نقوس المهدي
كاتب
قوة الملوك في البغاء:
في معظم الميثولوجيات القديمة روايات عن إقامة حفلات طقسية ذات أهمية استثنائية عند تلك الشعوب ومنها حفلات الجنس الجماعيّ، حيث كانت معاشرة البغي الكاهنة تعتبر قوّة ما بعدها قوّة. الأمر يبدو واضحاً في الميثولوجيا الآشورية مثلاً ففي أوّل أيّام السنة الآشورية كان على الملك أن يتنازل عن عرشه، ولا يستعيده إلا إذا نام في فراش عشتار الكاهنة/ البغي المقدّسة، وفي تلّ أسمرا وُجدت تماثيل لقرانِ الملك مع الربّة الذي قد يصل إلى ما يمكن تسميته الزواج المقدّس والذي أثبت وجوده تاريخياً، وسنرى بعد قليل تمظهراته في الأسطورة، في مدينة أور في نهاية الألف الثالثة ومن جهة أخرى في مدينة نينوى في الربع الثاني من الألف الأولى1. في الحالة الأولى كان الاحتفال يمثّل بواقعية، فالملك/ ممثّل الربّ ينام مع الكاهنة/ ممثّلة الربّة، ويتمّ كلّ ذلك مع أغنيات حبّ مؤثّرة ألّفت من أجل العيد. أمّا في نينوى فيجلب تمثال الإله ليستريح في غرفة المعبد فوق سرير الزفاف بجانب تمثال الربّة ويتركان معاً طيلة الليل. ذلك أنّ الآلهة كانت ممثلة دوماً في بدائل بشرية (وأحياناً حيوانية في تمظهراتها الطوطمية) أو في تماثيلها التي تؤمّن الحضور الحقيقيّ لتلك الآلهة2. وقد وُجدت حول المعابد الآشورية مجموعة تماثيل صغيرة لنساء عاريات ذوات فروج ناتئة، صنّفها علماء الآثار كربّات أمّهات، ومع ذلك تسمح كثرتها بافتراض أنّها كانت تمثّل مؤمنات بسيطات خاضعات للبغاء الطقوسيّ.
من الممكن كذلك مقارنة طقوس الزواج المذكورة في السفر الشهير المعروف بنشيد الإنشاد في كتاب العهد القديم، والمنسوب للملك سليمان، مع طقس عشتار المسمّى الزواج المقدّس، بين الملك والكاهنة الكبرى للبغايا المقدّسات3. ويبدو نشيد الإنشاد الذي تنضح محتوياته بالغزل المكشوف والبديع غير متناسب البتّة مع طبيعة التوراة عموماً وتزمّتها الواضح، ممّا يجعل الفكرة القائلة بنسبه إلى ميثولوجيات المنطقة أمراً منطقياً.
الربّات المومسات:
كما بدا فإنّ البغاء المقدس لم يكن يتعلّق بالجنس واللذّة فقط، فالمشاركة الحاصلة مع الألوهة يمكن أن تكون مبتعدة عن الحساسية الجنسية ابتعاد تناول القربان عن الجوع. ففي الرُّقُمِ السّومرية تمثّل الربّة إينانا البغي المقدّسة باعتبارها سيّدة الدافع الجنسيّ، وتحمل كلّ كاهناتها اللقب ذاته. وتقود الإلهة ننشوبور، وزيرة إنانا الأمينة، الملك السومري إلى حضن عروسه ملتمسة منها أن تبارك له بكل ما يلزم لكي يكون حكمه سعيداً: سلطة سياسية قوية على بلاد سومر وما جاورها، إنتاجية في التربة وخصوبة في الرحم4.
استكمالاً للفكرة وفي مقالة بعنوان: (يهوه الإله الزاني الذي أصبح روحانياً) كتبها والتر رَينهولد دي لا تورّي، يكتب الباحث عن البغاء الطقسي في بلاد ما بين النهرين فيقول: (إنّ البغايا مذكورات برفقة مجموعات مختلفة من النساء المرتبطات لدرجة ما بنشاطات دينية. يبدو أنّ إنانا/عشتار قد قُدّمت كإلهة حامية للبغايا. تشير الإلهة إلى نفسها كبغي في الأغاني الطقسية، ويستعار مصطلح حانة لتسمية معبدها)5.
