار ذابلة) وديوان عبدالوهاب البياتي (ملائكة الشيطان) وفي نفس السنة طبع بلند الحيدري مجموعته (خفقة الطين) واصدرت نازك الملائكة كذلك ديوانها (شظايا ورماد).. وهكذا بدأت حياة المقاهي الكئيبة ترصع سماء الشعر القديمة بنجوم ذات بريق جديد، وقد قوبلت هذه المجموعات الشعرية بشيء من الحماسة من قبل القراء الشباب ومن المثقفين بصورة خاصة،، الا انها استقبلت بنوع شديد من الحذر من جانب المتزمتين من عباد الثالوث الشعري المتكون من الزهاوي والرصافي والجواهري.. في الوقت الذي كانت فيه شهرة الزهاوي قد اخذت تميل الى الاصفرار وخمدت السنة اللهب على حافة بركان الرصافي.. وبرز الجواهري مرتديا بردة الزعامة.. ولم يكن هناك من يرفض الاعتراف بقيادة الجواهري للحركة الشعرية.. فقد كانت قصائده ترن في كل مكان.. وعندما صدر ديواني (قصائد عارية) في مطلع عام 1949 وأمرت الحكومة بمصادرته وتقديمي الى المحاكم بتهمة افساد افكار الشباب.. جاءني القاص عبدالرزاق الشيخ علي واخبرني ان الجواهري يريد رؤيتي ويدعوني الى زيارته.. ولكني رفضت الذهاب وقلت له: ليأتي الجواهري اليّ في المقهى.. ويبدو ان ابا فرات كان يفهم مدى الغرور الذي يحمله الشعراء الشباب!! فاستعان بديموقراطيته وحضر الى مقهى الرشيد حيث كان مقري الدائم حيذاك،، وقد نهضنا لاستقباله بما يليق به باعتباره الوريث الشرعي لكل ابداعات التراث الشعري منذ العصر الجاهلي الى يومنا ذاك.. وبعد حديث قصير اظهر الجواهري اسفه لمصادرة ديواني ومحاكمتي وعرض عليّ مساعدته، واظن انه تحدث مع الحاكم الذي احيلت اوراق الدعوى اليه.. وعلى الرغم من عدم ايماني بعبقرية الجواهري بصورة مطلقة فقد ظل يعاملني بمودة خاصة،، وحتى عندما هاجمته بسلسلة من المقالات النقدية حول قصيدته (اللاجئة في العيد) لم اسمع منه كلمة واحدة تنم عن الكره، ولكني لمست موقفه المتحفظ مني خلال نشاطنا داخل اتحاد الادباء العراقيين،، وقد استطاع ان يبعد اسمي من قائمة المرشحين للهيئة الادارية، مما اضطرني الى خلق عدة تكتلات ادبية لمجابهة جبهة الجواهري- صلاح خالص.. وقد كان الاديب خالص عزمي هو ساعدي الايمن في حومة ذلك الصراع الخفي.. ولم ازل اذكر لخالص دوره الفعال ومواقفه الجريئة.. وعندما عقدت المفاوضات بين الجانبين كان القاص عبدالملك نوري هو ممثلنا فيها،، ولكنهم لم يحترموا ما وعدوا به من حرية الانتخاب.. فعمدت الى مهاجمتهم في اثناء المؤتمر، وقد حملتني اصوات اصدقائي القدماء من ادباء وشعراء المقاهي الى كرسي الهيئة الادارية.. لقد سقت هذه الحادثة كدليل على قوة ونفوذ الادباء الشباب الذين كانوا يحلمون في الثورة على كل مظاهر الادب القديم وخاصة في ميدان الشعر، ولقد ظلت تلك الذكريات المشتركة تشد بعضنا الى بعض فترة طويلة، فعلى الرغم من الطبيعة السياسية لاتحاد الادباء العراقيين فقد بذلت المستحيل من اجل انضمام الشاعر بلند الحيدري وقد ساعدني في ذلك كل من عبدالوهاب البياتي وعبدالملك نوري،، اما بالنسبة لبدر شاكر السياب فقد كان هناك تيار شبه عام ضد قبوله.. ومع ذلك فقد حاولت الا انني لم استطع ان اقنع حتى الذين كانوا يؤمنون بشاعرية بدر وقابلياته الادبية. ان الصور التي تجمعت في ذاكرتنا عن ايام مقهى الصباح كانت كثيرة ومتعددة، فقد كان صاحب المقهى واسمه صبيح اكثر رقة من اي صاحب مقهى آخر.. ومع ذلك فقد اقترح احدنا التحول الى (مقهى الرشيد) في