* إلى الأكراد.. مَن مات، ومَن ينتظر.
أُسامح الرصاصات التي أطلَقتها باتجاهي نوافذ قلعتك، أو عيونها الغائرة في السُحب/ التاريخ/ الوجع/ الجمال، وأستسمحكِ عن تخديشات سرفة دبابتي ـ دبابتهم في شوارعك وأذيال حديقة شيرين، فهل سيشفع لي: أنني خنتُ الأوامر، ولم أرتكب قيد رصاصة ضدك.. ولو فكرت بفعله فلن تطاوعني الأصابع لأنكِ.. أربيل مدينتها، وهي شيرين التي استحوذت على القلب بعينيها واللَبن وأزهار شالها والحديقة، واستحكم إطباق وجهها على النبضات، وعلى ما أراه.. حتى لحظتي ـ البعيدة ـ هذه. أقفُ على رأس جبل يحيطه البحر من جهات ثلاث في سان سباستيان ـ بلد الباسك، شمال إسبانيا، فيغطي وجه شيرين عاريات السواحل والمقاهي ومراكب الصيد وصخب الأمواج وكل شيء، عدا النوارس.. تظل تحوم أو تغطس في الحدقتين... يعيدني وجهها إلى أربيل/ كردستان، شمال القلب المُسربَل بدمه، وإصرار عودات الربيع ونار الحداد نوروز الذي قَتَلَ ظُلماً فأنارت ناره الجبال واشتعلت دبكات الحياة: سراويل ولفائف وثياب فراشات ملونة على كل السفوح... شيرين، متى ينهض نوروز؟ متى الرجوع؟ ولماذا لن أراكِ أبداً؟.. فهل أظلُ آمل ألا تكوني العروس التي أخذها الآغا الشيخ في دهوك مقابل ترك أرض أبيكِ وعمره؟.. أم آمل أن هجومات الحرس المُدافع عن (الشرعية) أمام تمرد عينيك قد اكتفت بهروبك عارية نحو قمم الثلج، وأن هجومات الجيش (العُصمَلّي) ـ المُدافع عن أمنه أمام تهديد عينيكِ ـ قد اكتفت بتمزيق أزهار الشال وتكدير اللبن الصافي.. كم أشتهيه الآن في منفاي، فيستحيل.. لبن عصفور.. لبن أربيل.. لبن شيرين الذي كانت تمنحني إياه كل صباحات أيام وقوف دبابتي/ دبابتهم على أذيال حديقتها أمام باب الدار فتهمس لي: "آه لو كنتَ بلا دبابة" أتدارَك: "لكنها دبابتهم يا شيرين"... كان صوتها مثل ينابيع الشمال، بارد في الصيف، دافىء في الشتاء، فمن يُوقف همسها في أُذنيّ؟ من يوقف النزيف في الذاكرة/ في الروح/ في الوطن..؟.. (كاكه كاميران).. من ينقذ الحزين من مطاردة العشق الأصيل، ومن يخلع الجرح عن جسد الجريح؟.. ما الذي جاء بوجهكِ إلى غربتي؟.. أنتِ هناك وأنا هنا.. (البيشمركه) هناك و(أيتا) هنا، وقلتِ لي في الحديقة، بين باب الدار وبين مَدفع الدبابة: "إن أربيل تعني (أربعة آلهة) ثم (هه ولير)..". سألتكِ: "ماذا تريدين من سوق القلعة؟". "كتاب".. وجدت رواية أخي مع أثاث بيت، هل أخبرتكِ أنهم قد قتلوه وأمي أيضاً؟ هل ما زال والدكِ حياً وأمكِ؟..". " َربجي كُرد وعرب..."، بحر يحيطني وبحار عبرتُ وليس أعذب من ماء (عين كاوه) ولا أنقى من هواء (صلاح الدين) إلا هواء (شقلاوة). أحدقُ في تمثال (المُقدس) الشاهق على جبل سان سباستيان، فأرى الصخرة التي شطرها السيف المشطور لابن أبي طالب على جبل (كويسنجق) عند التواءات الطريق المؤدي إلى (رانية) بعد حقول التبغ وأزهار عباد الشمس على أطراف (جّوارّ قُرنه) حين كان يمزقني ـ ليلاً ـ سماع صرخات العذارى الكرديات في استخبارات الفرقة 24، وصمت جثث العجائز والرعاة الذين أُدخِلَت عصيهم في مؤخراتهم وخرجَت من الأفواه بحثاً عن المعلومات ليُرمَوا بعدها في (الوادي الأحمر) أو في كهوف جبل (قنديل)... يؤسفني وجود النقيضين في أربيل: الفيلق الخامس ووجهك شيرين، وكم أوصتني أمي: "عليك بالتبغ الأصفر... وليس أجمل من بنت كردية في الدنيا".. أو بين السائحات على شواطىء سان سباستيان. يأكلون سمك (المرلوثة) وأشتهي لبن أربيل ـ فلا تأكل سمكاً مع اللبن كي لا يَتَبَقَّع جلدك ـ هُم سمك وأنا لَبن، هم سياحة وأنا غُربة.. وكردستان جَنة تجري من تحتها أنهار الدم: حَلَبجة، حصاردوست، قصائد كوران، شهرزور، شلالات، جسر إبراهيم الخليل، زاخو وزهور حسين تصدح بالكردية: "عين بعين عالشاطي تلاقينا.."