نقوس المهدي
كاتب
مقدمة
دون أنموذج يقلد، دون مرجعيات شعرية يحتذى بها، يبدع مؤلفو أدب لغة الباشتون الشفوي في منأى عن الكتب. بشكل عام، يصونون مؤلفاتهم ، الخالية من المؤثرات الخارجية ومعونات الأبحاث الدراسية أو الجامعية ويمنحون أعمالهم قوة الصدى الرمزي لنتعرف عبرها على شعب بأكمله.
مع ذلك، عرف هذا الارتجال الشعبي كيف يطور أشكالاً عظيمة التنوع، ذات قواعد خاصة في نظم الشعر، وغير منفصل عن الغناء. مع ذلك، مثل هذا الشعر لا يهدف إلى خطابية الكلام المنمق. وإن كانت أوزانه وقوافيه تتحلى، قبل كل شيء، بأنغام قيمة.
أما فيما يخص المضمون، فاختلافه عن شعر الداري (الفارسي) جلي، إذ لا يمجد الحب الصوفي، ولا يكشف عن أي الهام موجه إلى سماء مجهولة، يتعذر سبرها، وغير قابلة للكشف. لا يكرس نفسه للمديح الإلهي، ولا يبدي أي تمثيل لمعلم مطلق يتحكم بحياة وموت مخلوقاته. صورة المراهق الجميل، هدف الشهوة الشاذة، مستبعدة هنا أيضاً.
لا يوجد أي صدى هنا للعب بالكلمات، الإفراط في العواطف والمجاز المتكلف - تمارين بلاغية أوصلها الأدب الفارسي يوماً إلى حدود اللامعقول.
من جهة أخرى، ثمة شيء بسيط وحيوي يؤكد نفسه دوماً هنا: أغنية كائن أرضي، بهواجسه، قلقه ، فرحه ومتعه، أغنية تحتفل بالطبيعة، الجبال، الوديان، الغابات، الأنهار، السحر، الغسق، فضاء الليل الجذاب. أغنية تقتات أيضاً على الحرب والشرف، العار والحب، الجمال والموت.
مع ذلك، فإن الأصالة العظيمة لهذا الشعر الشعبي تكمن في وجود المرأة الفعال . إن كانت، كما هو الحال في كل مكان، تساعد على الإلهام في أناشيد الذكر الرتيبة، فإنها تفرض نفسها هنا كمبدعة وبشكل خاص ككاتبة وموضوع عديد من الأغاني. يتطلب هذا النمط دوماً مشاركتها: اللانداي، الذي يعني حرفياً " الموجز " هو في الواقع قصيدة قصيرة جداً، بيتان من الشعر الحر يتكون الأول من تسعة مقاطع والثاني من ثلاثة عشر مقطعاً دون قافية إلزامية، لكن بتفعيلة داخلية قوية. مع اختلاف الأنغام وفق المناطق، كثيراً ما يبرز نقاش على طريقة الاستشهاد بالأقوال، بإلقاء يدعم شعور أو فكرة . مثل صرخة قلب، كالضياء، واللهب، يستحوذ اللانداي بإيجازه وإيقاعه على الألباب. من جهة أخرى، تصون هذه القصيدة المجهولة القائل التنافس شبه الدائم، فكل بعد ظهر، حين تذهب فتيات القرية لجلب الماء من النبع، أو حين يرقصن ويغنين في احتفال أو زفاف، يرتجلن لانداي جديدة، يترسب أفضلها على الفور في الذاكرة الجماعية.
وعليه، بإمكان الجميع، رجالاً ونساءً، التعبير عن شعور، رغبة، شكوى بواسطة هذين البيتين من الشعر الغنائي، لكن يساعد كلا الشكلين، النحوي والإلهامي، على تميز الاختلافات المحرضة. يستخدم المثقفون والكتاب مصطلحات معقدة، تلميحات قرآنية، تعابير فارسية وحتى عربية، كما تتسم مؤلفاتهم بالبراعة. على النقيض من ذلك، يبدي المنشدون ورجال الدين، من غير الحاصلين على ثقافة أدبية حيوية قوية، قليلاً من الحذلقة، وإن لم تبلغ ألحانهم أحياناً سوى بساطة اللانداي النسائي العميق والصافي، الذي ينبع بالتأكيد من مجتمع أمي أو على الأقل من أرض يباب. إذا كان اللانداي النسائي سهل، هش وجميل مثل الزهور البرية في السهول والجبال المجاورة، فإنه يولد دون بذر منتظم، حماية أو إعداد. من نظرة محددة، خارج المضمار، خارج الحقل الثقافي المقتصر على الرجال فقط، وخارج النطاق الاجتماعي. من جهة أخرى، لا تدع المشاعر والأفكار التي تحملها أي شك في جنس مؤلفيها: ليس بوسع الرجل الباشتوني قط خلق شيء محير، ولن يقدر حتى عن طريق المحاكاة. على سبيل المثال، من المستحيل عليه نفسياً أن يكتب عن عشيق يشك في رجولته أو كرامته مهانة.
وعليه، كل اللانداي المقدم في هذه الدراسة هو من المختارات الشعرية النسائية، التي تظهر أصالة أصواتها أنها فريدة، وتنبثق من هذه النصوص وجه مدهش تشدو فيها النساء ويتحدثن عن أنفسهن، الرجال والعالم حولهن، وجه أنوف ، قاسي القلب ومتمرد.
وضع المرأة في مجتمع الباشتون ، بتركيبته القبلية والدينية القوية، صعب بشكل خاص. مجموعات من المحاربين، يملك فيها الرجال البالغون الموالون للقبيلة فقط والمؤتمرون بأمرها حقوقهم كاملة. يدار هذا المجتمع كلياً وفق قيم الذكورية ، المعتمدة على قانون الشرف. وتعاني المرأة ، في مثل هذه البيئة المتطرفة الذكورية، ذات الشكل الورع والمتعصب، من اضطهاد مزدوج، جسدي ومعنوي.
جسدياً، تتحمل عبء أثقل أعمال البيت المضنية. أما إذا تبادل الرجال إطلاق النار من وقت لآخر، وذهبوا إلى الحقول عرضياً، فإن الجزء الأعظم من حياتهم يقضى في المساجد أو في ساحة القرية، حيث يناقشون شؤون القبيلة السياسية. من جهتها، تعمل المرأة طوال العام من قبل بزوغ الفجر وحتى وقت متأخر من الليل. بالإضافة إلى مساعدتها في الحصاد الموسمي، فإنها تتحمل الكد الدائم بشكل منتظم دون راحة أو عطلة. تذهب كل يوم مرتين، في الصباح والمساء، في مهمة جلب الماء الشاقة من النبع أو النهر، وتقطع أحياناً مسافات طويلة، وهي تحمل على الرأس أو تحت الذراع جراراً في غاية الثقل. تعتني بالأطفال، الذين هم دوماً عديدون، والطهي والماشية، تطحن الحبوب، تحضر الطحين، تخبز الخبز، تغزل الصوف، تخيط الملابس، تجفف السماد الحيواني وتسقي الزرع … الحال أن هذه المرأة لا تتذمر أبداً من عملها العبودي. يندر وجود لانداي تشير فيه إلى "الأصابع المخملية " التي تلتقط بها سنابل الحنطة، أو جرتها الثقيلة جداً، التي كثيراً ما تسبب الآلام في الظهر.
في الواقع، الجانب الأخلاقي لعبوديتها ما يسبب أعظم معاناة. تحس بنفسها مقموعة مهانة وكائن من الدرجة الثانية. من المهد، تستقبل بالحزن والعار - عار لا تراعيه الأم، التي أنجبت ابنة . أما الأب، الذي يتلقى خبر قدوم هذا المولود غير المناسب، فيكون في حالة حداد. في حين يحتفل بالمولود الذكر بإطلاق الرصاص. أما البنت فتمسي متداولة مثل النقد بين العائلات دون استشارتها، وتقضي كل حياتها في حالة من الشعور بالنقص، التبعية والإهانة، وحتى زوجها لا يتنازل لتناول الطعام معها.
