1 ـــ سؤال العالمية وظروفه
لعل مثل هذا الموضوع لم يكن ليطرح، لا كسؤال ولا كإخبار بحقيقة، لو لم تستلزمه ظروف ثقافية، ترتبط بموقع الإبداع والثقافة العربيين من عصرهما اليوم، وهو بالتأكيد لم يكن ليطرح، في عهود ازدهار الثقافة العربية، وقد كانت إذ ذاك، لا مجرد مساهم في ثقافة عصرها، بل كانت المورد والمصدر وأفق المتطلع والطامح، بعد أن تجاوزت مرحلة الوسيط الثقافي الرابط والواصل، المتمثل في الأخذ والنقل والاستيعاب إزاء ثقافات العالم من حولها، في مختلف الميادين واللغات، إلي مرحلة التميز والعطاء.
وقبل تتويج نجيب محفوظ بجائزة نوبل العالمية، طرحت علي عدة مستويات ثقافية وأكاديمية، أسئلة العالمية والكونية في الأدب العربي المعاصر، وكانت مثار تأملات واجتهادات، تنبعث كلها من ملاحظة الفارق القيمي لا المقامي بالضرورة ــ من النواحي المادية والأدبية، بين ما عليه الإبداع العربي مقابل الآداب العالمية.
وارتباطاً بذلك فإن صفة العالمية، بغض النظر عن أي تعريف أو تحديد، وبالنسبة لأية ثقافة ولأي منتج أو إنتاج إبداعي، تمثل قيمة في ذاتها، مرغوباً فيها في ذاتها، أو لما يترتب عنها من مكاسب معنوية أو مادية، أو من أجلهما معا،ــ بيد أنها بالنسبة للثقافة العربية والمبدع العربي، علاوة علي ذلك كله، تمثل الأهم، وهو الاعتراف بما يعادل الندية أو يؤهل لها في الساحة الأدبية العالمية، فيما بين "شرق عربي/ إسلامي" والآخر، أي الغرب بتقدمه المعرفي وهيمنته الكونية الشاملة، مع ما يرتبط بمفهوم هذا "الشرق" من تبعية، وما يحيط به من غموض وضبابية، لدي ذلك الآخر، المتمثل في الغرب.
ويقصد بالعالمية هنا الرواج والترويج باللغات الحية العالمية اليوم، وعلي رأسها في المقام الأول الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وما يرتبط بذلك كله من دراسات نقدية تعريفية إيجابية علي العموم، تجري علي مستويات ثقافية وأكاديمية، مع ارتفاع المقروئية للأعمال، علاوة علي التتويج بالجوائز العالمية.
بطبيعة الحال فإن مثل هذه المتطلبات، لم تكن لتتيسر للأدب العربي المعاصر في جانبه الإبداعي علي الخصوص، وذلك لغلبة مبدأ التبعية الثقافية وما يرتبط بها من مظاهر ومؤشرات التأخر المجتمعي التي تمثلها المنطقة العربية ــ، علاوة علي عامل اللغة المتمثل في النطاق المنحسر المحصور للغة العربية، رغم سعة رقعتها الجغرافية ومدي الكتلة الديموغرافية لمستعمليها والناطقين الأصليين بها، وعلاوة أيضاً علي ما تمثله هذه المنطقة من وزن اقتصادي عالمي، باعتبارها خزان الطاقة العالمي، بكافة مخرجاته ونتائجه.
وعلي العموم، فإن تقدير العالمية التي اكتسبها نجيب محفوظ، يجب أن يأخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، لما يمثله ذلك من اختراق لمنظومة عالمية، تعتبر إلي حد كبير مغلقة في وجه الإبداع الأدبي العربي، بيد أن هذا الحدث بما يمثله من اعتراف عالمي بالقيمة الإبداعية العربية مبدئياً، وبالإبداعية الروائية لنجيب محفوظ بالذات، يجب ألا يُغيّب عن بالنا أن هذا التتويج في ذاته، ليس هو ما يعطي القيمة العالمية لنجيب محفوظ، الذي لم يولد روائياً مع الجائزة العالمية، أو لاحقاً عنها، وهو أمر إن كان لا ينال من هذه الجائزة العالمية، باعتبار أن طبيعة الجوائز في معظمها تعرض علي هذا النحو، لكنه من الناحية الأخري، يجب ألا يغطي علي القيم التي يمثلها إبداع نجيب محفوظ الروائي في ذاته، أي بغض النظر عن أي عامل بعدي وخارجي عنه، بما في ذلك "جائزة" ما، مهما كان مستواها ومصدرها.
من هذا المنظور، فإن عالمية نجيب محفوظ، يمكن أن ترصد من خلال القيم والأبعاد الثاوية في إنتاجه الروائي والسردي عموماً، والتي يتفاعل في نطاقها ما هو إنساني، وما هو فني وفكري.