الحيدرخانة.. وبعد ان نوقش الاقتراح مدة شهر كامل تقرر الاخذ به.. وهكذا تحركت القافلة الى هناك.. وفي هذا المقهى التقينا الشاعر صالح بحر العلوم وعباس شايجه وانضم الينا كذلك كل من الاخوين موسى ومحمد النقدي، وهنا بدأت حدة المناقشات الادبية تهفت تدريجيا!. ثم حصل الانتقال الكبير الى (مقهى البرازيلية).. لقد كان عهد (مقهى البرازيلية) هو العهد الذهبي في حياتنا الادبية، فقد اصبح لكل منا شخصيته الادبية الخاصة، واذا كانت بعض الوجوه قد اختفت نهائيا لعدم قدرتها على المواصلة فقد ظهرت وجوه اخرى جديدة ذات سمات ملائمة كالشاعر رشدي العامل والقاص نزار عباس ومحمد روزنامجي والصحفي الكبير عبدالمجيد الونداوي، فهناك وخلف الواجهة الزجاجية العريضة وحول منضدة من اعواد الخيزران كان يجلس الفرسان الاربعة انا وعبدالوهاب البياتي وكاظم جواد وعبدالملك نوري حيث قد اصبحنا نقطة الارتكاز لكافة اطراف الحركة الادبية في العراق ومع اننا كنا نختلف من ناحية اتجاهنا الادبي، الا اننا كنا نشكل وحدة متراصة ضد كل بوادر الشعوذة ومحاولات الارتداد، غير ان حدة النقاش قد اخذت تهفت باستمرار حتى خيل اليّ اننا سنتحول الى نوع من الدمى، لذا كنت انتظر مجيء الليل بشوق لايوصف حيث التقي اصدقائي من الادباء الذين فضلوا البقاء في مقاهينا القديمة، فقد كان معظمهم يأتون اليّ بعد الساعة الثامنة مساء في حانة (بلقيس) لنستعيد ذكريات ايامنا السابقة، وفي تلك الفترة انضم الينا كل من سعدي يوسف ومحمود الخطيب وماجد العامل، وكان يحضر للبرازيلية احيانا بعض المفكرين المعروفين كالدكتور فيصل السامر والاستاذ ابراهيم كبة والدكتور علي الوردي، وغيرهم، وفي مقهى البرازيلية بالذات نشأت كافة التيارات والافكار التجديدية في الشعر والادب، وفيها ايضا ولدت فكرة تأسيس اتحاد الادباء العراقيين، ولقد كان لنشاطي الشخصي اثره الفعال في اتخاذ بعض الخطوات المهمة من اجل انجاح هذا المشروع الكبير الذي كان مجرد التفكير فيه يعتبر تحديا مباشرا للسلطة القائمة حينذاك، وكانت اهم الاجتماعات شبه السرية التي وضعت فيها القرارات الحاسمة بالنسبة للهيأة التأسيسية الاجتماع الذي عقد في دار الاستاذ خالد الشواف، ولكن الحكومة التي كانت تتعقب خطوات كل شاعر واديب قد شعرت بخطورة مثل هذا التجمع الادبي فأوعزت لعدد من مرتزقة الادب بتقديم طلب مشابه، وقد اجيز الطلب فعلا.. وهنا كان لابد من معاقبة ذلك الشاعر المجنون والانتقام منه، ففي سنة 1952 القي علي القبض من قبل البوليس السري، وبعد توقيف طويل في معتقل ابي غريب قدمت الى المجلس العرفي العسكري وحكم علي بالسجن لمدة سنة، وفي سجن الكوت الرهيب بدأ التحول الكبير في مجرى حياته الادبية فقد اقسمت مع نفسي على السير في خدمة الشعب والعمل على قلب ذلك النظام الذي يستل شوق الانسان للحرية بالسجن والحراب ولما عدت الى البرازيلية كان الفرسان الثلاثة كعهدي بهم يجلسون خلف الواجهة الزجاجية ويتحدثون عن نفس الحلم المشترك، وكانوا قد فصلوا من وظائفهم فصاروا يفكرون بالهرب بصورة جدية وقد حقق ذلك كل من عبدالوهاب البياتي، وكاظم جواد ولم يبق معي غير عبدالملك نوري، ولم اكن املك من الوقت مايكفي لعبادة مقهى البرازيلية لانني كنت اعمل كمحرر في جريدة الاهالي، ولكني كنت كثيرا ما افر من الجريدة الى المقهى، فقد كان الجلوس وراء الزجاج خلف منضدة الخيزران قد وصل الى درجة الادمان.