في مواجهة هذا الوضع من الغل السلفي، ماذا يمكن أن يكون رد فعلها؟ ظاهرياً، الإذعان التام. تنجز عملها مثل ساعة، تقبل وتذعن لنظام القيم الذي يجعل منها مجرد شي كباقي الأشياء العادية. مع ذلك، إذا تعمقنا بدقة أكبر في المسألة. سيتضح لنا أن المرأة الباشتونية في واقع الأمر ساخطة ، محتجة وترعى تمردها. في مواجهة هذا الاحتجاج الدفين، الذي يقسو من يوم لآخر، لا تدلي في النهاية سوى بشهادتين: انتحارها وأغنيتها.
فيما يخص الانتحار، نعلم أن قانون الشرف القبلي يعتبره مثل الجبن ويحرمه الإسلام. لا يلجأ الرجل الباشتوني إلى هذا بتاتاً. وللتهرب من هذه السمة الشائنة، تعلن المرأة كرهها المأساوي لعرف المجتمع. حتى اختيار وسيلة الموت تحدد اتجاه التضحية: ولا يتم هذا إلا بتناول السم أو الغرق طواعية. ليس هناك رصاصة في القلب، ولا شنق، لأن البديل الضروري - البندقية أو الحبل - وثيقا الصلة باليد. بالبندقية يصطاد الرجل ويحارب، وبالحبل يربط الحيوان والحطب ويجر الأحمال الثقيلة …
إذا كانت المرأة الباشتونية بانتحارها تقوم بعمل اجتماعي غير قابل للاسترداد، فإنها تطور بأغنيتها تحد ذي طبيعة شخصية يمكنه هو أيضاً بطريقته أن يبدو مهلكاً. تثير هذه الألحان بلا كلل ثلاثة مواضيع لها طعم الدم : الحب، الشرف، والموت.
I
حب المرأة محرم، محكوم في الحياة الباشتونية والمشاعر الدينية بقانون الشرف. لا يملك الشباب الحق في المعاشرة، الحب والاختيار. الحب إثم كبير عقابه الموت، حيث يقتل العاقون ببرودة. مذبحة المحبين ( دوماً ودون استثناء امرأة ) ما يثير عملية ثأر بين العائلات لا نهاية لها.
الفتيات الشابات أشياء يتم مقايضتها ، وتقرر زواجهن سياسة القبيلة في العلاقات العائلية. لا تدخل المشاعر الشخصية للشباب في الحسابات، مما يفسر أن الأغنية في اللانداي هي دوماً صرخة فراق. فإما يغادر المحب البلاد لكسب قوته في مكان آخر، أو يقطن في قريته، لكن الموانع الاجتماعية لا تسمح له بالاتصال بحبيبته. الأب والأخوة هناك يحمون بشراسة عدم فساد النظام. في بيت الزوج، تعاني المرأة ثانية أكثر من نوعين من الزواج غير المتكافئ: إذ غالباً ما يكون زوجها طفلاً، وهذا الرفيق المفروض عليها ما تدعوه " البشع الذميم " . ليس هناك لانداي واحد يشير إلى حب زوجي أو مشاعر رقيقة تجاه الزوج ووفاء له. الحب والوفاء مقتصران على العشيق.
وعليه تستحضر المرأة هاتين العلاقتين غير المتكافئتين :
وهبني القدر زوجاً طفلاً أرعاه
لكن يا الهي، حين يكبر ويصبح قوياً، سأكون كهلاً ضعيفة.
***
أيها البشر القساة، ترون كهلاً يجرني لفراشه
وتسألون لِمَ أبكي وأشد شعري .
لكن رتابة الوجود لا تساعدها على تحمل لامبالاة الحياة الزوجية التي تحياها بصعوبة:
يا رب! هبني مجدداً ليل قاتم
ومجدداً ارتعش واقفة على أصابع قدمي، لأني مجبرة على الصعود لفراش أكرهه.
**
يا رب! مجدداً الليل طويل حزين
ومجدداً هنا " بشعي الدميم " نائم
من جهة أخرى هي تخدم " البشع الدميم " جيداً، لنستمع:
يا حبيبي، اهبط على فراشي، لا تخش شيئاً
إذا انكسر، " البشع الدميم " هنا يصلحه.
***
يستاء " البشع الدميم " عندما تأتي إلى بيتنا، يا حبيبي.
توقف عن المجيء. من مصراع الباب سأقبلك.
لكن في هذا المضمار من الحب، تعبر المرأة موضع النزاع، عن عاطفتها المتمردة بأسلوب أبلغ. ففي مجتمع حيث تعتبر الرغبة والجنس من المحرمات الكبيرة، لا تخشى من الاقتراب من هذه المواضيع ومعالجتها بصدق قاس ودون اللجوء إلى طرق ملتوية. بين الجسد والدم، تفتخر بتعظيم جسدها، الحب الجسدي والثمرة المحرمة. تتصرف كما لو أنها تريد، عن طيب خاطر، صدم وفضح الرجال، وتستفزهم في فحولتهم نفسها. ما يمنح قوة خاصة لهذا الخطاب أنها لا تضفي رقة أو شفقة عليه.
كل امرأة تصرخ بأعلى صوتها معلنة عن حبها وتحدث فضيحة في المجتمع:
أحبه ! أحبه ! لا أخفي ذلك، لن أنكره.
حتى لو قطعوا كل شاماتي بالسكين .
*
الليلة الماضية كنت بجانب حبيبي، يا للوصال الذي لن يعود !
مثل جلجلة حلي، كنت أطنطن بين ذراعيه حتى آخر الليل.
*
ضع شفاك فوق شفتي
لكن دع لساني طليقاً لأكلمك عن الحب.
*
فمي لك ، التهمه لا تخش شيئاً.
فهو ليس مصنوع من سكر يوشك أن يذوب.
*
غداً المتعطشون لحبي سيرتوون
ذلك أني أريد أن أعبر القرية، وجهي مكشوف وشعري محلول.
*
خذني بين يديك أولاً ثم ضمني
بعدها أدر وجهي وقبل شاماتي واحدة تلو الأخرى.
*
تعال بقربي يا حبيبي
إذا كان خجلك يمنعك من لمسي، سأجرك بين ذراعي.
*
أليس هناك مجنون واحد في القرية ؟
لون سروالي الناري يحترق فوق فخذي.
*
يريدني حبيبي أن أقبله بين ورق التوت
وأنا أقفز من غصن لغصن لأهبه شفتي.
*
الديك اللعين وغناء فراقه الحزين لتوه صدح،
وحبيبي يغادر كطير جريح .
بيد أنه إذا دعت امرأة الباشتون الرجل للحب، فإنها لا تغويه قط لا برقتها ولا بعذوبتها. بل تستفزه في شرفه وكرامته، لكن في لعبة الجسارة هذه ، هي التي تتعرض لمجازفات أكبر، حيث بوسع الرجل الدفاع عن نفسه، الفرار، اللجوء إلى بلد ناءٍ ، بينما لا تملك المرأة مثل هذا الملاذ. مكشوفة، ليس لها سوى التعرض للذبح. مع ذلك لا يشكل هذا التغطرس أي وهم للخطر المحقق المترصد بها. إذا كانت راضية فقط بتشجيع الرجل المحارب الباسل، فإن ذلك يتم بأخذ بعض المجازفات.
قربك أنا جميلة، فاه، ذراع مفتوحان،
وأنت كجبان لا تقاوم السبات.
*
إذا كنت تبحث عن دفء ذراعي، ينبغي أن تخاطر بحياتك،
لكن إذا كنت تحرص على سلامتك، قبل الغبار عوض الحب.
*
تعال قبلني دون تفكير بالمجازفة، إذا قتلوك ليس هذا مهماً
يستشهد الرجال الحقيقيون دوماً في سبيل حب الجميلة .
*
أعطني يدك يا حبيبي وأذهب إلى الحقول
لنحب بعضنا أو نسقط معاً تحت نصل السكين.
ii
هذه النبرات التي هي بالنسبة للعبة الحب كالدعوة إلى القتل في فن الحرب، تلغي بجلاء القيم المرعية في المجتمع الباشتوني. تغذي الاضطرابات القلق في وعي الذكر، وتهدم حقوقه وكبريائه، ذلك لأن حياة القبيلة تعتمد أساساً على قانون الشرف ، فيمسي التحريض فخاً فظيعاً. أما وأن هذا الرهان الأساسي لا يمكن تغييره، لذلك تتفنن المرأة في تهييج هذا المنطق. أغانيها في هذا الحقل صدى أصيل للعلاقة بين السيد والعبد أو بعبارة شاعرية صرخات القامع والمقموع.
