قطع معاوية نور مع ذهنية الشئ بالشئ يذكر، بهجسها الممسوس بالاستعراض، وتداعيها المتصدع. قطع مع عقلية الكشوفات الحدسية، وإيقانها الساذج بالشيخ الذي طار، والآخر الذي استحلب إبهامه لبنا مدرارا؛ استجاب إلى عقلانية تنويرية، توسل إليها بأدوات نقدية أنضجتها المعرفة، إذ كان يدرك أن العالم زاخر بمئات الثقافات، ولكن تظل نظريات المعرفة قليلة ومحصورة، وهي ليست بهذا العدد المهول للثقافات، يدرك هذه البدهية التي تقبع كمعضلة في راهننا!
يقول معاوية عن الثقافة:( لست من الذين يجزمون بأفضلية اي ثقافة إطلاقا على أية ثقافة اخرى، وعندي أن مسألة الأفضلية مسألة نسبية تختلف باختلاف أوجه النظر وحاجات كل فرد، وكل مزاج، وكل أمة) "1" أول ما يثير ويحفز للقراءة في كتابات معاوية نور تراتيبيتها، نزعتها المنطقية، وتوقها إلى عقلنة الواقع، تختفي النفسية الغنائية الثاوية في آيدلوجيا التصوف، ورماله المتحركة صوب وحدة الوجود. هذا مدخلنا لمفهوم الثقافة عنده، وهو إذ يحفظ للأمة ذاتيتها الثقافية المميزة لا يركن إلى انغلاقها ونكوصيتها، او صنميتها؛ فهي ليست مقولات مقطوع بصحتها إلى الأبد، وليست جبة علينا أن نلجها فقط؛ بل هي إسهام السلف والخلف من واقع زمانهم ومكانهم، وتظل دوما منفتحة، قابلة للتلاقح مع الآخر، إعطاؤه والأخذ منه؛ يتبدى ذلك بوضوح من خلال رؤيته للحضارة، فهو يقول:( فليست هنالك حضارة غربية محضة أولا، ثم حضارة شرقية خالصة ثانيا، وليس من السهل أن نتكلم في شؤون الفكر والفن فنقول هذا لهذا وهذا لذاك) "2" إذن الحضاره عنده ليست كتلة صماء، ولا كيان مغلق، بل هي نتاج لاسهام ثقافات متغايرة، تمارس حوارها، وعملية إذاحة وإحلال طويلة، قد تؤدي إلى تجاورها أو اندغامها. من هذه الزاوية نظر معاوية إلى الحضارة الغربية بتراكمها الثقافي والمعرفي الذي نتج في سياقها، والآخر الوافد الذي تمت تبيئته داخل السياق الحضاري. موققه يعي أن شؤون الفكر والفن لا تقتضي الفصل الساذج والمسطح بين ما لنا وما لغيرنا، وأن وجود نظريات وميكنزمات محدودة للمعرفة بفضي بالأمم وثقافاتها المختلفة إلى أن تتقاطع وتتشابك في نقطة ما؛ فالحضارة الغربية لا تخلو من الروافد الشرقية، ومن هنا لم يشعر معاوية بالتطفل على موائد الآخرين؛ لذا لم يكن خجولا ولا هيابا وهو بختط مشروعا حداثيا يستفيد او يستلهم فيه منجزات الحضارة الأوربية، نقول ذلك لأن أول ما يسترعي الانتباه هو أن معاوية لم يعبر عن مشروعه شعريا، في وقت كان النظر فيه للأدب هو أنه الشعر، وما عداه لغو، أو في أحسن الأحوال مغامرة مجهولة النتائج. تخير لمشروعه قوالب القصة والمقال النقدي، وهي اجناس أكثر مقدرة على حمل المعرفة والتبشير بها، خاض معاوية مغامرة الكتابة عبر هذه الأشكال، وحوله تنشط الأطروحات المضادة، تمارس انغلاقها، وتكلسها المعتاد. كان معاوية متسقا مع مشروعه الفكري بانحيازه إلى النثر كقالب فني وبما يزحر به من طاقات تمكنه من حمل المعرفة، ومن ثم الإفادة من الآخر -- الغربي -- فيما هو متجاوز ومتطور فيه بالنسبة لمجتمعاتنا، عبر هذا الأسلوب تجاوز معاوية مزالق الثرثرة والاجترار التاريخي، وتجاوز أيضا مأزق الآيدلوجيا الصوفية السائدة بشاعريتها، ولامس معارف ظلت مفارقة للبيئة الثقافية الوطنية، وتمثل بؤرة مضيئة في الفكر السوداني، أو الشرقي على حد تعبيره.