* مجلة الف باء اذار 1969
منقول للفائدة
وتلقفني شارع الرشيد.. الفساتين الملونة والزجاج.. وقلت لنفسي من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو قمة الجبل. وكانت الدهشة تشدني من كل جانب حتى وصلت الى (مقهى الزهاوي) حيث يجلس محمد هادي الدفتري وخضر الطائي وعبدالرحمن البناء.
وكانت حماستي الجهنمية وولعي الشديد بالمناقشة والجدل، وافكاري المتطرفة في الشعر والادب قد وضعتني تدريجيا في المكان اللائق بين اصدقائي الجدد.
وفي تلك الايام الرهيبة التقيت بوجه الجوع الاصفر،، فكنت لا اتناول في اليوم اكثر من وجبة واحدة.
صمونة نصف سمراء مع كأس من الشربت.
اما النوم فهو المشكلة الرئيسية التي كانت تشغل اكبر مساحة من ذهني،، وقد وجدت الحل اخيرا في عدم النوم، فكنت اذرع المدينة عرضا وطولا الى ان يبزغ الفجر، وعندما كان يهيمن النعاس على عيني كنت الجأ الى اقرب بستان للحصول على غفوة صغيرة. وكان عدوي الوحيد في تلك الفنادق الهوائية هو البعوض.. ولم ازل امقت هذه المخلوقات اللئيمة حتى هذه اللحظة.
وكانت الزيارات بين ادباء وشعراء المقاهي عادة طريفة تشكل نواة متفجرة للحوار والمصادمات الادبية.. وكانت جماعة مقهى (حسن العجمي) تضم البراك والجواهري وجلال الحنفي وكمال الجبوري وغيرهم.. وكنا نحن ادباء الشباب نعامل كل هؤلاء بتقدير فائق، وكانوا بدورهم يشيدون بنتاجاتنا فيساهمون بدفعنا للتجديد والابتكار، وشيئا فشيئا بدأت اصبح نقطة لتجمع ادبي جديد، فانتقلنا ومعي كل من رشيد ياسين وبلند الحيدري وزهير احمد القيسي الى (مقهى البلدية) وكان شعراء وادباء الكليات يهرعون الينا بمجرد الانتهاء من دروسهم، ومن هؤلاء بدر شاكر السياب وعبدالرزاق عبدالواحد واكرم الوتري.. فقد كانت تلك المقاهي جامعات حقيقية للادب والشعر، وكنا نعيش في جو من الصداقة الصميمية.. ومع اننا لم نكن نمارس التفكير السياسي بصورة جدية فقد كانت حياتنا سلسلة من العذابات والحرمان.. الا اننا كنا نمثل اسلوبا فريدا من ناحية تطبيق الاشتراكية.. فعلبة الدخان التي كان يملكها احدنا تطرح على الطاولة لتكون مشاعة للجميع.. وكان اكثرنا مالا هو الذي يدفع ثمن اكواب الشاي.. واحيانا كنا نفرض على ادباء دار المعلمين العالية دعوتنا الى تناول الطعام في مطعم الكلية.. وفي الواقع كنا نحسدهم كثيرا، ولطالما طلبنا منهم ان يصفوا لنا الاكلات الشهية والفواكه ليأتى بها الينا.. كذلك كنا نشترك في نظم القصائد وكتابة المقالات النقدية. ولعل الاخ زهير احمد القيسي هو الوحيد الذي لم يزل يحتفظ بتلك المنظومات التاريخية.. وكان رشيد ياسين من عناصر الازعاج بيننا فقد كان يستغل معرفته بالنحو لاثارة بعضنا، فكنا نتهمه بالجمود وقد نذهب الى ابعد من ذلك فنسخر من سيبويه وكل فلاسفة اللغة.. وهكذا نضطره الى السكوت ثم الضحك. وبعدها تحولنا الى (مقهى الدفاع) وهنا التحق بمجموعتنا عدد من المثقفين والكتاب وعلى رأسهم المسرحي صفاء مصطفى