ما هو إذن موقف المرأة في اللانداي فيما يخص قانون الشرف في المجتمع الذكوري؟ عند سماع اللانداي، يخيل للمرء أنه يسمع ضحكة مدوية، ضحكة رنانة، قاطعة، طنانة عديمة الرحمة والشفقة.
يبدو هؤلاء الرجال الأقوياء الشرسون القساة لها كالأطفال، ويبدو أنها تقول لهؤلاء الأطفال الملتحون إنكم تفتخرون برجولتكم وتحبون اللهو كثيراً بلعبة الشرف، وأنا كذلك سأشارك في هذه اللعبة، وسأدفعكم لتحمل أكثر النتائج تطرفاً بسبب مبادئكم الراسخة.
تمر الأمور كما لو أن هذه المرأة الخانعة شيء مثل باقي الأشياء، مادة مقايضة اجتماعية، شيء رئيس في عرف الشرف، على وجه التحديد، فتصبح، بالسخرية الجدلية كائناً وإرادة. في هذا الميدان المسير من قبل الرجل ولصالحه تبدو كأنها تتحكم في الأمور، قالبة بذلك الوضع. تقرر أن تهرب من الذكر الذي يعتبرها ملكاً له، ويظن أنه يتحكم بها كما يشاء، عبر ألحانها فقط.
وعليه، عندما تندلع الاشتباكات المسلحة يضطر الرجل للذهاب، إذ لا يمكنه التملص منها، لأن فتيات القرية سيسخرن منه في حالة تخلفه. إذا حدث وأن عاد من معركة، سفر طويل أو من مغامرة ما سيتساءل بالتأكيد " ماذا تقول نساء القرية ؟ " على سبيل المثال، إذا رجع مهاناً أو مغلوباً في معركة دون أن يقضي على غريمه، أو دون أن يغنم أشياء ثمينة تمكنه من الحصول على أرض ، توسيع نفوذه أو إعادة احتلال منصب اجتماعي مفقود، يصبح من المستحيل عليه أن يعيش بطريقة شريفة في بيته تحت نظرة السخرية القاسية من زوجة صامتة. ظاهرياً، تبدو مطيعة، غير أنها باردة. وأخيراً يحدث انقلاب قوي في الوضع، فرأي المرأة ونظرتها يقرران كيف على الرجل أن يتصرف وفق قانون شرفها الخاص.
من جهة أخرى تتقبل امرأة الباشتون أفدح النتائج لموقفها حتى لو تعلق الأمر بأبنائها، فهي التي ترسلهم إلى حرب الثأر وتنصحهم بالتصرف كأبطال حتى لو لم يئوبوا أحياء . من يعود مصاباً، ينبغي أن تكون جروحه في الصدر لا الظهر. من جهة أخرى، عندما تتلقى خبر وفاة ابنها في ميدان الشرف، يبدو أننا أمام امرأة تتحكم في حنانها، محرومة من كل ضعف أمومي، ودون شك يمكن التأكيد أنها تفتقر إلى الإحساس الطبيعي المدعو ، حب الأم . تبدو كأنها خلقت من طينة مختلفة. عواطفها الإنسانية عميقة مثل أي عاطفة إنسانية أخرى، غير أن نفسيتها تفر من الأعراف المرعية. لا تحب هذه الأم بطريقة الأم العادية، لا تحب ابنها على طريقة الأم المعهودة، لا ترى فيه فلذة كبدها، بل رجلاً ينتمي إلى مجتمع ذكوري، أي المخيم المضاد. ثمة أسباب ثلاثة تفسر رد هذا الفعل الاستثنائي:
علاوة على العمل العبودي الذي تقوم به، فإن المهمة الأشد قسوة وصعوبة تكمن في العدد الكبير من الأطفال الذين ترعاهم. تشهد أكثر من نصفهم يقضون في أعمار مختلفة. ودون التطرق إلى الأشغال الشاقة التي تجرد المرء من إنسانيته، فإن المنظر كثير التكرر للأبناء الذين يموتون يقسي قلبها. بالإضافة، إلى هذه الحياة المشبعة بالعنف، تبدو عواطف الحنان وحب الأم ترف بعيد المنال.
يبدأ الابن في ضرب أمه حين يبلغ بالكاد سن المراهقة. تعتبر نوبات وحشيته وقسوته على أمه نوعاً من دخول حياة البالغين، وضمان على الحزم. يحضر الأب العروض التي يؤكد فيها ابنه ذكوريته بنوع من اللامبالاة المجاملة.
في المحصلة الأخيرة، الأطفال عموماً ثمار زواج إجباري.
الآن ، هذه بعض نصوص اللانداي التي تتعلق بالمكر الأعوج للشرف، حيث تضع المرأة الرجل في شرك قيمه الخاصة :
اذهب يا حبيبي، وانتقم لدم الشهداء
قبل أن تستحق اللجوء إلى نهدي.
*
هل يمكنك أن تموت في ساحة الشرف، يا حبيبي!
كي تتغنى الفتيات بنصرك كلما ذهبن لجلب الماء من النبع.
*
أواه يا حبيبي! إن كنت ترتعش بين ذراعي هكذا،
ماذا ستفعل عندما تنطلق ألف شرارة من صليل السيوف؟
اليوم إبان المعركة، أعرض حبيبي عن العدو.
شعرت بالعار لعناقه ليلة أمس .
*
عاد بثقوب رصاص بندقية جهنمية
سأضمد جراحك وأهبك شفتي.
*
إذا أعرضت عن العدو ، يا حبيبي، لا ترجع إلي !
اذهب وابحث لك عن مأوى في بلد بعيد .
*
حتى ولو وجدوك مقطعاً بسيوف حادة،
لا أريد أن يصل خبر هذه الفضيحة إلى مسامعي.
*
أرسلتك بيدي إلى الموت
وصعدت فوق السقف لأراك تتصدى لأول إطلاق نار .
*
أسرع يا حبيبي، قم بسرعة بالهجوم،
لقد راهنت عليك مع فتيات القرية.
iii
كلما كان للمرأة الباشتونية صلة مع الموت فإنها تدرك هذه اللحظة بطريقة خاصة. دعنا نلاحظ أولاً أننا لا نجد في مفرداتها أي أثر لكلمة "روح" ولا تعبير بديل مقارب. الكلمة العربية "روح" التي توحي بكينونة روحية مستقلة عن الجسد وتسمو على المادة، توجد في اللانداي فقط على لسان الأدباء والمتدينين. تستخدم المرأة كلمة الباشتو "سا" التي تعني حصرياً "التنفس" . استرجاع السا يعني وقف الشهيق والزفير، نهاية كل تنفس ليس إلا . وعليه' يبدو أن المرأة لا تهتم بروح مستقلة ومنفصلة عن الجسد. فقط تغني مصير الجسد وتميز عنصراً من هذا الواقع الجسدي: القلب. مركز العواطف، الفرح والحزن، الآمال العابرة، واليأس العميق. إلى حد ما، كثيراً ما تستخدم كلمة "القلب" لمنح نفسها صفة الشاهد. عبر هذا المصطلح المصطنع، تقسم المغنية نفسها وتخاطبها وتغني لها. كما ينظر للقلب أحياناً مجسداً، حيث يقارن بالطائر، الخراب، نافورة دم، فرن مقفل يلتهم لهبه.
وعليه بهذا الجسد تحس بالراحة مع نفسها، تتكلم عن نموه الهش، مثل الزهرة البرية في قمم الجبال، ثمالة عينيها الذابلة المتيمة، رحيق شفتيها، ثواب الأبطال، شاماتها الشبيهة بنجوم سماء وجه ندي، شعرها الأسود بلون الليل، نهودها الشامخة مثل رمان قندهار، فخذيها المخمليين …
مع ذلك، كلما فكرت بجسدها وقوة حبها أكثر، كلما ازدادت إدراكاً لتعاقب الأيام وسمات الوجود الزائل.
أسرع يا حبيبي، أريد أن أهبك شفتي !
يجول الموت في القرية ويمكن أن يأخذك.
*
تعال واجلس لحظة بجانبي يا حبيبي.
الحياة سريعة مثل أفول أمسية شتائية ماضية .
*
افتح ضريحي، يا حبيبي، وشاهد
الغبار الذي يغطي النشوة الحلوة لعيني .
