شخوص المسرحية:
- الأول
- الثاني
المكان: ساحة جرداء، خلت من كل شيء باستثناء رايات ثبتت في عمق المسرح بألوان مختلفة، خضراء وصفراء وزرقاء وسوداء وحمراء.. لا توجد راية بيضاء ابدا.
صوت من الخارج: في زمن عربي، او هكذا كان من المفترض ان يكون زمنا عربيا، اختلط فيه كل شيء، وخلا من كل شيء. المروءة والعنفوان في خبر كان!
(يدخل الأول وهو رجل اربعيني حاملا مجموعة من الكتب يتبعه الثاني وقد حمل كتبا أيضا)
الثاني: تمهّل يا رجل، ساعتان وانا اتبعك. لا اعرف أين ستذهب بكل هذه الكتب.
الأول: ها قد وصلنا.
الثاني: وصلنا..؟ الى هذا المكان المقفر.
الأول: آمل أن يأتي جيل يجعله عامراً.
الثاني: مكان لا يصله أحد.
الأول: بل قل لم يلوثه احد فكل الأمكنة في هذه المدينة لم تعد كما كانت من قبل.
الثاني: لم يطرا عليها تغيير. المباني والشوارع ما زالت على حالها.
الأول: الخرسانة لا تتغير. لكنهم يتغيرون.
الثاني: البشر، أليس كذلك؟
الأول: ومن غيرهم. ضيّعوا كل ما تركه لهم الأجداد والآباء من علم ومعرفة.
الثاني: (ضاحكاً) أنت تقول هذا؟ الأجداد والآباء الذين تقصدهم كانوا أميين.
الأول: الحياة أعطتهم أكثر مما تعطيه المدارس.
الثاني: لولا المدارس لما ملأت خزانتك بمثل هذه الكتب.
الأول: لأنها لم تعد تعدّل موازين الناس سأدفنها كلها حتى ياتي الجيل الذي يعيد لهذه المدينة ما فقدته.
الثاني: وهل تظن بعد كل تلك الرايات التي اختلفت الوانها أن جيلا سيأتي ليوحدها.
الأول: اذا ما تخلصنا ممن يدّعون بأنهم يحكمون نيابة عن الله في بلادنا فسيكون لنا ذلك.
الثاني: لكنهم يرشدون الناس الى التقوى.
الأول: يستعبدونهم بأقاويل وافتراءات ما انزل الله بها من سلطان حتى اذا ما تمكنوا منهم قادوهم كخراف جائعة لا هم لها الا ما يملأ بطونها.
الثاني: لا بد للأمة من قيادة.
الأول: مسكينة هذه الأمة. يلقنون ابناءها الكره والثأر ويسلبونهم أراداتهم كي يحظون بالخيرات. يفرّقون بين الناس ويجمعونهم تحت ألوان وأحزاب كريهة! أي قيادة تلك وهم مربوطون من خصيانهم لهذا وذاك. يأتمرون بأمر من لم يرد الخير لهم. أي قيادة تلك والناس اضحوا يصرخون بنبذهم بعدما تجرعوا السم منهم.
الثاني: ليس كل اصابعك سواء. هناك من يتبعهم.
الأول: المخدوعون والخائفون والمستفيدون وسماسرة الدين. أولئك من يتبعهم.
الثاني: الطائفة ليست نتاج اليوم.
الأول: هي استمرار بخديعة الآخرين. لا يمكن للشيطان أن يرتدي ثوب التقوى.
الثاني: رجل الدين ليس شيطاناً.
الأول: من ينصّب نفسه قيّماً على الآخرين ويستعمرهم ويجعلهم عبيداً لا لشيء الا لأنه اختلق ما لم يرض الله به ألا تعتبره شيطاناً؟
الثاني: هذا ما وجدنا عليه أجدادنا وآباءنا.
الأول: ما دمنا محكومين بالماضي ومنجذبين اليه فلن نفلح. النظر الى أمام يقيك العثرات.