وكمال القيسي والممثل يحيى فائق وغائب طعمة فرمان، ومصطفى الفكيكي – صاحب مجلة الراصد الان- وفي هذا المقهى بدأت محبتنا للشطرنج، حيث كان يلتقي اباطرة هذه اللعبة كالسيد عبدالرزاق المدرس والشيخ عبدالكريم الطحان الذي يعتبر مؤسس المدرسة العراقية في هذا الفن، ومن هذه الاجواء بالذات ولدت الشخصيات الحقيقية لرواية (خمسة اصوات): وفي تلك الفترة وصل جبرا ابراهيم جبرا الى العراق وانضم الى جماعة (كافيه سويس) والتي كانت ترتبط بنا ايضا ولكننا لم نكن لنهتم بهم كثيرا لما يبدو عليهم من مظاهر الترف البرجوازي ومن هؤلاء الرسام جواد سليم ونجيب المانع وعبدالملك نوري ونزار سليم،، وكان ساطع عبدالرزاق هو حلقة الوصل بين الجماعتين، وقد استطاع بمساعدة بلند الحيدري سحبي الى ذلك المقهى الانيق، ولكن وفائي الطبقي كان يدفعني الى العودة الى اصدقائي القدماء، واخيرا قررت الانتقال الى المقر الجديد في (مقهى الصباح) في باب المعظم. فقد كان السأم من وجوه الزبائن المدمنة وتكرار المنظر الواحد من الاسباب التي تدفعنا الى الانتقال من مكان الى آخر، ولكننا قد نتحمل كل شيء اذا كانت علاقتنا بصاحب المقهى مرنة وودية، ولكل كلمة من هاتين الكلمتين اكثر من معنى واحد.. فالمرونة تعني الاستجابة لطلباتنا الكثيرة وعدم الالحاح باسترجاع الديون المتراكمة! اما بالنسبة للمودة، فنحن نريد من صاحب المقهى ان يستقبلنا ويودعنا بالترحيب والابتسام. كانت جلساتنا الطويلة تبدأ من شروق الشمس ولا تنتهي قبل الساعة الثامنة مساء حيث نتسرب الى الحانات المجاورة لمنطقة الميدان، والذي كان قلب بغداد النابض حينذاك، والحقيقة ان المقهى كان يعتبر البيت الدائم لكل منا، وحتى الاعضاء الذين كانوا يقيمون في بغداد كانوا يتناولون الغداء معنا في اكثر الاحيان وكنا نقدر مثل هذه التضحية العظيمة، لانهم يحرمون انفسهم من اطايب الطعام من اجل البقاء بقربنا، واذا حدث وذهب احدهم لرؤية اهله فانه سرعان ما يعود لكي لاتفوته زيارة بعض الادباء لنا، فقد كان عدد الزوار يزداد يوما بعد آخر، ومن هؤلاء الدكتور محمد جواد رضا الملقب بـ(دعبل) والشاعر كاظم التميمي والناصري وصفاء الحيدري والكاتب عبدالرزاق الشيخ علي وعبدالصاحب الملائكة والناقد طالب السامرائي، ولم يكن هذا الزائر او ذاك ليأتي لمجرد رؤيتنا فقط، بل ليقرأ علينا قصيدته او قصته الجديدة، وكانت مثل هذه الاعمال الادبية تطرح من قبل صاحبها للنقد والمناقشة بكل تواضع للحصول على تزكيتها او الحكم باعدامها وقد يستمر الجدل حول قصيدة واحدة ساعات طويلة، وغالبا ما كنا نحن الذين نقرر صلاحها للنشر،، فقد كنا نسيطر عن طريق غير مباشر على الصفحات الادبية التي كانت تخصص في بعض الجرائد، حيث كان معظم المشرفين على تحرير تلك الزوايا الادبية من حاشيتنا، وكان باستطاعتنا ان نثلم شهرة اي شاعر او اديب يحاول الخروج او التمرد على مفاهيمنا الادبية والفنية، اما المجلات الادبية العالية فقد كانت هي الحلم الاوحد الذي يقوم ويقعد معنا، فعندما كان يحصل انسان ما على امتياز مجلة ادبية، كنا نركض اليه من المقاهي كافة لكي نضع مجلته ضمن نفوذنا الادبي، واذكر بهذه المناسبة ان واحدا من هؤلاء قد طلب من عبدالملك نوري قصة لاتحمل اي طابع سياسي وطلب مني قصيدة خالية من الصور الجنسية وقصيدة من عبدالوهاب البياتي بعيدة عن الاشارات الثورية، وعندما قلنا لماذا؟ اجاب وهو يتلفت حوله: لانني اخاف من الحكومة! وعندئذ صحنا بصوت واحد.. ولذا نقترح عليك ان تطبع الغلاف وحده وتكتب عليه.. بما انني اخشى السجن فقد قررت اصدار مجلتي بهذا الشكل الفريد.. وهنا كان لابد لنا من ان نمنح هذا المتأدب المسكين احد الالقاب البهلوانية التي كنا نطلقها على امثاله، وقد فاز بقلب (الطائر الخرافي).. وبقدر ما كنا منسجمين من ناحية اتجاهاتنا الفكرية العامة كنا نختلف احيانا من حيث اساليبنا وطموحاتنا الفردية، ولعلي الوحيد الذي لم يدخل في صميم المشاحنات الادبية، التي كانت تحدث دائما بين الادباء والتي غالبا ماكانت تؤدي الى الخصام وقطع العلاقات، واشهر تلك الخصومات هي التي كانت تحدث بين السياب من جهة وعبدالوهاب البياتي وكاظم جواد من جهة اخرى، وكان كاظم هو مركز الثقل في هذه المعارك فان انضمامه الى احد الطرفين كان يعني فوز ذلك الطرف.. وكان كل من الفريقين يحاول الاستعانة بي، الاّ انني كنت ارفض مثل هذه المواقف واعمل على ازالة الجفاء وتقريب وجهات النظر بين الجبهتين فقد كان الصراع في حقيقته يدور حول الزعامة الشعرية! وهو عمل كنت انظر اليه من جانبي باستخفاف وبامتعاض، لاني لم اكن مؤمنا بمثل هذه السخافة، سخافة الامارة والامتياز الادبي، ومع اني كنت اعتقد ان هذه المنازعات تخلق رجة لا غنى عنها للحركة الادبية، ولكنني لم اكن اسمح بتطورها الى درجة العنف ولذلك كنت اقف ضدها باستمرار. كان انتقالنا الى (مقهى الصباح) في بداية عام 1948 وهو العام الذي صدر فيه ديوان بدر شاكر السياب (ازهار ذابلة) وديوان عبدالوهاب البياتي (ملائكة الشيطان) وفي نفس السنة طبع بلند الحيدري مجموعته (خفقة الطين) واصدرت نازك الملائكة كذلك ديوانها (شظايا ورماد).. وهكذا بدأت حياة المقاهي الكئيبة ترصع سماء الشعر القديمة بنجوم ذات بريق جديد، وقد قوبلت هذه المجموعات الشعرية بشيء من الحماسة من قبل القراء الشباب ومن المثقفين بصورة خاصة،، الا انها استقبلت بنوع شديد من الحذر من جانب المتزمتين من عباد الثالوث الشعري المتكون من الزهاوي والرصافي والجواهري.. في الوقت الذي كانت فيه شهرة الزهاوي قد اخذت تميل الى الاصفرار وخمدت السنة اللهب على حافة بركان الرصافي.. وبرز الجواهري مرتديا بردة الزعامة.. ولم يكن هناك من يرفض الاعتراف بقيادة الجواهري للحركة الشعرية.. فقد كانت قصائده ترن في كل مكان.. وعندما صدر ديواني (قصائد عارية) في مطلع عام 1949 وأمرت الحكومة بمصادرته وتقديمي الى المحاكم بتهمة افساد