في ذلك العصر الذي كانت فيه الآلهة تمارس الحبّ والجنس المتهتّك كان الأمر بمثابة مبرّر للبشر كي يعيشوا كما تعيش الآلهة، أي أنّ غراميات الآلهة كانت عاكسة للسلوك السيسيولوجي والإيروسي البشريّ، فلم تكن فكرة الذنب والخطيئة قد اخترعت بعد، وهذا لا يعني بحال أنّها كانت حياة بدون أخلاق لكنها كانت حياة بدون إثم حتّى مجيء الأديان السماوية. والدليل على ذلك أنّ بعض البغايا المقدّسات وصلن إلى أعلى المراتب السياسية حيث استمتع الإسكندر المقدوني بهنّ وساعد بعضهنّ على ارتقاء العروش، من أمثال أكهاتوسليا Aghathocleia ووبيليستيكهيه اللتين حكمتا عرش مصر.
ولم يكن الأمر بعيداً عن ذلك في الجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام، فآساف بن يعلى ونائلة بنت زيد المعبودان الشهيران6 مارسا الزنا المقدس داخل الكعبة، بحسب المشهور من المرويات العربية والإسلامية، فمسخهما الله صنمين. لكنّ أساف ونائلة كانا صنمين مقدّسين، حيث أساف المعبود الذكر المقيم على جبل الصفا ونائلة المعبودة الأنثى على جبل المروة، وكدلالة على تقديس (الجاهليين) لذلك الحبّ المقترن بلذّة الجسد بين الشابّين عومل الجبلان أيضاً كمكانين مقدّسين يسعى الجاهليون بينهما في سبعة أشواط ويتمسّحون بهما. أساف ونائلة مثّلا، على عكس ما ترسّخ فيما بعد، عبادة جنسية مقدّسة سادت في جزيرة العرب. وسيّد القمني يذكر لنا عدة علامات على وجود عبادات مشابهة في المنطقة7.
تحويرات الميثولوجيا وانقلاب مكانة المومس:
حاول الكثير من الأنثروبولوجيين أن يبيّنوا الفروقات الحاصلة في الأساطير على مدار أزمنة تدوينها، الأمر الذي عكس تأثير الأنظمة السيسيولوجية والثيولوجية والاقتصادية وحتى السياسية عليها. وربما استطعنا نظرياً تقسيم الأسطورة إلى قسمين: متريركي وبطريركي. واعتماداً على هذا التقسيم سنلاحظ تغّيراً واضحاً، ومتدرّجاً بالتأكيد، في مكانة المومس في الميثولوجيا، الفكرة التي تتعلق بشكل وثيق بمكانة المرأة عموماً. ففي الميثولوجيات البدئية، حين لم تكن فاعلية الرجل في عملية الخلق معروفة بشكل علميّ دقيق، كان الخلق منوطاً بالأنثى فحسب، بالإضافة إلى ظروف التجمعات البشرية التي لم تكن قد عملت على بناء الدول الكبرى وبالتالي لم يكن تفوّق القوة الذكورية وسيطرتها على القوى الطبيعية/ ممثلة الأنوثة قد ساد بعد.