كتب معاوية عن الأدب الألماني، وعن كانط، هيجل، شوبنهاور، ونيتشه، عن الحب في الأدب الإنجليزي، عن ليوناردو ولف في آرائه عن الاستعمار والحضارة، كما كتب عن شاعرة الرقص آنا بافلوفا، عن شارلي شابلن، وأديسون..إلخ وفي كل ما كتبه يعكس أنه ينظر إلى الحضارة الغربية بكل تركيبتها، واتجاهاتها، خاصة تلك التي تختلف عن ثقافة الشرق ومعارفه، ينظر إليها وقد خرجت من حقبة التنوير، واختطت طريقها في الحداثة وما بعدها، وهو إذ يؤكد على ضرورة تفهمها لا يتجاوز أهم مثالبها، الاستعمار وما جره من استغلال وإهانة للشعوب، يوجه معاوية أقسى نقد للاستعمار ويفضح دعاويه في نقل الحضارة إلى الدول التي أذلها، بيد أنه في المقابل لا يغفل الجانب الآخر من الحضارة المسيطرة؛ فهو يدعو للإفادة منها، ليس من موقع دونية أو إحساس بالغربة؛ لأنه ليست هنالك حضارة غربية محضة، بل من موقع الناقد والعارف بإشكالات حضارته، وعلى خلفية نظرته للحضارة باعتبارها جهدا إنسانيا مشتركا، قابلا للتفاعل، التصويب، الحذف، والإضافة.
إن حس معاوية الثقافي والحضاري بتطوره وشفافيته، جعله يدرك في بواكير القرن العشرين إشكالات وأسئلة التطور الحضاري في الشرق، وهو في اغلب ما كتب ينحو إلى استخدام كلمة الشرق كتعبير عن الحالة الحضارية الموازية للحضارة الأوربية. عمد معاوية إلى مواجهة الذات، وتلمس جذور الإخفاقات، واكتشف عن كثب كوابح النهضة والتطور، فقد وجه نقد للروح الشرقية المجانبة للعلم؛ يقول في نقده لسلامة موسى: ( فهذه النزعة التي يصطنعها - على حد تعبيره - سلامة موسى في كتبه بعيدة عن العلم الصحيح، بعيدة عن الروح العلمي.. وإنما هو الروح المتواضع الذي يعرض الرأي على أنه مجرد نظريات وفروض تفسر بعض المظاهر ولا تطالب قارئها بأكثر من ذلك) "3" هكذا حدد معاوية ازمة العقل الشرقي إن جازت التسمية، تلك النزعة الجزمية التي تغلق الباب أمام بروز رأي آخر بما تنطوي عليه من إدعاء ملكية الحقيقة المطلقة، ينضاف إليها حماسة ذات طابع عقدي. ولم تزل الأزمة كما حددها معاوية ماثلة حتى الآن، بل استحالت أكثر حدة وضخامة. أما في السودان؛ فقد مضى الواقع من بعده بأكثر من نصف قرن إلى الإجهاز على الروح العلمي، والمنهج المتواضع، وبديلا عنه تم إحياء اندفاعات شخصية محمومة، وتوترات تاريخية حبيسة؛ على نحو يعبر عن ارتداد المثقف عن مشروع كما نجده قد تلمس باكرا أزمة المعرفة في الشرق، تلك المتمثلة في تواطؤ المثقفين فيما بينهم على شاكلة تؤدي إلى التآمر على المعرفة وتغييبها، متمثلة في ظاهرة انعدام نقد الأدباء لرصفائهم؛ يقول: ( ولعل للخلق الشرقي النصيب الأوفر في هذه الظاهرة التي تدل أكثر ما تدل على عدم الصراحة أو الرغبة في