الثاني: لو سمعوك لاعتبروك كافراً.
الأول: الضعف هو الكفر بعينه. الضعفاء هم خدّام الشيطان. لا يريد الله انساناً ضعيفاً.
الثاني: الآن عرفت لماذا تريد أن تدفن هذه الكتب . كل البلاوي التي سمعتها منك اليوم من هذه (يشير الى الكتب)
الأول: ما فائدة العقل يا صاحبي ان لم يرشدنا الى طريق سوي.
الثاني: (ضاحكاً) هناك مثل تعلمناها من اهلنا يقول ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالماً.
الأول: وضعوا لكم الأمثال ليقنعوكم بانهم هم طرق النجاة لكم. النجاة يا صاحبي له طريق واحدة هو ان تتبع عقلك وبصيرتك وان لا تكون شاة في قطيع بلا ارادة .
الثاني: ان كنت لا تثق بتلك الامثال فما قولك بالكتب التي تشبه كتبك هذه؟
الأول: هل قرأتها؟
الثاني: لم اقرأها لكنهم فسّروها لنا.
الأول: لماذا سلّمت عقلك لهم. أليس هذا استعباد؟
الثاني: أنا اثق بالمشايخ.
الأول: الثقة لا تعني ان تغمض عينيك عن افعالهم. ثق بمن شئت لكن لا تغلق عقلك وبصيرتك.
الثاني: ما الذي فعلوه بك كي تأخذ موقفا حازما مثل هذا؟
الأول: ليس بي وحدي. ما فعلوه بالناس قاطبة يجعلني اقول هذا. الأخ يقتل أخاه. والب يتبرأ من ابنه. أليس هذا كافيا لتمزيق الأمة؟
الثاني: أسألك واجبني بصراحة. أنت ما هي طائفتك؟ لا يمكن للإنسان أن يولد دون ان يكون منتميا لطائفة.
الأول: الطائفة هي بوابة التيه الذي وضعوكم فيه. تجزيئ الشيء يضعف من قدرته على التحمّل والمقاومة والتحدي. هل قرأت درس الرجل وعياله والعصي الذي وضعوه بالمنهج المدرسي. ألم يقل ان العصي اذا ما تفرقت وصارت شتاتا سيسهل كسرها واحدة بعد الأخرى؟
الثاني: (صامتا)
الأول: هذا ما أعنيه بخطر من تثق بهم.
الثاني: لا اعرف كيف سأرد. انت تغلق كل البواب في وجهي.
الأول: افتح باباً واحدة وتخلّص من ادرانهم.
الثاني: من اين لي أن اعرف ان الباب التي سأفتحها بنفسي سيقودني الى الجنة.
الأول: الباب الذي تطمئن له نفسك هو باب خلاصك. عليك اولا أن تنسى كل ما حشوه في رأسك. وتنظّف قلبك من كره الآخرين الذين ليسوا من طائفتك أو ملتك. ان لم تقم بذلك فلن تجد باب الخلاص.
الثاني: وأنت. هل وجدته؟
الأول: ليس أمامي الا باب واحدة. لست مثلك.
الثاني: كيف استطعت أن تحرر نفسك. عرفتك منذ شهرين وأنت تستأجر غرفة في الحي الأزرق ساعدتك في حمل بعض اغراضك يومها قلت لي أنك تتنقل بين حين وآخر بين الأحياء من الحي الاصفر الى الأخضر ومن ثم الى الأسود والآن أنت في الحي الأزرق. أتذكر انك كنت تبحث عن حي بلا ألوان وظننت انك حينها كنت تبحث عن مقام يلائمك بغض النظر عن الألوان.
الأول: عسى ان تكون قد عرفت انك كنت مخطئاً.
الثاني: لا يمكن ان يكون الانسان هكذا. خيمة اللون هي التي تحميك وتوفر لك الأمان.
