فاتن فاروق عبد المنعم - الأسير..

ساقوني غير مهطع للداعي وعبارات التمرد فتية على لساني يتصدرها حرفان ملتئمان "لا" بجانبها أو يندرج تحتها الكثير، حرفان يحملان الكثير من الكلام والمعاني المكتظة بلهيب الصدور وأنينها، كل الصدور النقية.
في هذه الأروقة أحيانا يقودوني معصوب العينين وأحيانا كل شيء في سافر، سافر لهم حتى يقهروا كل ذرة فيّ لكي يتبعثر حرفاها، الألف واللام فلا يلتئمان قط حتى يجهلا الطريق إلى لساني، حرفان إلتآمهما موجع لهم يؤرقهم، يخافون قطع دابرهم، قهرعجز معه لساني على حمل هذين الحرفين كأنهما في ثقل طود عظيم، فمن يعيدهما إلي فيصبحا في خفة الطيور ومعهما أحلق في آفاق تخصني أخطها بيدي، أتعرض للقهر يوميا فأصبح عاجزا حتى على التنقل أو السير منتصب القائمة مرفوع الرأس، هذا الذي يقهرني من خلف جدر تخصه، يتوارى خلف جدره، التواري من شخص مقهور يعني أنه خائف مني فما هي مصدر قوتي وأنا الأعزل المحاصر ومن منا المقهور حقا وحقيقة أنا أم هو؟!
في لحظات جنونه التي فيها يستنفذ كل أدوات القهر المصحوبة بصياحه الذي يبوح بساديته في صورة قوة زائفة حتى يتبرقش جسدي بألوان كثر ترطب داخله المعتل وتسيل دمائي التي تتسلل خفية خلف هذا القبو، بها يلتئم الحرفان على ألسن آخرين بعد أن رفضت الأرض ابتلاع الدم كأنه شراب من حميم يؤلم أحشائها، يبوحون كل بطريقته أو منطقه الذي يجهله جلاد من يقاوم، الجلاد لا منطق له لذا لا يعرف سوى أنين المعذبين.
أحيانا أخاف أن تلتهمني هذه الجدران التي حجبت عني آيات الليل والنهار وأحيانا أخرى تشتعل في شموع الأمل لدرجة أن أكتب الشعر على هذه الجدران التي حتما سيستنطقها آخرون يوما ما، وآخرون كتبوا خواطرهم، مدادنا دماؤنا المراقة، نوثق آثام جلادينا من لدن آلامنا، متخذا من الشعر منطقا يروم لي فلا أنسى أني فنان وفني يؤلم قاهري يريد أن يمحوه وإن لم يمحوني، رغم الآلام المبرحة لم ننسى التدوين الذي حرص عليه أجدادنا بطريقة ما حتى ينقلوا إلينا أخبارهم، التوثيق يشعرنا ببعض المتعة والإطمئنان لأنه يوصل صوتنا، قليل من المتعة مع كثير من الألم، فمن الذي أعطف النقيضين معا في نفس الدرب؟
كثير منا خرجوا من ضيق هذه الجدران الذي تجثم على صدورنا حتى تختلف أضلاعنا مع بعضها البعض إلى براح القبور وآخرين رقدوا في أسرة المرضى وآخرين تحولوا إلى أشباح يشغلون حيزا من الفراغ، بينما أنا ونفر من رفقاء الألم خارج هذه الأسوار تغشانا الشمس بفتوتها كأول مستقبل لنا، تراودنا عن أنفسنا، تخترق أجسادنا المتداعية تمدنا من فتوتها لتعيد إلينا مفقوداتنا أليست هي أصل الحياة والعطاء والنماء والخصوبة على الأرض، تفرقت زمرتنا أجسادا وتوحد مرادنا، التئام الحرفين في فضاء وحيد أوحد.
لكل منا طريقته ومنطقه الذي سينطق به الحرفان الملتئمان، كل منا انشغل بمنطقه ولكن تلاقت اللا الملتئمة في فضائنا الوحيد الأوحد، أمهر أوراقي وقلمي بمنطقي الذي به أنقل وجيب قلبي وما يعتمل في عقلي، أسجل وأدون خشية تفلت اللحظة، قبل موت الفعل المضارع، ذلك الكيان الخادع، قصير الأجل وحلول الفعل الماضي المعمر فألفتني منسابا فياضا رقراقا مؤلما متاعا حكاء، أكتب لآخرين لن أكون بينهم يوما ما فأنير منطقة ما قد تزيف أو تبهم وتستغلق على الفهم والإفهام.
نحن مختلفون ولذلك خلقنا الله وتلقي الخطوب والأهوال يتباين طبقا لمكنون كل نفس، منا من أركسوا في الفتن ومنا من صنعوا شرنقة حولهم، ومنا من تلقاها بصدور عارية ومنا من قبض على الجمر وتجشم لهيبه دون شكوى، إنه المرج الإلهي الذي شملنا بلا استثناء ليتحقق في النهاية مراده فينا، أمرر عيوني بيننا كأنني أأخذ مسحة بشرية أنا أحد مكوناتها، حجم كل منا هو من يحدده وأنا اخترت حجم المتنبي بنرجسيته، أتطلع إلى اليوم الذي ستنهار فيه جدر جلادي لنلتقي وجها لوجه دون حواجز أو حجب ويعرف كل منا حجم لائه، أولئك الذين يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون، وأنا على يقين أن لائي ضخمة وهو عديم اللاءات، هو والعدم سواء لا يملك سوى الانصياع الدائم وأنا دائم التمرد، لا يقوى على إطلاق شعاع عيني في عينه، فهو جاف المنابع والمشارب ضحل المكنون قضى على نفسه بالخضوع الدائم لمن يسكب داخله قطرة ما، مهيض وسوف نعلمه رسم حرفي "اللا" التي تعيد صياغته لأننا مستمرون، نجوب الأرض المنداحة بوجوه كثر وألوان كثر وألسن كثر ولكننا نلتقي في الفضاء الوحيد الأوحد على قلب رجل واحد.
  • Like
التفاعلات: ثناء درويش

تعليقات

شكرا لتلقيك الجميل مثلك ولحسك الرائع
أعتذر عن التأخر في الرد لأنني لم يكن لدي حساب في أنطولوجيا وللتو قمت بإنشاء جساب بالموقع
تحياتي
 
أعلى