الحكاية الأولى:
لحظتها كنت أشرب شاى العصر أمام الدوار... اقترب منى شيخ الخفراء ومعه غلام فى العاشرة... قال لى ان رجالا من الحكومة موجودون فى جنينة عم "عوض" ويرويدونك.... بصراحة تشاءمت .... الحكومة لا يأتى من قبلها الا وجع الرأس... نسيت نفسى فلعنت شيخ الخفراء وطردت الغلام ....
****
وجدت باب جنينة عم" عوض" مفتوحا فدخلت ..... كان بصحبتى أحد شيوخ البلد وأربعة من الأعيان وشيخ الخفراء .......
لم اصدق عينى فى البداية لبشاعة المنظر...... عشرات من العمال الغرباء يحملون الفؤوس وينهالون بها على أشجار المانجو والموز والبرتقال والجوافة والجميز والليمون ..... كانوا يربطون النخيل بالحبال ويقتلعونه فى قسوة. هالنى ما رأيت .... جنينة عم عوض من أحسن الجنائن فى بلدنا، محصولها الوفير مضرب الأمثال. وقفت مذهولا بقدر الوقت الذى يقضيه رجل صالح فى صلاة العشاء، وأنا أقنع نفسى بأننى أحلم..... لم أتنبه الا عندما ترنحت شجرة المانجو الكبيرة.... هذه الشجرة بالذات يعرفها كل من فى البلد لثلاثة اجيال مضت .... هى أول شجرة مانجو تزرع فى الوجه القبلى.. بعث لنا ببذرتها عرابى باشا من الجزيرة التى حبسه فيها عسكر الانجليز ... حينما سمعت دويها الهائل عرفت أن الأمر حقيقة وليس حلما.... طقطقت الشجرة ومالت وفر العمال من تحتها وهم يتصايحون فى فزع..... كانت لفروعها فرقعة هائلة وهى تصطدم بسور الجنينة الغربى.... هدمت السور وسقطت نخلة صغيرة وأتلفت الحقل المجاور.... ثار من أوراقها غبار كثيف، انتشر فى موجات متتابعة فحجب عنى الرؤية.. لم أعد أسمع الا العطسات تتعالى من الأركان .....
فتشت بعينى عن الرأس المدبر ... وقع بصرى عليه وهو يظهر شيئا فشيئا مع انقشاع الغبار... طويل القامة عليه سترة من جلد... يحشر نفسه فى بنطلون منفوخ الجنبين، ورقبة حذائه تصل الى ركبتيه. فى البداية ظننته من عساكر السوارى، لولا أنه فى وسامة حضرة جناب المأمور السابق.... اقتربت منه وقدمت نفسى:
- شرفتم البلد يا سعادة البك .... أنا العمدة .
- أنت العمدة ؟ .... جئت فى موعدك .
قال ذلك بلهجة متعالية كأننى كنت أجيرا فى مزارع أجداده .
فتح حقيبة جلدية صغيرة واخرج منها أوراقا، مدها لى قائلا: امض اخذتنى العزة وكدت أرفض.... لكن لهجته الآمرة، دلت على مكانته فى وزارة الداخلية، فقررت الأخذ بالأحوط. سألته وأنا أتناول الأوراق وابتسم: خيرا يا سعادة البك؟
أجاب بلهجة متعالية: المسألة خاصة بالحراسة.
- أى حراسة ؟
- ستصلنا معدات ثمينة تحتاج الى الحراسة.
كان المفروض ان أقرأ الأوراق قبل أن أوقع..... لكن رداءة خط كتبة الحكومة تحتاج الى وقت.... وربما ظن الرجل أننى لا أثق به، وكل الأدلة تشير الى مكانته .......
نظر الى توقيعى وطوى الأوراق وهو يقول:
- الخفراء سيتلقون أوامرهم منى ابتدأء من هذه اللحظة ....
- كلنا تحت أمر سعادتك .
وقلت لنفسى الاحتياط واجب، والعمدة يجب ان يكون عمدة فى كل المواقف، بلا صدام أو خضوع - لأحد: لكن لماذا تقتلعون أشجار الجنينة يا سعادة البك ؟
- اشجارها مليئة بالآفات الضارة بالزراعة .