*
أيها اللحد الخراب، أيها القرميد المشتت، لم يعد حبيبي سوى رماداً
وريح السهل تذروه بعيداً عني .
يظهر أن امرأة الباشتون، ابنة الأرض المخلصة، تؤمن بان الموت عودة بسيطة إلى المواد الأولية : الريح، الغبار، العشب، الماء، النار . لا تحلم بحياة بعد الموت، إذ ليس هناك قطعة لانداي نسائية واحدة تعبر عن أمل أو خوف من عالم آخر. على النقيض، ما يحكم يأسها العميق أنها لم تعش زمناً كافياً وأنها لم تحس جمالها، شبابها ومسرات الحب ما فيه الكفاية. ما يجعلها تعاني ليس إطلاقاً الخوف من المصير المجهول أو الندم على الأخطاء التي ارتكبتها، بل الندم على الانقراض وبها جوع لم يشبع قط بالقوت الأرضي، والظمأ الذي لن يروى فيها للسعادة الإنسانية الوحيدة.
تسمو المرأة الباشتونية بنفسها عبر أغانيها لتبلغ مرتبة بطلة تراجيدية، دون وهم بحياتها المستقبلية ويقينها أن أي حب أرضي محكوم بالفشل والموت . مصيرها مرسوم في حيز شاسع، لكن قانون الرجال منسوج من الممنوع. كما تغذي صورتها بما هو في متناول يدها : الطبيعة المحيطة بها. هي بسيطة دون تعقيد، مثل رسم هضاب عارية . نقية ، شفافة ومندفعة، مثل سيل الوديان الصخرية. جميلة ، مهيبة وصلبة، مثل الجبل الذي يعكس زرقة الهندوكوش.
1
خفية أكتوي، خفية أبكي
أنا امرأة الباشتون التي لا تقدر الإفصاح عن حبها.
2
اختبأت خلف الباب
وخلسة طالعتني، أدلك نهدي العاريين.
3
طواعية سأهبك شفتي
لكن لم عليّ أن أهز جرتي؟ فأنا مبتلة تماماً.
4
أيها الربيع! شجر الرمان مزهر
من حديقتي، سأحتفظ لحبيبي البعيد ، برمان صدري .
5
الليل، الشرفة مظلمة، والمضاجع عديدة
خشخشة أساوري ستهديك، يا حبيبي، إلى الطريق.
6
خذني أولاً بين ذراعيك، كن لي
بعدها فقط بإمكانك أن تلتف حول فخذي المخمليين.
7
ضمني برغبة تحت ضوء القمر الوضاء
في تقاليدنا، نهب شفاهنا في النور الساطع.
8
تعال كن زهرة على صدري
لأنعشك كل صباح بضحكة مدوية.
9
فعلت بي كل ما أردت
ضع الآن غطاءً على وجهي: فأنا أريد أن أنام.
10
حذار، تماسك، لا تفقد رباطة جأشك
مثل فنن مزهر مائل فوق الرأس، أنا بقربك.
11
يحرمك الله من كل متعة في السفر
لأنك تركتني هاجعة غير مشبعة.
12
الجبال، يا حبيبي، في الناحية الأخرى، تأمل القمر ملياً
تراني فوق السقف في انتظارك.
13
الليلة الماضية رقدت بين ذراعي
بعيداً عني هذه الليلة، كيف ستجد الراحة ؟
14
من صدري صنعت سريراً
حبيبي المنهك يسير على الدرب الطويل قادماً إلي.
15
سطع نور الفجر الأبيض
وأنا المسكينة، أحاول دوماً أن أثلج صدر حبيبي المستاء.
16
لا يعرف حبيبي المزاح
بضفائري الطويلة ضربته برفق، فغضب فجأة.
17
يود حبيبي أن يقبض على لساني في فمه
ليس متعة، بل ليمارس حقوقه الثابتة عليّ.
18
ألا تخجل بلحيتك البيضاء ؟
أنت تتحسس شعري، فأضحك في قرارة نفسي.
19
لن أتخذ قط عشيقاً مسناً
يبدد الليل في التخطيط، ويدعي أنه متأهب في الصباح .
20
واحد يموت لرؤيتي لحظة
وآخر يلقي بي خارج السرير مدعياً أنه نعسان.
21
ضفرت شعري، لكنه انحل .
لابد أن حبيبي المسافر يصادف الخطر، أحفظه يا ربي.
22
ماذا يعرف غير أن يتصرف كبطل
رغم أني أضع ذراعي البيضاوين وسادة تحت رأسه.
23
الليلة الماضية رأيت في المنام
أني مسافرة في سريري، حيناً مسجية، وبين ذراعي حبيبي حيناً آخر.
24
بسرعة تعال يا حبيبي، لأهبك شفتي
حلمت أنك ميت الليلة الماضية، فأصبت بالجنون.
25
في لحظة ستصبح حفنة من رماد
إذا رمقتك بنظرة ثملة.
26
ثملت لأني ابتسمت لك
إذا وهبتك شفتي، ستصاب بالجنون.
27
أجل صيحتك أيها الديك
فلقد وافيت حبيبي من لحظات وأنا بين ذراعيه.
28
ابعد خصلة الشعر السوداء عن جبيني، قبل شامة حسني
فهي فاكهة الجنة، جالبة الحظ طيلة الحياة .
29
تعلم كيف تلتهم شفتي
أولاً، ضع شفتيك، ثم أضغط على خط أسناني برفق.
30
الليلة الماضية رأيت في المنام حلماً تحقق
حبيبي الوجل ضمني بين ذراعيه في وضح النهار.
31
تنازلت لك فقط عن حظوة شفتي
فلا تبحث دون جدوى عن عقدة حزامي.
32
مر بيدك في تجاويف أرداني برفق
رمان قندهار أزهر، ونضج قبل حين .
33
لون سروالي، المنزلق على فخذي، ناري
قلبي يحدثني أنك آت الليلة هذا المساء أو غداً.
34
يا الهي، ماذا تفعل بي ؟
الآخرون زهور تفتحت وأنت تركتني برعم .
35
تعال، يا حبيبي، بسرعة تعال قربي
" البشع الدميم " نائم وبإمكانك عناقي.
36
من سوء حظه لم يأت ليلة أمس!
وحيدة بقيت طوال الليل واقفة فوق السطح.
37
مستلقية أود أن أعانقه
لكن حبيبي حذر يخشى أن يستيقظ " البشع الدميم ".
38
قرب الزهور يرتاح حبيبي
يغطيه ندى أرق قبلاتي.
39
اجمع الحطب، أضرم ناراً كبيرة
فأنا اعتدت أن أهب نفسي في نور ساطع.
40
أملك أساور لا البسها
منذ أن التحقت بحبيبي، ذراعي عارية دون حلي.
***
iv
ما سبق - هذه الدراسات واختيارات اللانداي - يعيد بعث وجه المرأة الباشتونية قبل ابريل/نيسان 1978، أي قبل الخراب والقتلى والرعب. لم تشهد البلاد دماراً مثل الذي أحدثه الانقلاب الشيوعي، ثم الغزو السوفيتي. الاعتقالات، التعذيب، الإعدام بلا محاكمة، تدمير القرى، حريق الحصاد، كان كله نتيجة إستراتيجية رعب لا يهدف إلا إلى فرض سلام سوفيتي يماثل سلام القبور.
مثال من بين ألف: مذبحة كيرالا. في مطلع الربيع وفي أمسية من مارس/آذار 1979، هاجمت مجموعة من المقاومة مركزاً حكومياً قرب تشاقهاساراي، المركز الإداري لإقليم جنار. في اليوم التالي، قيد كل رجال جنار إلى ساحة القرية. قام آمر الحامية، عضو في حزب الخلق، بفتح النار عليهم وأمر ضباطه بفعل ذلك أيضاً دون تمييز. قتل كل الرجال البالغين، بلغ عددهم ألف وسبع مئة، في دم بارد. الناجون الوحيدون كانوا: الأطفال والنساء. حالياً يشغل المسنون والأيتام من جنار قسماً خاصاً في مخيم لاجئين في باكستان. إنه مكان يخيم عليه الصمت، بين الحداد والجنون، ولا تغني فيه أي امرأة .