خدمة الأدب والفن خدمة لا تتصل بأهواء الساعة، ونزوات الميول، وعدم مواجهة الأدباء لبعضهم وجها لوجه في ميدان المساجلة والنقد، هذه ظاهرة شرقية، وهي مسألة خلقية قبل أن تكون أدبية، وكنا نود أن نرى رأي أدبائنا في دراسات نزيهة عن بعضهم البعض.) "4" يرسم معاوية صورة الأزمة النقدية والفكرية في الشرق، والتي تتمظهر وسط المثقفين السودانيين بصورة تستدعي تقصي دواعيها، مماحكات لا تتخطى المعرفة فقط، ولكنها تحولها إلى مظان الغرض والذاتية، وآداب مهووسة بالرغبة في تمجيد الذات والاحتفاء بها، وهي ليست متحرية للحقيقة والموضوعية، والمعرفة العلمية؛ من هنا نجد ( الطبطبة) وثقافة المجاملات مستشرية وسط مثقفينا. كان معاوية يأمل أن ينهض الأدباء والمفكرون بنقد بعضهم البعض، بتخطي حالة اليسوعية المدعاة سترا للغرض، أو الصوفية الموغلة في تسامح هش وزائف. تنطوي عباراته على إدراك ان التناقضات التي يخلقها النقد والنقد المضاد، التعريف والتعريف المعاكس هي التي ستخلق فسحة نيرة للحداثة في مجتمعنا. في سنوات عمره الوجيزة نجد معاوية قد طبق آراءه في النقد؛ نقد سلامة موسى، طه حسين، وعدد من رموز وقيادات النهضة في الثقافة العربية، في تركيز على أن يكون للناقد فكرته الواضحة في كل ما يصدر عنه. إن تطبيقه لوجهة نظره النقدية يكشف عن مدى حيدته، ومعارفه، ونظرته لمشروعه الفكري على أنه ناهض بأعباء تنويرية. تلك الحالة التي انتقدها معاوية لم تزل كابحا للنهضة؛ إذ أن النكوص عن مشروع معاوية نور قا لتفشي المجاملات ( ونفسية الصيوانات) بمزاجيتها وفوضاها، فلم نجد انخراطا في النقد والنقد المضاد له، ولم نرث خطابا فكريا له ركيزة من العقلانية، وغاب ما كان يمكن حدوثه، ومعايشة نتائجه نحو نقد محمد عبدالحي لعبد الله الطيب أو عكسه، ونقد صلاح أحمد ابراهيم لعلي المك أو عكسه؛ فهل كانوا جميعا على اتفاق، ام كانوا على اختلافهم يرون الوضع على ما يرام؟! إن تحليل معاوية لهذه الظاهرة لا ينفصل عن رؤيته للحضارة والنهضة، توصيفها بأنها ظاهرة شرقية، وردها إلى طبيعتها الأخلاقية يجعل من التحليل فاعلا، وحيا حتى تاريخنا المعاصر، ويكشف عن عمق تحليل كاتبه.
في جل مقالات معاوية نلحظ اهتمامه بالنهضة، ونقدع لظاهرات الشرق التي تكبحها؛ يكتب تحت عنوان كيف نقرأ ( ومما يلاحظ علينا عامة معشر الشرقيين أننا لا نطيق القراءة، ولا نستطيع معها صبرا، ولعل للإقليم الأثر الأكبر في ذلك.) "5" بالرغم من أن حديثه يعم الشرق؛ إلا أن شخصيته، ومحدداتها، ودوره ككاتب سوداني تجعل بالإمكان استبانة ما يشير إليه في الحياة السودانية أكثر وضوحا مما عداها، تلك الطبيعة الشفاهية غير العابئة بالتوثيق كأول خطوة نحو استساغة القراءة.