لكن تلك الفترة الذهبية للأنوثة انقلبت حين راح دور الذكر يتوضّح في عملية الخصب. وأتى بالتالي مفهوم الملكية الخاصة المترافق مع بناء الدول العسكرية والعروش البطريركية، والسيرورة المنطقية لذلك من جيوش وحروب لحماية تلك الدول، وذلك منذ بداية الكتابة التصويرية حوالي 3200 ق.م. انقلبت القيم المجتمعية بالتوازي مع تلك التغييرات لجهة تقديس الذكر ونشوء العبادة القضيبية بالمقابل، ومنها عبادة باخوس التي وجدت في سورية8. وانحسرت ممارسات اللواطة المقدسة حين صار يناط بالذكر قيمة دينية، ولم يعد معنى القضيب مقتصراً على الجنسية بل أضحى رمزاً للرجولة العليا وتجسيداً لفضيلة الرجل. وتبدو الملحمة البابلية الشهيرة: (الإينوما إيليش) ممثلة ومكثفة لكل تلك التحولات، حيث يقوم الإله الذكر مردوك بقتل الإلهة الأنثى تعامة (الربّة الأم) ثم يقوم وحده بالخلق9! وربما كانت هناك دلالات لربط زمن كتابتها المقدر بمجيء حمورابي إلى عرش بابل وبسط سيطرته على معظم المدن المجاورة ليخضعها لثقافته الجديدة التي أطلق عليها: ثقافة“الأدنون والأعلون”10، حيث ميّز حمورابي البغايا المقدّسات في بابل في طبقات، وانتهى ليقرّر إمكانية زواجهنّ، بعد أن كان محرّماً عليهن قبلاً، وكان عليهنّ تحت قانونه أن يتزوّجن من آشوريين فحسب، وأن يبقين محجّبات في الشوارع. الإجحاف والذلّ اللذين مورسا على العاهرات المقدّسات أيام الدولة البابلية وصل إلى درجة أنّ الكاهنة الكبرى، التي توجد على رأس بغايا بابل، تلك التي أمضت الليالي في الغرفة الزوجية على قمّة الزيقورة يجب ألا يكون لها ذرية، حسب قانون حمورابي.
صارت المرأة إذاً جزءاً من أملاك الرجل، كالأرض والسلاح والحيوانات، والبغاء أرذل الرذائل على الرغم من بقاء بعض الممارسات المتعلقة به حتى وقت متأخّر. كما جرّدت المرأة من لواء العلم وكثرت الدعوات لنبذ المرأة الكاهنة/ حاملة العلم، ومنهنّ تلك التي تعمل على تلقين فنون الجنس واللذة والحبّ11، باعتبار أنّ العلم صار حكراً على الكهنوت الذكوريّ. المعرفة أضحت إثماً وكثيرة الأمثلة في الميثولوجيا التي تحمّل المرأة العارفة مسؤولية الخراب والموت، كما حملت كلّ الأديان السماوية حوّاء مسؤولية طرد آدم من الفردوس بسبب معرفتها، وليس بخاف ارتباط المعرفة هنا بالكشف الجنسيّ والاطلاع على لذّة الجسد.
يبدو التحوّل الذي تحدثت عنه واضحاً في أسطورة الربّة ليليت12، وهي ربة المهد والزوجة الأولى لآدم قبل حواء، والتي لم تخلق من ضلعه بل مثله من الطين، وهربت من الجنة حفاظاً على حريتها سارقة معها مفتاح الفردوس. ليليت هي المرأة القوية المساوية للرجل والتي استبدلت فيما بعد بالمرأة المطيعة التابعة: حواء. ثم عملت الميثولوجيات المنقلبة مع الشرط التاريخي البطريركي إلى تشويه صورة ليليت وسمعتها. فتحوّلت من ربة للجمال ومومس مقدّسة وأمّ رؤوم (ربّة للمهد) إلى ساقطة فاجرة وشريرة تغوي الرجال في الخرائب لتضاجعهم ثمّ تقتلهم ليلاً. كما تحوّلت إلى ساحرة شمطاء تخنق الأطفال في المهود، لتضحي ميدوسا بشعرها من الأفاعي السامة إحدى نسخ ليليت المتأخّرة، كما صار يطلق عليها ساحرة الليل القميئة والمومس المشؤومة وما إلى ذلك.
هذا الانقلاب في النظرة إلى غواية الأنوثة وقدسيتها، التي كان مرتبطة بشكل ما مع تقديس المومس، يبدو واضحاً أيضاً في أسطورة جلجامش، التي تعتبر مع الإينوما إيليش من أنصع الأمثلة على سيطرة الثقافة الذكورية في الشرق القديم، حيث يرفض الملك جلجامش الاقتران بالربّة عشتار، بعد أن كان الاقتران بها غاية أيّ ملك، ويشتمها طاعناً في شرفها حيث يقول: تعالي أفضح لك حكايا عشاقك13.