كانت مظاهرة ابريل/ نيسان 1980 الحاشدة، بعد غزو أفغانستان من قبل الجيش الأحمر في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1979، من تنظيم النساء. نزلت طالبات المدارس، والمدارس الثانوية في كابول، طالبات المدارس العليا، المدرسات، الموظفات وحتى ربات البيوت إلى الشوارع واتجهن إلى قصر الحكومة. تدخلت الدبابات الروسية وسقطت عشرات من القتلى والجرحى.
شتمت ناهد، إحدى منظمات المظاهرة، مسؤول البارشامي الذي صوب عليها بندقيته:
" أيها النذل الصغير ! حيث أنك عاجز عن حماية شرفك، فإنك لم تعد رجلاً. هيا خذ خماري ضعه على رأسك وأعطني سلاحك. سندافع نحن النساء عن هذه البلاد أفضل منك ".
أطلق عليها النار وأرداها قتيلة. أصبحت منذ ذلك الحين رمزاً للمقاومة النسائية وخلد عديد من اللانداي اسمها.
ناهد الجميلة قامت وصرخت بأعلى صوتها:
انهضن يا أخواتي للدفاع، الوطن بحاجة إلي.
وهكذا تكبدت أفغانستان إبان التسع سنوات الأخيرة من الحرب أفظع دمار وأقسى مجازر دموية. من عدد السكان البالغ ستة عشر مليون، رحل ربعهم إلى البلدان المجاورة، مما يشكل أكبر عدد من المهاجرين في العالم، منهم ثلاثة ملايين مهاجر داخل البلاد نفسها، حيث تم نقلهم إلى مناطق مغايرة لمناطقهم، فجاءوا واستقروا في كابول. أما القتلى فيعدون بالآلاف. كان الباشتون أكثر من تأثر بحركة التنقل الإجبارية بسبب موقع أراضيهم الحدودية، فرحلوا إلى باكستان. أقام معظم الرجال والنساء الذين حفظوا تقاليد الشعر الشفوي، خاصة اللانداي ، في هذه المخيمات. غير أن هذا لم يخمد الإبداع الشعري، بل على النقيض، وفرت الظروف المرعبة للمنفي له دفعة يائسة لا يمكن كبتها.
ازداد، في خضم المقاومة وبين اللاجئين، عدد المساهمين في قرض الشعر بشكل ملحوظ. طبع من يعرف الكتابة والقراءة قصائدهم في مجموعات، والباقون غنوها وسجلوها على أشرطة وحاولوا توزيعها.
يصدق هذا واللانداي الذي انبثق بوفرة، ناتجاً تارة عن الأدباء وأخرى عن الأميين. الفارق لم يكن سوى في نوعية الموضوع. أمست مواضيع الحب والشبق أقل شهرة وذلك لهيمنة الحماسة الدينية، الدعوة للحرب المقدسة، الحنين إلى أرض الأجداد، حس الشرف وتمجيد البطولة…
يتبع اللانداي النسائي في زمن النفي السياق نفسه، مع اختلاف رئيسي يتمثل في غياب اللازمة الدينية الموجودة لقوة وهوس وشكل نمطي عند الرجال. بالمثل، فقد الإلهام خفته، صوته التهكمي والحسي الجسور. بالأحرى، ركز اللانداي النسائي الجديد على البعد كونه اقتلاعاً وجرحاً : بعد الحبيب عن المعركة والبعد عن أرض الوطن .
تخاطب المرأة المنفية الريح :
أيها النسيم الذي يهب من قرب الجبال التي يقاتل فيها حبيبي،
أي رسالة تحمل لي ؟
تجيب الريح :
رسالة حبيبك البعيد رائحة بارود المدفع
وغبار الدمار الذي أجرجره معي .
مهما كانت المواضيع التي تطورت في الأغاني الجديدة، يبقى جناح الحرب المظلم ويأس الرحيل السمة الملازمة للأنغام. وحين يتعلق الأمر بموضوع المنفى بشكل مباشر أو المعركة الوطنية، فإن هذا أمر بديهي لا نقاش فيه، لكن حين يبرز الشكل الشائن " للبشع الدميم " غالباً ما تظهر العلاقة لضرورة الصراع بشكل جلي. يحافظ الحب المتوهج وحده على اللهب القديم دون مساس: حيوية، متمردة، حرة وحتى متحررة.
تمثل قطع اللانداي هذه التي ترتجل اليوم في المخيمات المواضيع الأربعة الرئيسة، إنها الأصداء المحتضرة للصوت النسائي القوي والمجهول.
المنفى
يا حبيبي، يا شمسي، قم في الأفق، اطمس ليالي منفاي.
غياهب ظلمات الوحدة تغطي كل أجزاء جسمي.
العيش في أرض المنفى هذه يدمر القلب،
أرجعني يا الهي إلى سفوح جبالي الشاهقة.
*
حل الربيع، الأوراق تنبت على الغصون
لكن في بلادي فقدت الأشجار أغصانها تحت وابل رصاص الأعداء.
*
الهي، يمكنك أن تعميني من الآن
رحل حبيبي ولا أود رؤية وجوه الآخرين .
*
أصدقائي، من سأختار من الاثنين؟
الحداد والمنفى يأتيان بيتي معاً.
×××
القتال
يا أخوتي، اعقدن حجابكن مثل الأحزمة،
احملن البنادق واذهبن إلى ساحة الوغى.
*
فوق أرض بلادي، مذاق دم الشهداء
هو الزنابق الحمراء لربيع الحرية .
إذا لم تحمل جرحك في صدرك
لن أبالي حتى إذا ثقب ظهرك مثل مصفاة .
*
إن كنت تحبني حقاً، يا حبيبي، غادر وحرر أرضنا
ستصبح شفتاي ملكك بمثل هذه الرقة واللذة إلى الأبد.
×××
البشع الدميم
ينام " البشع الدميم " بجانبي متناسياً المعركة.
لن يحظى بالنوم قربي سوى من كان مستعداً للموت في سبيل الوطن.
*
" البشع الدميم " لا يفعل شيئاً: لا الحب ولا الحرب.
في المساء، حالما يملأ البطن، يرقد ويشخر حتى السحر.
*
قفزت في النهر، فلم تجرفني الأمواج
" البشع الدميم " محظوظ، يلقي بي دوماً مرفوضة على الضفة.
*
لا يود " البشع الدميم " الموت إثر حمى أصابته،
قررت أن أدفنه في الغد حياً.
*
افتح ثغراً في الحائط ، قبلني على الشفة،
" البشع الدميم " بناء وسيتمكن من ترميمه.
×××
الحب
كيف جئت تحت القمر الساطع،
أنت شامخ مثل شجر الدلب، أين سأخفيك ؟
*
تعال، يا حبيبي، كي أضمك إلى صدري،
أنا نبات اللباب الهش الذي سيأخذه الخريف قريباً.
*
أتمنى أن يدعى إلى بيتنا،
لأذيقه طرف شفتاي الندية.
*
إذا لم تعرف كيف تحب،
لماذا أيقظت قلبي النائم ؟
*
ترتبط الفتيات الأخريات بحب جديد،
وأنا أخيط خرق حب قديم .
*
حل منتصف الليل وأنت لا زلت غائباً.
أغطيتي مشتعلة وتحرقني.
تعال، يا حبيبي، أسرع ، أشبعه
فرس قلبي الأشقر أرهقه اللجام .
*
إذا بقيت قوة اللانداي يبدو أن القدرة على الارتجال ستدوم بفضل القفزة القوية التي تكون دوماً فوق القدرة الإنسانية. لأن المرأة الباشتونية في المنفي تجد نفسها محرومة من كل هذه الأدوار والامتيازات. فلقد حجبت، وهي القابعة داخل خيمتها، أكثر وأكثر بفعل ضغوط الآراء الدينية المتعصبة. لم تعد تملك حقولاً تزرعها، لا يسمح لها بالخروج سافرة، ولا حرية الغناء والرقص في الأعراس. أصبحت مثل سمكة ألقي بها خارج النهر وانتهت، كنبتة مقلوعة تجف تحت الشمس اللاهبة.
أما الرجال، فقلما يفهمون المرأة، يعتبرونها مساعد نافع يسوقونها مثل النوق، الخراف أو الخيول التي تمثل أملاكهم. رغم ذلك، ودون أن يعلموا لا تعد النساء تابعات لهم، إذ لا تزال قلوبهن ضائعة وأرواحهن تائهة في سهول أفغانستان. ينجحن ثانية، بسبب الألم المتزايد والتشويه المضاعف، في خداع أترابهن وانتزاع ما يملكن، لأنهن مخلوقات مهجورة.