، فأبادل شيرين النظرات واللبن والورد وأغنيات حسن زيرك وداخل حسن والقُبلات في الحديقة بين باب الدار وسرفة الدبابة "غير القمر ما واحد عرف بينا.." تحت رصاص تتبادله الأسطح والأزقة ونوافذ قلعة (هه ولير)... يرقص السياح في سان سباستيان ويشتد الرصاص في أربيل. لا مكان لي بين الراقصين ولا فسحة لطيران العصافير بين الرصاص. يتراشق السائحون بأملاح البحر والحلوى هنا، ويشحّ الـ (نان)*، هناك، فتتعالى الضحكات على رمل السواحل، وتُوصد الـ (داية)ات** نوافذ بيوتها كي لا يَدخُل الرصاص، وتأتي الأوامر بالتحرُّك... أقفُ هنا وشيرين مثلي لا تحتمل الوداع قائلة: "أُحبكَ أنتَ لا حُكماً ذاتياً". قلت: "أحبكِ أنتِ ولا حكماً غيره". انفجار يهز سان سباستيان. يهرع السائحون إلى ثيابهم ويُلعلع الرصاص :(أيتا) تُطالب باستقلال (الباسك) فيهرب السائحون وأبقى، وحدي مع "عيونكِ" على الجبل. وأدركُ للمرة المليون "أنني وحـيد" فأطأطئ الرأس وأنزلُ على مهل، درج طويل ملتو، أرددُ السؤال فوق كل درجة: "لماذا عيونكِ والرصاص؟ لماذا عيونكِ والرصاص؟".
* نان: كلمة كردية تعني (خبز).
** داية: كلمة كردية تعني (أُم).
* د. محسن الرملي: كاتب عراقي، مقيم في إسبانيا.
أُسامح الرصاصات التي أطلَقتها باتجاهي نوافذ قلعتك، أو عيونها الغائرة في السُحب/ التاريخ/ الوجع/ الجمال، وأستسمحكِ عن تخديشات سرفة دبابتي ـ دبابتهم في شوارعك وأذيال حديقة شيرين، فهل سيشفع لي: أنني خنتُ الأوامر، ولم أرتكب قيد رصاصة ضدك.. ولو فكرت بفعله فلن تطاوعني الأصابع لأنكِ.. أربيل مدينتها، وهي شيرين التي استحوذت على القلب بعينيها واللَبن وأزهار شالها والحديقة، واستحكم إطباق وجهها على النبضات، وعلى ما أراه.. حتى لحظتي ـ البعيدة ـ هذه. أقفُ على رأس جبل يحيطه البحر من جهات ثلاث في سان سباستيان ـ بلد الباسك، شمال إسبانيا، فيغطي وجه شيرين عاريات السواحل والمقاهي ومراكب الصيد وصخب الأمواج وكل شيء، عدا النوارس.. تظل تحوم أو تغطس في الحدقتين... يعيدني وجهها إلى أربيل/ كردستان، شمال القلب المُسربَل بدمه، وإصرار عودات الربيع ونار الحداد نوروز الذي قَتَلَ ظُلماً فأنارت ناره الجبال واشتعلت دبكات الحياة: سراويل ولفائف وثياب فراشات ملونة على كل السفوح... شيرين، متى ينهض نوروز؟ متى الرجوع؟ ولماذا لن أراكِ أبداً؟.. فهل أظلُ آمل ألا تكوني العروس التي أخذها الآغا الشيخ في دهوك مقابل ترك أرض أبيكِ وعمره؟.. أم آمل أن هجومات الحرس المُدافع عن (الشرعية) أمام تمرد عينيك قد اكتفت بهروبك عارية نحو قمم الثلج، وأن هجومات الجيش (العُصمَلّي) ـ المُدافع عن أمنه أمام تهديد عينيكِ ـ قد اكتفت بتمزيق أزهار الشال وتكدير اللبن الصافي.. كم أشتهيه الآن في منفاي، فيستحيل.. لبن عصفور.. لبن أربيل.. لبن شيرين الذي كانت تمنحني إياه كل صباحات أيام وقوف دبابتي/ دبابتهم على أذيال حديقتها أمام باب الدار فتهمس لي: "آه لو كنتَ بلا دبابة" أتدارَك: "لكنها دبابتهم يا شيرين"... كان صوتها مثل ينابيع الشمال، بارد في الصيف، دافىء في الشتاء، فمن يُوقف همسها في أُذنيّ؟ من يوقف النزيف في الذاكرة/ في الروح/ في الوطن..؟.. (كاكه كاميران).. من ينقذ الحزين من مطاردة العشق الأصيل، ومن يخلع الجرح عن جسد الجريح؟.. ما الذي جاء بوجهكِ إلى غربتي؟.. أنتِ هناك وأنا هنا.. (البيشمركه) هناك و(أيتا) هنا، وقلتِ لي في الحديقة، بين باب الدار وبين مَدفع الدبابة: "إن أربيل تعني (أربعة آلهة) ثم (هه ولير)..". سألتكِ: "ماذا تريدين من سوق القلعة؟". "كتاب".. وجدت رواية أخي مع أثاث بيت، هل أخبرتكِ أنهم قد قتلوه وأمي أيضاً؟ هل ما زال والدكِ حياً وأمكِ؟..". " َربجي كُرد وعرب..."، بحر يحيطني وبحار عبرتُ وليس أعذب من ماء (عين كاوه) ولا أنقى من هواء (صلاح الدين) إلا هواء (شقلاوة). أحدقُ في تمثال (المُقدس) الشاهق على جبل سان سباستيان، فأرى الصخرة التي شطرها السيف المشطور لابن أبي طالب على جبل (كويسنجق) عند التواءات الطريق المؤدي إلى (رانية) بعد حقول التبغ وأزهار عباد الشمس على أطراف (جّوارّ قُرنه) حين كان يمزقني ـ ليلاً ـ سماع صرخات العذارى الكرديات في استخبارات الفرقة 24، وصمت جثث العجائز والرعاة الذين أُدخِلَت عصيهم في مؤخراتهم وخرجَت من الأفواه بحثاً عن المعلومات ليُرمَوا بعدها في (الوادي الأحمر) أو في كهوف جبل (قنديل)... يؤسفني وجود النقيضين في أربيل: الفيلق الخامس ووجهك شيرين، وكم أوصتني أمي: "عليك بالتبغ الأصفر... وليس أجمل من بنت كردية في الدنيا".. أو بين السائحات على شواطىء سان سباستيان. يأكلون سمك (المرلوثة) وأشتهي لبن أربيل ـ فلا تأكل سمكاً مع اللبن كي لا يَتَبَقَّع جلدك ـ هُم سمك وأنا لَبن، هم سياحة وأنا غُربة.. وكردستان جَنة تجري من تحتها أنهار الدم: حَلَبجة، حصاردوست، قصائد كوران، شهرزور، شلالات، جسر إبراهيم الخليل، زاخو وزهور حسين تصدح بالكردية: "عين بعين عالشاطي تلاقينا.."، فأبادل شيرين النظرات واللبن والورد وأغنيات حسن زيرك وداخل حسن والقُبلات في الحديقة بين باب الدار وسرفة الدبابة "غير القمر ما واحد عرف بينا.." تحت رصاص تتبادله الأسطح والأزقة ونوافذ قلعة (هه ولير)... يرقص السياح في سان سباستيان ويشتد الرصاص في أربيل. لا مكان لي بين الراقصين ولا فسحة لطيران العصافير بين الرصاص. يتراشق السائحون بأملاح البحر والحلوى هنا، ويشحّ الـ (نان)*، هناك، فتتعالى الضحكات على رمل السواحل، وتُوصد الـ (داية)ات** نوافذ بيوتها كي لا يَدخُل الرصاص، وتأتي الأوامر بالتحرُّك... أقفُ هنا وشيرين مثلي لا تحتمل الوداع قائلة: "أُحبكَ أنتَ لا حُكماً ذاتياً". قلت: "أحبكِ أنتِ ولا حكماً غيره". انفجار يهز سان سباستيان. يهرع السائحون إلى ثيابهم ويُلعلع الرصاص :(أيتا) تُطالب باستقلال (الباسك) فيهرب السائحون وأبقى، وحدي مع "عيونكِ" على الجبل. وأدركُ للمرة المليون "أنني وحـيد" فأطأطئ الرأس وأنزلُ على مهل، درج طويل ملتو، أرددُ السؤال فوق كل درجة: "لماذا عيونكِ والرصاص؟ لماذا عيونكِ والرصاص؟".
* نان: كلمة كردية تعني (خبز).
** داية: كلمة كردية تعني (أُم).
* د. محسن الرملي: كاتب عراقي، مقيم في إسبانيا.