كان عليَّ أن أسابق النوءَ البادي في السماء الداكنة المكتنزة، أرفع عيني نحو الأفق وأسرع الخطى على الشارع الطويل المؤدي للـ"قشلة"1. في المنعرج عند مكتب البريد، ضاقت السماء بحملها وأرسلت زخات الماء كحبال سماوية تقرع رأسي وجسدي وتدفع بي تحت باب البناية. كانت" بنت حادة " أخذت مظلتي بعد زيارتها...
اشتد علي الضنك منذ أقنعت إحداهُن هذه الخرقاءٓ أن كثرة لمس الخبز بالأيادي يمكنه أن ينقل العدوى، فأحجمتْ عن أكله وعن تقديمه للأولاد. كنتُ، كدأب باقي الخبازين، أستبقي للبيت ما يفيض من الخبز عن طلبات الزبائن بغية تقليص مصاريف طلباتها التي لا تنتهي. استدعى الأمر، كي تذعن، تدخل أهلها، وتدخل جارنا إمام...
كانت رائعة الجمال . ومثلي ، كانت كل صباح تستعجل وصول الحافلة بتأفف ، وبالنظر المتواصل لمعصمها . تحمل هي الأخرى محفظة جلدية ، و تشمر مثلي على ساعديها بجدية ظاهرة . كنت أجزمت أنها ، مثلي ، أستاذة بأحد أسلاك التعليم ، حتى ذلك الصباح ، حين منحني تأخر الحافلة فسحة زمنية كافية كي تتدفق في جسدي شحنة...
كنا صغار الحارة وشلتها المشاغبة، ثلة لا تزيد عن عشرة أطفال في الطور الابتدائي من التعليم، لا تفرق بين أعمارنا سوى سنة أو سنتين. وكان حسن "الأبجق" أوسطنا. لا يميزه بيننا سوى البياض الذي غزا عينه اليسرى وأعدمها البصر، مما أضاف لاسمه نعت "الأبجق" وجعله مدعاة سخريتنا أثناء اللعب في الدرب، أو في...
لم نكن نعرف الشيء الكثير عن حمزة أصغر أخوالي. منذ كنا صغيرات السن، قبل عقد من الزمن، كلما ذكِر اسمُه انخفض صوتا أبي وأمي، وصارا يهمهمان في أذني بعضهما. لما كبرنا، وأصبحت جدتي لأمي تزورنا لماما وتدعو لي ولأختي أن يرزقنا الله ابن الحلال والذرية الحسنة، علمنا أن خالي حمزة يقيم في سجن قريب من...
الداخل إلى تلك المدينة الفوسفاطية من جهتها الشمالية لا بد أن تنعرج به الطريق إلى وسط غابة كثيقة من أشجار العرعار على اليسار وأشجارالأوكالبتوس على اليمين. في ذلك الزمن الجميل من أوائل سبعينات القرن الماضي، لم يكن قد زحف الإسمنت إلى الغابة بعد، اللهم مؤسسة تعليمية إعدادية واحدة، وصفّ طويل من...
لم تعد تقول الأشياء كما كانت تقولها ... أصبحت تومئ برأسها فقط . أحيانا يصدر عن عينيها إلحاح بالبوح، وإصرار على الكلم يصطدم بالعجز عن النطق، ويحدث اهتزازات ورجات في جسدها النحيف. تنظر في عيني بحزم لتدعوني إلى استقراء نظراتها وحركاتها كي أنوب عليها في الإفصاح عما تومئ إليه.
حين نكون وحديْنا، أمرر...
* إلى روح صديقي سليمان..والرائعة عتيقة
هل كان على كراستي أن تفلت مني ذلك الصباح الربيعي، وبالذات في تلك النقطة من ساحة الجامعة الفسيحة؟؟ لماذا اختارَ القدرُ كل شيء لأجدني في ذهول أتسلم منه الكراسة وأبادله البسم..؟ ....ما اسمكِ ؟؟...زرقة المحيط في عينيه تجرني لخضمه، أتخبط، أحاول الخلاص...
.. كان هاتفي يشير إلى الساعة الواحدة بعد منتصف النهار. بجانبه تغفو رواية لــ "أمبرتو إيكو" ترافقني منذ دهر، ويحرجني النظر إليها. أشعر بعتابها، ألتمس لنفسي بعض العذر وأبعدها عن المنفضة وباقي أغراضي المبعثرة على طاولة المقهى. ضجيج البارحة لازالت طرَقاته تطن داخل رأسي رغم فناجين القهوة المرة...
الحمد لله.. أخيرا وجدت سقفا أحتمي به من قسوة الشارع وهمجيته. احتوتني "الحاجّة عايشة" ولم يعد يستبيحني كل من انتصب أيره ومضى ينشد فريسة تحت جنح ليل المدينة وتحت قناطرها، أو بين أزقتها وظلمة شوارعها ومقابرها. لعلم ساكنة هذه المدينة فـــ"الحاجة عايشة" هي "عايشة بروبر" سابقا، إييه !!... نعم يا سيدي...