من هنا فعالمية نجيب محفوظ تكمن في القيم والأبعاد الفنية والإنسانية، التي يقوم عليها بناؤه السردي، والتي يرسخها في عوالمه الروائية، لتشكل ملامح مدرسة نجيب محفوظ في الكتابة، ومنها خصوصية واقعيته الإبداعية.
2 ـــ طابع واقعية اجتماعية نفسية
ولا يقصد بهذا التعبير مجرد الواقعية الاجتماعية، أو بالذات أن هذه الواقعية محددة مسبقاً، أو جاهزة كوصفة للكتابة الإبداعية أو النقدية، ذلك أن هذه الواقعية، ليست بالمفرد، بل هي واقعيات بالجمع، وكل واقعية بالتالي، تحمل بصمة صاحبها، بما يجعل واقعيته مختلفة عن واقعية غيره؛ لذلك فإننا نتحدث عن طابع، وعن واقعية نفسية اجتماعية، وهي ما يعطي الخصوصية الفنية لكتابة نجيب محفوظ ــ، فإذا كانت الواقعية تحيل مبدئياً علي المشهد اليومي في حياتنا المجتمعية، وبالتالي مجتمع نجيب محفوظ اليومي المباشر، فهي لا ترتبط بالضرورة بزمنه الحاضر والمحدود، ولا بمجرد الماضي والمستقبل فحسب، لسبب بسيط، وهي أنها تُركّب واقعها من مكونات، منها ما هو من قبيل ما هو ماثل لنا وأمامنا، ومنها ما يتفاعل معه مما ليس منه بالضرورة، ومنها ما يتجاوزه.
وهذه الكيمياء المقدارية بين العناصر والمكونات المختلفة هي ما يشكل الفرادة والتميز ــ، والتي تختلف عن واقعيات أخري وصفية، نجدها عند كتاب من قبيل يوسف السباعي أو إحسان عبد القدوس وعبد الحميد جودة السحار ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهم، بل وتختلف عن واقعية أخري، لها بصمتها الخاصة في السرد العربي، يمكن أن نسميها واقعية
فزيواجتماعية، إذا صح التعبير، وتمثلها علي سبيل المثال فرادة يوسف إدريس، من حيث إن قوة الصراع في بنائه السردي، تقوم علي استثمار الدوافع والحوافز الأولية في الإنسان، أي الميول الأساسية، بما هو أقرب إلي مفهوم " الغرائز"، فنجد مشهدية صناعة الموت والحياة مثلا، أو تخلقهما علي الأصح في لحظة واحدة، علي سرير واحد أو علي سريرين متجاورين في مصحة أو مستشفي، يتمدد في أحدهما محتضر علي شفا الانطفاء، بينما تمارس علي الثاني علاقة جنسية بكل حيوية وعنفوان، أو مثل ما نجد مشهدية التواطؤ في "بيت من لحم"، حيث أسرة كاملة من أم وزوجها الضرير وبناتها في بيت واحد، يلعب فيه كل دوره في ممارسة لعبة مشتركة محرمة، دون أدني بيان أو تذمر، كما في حالة من يترك مأموميه في سجدة، ويغادر لمأربه الذاتي، تاركاً إياهم بجباههم علي الأرض، ومشهديات أخري مختلفة، ليست رواية " الحرام" بذاتها إلا مظهراً منها.(1)
إنها واقعيات تختلف عن واقعية نجيب محفوظ في "الثلاثية" علي سبيل المثال، كما في "زقاق المدق" وفي قصص "دنيا الله" يقدم واقعاً مركباً، قد يكون أقوي وأغني من المعطي المباشر الماثل أمامنا يومياً، وقد يكون أقل من ذلك، لكنه ليس المكافئ ولا المعادل، وبالتالي ليس المطابق علي كل حال. وهو من خصوصية نجيب محفوظ التي تبين عن استيعاب الواقع الماثل، لا عن طريق الوصف فحسب، ولكن عن طريق التحليل الاجتماعي النفسي للظواهر والشخصيات، وهو ما يجعل بالإمكان عن طريق هذا التعمق والتعميق، أو الغوص بالأحري، الانبثاق بتركيب جديد. (2)
ومن هنا، فإن ما يجري من اختلاف في مواقف وأنماط حياة وعلاقات آل عبد الجواد، عبر الأجيال والأزمان والأمكنة، كما في ذات الشخصية الواحدة من بينها، وهي تعايش هذه الأجيال من جهة، أو في الحالة النموذجية التي تمثلها "حميدة" في "زقاق المدق" من جهة أخري، يمكن أن يُعتبر من منظور ما، رصداً لما يحصل في أية أسرة مصرية ممتدة، بأعضائها من أصول وفروع، وهو ما يعتبر مثالا لطموح أي فتاة جميلة، كما تجسدها "حميدة زقاق المدق"، في سعيها لتغيير وضعها ـــ، وكل ذلك، وبما يتحقق في هذا المثال وعبره من قيم، ومن مختلف أمكنة وأزمنة ومشاهد، فإنه لا يُشكّل ضرورة حتمية، كقدر مقدور لكل أسرة أو فتاة مصرية، حتي لو كانت من المستوي الاجتماعي نفسه؛، ــ لكنه يحيل في النهاية إلي دينامية تفاعلية، تؤدي في العمق، إلي مفهوم التحول والتطور المجتمعي، بما يجعل الشخصيات مجرد كائنات مسرحية، تؤدي دورها عبر ديكورات مشهدية تشابه و/ أو تخالف... ذات صلة أو منفصلة... لكنها تبقي متفردة بأداء الدور المنوط بها، ومن ثم بطابعها الواقعي الاجتماعي النفسي الخاص.