وفي موقفه من قضايا المرأة نجد كتاباته تفصح عن حقها في العمل، ومشاركة الرجل. تابع السيدة الهندية ساووجيني نايدو وجهودها في تحرير بلادها، وأشاد بخالدة أديبة، وسلمى اكرم في تركيا، ممجدا دورهن في قيادة التحرر الوطني؛ بما يعكس تطلعه الصادق لنهضة الشرق؛ يقول: ( إن البلاد تكون عظيمة بنسائها كعظمتها برجالها) "6" وهذه مقولة رغم بساطتها إلا أنها تستكمل مشروع معاوية نور، إذ لا يمكن إغفال قضايا المرأة، ودورها في بناء مشروع نهضوي. يقول معلقا على قيادة المرأة للعمل السياسي والاجتماعي في المنطقة من حولنا: ( كل هذه الحوادث تحصل حوالينا في بلاد شرقية ونحن ما نزال نتحدث عن اختلاط الجنسين في دور التعليم كفكرة جديدة، إباحية لا يصح التسليم بها!!) "7" نقد لاذع وساخر للمجتمعات أسيرة المقولات الماضوية، التي تمارس تأويلها، وإعادة تأويلها على الدوام، وإساءة فهم الواقع والوقائع التاريخية. الآن بعد تطويق مشروع معاوية نور، وتخطيه، وتفشي الأطروحات المضادة له نجد من يرفع عقيرته مطالبا بإيداع المرأة هامش الحياة الاجتماعية.!
من اليسير تلمس كتابات معاوية نور عن النقد، القراءة، المرأة، والتعليم في إهاب فهمه العام للثقافة والحضارة، بعيدا عن إغفال دوره الرائد في نقد الطور الاستعماري في الحضارة الغربية، وأيضا الالتفات إلى ما تزخر به هذه الحضارة من أنظمة للمعرفة، لا يمكن تجاوزها، كما تبدو دعواته النقدية في الدراما والقصة والمقال الوجه الآخر لها بما تبثه من بناء جمالي ومعرفي. ولكن القطيعة التي صنعها معاوية مع الذهنيات المتيبسة، والمصابة بالعطب في فعاليتها مع واقعها؛ جعل تلك العقليات تتكالب عليه حيا؛ ثم تقصي مشروعه من بعده، بل وطمرته في ركام فشلها، وتطلعاتها النرجسية.
-----------------
المصادر
1/ الأعمال الأدبية لمعاوية نور-- جمع وإعداد رشيد عثمان-- دار الخرطوم ص 316
2/ المصدر السابق ص 398
3/ المصدر السابق ص55
4/ المصدر السابق ص 75
5/ المصدر السابق ص 292
6/ المصدر السابق ص 390
7/ المصدر السابق ص 391
Elfajar Elgadeed الفجر الجديد: مع معاوية نور.. مع الحضارة ----------------------------------- * عمر الصايم
يقول معاوية عن الثقافة:( لست من الذين يجزمون بأفضلية اي ثقافة إطلاقا على أية ثقافة اخرى، وعندي أن مسألة الأفضلية مسألة نسبية تختلف باختلاف أوجه النظر وحاجات كل فرد، وكل مزاج، وكل أمة) "1" أول ما يثير ويحفز للقراءة في كتابات معاوية نور تراتيبيتها، نزعتها المنطقية، وتوقها إلى عقلنة الواقع، تختفي النفسية الغنائية الثاوية في آيدلوجيا التصوف، ورماله المتحركة صوب وحدة الوجود. هذا مدخلنا لمفهوم الثقافة عنده، وهو إذ يحفظ للأمة ذاتيتها الثقافية المميزة لا يركن إلى انغلاقها ونكوصيتها، او صنميتها؛ فهي ليست مقولات مقطوع بصحتها إلى الأبد، وليست جبة علينا أن نلجها فقط؛ بل هي إسهام السلف والخلف من واقع زمانهم ومكانهم، وتظل دوما منفتحة، قابلة للتلاقح مع الآخر، إعطاؤه والأخذ منه؛ يتبدى ذلك بوضوح من خلال