تمثل المرأة البشتونية ، القاسية والحنونة، العنيفة واللطيفة، الماكرة والساذجة ، ذروة فكرة المرأة المنفية. فهي تقبع في منأى عن روحها وتعيش في قطعية مع قلبها وتبقى لامبالية - باستثناء ما يتعلق بالمعركة الوطنية - بمطالب الرجال كما هو الحال وألعاب الأطفال. أمنيتها الوحيدة هي الرجوع إلى القرية وجلب المياه من النبع في سفح الجبال الشاهقة الثلجية.
تموت هذه المرأة المنفية كل لحظة
تدير وجهها نحو مسقط رأسها،
كي تتحرر من شهيقها الأخير.
* اغتيل سعيد بهو الدين مجروح - مواليد 12 فبراير شباط 1928، في 11 فبراير شباط 1988 في بشاور.
حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة مونبلليه،
عميد كلية الآداب في جامعة كابول، وحاكم مقاطعة كابيشا.
بعد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، نفي إلى بيشاور حيث أسس مركز المعلومات الأفغاني الذي نشر في العالم تقارير كاملة وتحاليل حول المقاومة.
كاتب ملحمة صغيرة "الوحش الأناني"، التي تجمع الأعمال الشعرية الأفغانية الرئيسة في القرن العشرين.
يؤكد سعيد بهو الدين مجروح، وريث عمر الخيام، الصناعي، الرومي، وكذلك مونتان وديدرويت أيضاً، بقوة على جانب إنساني لا يختزل. جانب أغرى أندريه فيلتير بنقله في ملحقه المعنونة "كشاف منتصف الليل".
***
(عند وصوله، كان كل شيء قد انتهى. الصخب انتهى والجمهور تفرق ببطء.
غير بعيد من المكان، افتخر بعض المتدينين الوقورين بلحاهم المخيفة، عمامتهم وجلابيبهم السوداء التي سربلتهم بثوب جنائزي أكثر من تقاليدهم.
بلغ المسافر وسط المكان.
هناك، نصف مختفين تحت أكمة حجارة، كانت شابة وشاب يرقدان مغطيين بالوحل والدم.
سعيد بهو الدين مجروح
" ضحك العشاق "
.
دون أنموذج يقلد، دون مرجعيات شعرية يحتذى بها، يبدع مؤلفو أدب لغة الباشتون الشفوي في منأى عن الكتب. بشكل عام، يصونون مؤلفاتهم ، الخالية من المؤثرات الخارجية ومعونات الأبحاث الدراسية أو الجامعية ويمنحون أعمالهم قوة الصدى الرمزي لنتعرف عبرها على شعب بأكمله.
مع ذلك، عرف هذا الارتجال الشعبي كيف يطور أشكالاً عظيمة التنوع، ذات قواعد خاصة في نظم الشعر، وغير منفصل عن الغناء. مع ذلك، مثل هذا الشعر لا يهدف إلى خطابية الكلام المنمق. وإن كانت أوزانه وقوافيه تتحلى، قبل كل شيء، بأنغام قيمة.
أما فيما يخص المضمون، فاختلافه عن شعر الداري (الفارسي) جلي، إذ لا يمجد الحب الصوفي، ولا يكشف عن أي الهام موجه إلى سماء مجهولة، يتعذر سبرها، وغير قابلة للكشف. لا يكرس نفسه للمديح الإلهي، ولا يبدي أي تمثيل لمعلم مطلق يتحكم بحياة وموت مخلوقاته. صورة المراهق الجميل، هدف الشهوة الشاذة، مستبعدة هنا أيضاً.
لا يوجد أي صدى هنا للعب بالكلمات، الإفراط في العواطف والمجاز المتكلف - تمارين بلاغية أوصلها الأدب الفارسي يوماً إلى حدود اللامعقول.
من جهة أخرى، ثمة شيء بسيط وحيوي يؤكد نفسه دوماً هنا: أغنية كائن أرضي، بهواجسه، قلقه ، فرحه ومتعه، أغنية تحتفل بالطبيعة، الجبال، الوديان، الغابات، الأنهار، السحر، الغسق، فضاء الليل الجذاب. أغنية تقتات أيضاً على الحرب والشرف، العار والحب، الجمال والموت.
مع ذلك، فإن الأصالة العظيمة لهذا الشعر الشعبي تكمن في وجود المرأة الفعال . إن كانت، كما هو الحال في كل مكان، تساعد على الإلهام في أناشيد الذكر الرتيبة، فإنها تفرض نفسها هنا كمبدعة وبشكل خاص ككاتبة وموضوع عديد من الأغاني. يتطلب هذا النمط دوماً مشاركتها: اللانداي، الذي يعني حرفياً " الموجز " هو في الواقع قصيدة قصيرة جداً، بيتان من الشعر الحر يتكون الأول من تسعة مقاطع والثاني من ثلاثة عشر مقطعاً دون قافية إلزامية، لكن بتفعيلة داخلية قوية. مع اختلاف الأنغام وفق المناطق، كثيراً ما يبرز نقاش على طريقة الاستشهاد بالأقوال، بإلقاء يدعم شعور أو فكرة . مثل صرخة قلب، كالضياء، واللهب، يستحوذ اللانداي بإيجازه وإيقاعه على الألباب. من جهة أخرى، تصون هذه القصيدة المجهولة القائل التنافس شبه الدائم، فكل بعد ظهر، حين تذهب فتيات القرية لجلب الماء من النبع، أو حين يرقصن ويغنين في احتفال أو زفاف، يرتجلن لانداي جديدة، يترسب أفضلها على الفور في الذاكرة الجماعية.
وعليه، بإمكان الجميع، رجالاً ونساءً، التعبير عن شعور، رغبة، شكوى بواسطة هذين البيتين من الشعر الغنائي، لكن يساعد كلا الشكلين، النحوي والإلهامي، على تميز الاختلافات المحرضة. يستخدم المثقفون والكتاب مصطلحات معقدة، تلميحات قرآنية، تعابير فارسية وحتى عربية، كما تتسم مؤلفاتهم بالبراعة. على النقيض من ذلك، يبدي المنشدون ورجال الدين، من غير الحاصلين على ثقافة أدبية حيوية قوية، قليلاً من الحذلقة، وإن لم تبلغ ألحانهم أحياناً سوى بساطة اللانداي النسائي العميق والصافي، الذي ينبع بالتأكيد من مجتمع أمي أو على الأقل من أرض يباب. إذا كان اللانداي النسائي سهل، هش وجميل مثل الزهور البرية في السهول والجبال المجاورة، فإنه يولد دون بذر منتظم، حماية أو إعداد. من نظرة محددة، خارج المضمار، خارج الحقل الثقافي المقتصر على الرجال فقط، وخارج النطاق الاجتماعي. من جهة أخرى، لا تدع المشاعر والأفكار التي تحملها أي شك في جنس مؤلفيها: ليس بوسع الرجل الباشتوني قط خلق شيء محير، ولن يقدر حتى عن طريق المحاكاة. على سبيل المثال، من المستحيل عليه نفسياً أن يكتب عن عشيق يشك في رجولته أو كرامته مهانة.
وعليه، كل اللانداي المقدم في هذه الدراسة هو من المختارات الشعرية النسائية، التي تظهر أصالة أصواتها أنها فريدة، وتنبثق من هذه النصوص وجه مدهش تشدو فيها النساء ويتحدثن عن أنفسهن، الرجال والعالم حولهن، وجه أنوف ، قاسي القلب ومتمرد.
وضع المرأة في مجتمع الباشتون ، بتركيبته القبلية والدينية القوية، صعب بشكل خاص. مجموعات من المحاربين، يملك فيها الرجال البالغون الموالون للقبيلة فقط والمؤتمرون بأمرها حقوقهم كاملة. يدار هذا المجتمع كلياً وفق قيم الذكورية ، المعتمدة على قانون الشرف. وتعاني المرأة ، في مثل هذه البيئة المتطرفة الذكورية، ذات الشكل الورع والمتعصب، من اضطهاد مزدوج، جسدي ومعنوي.