وعلي المنوال نفسه، يمكن رصد قيم وأبعاد في الوجدانية الإيمانية، أو الصوفية بالأحري في "دنيا الله"، حيث تلتقي متآلفة ومختلفة، متعاضدة ومتناقضة، مواقف وقيم وتوجهات، تحملها وتتفاعل بها وعبرها الشخصيات، أشبه ما تكون بالواقعي اليومي المباشر، بما تحمله من معالم ورموز مادية ومعنوية، من قبيل الجوامع والأسواق والمرض والعلاج والموت... لكنها بالمعني الدقيق، وبتلك المعالم والرموز نفسها، أبعد ما تكون عنه، وتبقي في كل الأحوال، إن كانت تمْثُل بسمة الواقعي، فهو الواقع السميك المكثف الملهم، والمُحمّل بأكثر من إحالة وتأويل.
ولا يقل الأمر عن ذلك في شخصية "سعيد مهران"، الذي تبدو مرجعيته الواقعية اليومية مؤكدة، وبعيدة عن شبهات التخييل المطلق علي الأقل، إلا أن ما يعرضه نجيب محفوظ في "اللص والكلاب"، هو ناتج الكيمياء التفاعلية ما بين الذات وظروفها الضاغطة والمضادة، التي تبقي المكون الأساسي وليس المطلق، وبالتالي أهم ما يتخلق في عمق الشخصية من استعدادات لردود أفعال خاصة، إزاء ظواهر من قبيل اللاعدالة الاجتماعية أو الانظلام بالأحري، وهو بالتالي شعور بالظلم، أكثر مما هو ظلم، أي أنه معنوي أكثر منه مادياً يقاس بآلية الأكثر أو الأقل؛ ومن هنا فإن "سعيد مهران" رغم مرجعيته الواقعية المباشرة المزعومة، والتي تبقي افتراضية علي كل حال، يصبح مشكّلا بسمات اجتماعية نفسية مستقلة أو تكاد، عن أي إطار مرجعي محدد، إلا أن يكون دينامية تفاعلية، مؤداها اللامحدد واللامحدود:أنه بقدر ما تتجمع هذه المعطيات، بقدر ما تؤدي تفاعلاتها إلي نحو من هذا الناتج، لا بالضرورة هذا الناتج نفسه،ـــ فسعيد مهران لم يكن وإن كان قد وجد، كما أنه لن يوجد وإن أمكن أن يكون، وذلك لا عملياً في الواقع المزعوم علي نحو مباشر، ولا روائياً أيضاً علي مستوي الكتابة؛ لكنه نموذج فقط من نماذج عدة ولانهائية، يمكن أن ينتجها التفاعل؛ ويجب ألا يغيب عنا بهذه المناسبة، أن نجيب محفوظ فيلسوف ومحلل اجتماعي نفسي، بحكم التكوين العلمي، قبل أن يكون مبدعاً روائياً.
ولعل المثال الأوضح في الخصوصية الواقعية الاجتماعية لنجيب محفوظ، يتمثل في رواية "أولاد حارتنا" الغنية بالمشهدية المباشرة المزعومة، بملامح شخصياتها الأساسية، وبنماذج دوافعها واستجاباتها، تبعاً لمحركات الكسب والسلطة والغيرة وما إليها من جهة، والأبعاد الكونية لدلالتها، في الثقافة والأسطورة والدين والسياسة من جهة ثانية؛ وتبدو القراءات المتعددة لـ "أولاد حارتنا" وبخاصة منها تلك التي تسقطها أو تسقط عليها الدلالات الرمزية الدينية بالذات، معادلة للقراءات الأخري التي تسقط دلالات الواقعية اليومية المباشرة، علي معظم ما تعرضه روايات نجيب محفوظ، بينما يمكن أن التعامل مع شخوص أولاد حارتنا كمجرد نماذج حاملة لأدوار، قد تكون أقوي وأشد، أو أقل وأخف، من الأدوار الدينية المحددة المزعومة، لما أن هذه الشخوص تمثله بالفعل.