فيما يقوم إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة البابلي، في حدث دالّ، بتدمير بابل والقضاء على سكانها، ثم ينتقل إلى مدينة إيريك مدينة البغايا المقدّسات والغلمان والمخصيين واللواطيين14 حيث معبد عشتار بما فيه من مخنثين نالت الربّة من رجولتهم فيهدم المدينة ومعابدها.
مع الزمن صار اسم المومس مرتبطاً بالموت بعد أن كان يهب الحياة، لأنّ منيّ الذكر (المقدس)، الذي صار نسب الأولاد عائداً إليه، لن يحفظ في رحم مومس، وبالتالي أضحى اسمها مرتبطاً بالعقم أيضاً بعد أن كان رمزاً للخصب والحب، فالذكر المسيطر لن يرضى (بمستودع) لخلق أولاده غير مملوك له بالكامل!!. وفي المؤسسات البطريريكية صارت المحرّمات والعقوبات تزداد شيئاً فشيئاً في ظلّ ذلك الانقلاب الدينيّ المتدرج ولكن شديد الراديكالية، وكان على المظهر الديني الأخير من الملكية الجماعية للنساء أن يزول تباعاً. فيمنع في سفر التثنية إدخال (أجرة زانية ولا ثمن كلب (لواطي) إلى بيت الربّ إلهك عن نذر ما لأنهما كليهما رجس لدى الربّ إلهك).
مع نهاية العالم القديم انتهى الأمر إلى عدم افتراض سوى أسباب دنيوية للبغاء مرتبطة بشكل وثيق بالانحطاط الأخلاقي والفجور والانحلال التي أخذت الأديان السماوية على عاتقها تطهير البشرية الآثمة منها.
في النهاية كانت ثمّة فكرة جديرة بالقول اصطدمت بها أثناء البحث، ربما استطعت إنهاءه بها، هي معلومة غريبة قد تقنعنا بأنّ الحياة البشرية ما هي إلا ذاكرة متوالدة متوالية، والفكرة تتمثل في قيام بعض الجماعات السرية الحديثة اليوم بالعودة إلى خلق فكرة البغاء المقدّس، كأنّ المومس المقدّسة تستيقظ من جديد، مثل جماعة الحدّ الثالث للتثليث15 (Troisieme Germe de la trinite’) التي راحت تطبّق قداساً ذهبياً بطريقة خاصة نسبياً، حيث تأخذ كاهنة للحبّ فيه دور بغي مقدسة. وسأكتفي بإيراد جزء من معتقدهم كدلالة على قربه من فكرة البغاء قديماً، حيث يرون بأنّ تلك البغي المقدسة (لا تقدم فرجها من أجل لذتها الأنانية، ولا من أجل إشباع هوى دنيء، ولا بهدف تلذذ عابر، وإنما كصلاة وكتقدمة لتحقيق المثل الأعلى).
الهوامش:
1 - بابل والكتاب المقدس، مرجع مذكور، ص 193
2 - المرجع السابق.، ص 194
3 - قصة الحضارة، مرجع مذكور.
4 - طقوس الجنس المقدس عند السومريين، مرجع مذكور، ص 123
5 - مقالة منشورة بتاريخ 23/أيلول/2005 في موقع شبكة الملحدين العرب الإلكتروني.
6 - انظر الأساطير والخرافات عند العرب، د. محمد عبد المعيد خان، دار الحداثة، بيروت ط2، 1980
7 - الاسطورة والتراث، مرجع مذكور، ص162
8- العشق الجنسي والمقدس، مرجع مذكور
9 - مغامرة العقل الأولى، مرجع مذكور.
10 - انظر التشريعات البابلية، عبد الحكيم الذنون، دار علاء الدين، دمشق 1992
11 - انظر ليليت والحركة النسوية الحديثة، حنا عبود، منشورات وزراة الثقافة، دمشق 2007
12- ليليت والحركة النسوية الحديثة، مرجع مذكور.
13 - اسطورة جلجامش، مصدر مذكور.
14 - مغامرة العقل الأولى، مرجع مذكور.