قبل ان يكمل جملته، دخل علينا عم عوض، صاحب الجنينة .... نظر الى الخراب حوله بعينيه الكليلتين وصرخ.... شق ثوبه ولطم خديه وسقط على الأرض فاقد النطق. اشار سعادة البك الى شيخ الخفراء وطلب منه التحفظ على عم عوض. نظر شيخ الخفراء ناحيتى كأنه يستشيرنى فقلت له: سعادة البك هو صاحب الأمر الآن .
لما رأيت سعادته يبتسم، سألته:
- طبعا ستصرفون الى عم عوض تعويضا معقولا .
أجاب بلهجة غاضبة: تعويض؟........ بعد اتلافه لزراعة البلد ؟
حينما أفاق عم عوض وضعوا فى يديه الحديد وأرسلوه الى مركز البوليس للتحقيق. ولم نعرف طعم الراحة منذ ذلك اليوم، وحسينا الله ونعم الوكيل .
الحكاية الثانية:
يومها كنت أستضيف اربعة من تجار العاصمة.... قضوا عندى أسبوعا بعت لهم خلاله مائة رأس من عجول التسمين، واشتريت منهم سبعين اردبا من علف الماشية ...
هبطت الى النيل أودعهم، حين فوجئت بعشرة مراكب تقف على الشاطئ.... هبط منها مئات من عمال التراحيل، وبضعة رجال من العمال الفنيين..... أنزلوا على البر مواسير طويلة وقصيرة ومعدات لا حصر لها.... تعجبت: ما الحكاية ؟
- بلدكم تعوم فوق بحر من البترول .
- أين ؟
- فى جنينة رجل اسمه عوض .
فى الحال وجدتنى أشق الجموع والتقى بالباشمهندس الذى يدير العملية.... كاد يجن من الفرح وأنا أتفق معه على الخطوط العريضة لمساندته .... بعدها لم اضع دقيقة واحدة... أستاجرت الأرض البور الواقعة شرقى الجنينة، أرسلت الى البندر لشراء قدور الفول وأوانى الطبخ وما يلزم من مقاعد وموائد، هذا غير الطهاة والقهوجية .
خططت لاقامة سلسلة من المطاعم والمقاهى الصغيرة.... سجلت أسماء العمال وأرقام بطاقاتهم الشخصية فى الدفاتر.... عرضتها على الباشمهندس فوافق عليها ... اتفقنا على مبلغ شهرى معين من كل عامل، نظير وجبتين من الطعام وكوبين من الشاى.... تركنا وجبة الافطار حرة ليتسنى لنا خدمة من جاءوا لاسعاد البلد .
جاء السيد العمدة ومعه جماعة من الأعيان ..... طلب منه الباشمهندس بعض الخفراء لحراسة المعدات..... وافق العمدة وأبدى حماسا مشكورا لمساندة العملية.... وجاء عم عوض صاحب الجنينة، صرخ وشق ثوبه ولطم خديه.... لكن السيد
العمدة نهره وطلب من شيخ الخفراء أن يطرده، ولم يرض هذا الباشمهندس... قال العمدة معاتبا: اعذره .... ومن حقه علينا أن ينال تعويضا مناسبا .
قال العمدة: جنينة لا تساوى اكثر من خمسين جنيها .
ضحك الباشمهندس من قسوة قلب العمدة، وامر بان تصرف لعم عوض عشرة آلاف جنيه ... ودهشت لهذا الكرم، سيما وأن جنينة عم عوض لا تزيد عن شجرة ليمون ونخلتين وشجرة جوافة صغيرة لم تطرح بعد. فى الأيام التالية، توالى وصول مئات العمال، مما ضاعف من مسئولياتى فى خدمة البلد.... لكن تم - بحمد الله - حصر الجميع فى الدفاتر..... ودارت العجلة، وعم الرخاء، وكثرت النقود فى الأيدى، وانتشرت البسمات على الوجوه، وأصبحت أيامنا كالأعراس .......
***
يوليو 1985