ولا ننسي هنا أن نجيب محفوظ مع تكوينه الخاص، هو تلميذ بالمباشر وغير المباشر، لمصطفي عبد الرازق ـــ شقيق علي عبد الرازق(3) ـــ ، وسلامة موسي، وأمثالهما من أعلام وعلامات الفكر المتحرر المنفتح علي كل الأسئلة، الاجتماعية والدينية والسياسية.
من هنا فإن عالمية نجيب محفوظ، تأتي بالأساس من إنتاجه في ذاته، فيما تحفل به أعماله السردية من مستويات التفاعل والتأويل، وفي عمق التحليل الاجتماعي النفسي، الذي لا يتنافي مع السلاسة والانسيابية السردية، المشكلة للمكونات الجمالية لروائية الرواية؛ وبالتالي فإن عالمية نجيب محفوظ عبر "نوبل"، رغم ما تشكله من ظاهرة اعتراف من جهة، ومن اختراق لمنظومة تقييمية غربية، شبه مغلقة علي ذاتها من جهة ثانية، تبقي تالية ولاحقة بالنسبة لعالميته الذاتية، لا مكملة ولا مكونة لها، أي أنها تبقي بامتياز خارجية عنها.
3 ـــ الدرس المستفاد من التجربة المحفوظية
أما الدرس المستفاد دراسة من عالمية نجيب محفوظ، سواء علي هذا النحو أو ذاك، فهو المتعين علي البيئة الثقافية العربية، بيئة المبدع العربي، من ضرورة التيقظ للمواهب والظواهر الإنسانية الإيجابية في كل الميادين، وبالتالي ضرورة رعاية الرأسمال البشري الفكري، واحتضانه بما يؤهله إمكاناته للعطاء والإثمار، مشكلة بذلك حاضنة مهيئة مؤهلة وراعية قبلية، للظواهر الفنية في كافة المجالات ،ــ ولا ننسي أن نجيب محفوظ لم ينل المحظوظية في محيطه العربي، إلا بعد أن استوي عالمياً بالفعل، قبل "نوبل" بمراحل، وأن أول من كتب عنه هو سيد قطب، الذي وقف بالخصوص عند "دقة التحليل" في كتابة نجيب محفوظ، وهذا يعني أن عالمية نجيب محفوظ هي ثمرة جهده الخاص، ولا ضرر في هذا عندما تكون النماذج المبدعة، من معدن نجيب محفوظ، وفي مستوي إرادته وثقته بفنه، لكن عندما تكون النماذج أقل استعصاء علي الموانع والعوائق، وأضعف علي الاستمرارية والمقاومة والعناد الإيجابي، فإن المجتمع يضيع في كثير من الرأسمال الثقافي عامة، والإبداعي علي وجه الخصوص،ـــ ليبقي الباقي وهو كثير، يتحمله المبدع ذاته، كما تلخص ذلك عبارة دالة في هذا السياق لتولستوي، يقول فيها:
" ليس أمام الفنان حامل الموهبة، الإنسان، إلا أن يشق الطريق أمام موهبته، ليكشف عن الموضوع، ويرغم علي حبه إن كان يستحق الحب، أو علي كرهه إن كان يستحق الكراهية" (4)
ويبقي من مظاهر عالمية نجيب محفوظ التي يجب أن تتحقق، ومسؤوليتها علي غيره بالطبع، أن يدرس هذا الروائي الفذ ـــ وغيره أيضاً من الروائيين العرب المميزين ـــ في سياق ما هو روائي مع غيره من كتاب العالم، جنباً إلي جنب، في سياق تاريخ أدب روائي متفاعل، لا أن يدرس كمجرد ظاهرة روائية مصرية أو عربية؛ إننا هنا بمواجهة قد نجد نجيب محفوظ يضعنا وجهاً لوجه أمام مركزية ثقافية عالمية كانت وما تزال مغلقة إلي حد كبير.
هوامش
المغرب
1 ــ من أعمال يوسف إدريس المشار إليها هنا: الحرام، بيت من لحم .
2 ـــ من أعمال نجيب محفوظ المشار إليها هنا: زقاق المدق، الثلاثية، اللص والكلاب، أولاد حارتنا، دنيا الله.
3 ـــالإشارة هنا إلي عبد الرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم".
4 ــ شريف شاكر، واقعية ستانيسلافسكي في النظرية والتطبيق، ص 39، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981.