جسدياً، تتحمل عبء أثقل أعمال البيت المضنية. أما إذا تبادل الرجال إطلاق النار من وقت لآخر، وذهبوا إلى الحقول عرضياً، فإن الجزء الأعظم من حياتهم يقضى في المساجد أو في ساحة القرية، حيث يناقشون شؤون القبيلة السياسية. من جهتها، تعمل المرأة طوال العام من قبل بزوغ الفجر وحتى وقت متأخر من الليل. بالإضافة إلى مساعدتها في الحصاد الموسمي، فإنها تتحمل الكد الدائم بشكل منتظم دون راحة أو عطلة. تذهب كل يوم مرتين، في الصباح والمساء، في مهمة جلب الماء الشاقة من النبع أو النهر، وتقطع أحياناً مسافات طويلة، وهي تحمل على الرأس أو تحت الذراع جراراً في غاية الثقل. تعتني بالأطفال، الذين هم دوماً عديدون، والطهي والماشية، تطحن الحبوب، تحضر الطحين، تخبز الخبز، تغزل الصوف، تخيط الملابس، تجفف السماد الحيواني وتسقي الزرع … الحال أن هذه المرأة لا تتذمر أبداً من عملها العبودي. يندر وجود لانداي تشير فيه إلى "الأصابع المخملية " التي تلتقط بها سنابل الحنطة، أو جرتها الثقيلة جداً، التي كثيراً ما تسبب الآلام في الظهر.
في الواقع، الجانب الأخلاقي لعبوديتها ما يسبب أعظم معاناة. تحس بنفسها مقموعة مهانة وكائن من الدرجة الثانية. من المهد، تستقبل بالحزن والعار - عار لا تراعيه الأم، التي أنجبت ابنة . أما الأب، الذي يتلقى خبر قدوم هذا المولود غير المناسب، فيكون في حالة حداد. في حين يحتفل بالمولود الذكر بإطلاق الرصاص. أما البنت فتمسي متداولة مثل النقد بين العائلات دون استشارتها، وتقضي كل حياتها في حالة من الشعور بالنقص، التبعية والإهانة، وحتى زوجها لا يتنازل لتناول الطعام معها.
في مواجهة هذا الوضع من الغل السلفي، ماذا يمكن أن يكون رد فعلها؟ ظاهرياً، الإذعان التام. تنجز عملها مثل ساعة، تقبل وتذعن لنظام القيم الذي يجعل منها مجرد شي كباقي الأشياء العادية. مع ذلك، إذا تعمقنا بدقة أكبر في المسألة. سيتضح لنا أن المرأة الباشتونية في واقع الأمر ساخطة ، محتجة وترعى تمردها. في مواجهة هذا الاحتجاج الدفين، الذي يقسو من يوم لآخر، لا تدلي في النهاية سوى بشهادتين: انتحارها وأغنيتها.
فيما يخص الانتحار، نعلم أن قانون الشرف القبلي يعتبره مثل الجبن ويحرمه الإسلام. لا يلجأ الرجل الباشتوني إلى هذا بتاتاً. وللتهرب من هذه السمة الشائنة، تعلن المرأة كرهها المأساوي لعرف المجتمع. حتى اختيار وسيلة الموت تحدد اتجاه التضحية: ولا يتم هذا إلا بتناول السم أو الغرق طواعية. ليس هناك رصاصة في القلب، ولا شنق، لأن البديل الضروري - البندقية أو الحبل - وثيقا الصلة باليد. بالبندقية يصطاد الرجل ويحارب، وبالحبل يربط الحيوان والحطب ويجر الأحمال الثقيلة …
إذا كانت المرأة الباشتونية بانتحارها تقوم بعمل اجتماعي غير قابل للاسترداد، فإنها تطور بأغنيتها تحد ذي طبيعة شخصية يمكنه هو أيضاً بطريقته أن يبدو مهلكاً. تثير هذه الألحان بلا كلل ثلاثة مواضيع لها طعم الدم : الحب، الشرف، والموت.
I
حب المرأة محرم، محكوم في الحياة الباشتونية والمشاعر الدينية بقانون الشرف. لا يملك الشباب الحق في المعاشرة، الحب والاختيار. الحب إثم كبير عقابه الموت، حيث يقتل العاقون ببرودة. مذبحة المحبين ( دوماً ودون استثناء امرأة ) ما يثير عملية ثأر بين العائلات لا نهاية لها.
الفتيات الشابات أشياء يتم مقايضتها ، وتقرر زواجهن سياسة القبيلة في العلاقات العائلية. لا تدخل المشاعر الشخصية للشباب في الحسابات، مما يفسر أن الأغنية في اللانداي هي دوماً صرخة فراق. فإما يغادر المحب البلاد لكسب قوته في مكان آخر، أو يقطن في قريته، لكن الموانع الاجتماعية لا تسمح له بالاتصال بحبيبته. الأب والأخوة هناك يحمون بشراسة عدم فساد النظام. في بيت الزوج، تعاني المرأة ثانية أكثر من نوعين من الزواج غير المتكافئ: إذ غالباً ما يكون زوجها طفلاً، وهذا الرفيق المفروض عليها ما تدعوه " البشع الذميم " . ليس هناك لانداي واحد يشير إلى حب زوجي أو مشاعر رقيقة تجاه الزوج ووفاء له. الحب والوفاء مقتصران على العشيق.
وعليه تستحضر المرأة هاتين العلاقتين غير المتكافئتين :
وهبني القدر زوجاً طفلاً أرعاه
لكن يا الهي، حين يكبر ويصبح قوياً، سأكون كهلاً ضعيفة.
***
أيها البشر القساة، ترون كهلاً يجرني لفراشه
وتسألون لِمَ أبكي وأشد شعري .
لكن رتابة الوجود لا تساعدها على تحمل لامبالاة الحياة الزوجية التي تحياها بصعوبة:
يا رب! هبني مجدداً ليل قاتم
ومجدداً ارتعش واقفة على أصابع قدمي، لأني مجبرة على الصعود لفراش أكرهه.
**
يا رب! مجدداً الليل طويل حزين
ومجدداً هنا " بشعي الدميم " نائم
من جهة أخرى هي تخدم " البشع الدميم " جيداً، لنستمع:
يا حبيبي، اهبط على فراشي، لا تخش شيئاً
إذا انكسر، " البشع الدميم " هنا يصلحه.
***
يستاء " البشع الدميم " عندما تأتي إلى بيتنا، يا حبيبي.
توقف عن المجيء. من مصراع الباب سأقبلك.
لكن في هذا المضمار من الحب، تعبر المرأة موضع النزاع، عن عاطفتها المتمردة بأسلوب أبلغ. ففي مجتمع حيث تعتبر الرغبة والجنس من المحرمات الكبيرة، لا تخشى من الاقتراب من هذه المواضيع ومعالجتها بصدق قاس ودون اللجوء إلى طرق ملتوية. بين الجسد والدم، تفتخر بتعظيم جسدها، الحب الجسدي والثمرة المحرمة. تتصرف كما لو أنها تريد، عن طيب خاطر، صدم وفضح الرجال، وتستفزهم في فحولتهم نفسها. ما يمنح قوة خاصة لهذا الخطاب أنها لا تضفي رقة أو شفقة عليه.
كل امرأة تصرخ بأعلى صوتها معلنة عن حبها وتحدث فضيحة في المجتمع:
أحبه ! أحبه ! لا أخفي ذلك، لن أنكره.
حتى لو قطعوا كل شاماتي بالسكين .
*
الليلة الماضية كنت بجانب حبيبي، يا للوصال الذي لن يعود !
مثل جلجلة حلي، كنت أطنطن بين ذراعيه حتى آخر الليل.
*
ضع شفاك فوق شفتي
لكن دع لساني طليقاً لأكلمك عن الحب.
*
فمي لك ، التهمه لا تخش شيئاً.
فهو ليس مصنوع من سكر يوشك أن يذوب.
*
غداً المتعطشون لحبي سيرتوون
ذلك أني أريد أن أعبر القرية، وجهي مكشوف وشعري محلول.
*
خذني بين يديك أولاً ثم ضمني
بعدها أدر وجهي وقبل شاماتي واحدة تلو الأخرى.
*
تعال بقربي يا حبيبي
إذا كان خجلك يمنعك من لمسي، سأجرك بين ذراعي.
*
أليس هناك مجنون واحد في القرية ؟
لون سروالي الناري يحترق فوق فخذي.