رؤيته للحضارة، فهو يقول:( فليست هنالك حضارة غربية محضة أولا، ثم حضارة شرقية خالصة ثانيا، وليس من السهل أن نتكلم في شؤون الفكر والفن فنقول هذا لهذا وهذا لذاك) "2" إذن الحضاره عنده ليست كتلة صماء، ولا كيان مغلق، بل هي نتاج لاسهام ثقافات متغايرة، تمارس حوارها، وعملية إذاحة وإحلال طويلة، قد تؤدي إلى تجاورها أو اندغامها. من هذه الزاوية نظر معاوية إلى الحضارة الغربية بتراكمها الثقافي والمعرفي الذي نتج في سياقها، والآخر الوافد الذي تمت تبيئته داخل السياق الحضاري. موققه يعي أن شؤون الفكر والفن لا تقتضي الفصل الساذج والمسطح بين ما لنا وما لغيرنا، وأن وجود نظريات وميكنزمات محدودة للمعرفة بفضي بالأمم وثقافاتها المختلفة إلى أن تتقاطع وتتشابك في نقطة ما؛ فالحضارة الغربية لا تخلو من الروافد الشرقية، ومن هنا لم يشعر معاوية بالتطفل على موائد الآخرين؛ لذا لم يكن خجولا ولا هيابا وهو بختط مشروعا حداثيا يستفيد او يستلهم فيه منجزات الحضارة الأوربية، نقول ذلك لأن أول ما يسترعي الانتباه هو أن معاوية لم يعبر عن مشروعه شعريا، في وقت كان النظر فيه للأدب هو أنه الشعر، وما عداه لغو، أو في أحسن الأحوال مغامرة مجهولة النتائج. تخير لمشروعه قوالب القصة والمقال النقدي، وهي اجناس أكثر مقدرة على حمل المعرفة والتبشير بها، خاض معاوية مغامرة الكتابة عبر هذه الأشكال، وحوله تنشط الأطروحات المضادة، تمارس انغلاقها، وتكلسها المعتاد. كان معاوية متسقا مع مشروعه الفكري بانحيازه إلى النثر كقالب فني وبما يزحر به من طاقات تمكنه من حمل المعرفة، ومن ثم الإفادة من الآخر -- الغربي -- فيما هو متجاوز ومتطور فيه بالنسبة لمجتمعاتنا، عبر هذا الأسلوب تجاوز معاوية مزالق الثرثرة والاجترار التاريخي، وتجاوز أيضا مأزق الآيدلوجيا الصوفية السائدة بشاعريتها، ولامس معارف ظلت مفارقة للبيئة الثقافية الوطنية، وتمثل بؤرة مضيئة في الفكر السوداني، أو الشرقي على حد تعبيره.
كتب معاوية عن الأدب الألماني، وعن كانط، هيجل، شوبنهاور، ونيتشه، عن الحب في الأدب الإنجليزي، عن ليوناردو ولف في آرائه عن الاستعمار والحضارة، كما كتب عن شاعرة الرقص آنا بافلوفا، عن شارلي شابلن، وأديسون..إلخ وفي كل ما كتبه يعكس أنه ينظر إلى الحضارة الغربية بكل تركيبتها، واتجاهاتها، خاصة تلك التي تختلف عن ثقافة الشرق ومعارفه، ينظر إليها وقد خرجت من حقبة التنوير، واختطت طريقها في الحداثة وما بعدها، وهو إذ يؤكد على ضرورة تفهمها لا يتجاوز أهم مثالبها، الاستعمار وما جره من استغلال وإهانة للشعوب، يوجه معاوية أقسى نقد للاستعمار ويفضح دعاويه في نقل الحضارة إلى الدول التي أذلها، بيد أنه في المقابل لا يغفل الجانب الآخر من الحضارة المسيطرة؛ فهو يدعو للإفادة منها، ليس من موقع دونية أو إحساس بالغربة؛ لأنه ليست هنالك حضارة غربية محضة، بل من موقع الناقد والعارف بإشكالات حضارته، وعلى خلفية نظرته للحضارة باعتبارها جهدا إنسانيا مشتركا، قابلا للتفاعل، التصويب، الحذف، والإضافة.