لعل مثل هذا الموضوع لم يكن ليطرح، لا كسؤال ولا كإخبار بحقيقة، لو لم تستلزمه ظروف ثقافية، ترتبط بموقع الإبداع والثقافة العربيين من عصرهما اليوم، وهو بالتأكيد لم يكن ليطرح، في عهود ازدهار الثقافة العربية، وقد كانت إذ ذاك، لا مجرد مساهم في ثقافة عصرها، بل كانت المورد والمصدر وأفق المتطلع والطامح، بعد أن تجاوزت مرحلة الوسيط الثقافي الرابط والواصل، المتمثل في الأخذ والنقل والاستيعاب إزاء ثقافات العالم من حولها، في مختلف الميادين واللغات، إلي مرحلة التميز والعطاء.
وقبل تتويج نجيب محفوظ بجائزة نوبل العالمية، طرحت علي عدة مستويات ثقافية وأكاديمية، أسئلة العالمية والكونية في الأدب العربي المعاصر، وكانت مثار تأملات واجتهادات، تنبعث كلها من ملاحظة الفارق القيمي لا المقامي بالضرورة ــ من النواحي المادية والأدبية، بين ما عليه الإبداع العربي مقابل الآداب العالمية.
وارتباطاً بذلك فإن صفة العالمية، بغض النظر عن أي تعريف أو تحديد، وبالنسبة لأية ثقافة ولأي منتج أو إنتاج إبداعي، تمثل قيمة في ذاتها، مرغوباً فيها في ذاتها، أو لما يترتب عنها من مكاسب معنوية أو مادية، أو من أجلهما معا،ــ بيد أنها بالنسبة للثقافة العربية والمبدع العربي، علاوة علي ذلك كله، تمثل الأهم، وهو الاعتراف بما يعادل الندية أو يؤهل لها في الساحة الأدبية العالمية، فيما بين "شرق عربي/ إسلامي" والآخر، أي الغرب بتقدمه المعرفي وهيمنته الكونية الشاملة، مع ما يرتبط بمفهوم هذا "الشرق" من تبعية، وما يحيط به من غموض وضبابية، لدي ذلك الآخر، المتمثل في الغرب.
ويقصد بالعالمية هنا الرواج والترويج باللغات الحية العالمية اليوم، وعلي رأسها في المقام الأول الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وما يرتبط بذلك كله من دراسات نقدية تعريفية إيجابية علي العموم، تجري علي مستويات ثقافية وأكاديمية، مع ارتفاع المقروئية للأعمال، علاوة علي التتويج بالجوائز العالمية.
بطبيعة الحال فإن مثل هذه المتطلبات، لم تكن لتتيسر للأدب العربي المعاصر في جانبه الإبداعي علي الخصوص، وذلك لغلبة مبدأ التبعية الثقافية وما يرتبط بها من مظاهر ومؤشرات التأخر المجتمعي التي تمثلها المنطقة العربية ــ، علاوة علي عامل اللغة المتمثل في النطاق المنحسر المحصور للغة العربية، رغم سعة رقعتها الجغرافية ومدي الكتلة الديموغرافية لمستعمليها والناطقين الأصليين بها، وعلاوة أيضاً علي ما تمثله هذه المنطقة من وزن اقتصادي عالمي، باعتبارها خزان الطاقة العالمي، بكافة مخرجاته ونتائجه.
وعلي العموم، فإن تقدير العالمية التي اكتسبها نجيب محفوظ، يجب أن يأخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، لما يمثله ذلك من اختراق لمنظومة عالمية، تعتبر إلي حد كبير مغلقة في وجه الإبداع الأدبي العربي، بيد أن هذا الحدث بما يمثله من اعتراف عالمي بالقيمة الإبداعية العربية مبدئياً، وبالإبداعية الروائية لنجيب محفوظ بالذات، يجب ألا يُغيّب عن بالنا أن هذا التتويج في ذاته، ليس هو ما يعطي القيمة العالمية لنجيب محفوظ، الذي لم يولد روائياً مع الجائزة العالمية، أو لاحقاً عنها، وهو أمر إن كان لا ينال من هذه الجائزة العالمية، باعتبار أن طبيعة الجوائز في معظمها تعرض علي هذا النحو، لكنه من الناحية الأخري، يجب ألا يغطي علي القيم التي يمثلها إبداع نجيب محفوظ الروائي في ذاته، أي بغض النظر عن أي عامل بعدي وخارجي عنه، بما في ذلك "جائزة" ما، مهما كان مستواها ومصدرها.
من هذا المنظور، فإن عالمية نجيب محفوظ، يمكن أن ترصد من خلال القيم والأبعاد الثاوية في إنتاجه الروائي والسردي عموماً، والتي يتفاعل في نطاقها ما هو إنساني، وما هو فني وفكري.