افكار الشباب.. جاءني القاص عبدالرزاق الشيخ علي واخبرني ان الجواهري يريد رؤيتي ويدعوني الى زيارته.. ولكني رفضت الذهاب وقلت له: ليأتي الجواهري اليّ في المقهى.. ويبدو ان ابا فرات كان يفهم مدى الغرور الذي يحمله الشعراء الشباب!! فاستعان بديموقراطيته وحضر الى مقهى الرشيد حيث كان مقري الدائم حيذاك،، وقد نهضنا لاستقباله بما يليق به باعتباره الوريث الشرعي لكل ابداعات التراث الشعري منذ العصر الجاهلي الى يومنا ذاك.. وبعد حديث قصير اظهر الجواهري اسفه لمصادرة ديواني ومحاكمتي وعرض عليّ مساعدته، واظن انه تحدث مع الحاكم الذي احيلت اوراق الدعوى اليه.. وعلى الرغم من عدم ايماني بعبقرية الجواهري بصورة مطلقة فقد ظل يعاملني بمودة خاصة،، وحتى عندما هاجمته بسلسلة من المقالات النقدية حول قصيدته (اللاجئة في العيد) لم اسمع منه كلمة واحدة تنم عن الكره، ولكني لمست موقفه المتحفظ مني خلال نشاطنا داخل اتحاد الادباء العراقيين،، وقد استطاع ان يبعد اسمي من قائمة المرشحين للهيئة الادارية، مما اضطرني الى خلق عدة تكتلات ادبية لمجابهة جبهة الجواهري- صلاح خالص.. وقد كان الاديب خالص عزمي هو ساعدي الايمن في حومة ذلك الصراع الخفي.. ولم ازل اذكر لخالص دوره الفعال ومواقفه الجريئة.. وعندما عقدت المفاوضات بين الجانبين كان القاص عبدالملك نوري هو ممثلنا فيها،، ولكنهم لم يحترموا ما وعدوا به من حرية الانتخاب.. فعمدت الى مهاجمتهم في اثناء المؤتمر، وقد حملتني اصوات اصدقائي القدماء من ادباء وشعراء المقاهي الى كرسي الهيئة الادارية.. لقد سقت هذه الحادثة كدليل على قوة ونفوذ الادباء الشباب الذين كانوا يحلمون في الثورة على كل مظاهر الادب القديم وخاصة في ميدان الشعر، ولقد ظلت تلك الذكريات المشتركة تشد بعضنا الى بعض فترة طويلة، فعلى الرغم من الطبيعة السياسية لاتحاد الادباء العراقيين فقد بذلت المستحيل من اجل انضمام الشاعر بلند الحيدري وقد ساعدني في ذلك كل من عبدالوهاب البياتي وعبدالملك نوري،، اما بالنسبة لبدر شاكر السياب فقد كان هناك تيار شبه عام ضد قبوله.. ومع ذلك فقد حاولت الا انني لم استطع ان اقنع حتى الذين كانوا يؤمنون بشاعرية بدر وقابلياته الادبية. ان الصور التي تجمعت في ذاكرتنا عن ايام مقهى الصباح كانت كثيرة ومتعددة، فقد كان صاحب المقهى واسمه صبيح اكثر رقة من اي صاحب مقهى آخر.. ومع ذلك فقد اقترح احدنا التحول الى (مقهى الرشيد) في الحيدرخانة.. وبعد ان نوقش الاقتراح مدة شهر كامل تقرر الاخذ به.. وهكذا تحركت القافلة الى هناك.. وفي هذا المقهى التقينا الشاعر صالح بحر العلوم وعباس شايجه وانضم الينا كذلك كل من الاخوين موسى ومحمد النقدي، وهنا بدأت حدة المناقشات الادبية تهفت تدريجيا!. ثم حصل الانتقال الكبير الى (مقهى البرازيلية).. لقد كان عهد (مقهى البرازيلية) هو العهد الذهبي في حياتنا الادبية، فقد اصبح لكل منا شخصيته الادبية الخاصة، واذا كانت بعض