إن حس معاوية الثقافي والحضاري بتطوره وشفافيته، جعله يدرك في بواكير القرن العشرين إشكالات وأسئلة التطور الحضاري في الشرق، وهو في اغلب ما كتب ينحو إلى استخدام كلمة الشرق كتعبير عن الحالة الحضارية الموازية للحضارة الأوربية. عمد معاوية إلى مواجهة الذات، وتلمس جذور الإخفاقات، واكتشف عن كثب كوابح النهضة والتطور، فقد وجه نقد للروح الشرقية المجانبة للعلم؛ يقول في نقده لسلامة موسى: ( فهذه النزعة التي يصطنعها - على حد تعبيره - سلامة موسى في كتبه بعيدة عن العلم الصحيح، بعيدة عن الروح العلمي.. وإنما هو الروح المتواضع الذي يعرض الرأي على أنه مجرد نظريات وفروض تفسر بعض المظاهر ولا تطالب قارئها بأكثر من ذلك) "3" هكذا حدد معاوية ازمة العقل الشرقي إن جازت التسمية، تلك النزعة الجزمية التي تغلق الباب أمام بروز رأي آخر بما تنطوي عليه من إدعاء ملكية الحقيقة المطلقة، ينضاف إليها حماسة ذات طابع عقدي. ولم تزل الأزمة كما حددها معاوية ماثلة حتى الآن، بل استحالت أكثر حدة وضخامة. أما في السودان؛ فقد مضى الواقع من بعده بأكثر من نصف قرن إلى الإجهاز على الروح العلمي، والمنهج المتواضع، وبديلا عنه تم إحياء اندفاعات شخصية محمومة، وتوترات تاريخية حبيسة؛ على نحو يعبر عن ارتداد المثقف عن مشروع كما نجده قد تلمس باكرا أزمة المعرفة في الشرق، تلك المتمثلة في تواطؤ المثقفين فيما بينهم على شاكلة تؤدي إلى التآمر على المعرفة وتغييبها، متمثلة في ظاهرة انعدام نقد الأدباء لرصفائهم؛ يقول: ( ولعل للخلق الشرقي النصيب الأوفر في هذه الظاهرة التي تدل أكثر ما تدل على عدم الصراحة أو الرغبة في خدمة الأدب والفن خدمة لا تتصل بأهواء الساعة، ونزوات الميول، وعدم مواجهة الأدباء لبعضهم وجها لوجه في ميدان المساجلة والنقد، هذه ظاهرة شرقية، وهي مسألة خلقية قبل أن تكون أدبية، وكنا نود أن نرى رأي أدبائنا في دراسات نزيهة عن بعضهم البعض.) "4" يرسم معاوية صورة الأزمة النقدية والفكرية في الشرق، والتي تتمظهر وسط المثقفين السودانيين بصورة تستدعي تقصي دواعيها، مماحكات لا تتخطى المعرفة فقط، ولكنها تحولها إلى مظان الغرض والذاتية، وآداب مهووسة بالرغبة في تمجيد الذات والاحتفاء بها، وهي ليست متحرية للحقيقة والموضوعية، والمعرفة العلمية؛ من هنا نجد ( الطبطبة) وثقافة المجاملات مستشرية وسط مثقفينا. كان معاوية يأمل أن ينهض الأدباء والمفكرون بنقد بعضهم البعض، بتخطي حالة اليسوعية المدعاة سترا للغرض، أو الصوفية الموغلة في تسامح هش وزائف. تنطوي عباراته على إدراك ان التناقضات التي يخلقها النقد والنقد المضاد، التعريف والتعريف المعاكس هي التي ستخلق فسحة نيرة للحداثة في مجتمعنا. في سنوات عمره الوجيزة نجد معاوية قد طبق آراءه في النقد؛ نقد سلامة موسى، طه حسين، وعدد من رموز وقيادات النهضة في الثقافة العربية، في تركيز على أن يكون للناقد فكرته الواضحة في كل ما يصدر عنه. إن تطبيقه لوجهة نظره النقدية يكشف عن مدى حيدته، ومعارفه، ونظرته لمشروعه الفكري على أنه ناهض بأعباء تنويرية. تلك الحالة التي انتقدها معاوية لم تزل كابحا للنهضة؛ إذ أن النكوص عن مشروع معاوية نور قا لتفشي المجاملات ( ونفسية الصيوانات) بمزاجيتها وفوضاها، فلم نجد انخراطا في النقد والنقد المضاد له، ولم نرث خطابا فكريا له ركيزة من العقلانية، وغاب ما كان يمكن حدوثه، ومعايشة نتائجه نحو نقد محمد عبدالحي لعبد الله الطيب أو عكسه، ونقد صلاح أحمد ابراهيم لعلي المك أو عكسه؛ فهل كانوا جميعا على اتفاق، ام كانوا على اختلافهم يرون الوضع على ما يرام؟! إن تحليل معاوية لهذه الظاهرة لا ينفصل عن رؤيته للحضارة والنهضة، توصيفها بأنها ظاهرة شرقية، وردها إلى طبيعتها الأخلاقية يجعل من التحليل فاعلا، وحيا حتى تاريخنا المعاصر، ويكشف عن عمق تحليل كاتبه.