من هنا فعالمية نجيب محفوظ تكمن في القيم والأبعاد الفنية والإنسانية، التي يقوم عليها بناؤه السردي، والتي يرسخها في عوالمه الروائية، لتشكل ملامح مدرسة نجيب محفوظ في الكتابة، ومنها خصوصية واقعيته الإبداعية.
2 ـــ طابع واقعية اجتماعية نفسية
ولا يقصد بهذا التعبير مجرد الواقعية الاجتماعية، أو بالذات أن هذه الواقعية محددة مسبقاً، أو جاهزة كوصفة للكتابة الإبداعية أو النقدية، ذلك أن هذه الواقعية، ليست بالمفرد، بل هي واقعيات بالجمع، وكل واقعية بالتالي، تحمل بصمة صاحبها، بما يجعل واقعيته مختلفة عن واقعية غيره؛ لذلك فإننا نتحدث عن طابع، وعن واقعية نفسية اجتماعية، وهي ما يعطي الخصوصية الفنية لكتابة نجيب محفوظ ــ، فإذا كانت الواقعية تحيل مبدئياً علي المشهد اليومي في حياتنا المجتمعية، وبالتالي مجتمع نجيب محفوظ اليومي المباشر، فهي لا ترتبط بالضرورة بزمنه الحاضر والمحدود، ولا بمجرد الماضي والمستقبل فحسب، لسبب بسيط، وهي أنها تُركّب واقعها من مكونات، منها ما هو من قبيل ما هو ماثل لنا وأمامنا، ومنها ما يتفاعل معه مما ليس منه بالضرورة، ومنها ما يتجاوزه.
وهذه الكيمياء المقدارية بين العناصر والمكونات المختلفة هي ما يشكل الفرادة والتميز ــ، والتي تختلف عن واقعيات أخري وصفية، نجدها عند كتاب من قبيل يوسف السباعي أو إحسان عبد القدوس وعبد الحميد جودة السحار ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهم، بل وتختلف عن واقعية أخري، لها بصمتها الخاصة في السرد العربي، يمكن أن نسميها واقعية
فزيواجتماعية، إذا صح التعبير، وتمثلها علي سبيل المثال فرادة يوسف إدريس، من حيث إن قوة الصراع في بنائه السردي، تقوم علي استثمار الدوافع والحوافز الأولية في الإنسان، أي الميول الأساسية، بما هو أقرب إلي مفهوم " الغرائز"، فنجد مشهدية صناعة الموت والحياة مثلا، أو تخلقهما علي الأصح في لحظة واحدة، علي سرير واحد أو علي سريرين متجاورين في مصحة أو مستشفي، يتمدد في أحدهما محتضر علي شفا الانطفاء، بينما تمارس علي الثاني علاقة جنسية بكل حيوية وعنفوان، أو مثل ما نجد مشهدية التواطؤ في "بيت من لحم"، حيث أسرة كاملة من أم وزوجها الضرير وبناتها في بيت واحد، يلعب فيه كل دوره في ممارسة لعبة مشتركة محرمة، دون أدني بيان أو تذمر، كما في حالة من يترك مأموميه في سجدة، ويغادر لمأربه الذاتي، تاركاً إياهم بجباههم علي الأرض، ومشهديات أخري مختلفة، ليست رواية " الحرام" بذاتها إلا مظهراً منها.(1)
إنها واقعيات تختلف عن واقعية نجيب محفوظ في "الثلاثية" علي سبيل المثال، كما في "زقاق المدق" وفي قصص "دنيا الله" يقدم واقعاً مركباً، قد يكون أقوي وأغني من المعطي المباشر الماثل أمامنا يومياً، وقد يكون أقل من ذلك، لكنه ليس المكافئ ولا المعادل، وبالتالي ليس المطابق علي كل حال. وهو من خصوصية نجيب محفوظ التي تبين عن استيعاب الواقع الماثل، لا عن طريق الوصف فحسب، ولكن عن طريق التحليل الاجتماعي النفسي للظواهر والشخصيات، وهو ما يجعل بالإمكان عن طريق هذا التعمق والتعميق، أو الغوص بالأحري، الانبثاق بتركيب جديد. (2)
ومن هنا، فإن ما يجري من اختلاف في مواقف وأنماط حياة وعلاقات آل عبد الجواد، عبر الأجيال والأزمان والأمكنة، كما في ذات الشخصية الواحدة من بينها، وهي تعايش هذه الأجيال من جهة، أو في الحالة النموذجية التي تمثلها "حميدة" في "زقاق المدق" من جهة أخري، يمكن أن يُعتبر من منظور ما، رصداً لما يحصل في أية أسرة مصرية ممتدة، بأعضائها من أصول وفروع، وهو ما يعتبر مثالا لطموح أي فتاة جميلة، كما تجسدها "حميدة زقاق المدق"، في سعيها لتغيير وضعها ـــ، وكل ذلك، وبما يتحقق في هذا المثال وعبره من قيم، ومن مختلف أمكنة وأزمنة ومشاهد، فإنه لا يُشكّل ضرورة حتمية، كقدر مقدور لكل أسرة أو فتاة مصرية، حتي لو كانت من المستوي الاجتماعي نفسه؛، ــ لكنه يحيل في النهاية إلي دينامية تفاعلية، تؤدي في العمق، إلي مفهوم التحول والتطور المجتمعي، بما يجعل الشخصيات مجرد كائنات مسرحية، تؤدي دورها عبر ديكورات مشهدية تشابه و/ أو تخالف... ذات صلة أو منفصلة... لكنها تبقي متفردة بأداء الدور المنوط بها، ومن ثم بطابعها الواقعي الاجتماعي النفسي الخاص.