الأول: لا اجدني محتاجاً لأحد أن يحميني. لو جربت ان تتصالح مع نفسك قبل الآخرين فأنك ستشعر بالأمان والسعادة أيضاً. عش حياتك بكل ألوانها التي ترسمها انت ولا تلتفت لما يضعونه من ألوان لك فما تصنعه يداك يبقى لك وما يعطيك اياه الآخرون ستفقده. هل تعرف ما الذي يريده الله منا؟
الثاني: (متلكئاً) ان نعبده ولا نشرك به أحداً. وان نكون مخلصين للدين.
الأول: واخلاصك لا يمكن ان يكون خالصا وتاما ما لم تخلص لإنسانيتك. ان تكون انسانا منتجا لا ان تكون رقما في قائمة تلك الألوان.
الثاني: والعبادة؟
الأول: اعبد كما تشاء. أقصد اعبد الله وبالطريقة التي لا تكفّر فيها من هم ليسوا من لونك.
الثاني: (يصمت قليلا) ألم يحن الوقت لكي ندفن هذه الكتب.
الأول: لم يرق لك كلامي. تلك مثل الآخرين.
الثاني: لا مفر مما نحن فيه. هذا هو قدرنا!
الأول: حجروا عقولكم وهجرتم التفكير. سلمتم امركم لمن لا يهتم لأمركم قدر اهتمامه بإنعاش حياته.
الثاني: انت تسيء الظن بنا. وتنعت مشايخنا بما لا يليق بهم. ان لم تسكت سأترك المسرحية ولن أمثل فيها. هذا النص مليء بالألغام. لا اريد أن اكون سبباً في تغيير قناعات الجمهور.
الأول: أنت واحد من الجمهور. اذهب واجلس هناك على ذاك الكرسي اذا رغبت.
الثاني: خير لي من ان أكمل معك المسرحية. أنت تخرج عن النص الذي لم يكتبه المؤلف.
الأول: لا اريد أن أكون ببغاء واقول ما يكتب لي فانا لي عقل ومخيلة.
الثاني: لكنك تمثّل وعليك أن تكون حريصاً على النص لا أن توظّفه لأفكارك.
الأول: سيقتنع المؤلف والمخرج أيضاً. لو لم يكونا مقتنعين لأوقفا العرض.
الثاني: كيف يوقفان العرض بحضور الجمهور؟
الأول: والجمهور أيضا ان لم يقتنعوا بما قلته يستطيعون أن يوقفوا العرض هذا ان لم يكونوا تابعين لتلك الرايات والألوان.
الثاني: أنت مجنون.
الأول: وانت عاقل أليس كذلك؟
الثاني: نحن في ضفتين مختلفتين. انا لا اتفق معك.
الأول: اسمع يا صاحبي.
الثاني: (صارخا به) لست صاحبك.
الأول: أنا لست واعظاً لكي انتظر منك أن تتفق مع أفكاري. ما سمعته مني والذي لم يكتبه المؤلف في النص هي الحقيقة المرة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية. حقيقة الاستعباد الذي ابتلينا به والأفكار المتطرفة التي حشوها في رؤوس الساذجين.
الثاني: لست ساذجاً. ارجوك، اذا كان الدين هو مشكلتك..
الأول: (مقاطعاً) الدين ليس مشكلتي
الثاني: افكارك تشير الى ذلك.
الأول: لم تفهمني بعد. افهم ان الدين حياة لكن المشكلة تكمن في الأذرع التي راحت تنهش في بدنه. هذا يشمل كل الأديان وليس ديناً بعينه. تنافر وتناحر وتناقض فيما جميعها تدعي قربها من الله.
الثاني: لم تقنعني. لم اقتنع لو قرأت كل كتبك هذه. (يذهب متضايقاً)
الأول: تعال. الى اين؟
الثاني: الى اللون الذي انتمي اليه. (يخرج)
الأول: (الى الجمهور) وأنتم. من يرغب في البقاء ليبق ومن يريد ان يغادر فالأبواب مفتوحة.
اظلام- ستار
16- 19 شباط 2020
البصرة