تطاولتْ ظلالُنا تطاولاً مرئياً أمكنني تتبُّعه بالعين المجردة، مثل تتبُّع حركة عقرب الثواني. لم تتطاول فحسب، وإنما تضخَّمت متعملقة أيضاً، فغطَّت مساحات واسعة من رمال الصحراء المتصلة بالأفق شرقاً، بينما هي ساكنة في مكانها!
من جهة الغرب، نهض مدفنٌ عظيم، ملأ بدوره الأفق، وحال دون رؤية أي مشهد سواه...
يداي خرقاوان إلى حدٍّ لا يطاق، وهذا يحزُّ في نفسي. لو كانت لي يدان ماهرتان لتغيَّر قدري. فالأيدي التي تقوم بعمل نافع تغوص في أعماق الكينونة وتفجِّر منها نبعاً من الخير والسلام. ولكن هيهات!
لم أرَ أبي قط، ولم أسعَ قط إلى رؤيته. تزوجتْ أمي كرَّة أخرى ولم يكن لي من العمر أكثر من سنتين. ربَّاني زوج...
ثَمِل بشعورك بالملل، تسير في الشارع المزدحم ووجهك تضيئه مصابيح السيارات المنطلقة بين لحظة وأخرى. وهذا الجو الشتائي الكئيب يجبرك على السير بمحاذاة الأبواب الزجاجية المقفلة. وجوه كثيرة تمر قربك. يخيل إليك أنها حزينة.
الليلة ستنتهي. نعم، لا يمكن أن يطول الأمر اكثر من ذلك!
تمر سيارة مسرعة...
لدي في غرفتي، يا أصدقاء، ثلاث تفاحات شمعية جميلة تسرُّ الناظرين... من بعيد يصعب تمييزها عن التفاح الحقيقي؛ فهي متقنة الصنع رائعة اللون... ولطالما نقلتها من زاوية لزاوية برفق وزهو ومحبة...
ذات مساء, في سكون الليل، أضأت قنديلاً زيتياً صغيراً, فبددتْ شعلتُه عتمة المكان, ورحت أجول بنظري في الزوايا...
هكذا كان يجب أن تطلَّ من باب الغرفة، وتتجه سريعًا نحو بطئكَ القادم – ليس لأنك محاصَر بقليل من الحكايات، أو لأنك تريد أن يكون لعينيكَ مشهدٌ آخر يعج بأطياف لذيذة.
قررتَ أن تكون هناك فقط، على ذلك المقعد بالضبط، حيث يمكن لكَ أن تتلف نهاركَ كلَّه بدمعة واحدة دون أن يشعر بكَ أحد.
ولأنك أجبن من أن...
في منتصف كلِّ ليلة...
أتراشق مع احتضاراتٍ كثيرة لأشياء عبرتْ في اليوم الفائت. واليوم، في تعبيراتنا، هو الوقت المتاح لتراكُمات أكثر وأكثر. لا يهم الآن ما نُراكِم. ما يهم هو أن اليوم قد اختُصِر بمحض معجزة حضارية إلى اختراع!
عددتُ طَرَقاتِ الحذاء على وجه الرصيف
أربعمائة طرقة
وخمسة عشر
ينبوعًا...
ابتدأت ساعته الجدارية دقاتها محفِّزة كل خلاياه المتبلِّدة. تحولت دقاتها إلى حركة تمتصها كل الأشياء التي تبعثرت حوله لتعيد استفزازه من جديد. تنحّت أمام عمائه جدران الغرفة واحداً تلو الآخر. استطاع أن يرى أسراب الليل تتراخى على كل منزل تخايل له من نافذته، مطفئة الأبصار الكسولة عن الحركة والضجيج...
توقف أزيز حفّارته فجأة بعد نصف ساعة مجهدة من الوقوف أمام كرسيّه القديم، وقد جلس عليه رجل مترهل الهيئة فاتحا فمه بعجز وتوسّل، وعينان تغبّان جرعات من ألم صامت، تدمعان فلا يأبه لهما الطبيب، بل يزيد من سرعة حفّارته تلك، لعلها تأكل صوت صمته المزعج حقاً؟!
توقف ونزع قطع القطن المصطبغة باحمرار قانٍ من...
هكذا تعوَّدت: أترك بابي مفتوحًا.
في النهار وفي الليل، في الصيف وفي الشتاء، وعلى مدار العهود والأيام، أتركه مفتوحًا، وأعيش، وأنام، وأصحو، ولا أخاف شيئًا.
ذات يوم، وبابي مفتوح، وأنا أتنعَّم بدفء منزلي ودفء نفسي، وأسبح في نور منزلي ونور نفسي، سمعتُ صوت امرأة، حزينًا وحنونًا، يأتي من ظلام الهواء...
في الصباح حكيت لزميلي عن الموضوع ، ابتسم ..قلت " لثقتي فيك " ، قال الامر بسيط ..وكثيراً ما يحدث ...قلت : "لكنه يؤرقني".. قال : لاتهتم .. ضحكنا.. ناديت على الفراش طلبت منه كوب شاي وبسرعة .. أمرني زميلي بأحضار بند ورق سألته لماذا؟ بصق وطلب قلماً..أعطيته... رسم دائرة واسعة مفرغة.. وقال: " ساحة...
-1-
كففت منذ زمن طويل عن زيارة الحلّاق، ربما منذ رحيل المرحوم البصرّي الرائع سليم.. أنا بصرّي كذلك لكني لست رائع ولن أكون.. رحم الله البصري سليم.
كان آخر عهدي بالحلاقة والحلاقّ في سبعينيات القرن الفائت، كان حلاقا لطيفا للغاية وصديقٌ صدوق، طيب الذكر صاحب حلاقة "الجزائر" في محلة "خمس ميل" شمال...
قبل ثلاثة أعوام، صيفًا، ظهرت رسالة في صندوقي البريديّ. وَصَلت في مغلّف مستطيل الشكل أبيض، وكانت موجّهة إلى شخص لم يكن اسمه مألوفًا لديّ: روبرت م. مورغان من سياتيل، واشنطن. دُمغ وجه الرسالة بأختام بريدية عديدة: غير قابل للتسليم، لا يمكن إرساله، يعاد إلى الكاتب. شُطب اسم السيّد مورغان بقلم حبر،...
جذبتني “أ” من يدي وأخذتني إلى خلف ساحة المدرسة القصيّة، وقالت لي من دون أن تتلعثم: “تعال نلعب عروس وعريس”. كانت سنواتي الحادية عشرة كفيلةً بأن تجعلني أفهم ما تعنيه جملة “عريس وعروس”، إلا أنني لم أحرّك ساكنًا. فقد صدمتني صراحتها ومباشرتها وأعتقد أنني تفاجأتُ وقتها من معرفتها بحيلة “العروس...