وعلي المنوال نفسه، يمكن رصد قيم وأبعاد في الوجدانية الإيمانية، أو الصوفية بالأحري في "دنيا الله"، حيث تلتقي متآلفة ومختلفة، متعاضدة ومتناقضة، مواقف وقيم وتوجهات، تحملها وتتفاعل بها وعبرها الشخصيات، أشبه ما تكون بالواقعي اليومي المباشر، بما تحمله من معالم ورموز مادية ومعنوية، من قبيل الجوامع والأسواق والمرض والعلاج والموت... لكنها بالمعني الدقيق، وبتلك المعالم والرموز نفسها، أبعد ما تكون عنه، وتبقي في كل الأحوال، إن كانت تمْثُل بسمة الواقعي، فهو الواقع السميك المكثف الملهم، والمُحمّل بأكثر من إحالة وتأويل.
ولا يقل الأمر عن ذلك في شخصية "سعيد مهران"، الذي تبدو مرجعيته الواقعية اليومية مؤكدة، وبعيدة عن شبهات التخييل المطلق علي الأقل، إلا أن ما يعرضه نجيب محفوظ في "اللص والكلاب"، هو ناتج الكيمياء التفاعلية ما بين الذات وظروفها الضاغطة والمضادة، التي تبقي المكون الأساسي وليس المطلق، وبالتالي أهم ما يتخلق في عمق الشخصية من استعدادات لردود أفعال خاصة، إزاء ظواهر من قبيل اللاعدالة الاجتماعية أو الانظلام بالأحري، وهو بالتالي شعور بالظلم، أكثر مما هو ظلم، أي أنه معنوي أكثر منه مادياً يقاس بآلية الأكثر أو الأقل؛ ومن هنا فإن "سعيد مهران" رغم مرجعيته الواقعية المباشرة المزعومة، والتي تبقي افتراضية علي كل حال، يصبح مشكّلا بسمات اجتماعية نفسية مستقلة أو تكاد، عن أي إطار مرجعي محدد، إلا أن يكون دينامية تفاعلية، مؤداها اللامحدد واللامحدود:أنه بقدر ما تتجمع هذه المعطيات، بقدر ما تؤدي تفاعلاتها إلي نحو من هذا الناتج، لا بالضرورة هذا الناتج نفسه،ـــ فسعيد مهران لم يكن وإن كان قد وجد، كما أنه لن يوجد وإن أمكن أن يكون، وذلك لا عملياً في الواقع المزعوم علي نحو مباشر، ولا روائياً أيضاً علي مستوي الكتابة؛ لكنه نموذج فقط من نماذج عدة ولانهائية، يمكن أن ينتجها التفاعل؛ ويجب ألا يغيب عنا بهذه المناسبة، أن نجيب محفوظ فيلسوف ومحلل اجتماعي نفسي، بحكم التكوين العلمي، قبل أن يكون مبدعاً روائياً.
ولعل المثال الأوضح في الخصوصية الواقعية الاجتماعية لنجيب محفوظ، يتمثل في رواية "أولاد حارتنا" الغنية بالمشهدية المباشرة المزعومة، بملامح شخصياتها الأساسية، وبنماذج دوافعها واستجاباتها، تبعاً لمحركات الكسب والسلطة والغيرة وما إليها من جهة، والأبعاد الكونية لدلالتها، في الثقافة والأسطورة والدين والسياسة من جهة ثانية؛ وتبدو القراءات المتعددة لـ "أولاد حارتنا" وبخاصة منها تلك التي تسقطها أو تسقط عليها الدلالات الرمزية الدينية بالذات، معادلة للقراءات الأخري التي تسقط دلالات الواقعية اليومية المباشرة، علي معظم ما تعرضه روايات نجيب محفوظ، بينما يمكن أن التعامل مع شخوص أولاد حارتنا كمجرد نماذج حاملة لأدوار، قد تكون أقوي وأشد، أو أقل وأخف، من الأدوار الدينية المحددة المزعومة، لما أن هذه الشخوص تمثله بالفعل.