15 - العشق الجنسي والمقدس، مرجع مذكور، ص120
في معظم الميثولوجيات القديمة روايات عن إقامة حفلات طقسية ذات أهمية استثنائية عند تلك الشعوب ومنها حفلات الجنس الجماعيّ، حيث كانت معاشرة البغي الكاهنة تعتبر قوّة ما بعدها قوّة. الأمر يبدو واضحاً في الميثولوجيا الآشورية مثلاً ففي أوّل أيّام السنة الآشورية كان على الملك أن يتنازل عن عرشه، ولا يستعيده إلا إذا نام في فراش عشتار الكاهنة/ البغي المقدّسة، وفي تلّ أسمرا وُجدت تماثيل لقرانِ الملك مع الربّة الذي قد يصل إلى ما يمكن تسميته الزواج المقدّس والذي أثبت وجوده تاريخياً، وسنرى بعد قليل تمظهراته في الأسطورة، في مدينة أور في نهاية الألف الثالثة ومن جهة أخرى في مدينة نينوى في الربع الثاني من الألف الأولى1. في الحالة الأولى كان الاحتفال يمثّل بواقعية، فالملك/ ممثّل الربّ ينام مع الكاهنة/ ممثّلة الربّة، ويتمّ كلّ ذلك مع أغنيات حبّ مؤثّرة ألّفت من أجل العيد. أمّا في نينوى فيجلب تمثال الإله ليستريح في غرفة المعبد فوق سرير الزفاف بجانب تمثال الربّة ويتركان معاً طيلة الليل. ذلك أنّ الآلهة كانت ممثلة دوماً في بدائل بشرية (وأحياناً حيوانية في تمظهراتها الطوطمية) أو في تماثيلها التي تؤمّن الحضور الحقيقيّ لتلك الآلهة2. وقد وُجدت حول المعابد الآشورية مجموعة تماثيل صغيرة لنساء عاريات ذوات فروج ناتئة، صنّفها علماء الآثار كربّات أمّهات، ومع ذلك تسمح كثرتها بافتراض أنّها كانت تمثّل مؤمنات بسيطات خاضعات للبغاء الطقوسيّ.
من الممكن كذلك مقارنة طقوس الزواج المذكورة في السفر الشهير المعروف بنشيد الإنشاد في كتاب العهد القديم، والمنسوب للملك سليمان، مع طقس عشتار المسمّى الزواج المقدّس، بين الملك والكاهنة الكبرى للبغايا المقدّسات3. ويبدو نشيد الإنشاد الذي تنضح محتوياته بالغزل المكشوف والبديع غير متناسب البتّة مع طبيعة التوراة عموماً وتزمّتها الواضح، ممّا يجعل الفكرة القائلة بنسبه إلى ميثولوجيات المنطقة أمراً منطقياً.
الربّات المومسات:
كما بدا فإنّ البغاء المقدس لم يكن يتعلّق بالجنس واللذّة فقط، فالمشاركة الحاصلة مع الألوهة يمكن أن تكون مبتعدة عن الحساسية الجنسية ابتعاد تناول القربان عن الجوع. ففي الرُّقُمِ السّومرية تمثّل الربّة إينانا البغي المقدّسة باعتبارها سيّدة الدافع الجنسيّ، وتحمل كلّ كاهناتها اللقب ذاته. وتقود الإلهة ننشوبور، وزيرة إنانا الأمينة، الملك السومري إلى حضن عروسه ملتمسة منها أن تبارك له بكل ما يلزم لكي يكون حكمه سعيداً: سلطة سياسية قوية على بلاد سومر وما جاورها، إنتاجية في التربة وخصوبة في الرحم4.
استكمالاً للفكرة وفي مقالة بعنوان: (يهوه الإله الزاني الذي أصبح روحانياً) كتبها والتر رَينهولد دي لا تورّي، يكتب الباحث عن البغاء الطقسي في بلاد ما بين النهرين فيقول: (إنّ البغايا مذكورات برفقة مجموعات مختلفة من النساء المرتبطات لدرجة ما بنشاطات دينية. يبدو أنّ إنانا/عشتار قد قُدّمت كإلهة حامية للبغايا. تشير الإلهة إلى نفسها كبغي في الأغاني الطقسية، ويستعار مصطلح حانة لتسمية معبدها)5.