الوجوه قد اختفت نهائيا لعدم قدرتها على المواصلة فقد ظهرت وجوه اخرى جديدة ذات سمات ملائمة كالشاعر رشدي العامل والقاص نزار عباس ومحمد روزنامجي والصحفي الكبير عبدالمجيد الونداوي، فهناك وخلف الواجهة الزجاجية العريضة وحول منضدة من اعواد الخيزران كان يجلس الفرسان الاربعة انا وعبدالوهاب البياتي وكاظم جواد وعبدالملك نوري حيث قد اصبحنا نقطة الارتكاز لكافة اطراف الحركة الادبية في العراق ومع اننا كنا نختلف من ناحية اتجاهنا الادبي، الا اننا كنا نشكل وحدة متراصة ضد كل بوادر الشعوذة ومحاولات الارتداد، غير ان حدة النقاش قد اخذت تهفت باستمرار حتى خيل اليّ اننا سنتحول الى نوع من الدمى، لذا كنت انتظر مجيء الليل بشوق لايوصف حيث التقي اصدقائي من الادباء الذين فضلوا البقاء في مقاهينا القديمة، فقد كان معظمهم يأتون اليّ بعد الساعة الثامنة مساء في حانة (بلقيس) لنستعيد ذكريات ايامنا السابقة، وفي تلك الفترة انضم الينا كل من سعدي يوسف ومحمود الخطيب وماجد العامل، وكان يحضر للبرازيلية احيانا بعض المفكرين المعروفين كالدكتور فيصل السامر والاستاذ ابراهيم كبة والدكتور علي الوردي، وغيرهم، وفي مقهى البرازيلية بالذات نشأت كافة التيارات والافكار التجديدية في الشعر والادب، وفيها ايضا ولدت فكرة تأسيس اتحاد الادباء العراقيين، ولقد كان لنشاطي الشخصي اثره الفعال في اتخاذ بعض الخطوات المهمة من اجل انجاح هذا المشروع الكبير الذي كان مجرد التفكير فيه يعتبر تحديا مباشرا للسلطة القائمة حينذاك، وكانت اهم الاجتماعات شبه السرية التي وضعت فيها القرارات الحاسمة بالنسبة للهيأة التأسيسية الاجتماع الذي عقد في دار الاستاذ خالد الشواف، ولكن الحكومة التي كانت تتعقب خطوات كل شاعر واديب قد شعرت بخطورة مثل هذا التجمع الادبي فأوعزت لعدد من مرتزقة الادب بتقديم طلب مشابه، وقد اجيز الطلب فعلا.. وهنا كان لابد من معاقبة ذلك الشاعر المجنون والانتقام منه، ففي سنة 1952 القي علي القبض من قبل البوليس السري، وبعد توقيف طويل في معتقل ابي غريب قدمت الى المجلس العرفي العسكري وحكم علي بالسجن لمدة سنة، وفي سجن الكوت الرهيب بدأ التحول الكبير في مجرى حياته الادبية فقد اقسمت مع نفسي على السير في خدمة الشعب والعمل على قلب ذلك النظام الذي يستل شوق الانسان للحرية بالسجن والحراب ولما عدت الى البرازيلية كان الفرسان الثلاثة كعهدي بهم يجلسون خلف الواجهة الزجاجية ويتحدثون عن نفس الحلم المشترك، وكانوا قد فصلوا من وظائفهم فصاروا يفكرون بالهرب بصورة جدية وقد حقق ذلك كل من عبدالوهاب البياتي، وكاظم جواد ولم يبق معي غير عبدالملك نوري، ولم اكن املك من الوقت مايكفي لعبادة مقهى البرازيلية لانني كنت اعمل كمحرر في جريدة الاهالي، ولكني كنت كثيرا ما افر من الجريدة الى المقهى، فقد كان الجلوس وراء الزجاج خلف منضدة الخيزران قد وصل الى درجة الادمان.
* مجلة الف باء اذار 1969
منقول للفائدة