ولا ننسي هنا أن نجيب محفوظ مع تكوينه الخاص، هو تلميذ بالمباشر وغير المباشر، لمصطفي عبد الرازق ـــ شقيق علي عبد الرازق(3) ـــ ، وسلامة موسي، وأمثالهما من أعلام وعلامات الفكر المتحرر المنفتح علي كل الأسئلة، الاجتماعية والدينية والسياسية.
من هنا فإن عالمية نجيب محفوظ، تأتي بالأساس من إنتاجه في ذاته، فيما تحفل به أعماله السردية من مستويات التفاعل والتأويل، وفي عمق التحليل الاجتماعي النفسي، الذي لا يتنافي مع السلاسة والانسيابية السردية، المشكلة للمكونات الجمالية لروائية الرواية؛ وبالتالي فإن عالمية نجيب محفوظ عبر "نوبل"، رغم ما تشكله من ظاهرة اعتراف من جهة، ومن اختراق لمنظومة تقييمية غربية، شبه مغلقة علي ذاتها من جهة ثانية، تبقي تالية ولاحقة بالنسبة لعالميته الذاتية، لا مكملة ولا مكونة لها، أي أنها تبقي بامتياز خارجية عنها.
3 ـــ الدرس المستفاد من التجربة المحفوظية
أما الدرس المستفاد دراسة من عالمية نجيب محفوظ، سواء علي هذا النحو أو ذاك، فهو المتعين علي البيئة الثقافية العربية، بيئة المبدع العربي، من ضرورة التيقظ للمواهب والظواهر الإنسانية الإيجابية في كل الميادين، وبالتالي ضرورة رعاية الرأسمال البشري الفكري، واحتضانه بما يؤهله إمكاناته للعطاء والإثمار، مشكلة بذلك حاضنة مهيئة مؤهلة وراعية قبلية، للظواهر الفنية في كافة المجالات ،ــ ولا ننسي أن نجيب محفوظ لم ينل المحظوظية في محيطه العربي، إلا بعد أن استوي عالمياً بالفعل، قبل "نوبل" بمراحل، وأن أول من كتب عنه هو سيد قطب، الذي وقف بالخصوص عند "دقة التحليل" في كتابة نجيب محفوظ، وهذا يعني أن عالمية نجيب محفوظ هي ثمرة جهده الخاص، ولا ضرر في هذا عندما تكون النماذج المبدعة، من معدن نجيب محفوظ، وفي مستوي إرادته وثقته بفنه، لكن عندما تكون النماذج أقل استعصاء علي الموانع والعوائق، وأضعف علي الاستمرارية والمقاومة والعناد الإيجابي، فإن المجتمع يضيع في كثير من الرأسمال الثقافي عامة، والإبداعي علي وجه الخصوص،ـــ ليبقي الباقي وهو كثير، يتحمله المبدع ذاته، كما تلخص ذلك عبارة دالة في هذا السياق لتولستوي، يقول فيها:
" ليس أمام الفنان حامل الموهبة، الإنسان، إلا أن يشق الطريق أمام موهبته، ليكشف عن الموضوع، ويرغم علي حبه إن كان يستحق الحب، أو علي كرهه إن كان يستحق الكراهية" (4)
ويبقي من مظاهر عالمية نجيب محفوظ التي يجب أن تتحقق، ومسؤوليتها علي غيره بالطبع، أن يدرس هذا الروائي الفذ ـــ وغيره أيضاً من الروائيين العرب المميزين ـــ في سياق ما هو روائي مع غيره من كتاب العالم، جنباً إلي جنب، في سياق تاريخ أدب روائي متفاعل، لا أن يدرس كمجرد ظاهرة روائية مصرية أو عربية؛ إننا هنا بمواجهة قد نجد نجيب محفوظ يضعنا وجهاً لوجه أمام مركزية ثقافية عالمية كانت وما تزال مغلقة إلي حد كبير.
هوامش
المغرب
1 ــ من أعمال يوسف إدريس المشار إليها هنا: الحرام، بيت من لحم .
2 ـــ من أعمال نجيب محفوظ المشار إليها هنا: زقاق المدق، الثلاثية، اللص والكلاب، أولاد حارتنا، دنيا الله.
3 ـــالإشارة هنا إلي عبد الرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم".
4 ــ شريف شاكر، واقعية ستانيسلافسكي في النظرية والتطبيق، ص 39، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981.