في ذلك العصر الذي كانت فيه الآلهة تمارس الحبّ والجنس المتهتّك كان الأمر بمثابة مبرّر للبشر كي يعيشوا كما تعيش الآلهة، أي أنّ غراميات الآلهة كانت عاكسة للسلوك السيسيولوجي والإيروسي البشريّ، فلم تكن فكرة الذنب والخطيئة قد اخترعت بعد، وهذا لا يعني بحال أنّها كانت حياة بدون أخلاق لكنها كانت حياة بدون إثم حتّى مجيء الأديان السماوية. والدليل على ذلك أنّ بعض البغايا المقدّسات وصلن إلى أعلى المراتب السياسية حيث استمتع الإسكندر المقدوني بهنّ وساعد بعضهنّ على ارتقاء العروش، من أمثال أكهاتوسليا Aghathocleia ووبيليستيكهيه اللتين حكمتا عرش مصر.
ولم يكن الأمر بعيداً عن ذلك في الجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام، فآساف بن يعلى ونائلة بنت زيد المعبودان الشهيران6 مارسا الزنا المقدس داخل الكعبة، بحسب المشهور من المرويات العربية والإسلامية، فمسخهما الله صنمين. لكنّ أساف ونائلة كانا صنمين مقدّسين، حيث أساف المعبود الذكر المقيم على جبل الصفا ونائلة المعبودة الأنثى على جبل المروة، وكدلالة على تقديس (الجاهليين) لذلك الحبّ المقترن بلذّة الجسد بين الشابّين عومل الجبلان أيضاً كمكانين مقدّسين يسعى الجاهليون بينهما في سبعة أشواط ويتمسّحون بهما. أساف ونائلة مثّلا، على عكس ما ترسّخ فيما بعد، عبادة جنسية مقدّسة سادت في جزيرة العرب. وسيّد القمني يذكر لنا عدة علامات على وجود عبادات مشابهة في المنطقة7.
تحويرات الميثولوجيا وانقلاب مكانة المومس:
حاول الكثير من الأنثروبولوجيين أن يبيّنوا الفروقات الحاصلة في الأساطير على مدار أزمنة تدوينها، الأمر الذي عكس تأثير الأنظمة السيسيولوجية والثيولوجية والاقتصادية وحتى السياسية عليها. وربما استطعنا نظرياً تقسيم الأسطورة إلى قسمين: متريركي وبطريركي. واعتماداً على هذا التقسيم سنلاحظ تغّيراً واضحاً، ومتدرّجاً بالتأكيد، في مكانة المومس في الميثولوجيا، الفكرة التي تتعلق بشكل وثيق بمكانة المرأة عموماً. ففي الميثولوجيات البدئية، حين لم تكن فاعلية الرجل في عملية الخلق معروفة بشكل علميّ دقيق، كان الخلق منوطاً بالأنثى فحسب، بالإضافة إلى ظروف التجمعات البشرية التي لم تكن قد عملت على بناء الدول الكبرى وبالتالي لم يكن تفوّق القوة الذكورية وسيطرتها على القوى الطبيعية/ ممثلة الأنوثة قد ساد بعد.