في جل مقالات معاوية نلحظ اهتمامه بالنهضة، ونقدع لظاهرات الشرق التي تكبحها؛ يكتب تحت عنوان كيف نقرأ ( ومما يلاحظ علينا عامة معشر الشرقيين أننا لا نطيق القراءة، ولا نستطيع معها صبرا، ولعل للإقليم الأثر الأكبر في ذلك.) "5" بالرغم من أن حديثه يعم الشرق؛ إلا أن شخصيته، ومحدداتها، ودوره ككاتب سوداني تجعل بالإمكان استبانة ما يشير إليه في الحياة السودانية أكثر وضوحا مما عداها، تلك الطبيعة الشفاهية غير العابئة بالتوثيق كأول خطوة نحو استساغة القراءة.
وفي موقفه من قضايا المرأة نجد كتاباته تفصح عن حقها في العمل، ومشاركة الرجل. تابع السيدة الهندية ساووجيني نايدو وجهودها في تحرير بلادها، وأشاد بخالدة أديبة، وسلمى اكرم في تركيا، ممجدا دورهن في قيادة التحرر الوطني؛ بما يعكس تطلعه الصادق لنهضة الشرق؛ يقول: ( إن البلاد تكون عظيمة بنسائها كعظمتها برجالها) "6" وهذه مقولة رغم بساطتها إلا أنها تستكمل مشروع معاوية نور، إذ لا يمكن إغفال قضايا المرأة، ودورها في بناء مشروع نهضوي. يقول معلقا على قيادة المرأة للعمل السياسي والاجتماعي في المنطقة من حولنا: ( كل هذه الحوادث تحصل حوالينا في بلاد شرقية ونحن ما نزال نتحدث عن اختلاط الجنسين في دور التعليم كفكرة جديدة، إباحية لا يصح التسليم بها!!) "7" نقد لاذع وساخر للمجتمعات أسيرة المقولات الماضوية، التي تمارس تأويلها، وإعادة تأويلها على الدوام، وإساءة فهم الواقع والوقائع التاريخية. الآن بعد تطويق مشروع معاوية نور، وتخطيه، وتفشي الأطروحات المضادة له نجد من يرفع عقيرته مطالبا بإيداع المرأة هامش الحياة الاجتماعية.!
من اليسير تلمس كتابات معاوية نور عن النقد، القراءة، المرأة، والتعليم في إهاب فهمه العام للثقافة والحضارة، بعيدا عن إغفال دوره الرائد في نقد الطور الاستعماري في الحضارة الغربية، وأيضا الالتفات إلى ما تزخر به هذه الحضارة من أنظمة للمعرفة، لا يمكن تجاوزها، كما تبدو دعواته النقدية في الدراما والقصة والمقال الوجه الآخر لها بما تبثه من بناء جمالي ومعرفي. ولكن القطيعة التي صنعها معاوية مع الذهنيات المتيبسة، والمصابة بالعطب في فعاليتها مع واقعها؛ جعل تلك العقليات تتكالب عليه حيا؛ ثم تقصي مشروعه من بعده، بل وطمرته في ركام فشلها، وتطلعاتها النرجسية.
-----------------
المصادر
1/ الأعمال الأدبية لمعاوية نور-- جمع وإعداد رشيد عثمان-- دار الخرطوم ص 316
2/ المصدر السابق ص 398
3/ المصدر السابق ص55
4/ المصدر السابق ص 75
5/ المصدر السابق ص 292
6/ المصدر السابق ص 390
7/ المصدر السابق ص 391
Elfajar Elgadeed الفجر الجديد: مع معاوية نور.. مع الحضارة ----------------------------------- * عمر الصايم