لكن تلك الفترة الذهبية للأنوثة انقلبت حين راح دور الذكر يتوضّح في عملية الخصب. وأتى بالتالي مفهوم الملكية الخاصة المترافق مع بناء الدول العسكرية والعروش البطريركية، والسيرورة المنطقية لذلك من جيوش وحروب لحماية تلك الدول، وذلك منذ بداية الكتابة التصويرية حوالي 3200 ق.م. انقلبت القيم المجتمعية بالتوازي مع تلك التغييرات لجهة تقديس الذكر ونشوء العبادة القضيبية بالمقابل، ومنها عبادة باخوس التي وجدت في سورية8. وانحسرت ممارسات اللواطة المقدسة حين صار يناط بالذكر قيمة دينية، ولم يعد معنى القضيب مقتصراً على الجنسية بل أضحى رمزاً للرجولة العليا وتجسيداً لفضيلة الرجل. وتبدو الملحمة البابلية الشهيرة: (الإينوما إيليش) ممثلة ومكثفة لكل تلك التحولات، حيث يقوم الإله الذكر مردوك بقتل الإلهة الأنثى تعامة (الربّة الأم) ثم يقوم وحده بالخلق9! وربما كانت هناك دلالات لربط زمن كتابتها المقدر بمجيء حمورابي إلى عرش بابل وبسط سيطرته على معظم المدن المجاورة ليخضعها لثقافته الجديدة التي أطلق عليها: ثقافة“الأدنون والأعلون”10، حيث ميّز حمورابي البغايا المقدّسات في بابل في طبقات، وانتهى ليقرّر إمكانية زواجهنّ، بعد أن كان محرّماً عليهن قبلاً، وكان عليهنّ تحت قانونه أن يتزوّجن من آشوريين فحسب، وأن يبقين محجّبات في الشوارع. الإجحاف والذلّ اللذين مورسا على العاهرات المقدّسات أيام الدولة البابلية وصل إلى درجة أنّ الكاهنة الكبرى، التي توجد على رأس بغايا بابل، تلك التي أمضت الليالي في الغرفة الزوجية على قمّة الزيقورة يجب ألا يكون لها ذرية، حسب قانون حمورابي.
صارت المرأة إذاً جزءاً من أملاك الرجل، كالأرض والسلاح والحيوانات، والبغاء أرذل الرذائل على الرغم من بقاء بعض الممارسات المتعلقة به حتى وقت متأخّر. كما جرّدت المرأة من لواء العلم وكثرت الدعوات لنبذ المرأة الكاهنة/ حاملة العلم، ومنهنّ تلك التي تعمل على تلقين فنون الجنس واللذة والحبّ11، باعتبار أنّ العلم صار حكراً على الكهنوت الذكوريّ. المعرفة أضحت إثماً وكثيرة الأمثلة في الميثولوجيا التي تحمّل المرأة العارفة مسؤولية الخراب والموت، كما حملت كلّ الأديان السماوية حوّاء مسؤولية طرد آدم من الفردوس بسبب معرفتها، وليس بخاف ارتباط المعرفة هنا بالكشف الجنسيّ والاطلاع على لذّة الجسد.
يبدو التحوّل الذي تحدثت عنه واضحاً في أسطورة الربّة ليليت12، وهي ربة المهد والزوجة الأولى لآدم قبل حواء، والتي لم تخلق من ضلعه بل مثله من الطين، وهربت من الجنة حفاظاً على حريتها سارقة معها مفتاح الفردوس. ليليت هي المرأة القوية المساوية للرجل والتي استبدلت فيما بعد بالمرأة المطيعة التابعة: حواء. ثم عملت الميثولوجيات المنقلبة مع الشرط التاريخي البطريركي إلى تشويه صورة ليليت وسمعتها. فتحوّلت من ربة للجمال ومومس مقدّسة وأمّ رؤوم (ربّة للمهد) إلى ساقطة فاجرة وشريرة تغوي الرجال في الخرائب لتضاجعهم ثمّ تقتلهم ليلاً. كما تحوّلت إلى ساحرة شمطاء تخنق الأطفال في المهود، لتضحي ميدوسا بشعرها من الأفاعي السامة إحدى نسخ ليليت المتأخّرة، كما صار يطلق عليها ساحرة الليل القميئة والمومس المشؤومة وما إلى ذلك.
هذا الانقلاب في النظرة إلى غواية الأنوثة وقدسيتها، التي كان مرتبطة بشكل ما مع تقديس المومس، يبدو واضحاً أيضاً في أسطورة جلجامش، التي تعتبر مع الإينوما إيليش من أنصع الأمثلة على سيطرة الثقافة الذكورية في الشرق القديم، حيث يرفض الملك جلجامش الاقتران بالربّة عشتار، بعد أن كان الاقتران بها غاية أيّ ملك، ويشتمها طاعناً في شرفها حيث يقول: تعالي أفضح لك حكايا عشاقك13.
فيما يقوم إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة البابلي، في حدث دالّ، بتدمير بابل والقضاء على سكانها، ثم ينتقل إلى مدينة إيريك مدينة البغايا المقدّسات والغلمان والمخصيين واللواطيين14 حيث معبد عشتار بما فيه من مخنثين نالت الربّة من رجولتهم فيهدم المدينة ومعابدها.
مع الزمن صار اسم المومس مرتبطاً بالموت بعد أن كان يهب الحياة، لأنّ منيّ الذكر (المقدس)، الذي صار نسب الأولاد عائداً إليه، لن يحفظ في رحم مومس، وبالتالي أضحى اسمها مرتبطاً بالعقم أيضاً بعد أن كان رمزاً للخصب والحب، فالذكر المسيطر لن يرضى (بمستودع) لخلق أولاده غير مملوك له بالكامل!!. وفي المؤسسات البطريريكية صارت المحرّمات والعقوبات تزداد شيئاً فشيئاً في ظلّ ذلك الانقلاب الدينيّ المتدرج ولكن شديد الراديكالية، وكان على المظهر الديني الأخير من الملكية الجماعية للنساء أن يزول تباعاً. فيمنع في سفر التثنية إدخال (أجرة زانية ولا ثمن كلب (لواطي) إلى بيت الربّ إلهك عن نذر ما لأنهما كليهما رجس لدى الربّ إلهك).
مع نهاية العالم القديم انتهى الأمر إلى عدم افتراض سوى أسباب دنيوية للبغاء مرتبطة بشكل وثيق بالانحطاط الأخلاقي والفجور والانحلال التي أخذت الأديان السماوية على عاتقها تطهير البشرية الآثمة منها.
في النهاية كانت ثمّة فكرة جديرة بالقول اصطدمت بها أثناء البحث، ربما استطعت إنهاءه بها، هي معلومة غريبة قد تقنعنا بأنّ الحياة البشرية ما هي إلا ذاكرة متوالدة متوالية، والفكرة تتمثل في قيام بعض الجماعات السرية الحديثة اليوم بالعودة إلى خلق فكرة البغاء المقدّس، كأنّ المومس المقدّسة تستيقظ من جديد، مثل جماعة الحدّ الثالث للتثليث15 (Troisieme Germe de la trinite’) التي راحت تطبّق قداساً ذهبياً بطريقة خاصة نسبياً، حيث تأخذ كاهنة للحبّ فيه دور بغي مقدسة. وسأكتفي بإيراد جزء من معتقدهم كدلالة على قربه من فكرة البغاء قديماً، حيث يرون بأنّ تلك البغي المقدسة (لا تقدم فرجها من أجل لذتها الأنانية، ولا من أجل إشباع هوى دنيء، ولا بهدف تلذذ عابر، وإنما كصلاة وكتقدمة لتحقيق المثل الأعلى).
الهوامش:
1 - بابل والكتاب المقدس، مرجع مذكور، ص 193
2 - المرجع السابق.، ص 194
3 - قصة الحضارة، مرجع مذكور.
4 - طقوس الجنس المقدس عند السومريين، مرجع مذكور، ص 123
5 - مقالة منشورة بتاريخ 23/أيلول/2005 في موقع شبكة الملحدين العرب الإلكتروني.
6 - انظر الأساطير والخرافات عند العرب، د. محمد عبد المعيد خان، دار الحداثة، بيروت ط2، 1980
7 - الاسطورة والتراث، مرجع مذكور، ص162
8- العشق الجنسي والمقدس، مرجع مذكور
9 - مغامرة العقل الأولى، مرجع مذكور.
10 - انظر التشريعات البابلية، عبد الحكيم الذنون، دار علاء الدين، دمشق 1992
11 - انظر ليليت والحركة النسوية الحديثة، حنا عبود، منشورات وزراة الثقافة، دمشق 2007
12- ليليت والحركة النسوية الحديثة، مرجع مذكور.
13 - اسطورة جلجامش، مصدر مذكور.
14 - مغامرة العقل الأولى، مرجع مذكور.
15 - العشق الجنسي والمقدس، مرجع مذكور، ص120