*
يريدني حبيبي أن أقبله بين ورق التوت
وأنا أقفز من غصن لغصن لأهبه شفتي.
*
الديك اللعين وغناء فراقه الحزين لتوه صدح،
وحبيبي يغادر كطير جريح .
بيد أنه إذا دعت امرأة الباشتون الرجل للحب، فإنها لا تغويه قط لا برقتها ولا بعذوبتها. بل تستفزه في شرفه وكرامته، لكن في لعبة الجسارة هذه ، هي التي تتعرض لمجازفات أكبر، حيث بوسع الرجل الدفاع عن نفسه، الفرار، اللجوء إلى بلد ناءٍ ، بينما لا تملك المرأة مثل هذا الملاذ. مكشوفة، ليس لها سوى التعرض للذبح. مع ذلك لا يشكل هذا التغطرس أي وهم للخطر المحقق المترصد بها. إذا كانت راضية فقط بتشجيع الرجل المحارب الباسل، فإن ذلك يتم بأخذ بعض المجازفات.
قربك أنا جميلة، فاه، ذراع مفتوحان،
وأنت كجبان لا تقاوم السبات.
*
إذا كنت تبحث عن دفء ذراعي، ينبغي أن تخاطر بحياتك،
لكن إذا كنت تحرص على سلامتك، قبل الغبار عوض الحب.
*
تعال قبلني دون تفكير بالمجازفة، إذا قتلوك ليس هذا مهماً
يستشهد الرجال الحقيقيون دوماً في سبيل حب الجميلة .
*
أعطني يدك يا حبيبي وأذهب إلى الحقول
لنحب بعضنا أو نسقط معاً تحت نصل السكين.
ii
هذه النبرات التي هي بالنسبة للعبة الحب كالدعوة إلى القتل في فن الحرب، تلغي بجلاء القيم المرعية في المجتمع الباشتوني. تغذي الاضطرابات القلق في وعي الذكر، وتهدم حقوقه وكبريائه، ذلك لأن حياة القبيلة تعتمد أساساً على قانون الشرف ، فيمسي التحريض فخاً فظيعاً. أما وأن هذا الرهان الأساسي لا يمكن تغييره، لذلك تتفنن المرأة في تهييج هذا المنطق. أغانيها في هذا الحقل صدى أصيل للعلاقة بين السيد والعبد أو بعبارة شاعرية صرخات القامع والمقموع.
ما هو إذن موقف المرأة في اللانداي فيما يخص قانون الشرف في المجتمع الذكوري؟ عند سماع اللانداي، يخيل للمرء أنه يسمع ضحكة مدوية، ضحكة رنانة، قاطعة، طنانة عديمة الرحمة والشفقة.
يبدو هؤلاء الرجال الأقوياء الشرسون القساة لها كالأطفال، ويبدو أنها تقول لهؤلاء الأطفال الملتحون إنكم تفتخرون برجولتكم وتحبون اللهو كثيراً بلعبة الشرف، وأنا كذلك سأشارك في هذه اللعبة، وسأدفعكم لتحمل أكثر النتائج تطرفاً بسبب مبادئكم الراسخة.
تمر الأمور كما لو أن هذه المرأة الخانعة شيء مثل باقي الأشياء، مادة مقايضة اجتماعية، شيء رئيس في عرف الشرف، على وجه التحديد، فتصبح، بالسخرية الجدلية كائناً وإرادة. في هذا الميدان المسير من قبل الرجل ولصالحه تبدو كأنها تتحكم في الأمور، قالبة بذلك الوضع. تقرر أن تهرب من الذكر الذي يعتبرها ملكاً له، ويظن أنه يتحكم بها كما يشاء، عبر ألحانها فقط.
وعليه، عندما تندلع الاشتباكات المسلحة يضطر الرجل للذهاب، إذ لا يمكنه التملص منها، لأن فتيات القرية سيسخرن منه في حالة تخلفه. إذا حدث وأن عاد من معركة، سفر طويل أو من مغامرة ما سيتساءل بالتأكيد " ماذا تقول نساء القرية ؟ " على سبيل المثال، إذا رجع مهاناً أو مغلوباً في معركة دون أن يقضي على غريمه، أو دون أن يغنم أشياء ثمينة تمكنه من الحصول على أرض ، توسيع نفوذه أو إعادة احتلال منصب اجتماعي مفقود، يصبح من المستحيل عليه أن يعيش بطريقة شريفة في بيته تحت نظرة السخرية القاسية من زوجة صامتة. ظاهرياً، تبدو مطيعة، غير أنها باردة. وأخيراً يحدث انقلاب قوي في الوضع، فرأي المرأة ونظرتها يقرران كيف على الرجل أن يتصرف وفق قانون شرفها الخاص.
من جهة أخرى تتقبل امرأة الباشتون أفدح النتائج لموقفها حتى لو تعلق الأمر بأبنائها، فهي التي ترسلهم إلى حرب الثأر وتنصحهم بالتصرف كأبطال حتى لو لم يئوبوا أحياء . من يعود مصاباً، ينبغي أن تكون جروحه في الصدر لا الظهر. من جهة أخرى، عندما تتلقى خبر وفاة ابنها في ميدان الشرف، يبدو أننا أمام امرأة تتحكم في حنانها، محرومة من كل ضعف أمومي، ودون شك يمكن التأكيد أنها تفتقر إلى الإحساس الطبيعي المدعو ، حب الأم . تبدو كأنها خلقت من طينة مختلفة. عواطفها الإنسانية عميقة مثل أي عاطفة إنسانية أخرى، غير أن نفسيتها تفر من الأعراف المرعية. لا تحب هذه الأم بطريقة الأم العادية، لا تحب ابنها على طريقة الأم المعهودة، لا ترى فيه فلذة كبدها، بل رجلاً ينتمي إلى مجتمع ذكوري، أي المخيم المضاد. ثمة أسباب ثلاثة تفسر رد هذا الفعل الاستثنائي:
علاوة على العمل العبودي الذي تقوم به، فإن المهمة الأشد قسوة وصعوبة تكمن في العدد الكبير من الأطفال الذين ترعاهم. تشهد أكثر من نصفهم يقضون في أعمار مختلفة. ودون التطرق إلى الأشغال الشاقة التي تجرد المرء من إنسانيته، فإن المنظر كثير التكرر للأبناء الذين يموتون يقسي قلبها. بالإضافة، إلى هذه الحياة المشبعة بالعنف، تبدو عواطف الحنان وحب الأم ترف بعيد المنال.
يبدأ الابن في ضرب أمه حين يبلغ بالكاد سن المراهقة. تعتبر نوبات وحشيته وقسوته على أمه نوعاً من دخول حياة البالغين، وضمان على الحزم. يحضر الأب العروض التي يؤكد فيها ابنه ذكوريته بنوع من اللامبالاة المجاملة.
في المحصلة الأخيرة، الأطفال عموماً ثمار زواج إجباري.
الآن ، هذه بعض نصوص اللانداي التي تتعلق بالمكر الأعوج للشرف، حيث تضع المرأة الرجل في شرك قيمه الخاصة :
اذهب يا حبيبي، وانتقم لدم الشهداء
قبل أن تستحق اللجوء إلى نهدي.
*
هل يمكنك أن تموت في ساحة الشرف، يا حبيبي!
كي تتغنى الفتيات بنصرك كلما ذهبن لجلب الماء من النبع.
*
أواه يا حبيبي! إن كنت ترتعش بين ذراعي هكذا،
ماذا ستفعل عندما تنطلق ألف شرارة من صليل السيوف؟
اليوم إبان المعركة، أعرض حبيبي عن العدو.
شعرت بالعار لعناقه ليلة أمس .
*
عاد بثقوب رصاص بندقية جهنمية
سأضمد جراحك وأهبك شفتي.
*
إذا أعرضت عن العدو ، يا حبيبي، لا ترجع إلي !
اذهب وابحث لك عن مأوى في بلد بعيد .
*
حتى ولو وجدوك مقطعاً بسيوف حادة،
لا أريد أن يصل خبر هذه الفضيحة إلى مسامعي.
*
أرسلتك بيدي إلى الموت
وصعدت فوق السقف لأراك تتصدى لأول إطلاق نار .
*
أسرع يا حبيبي، قم بسرعة بالهجوم،
لقد راهنت عليك مع فتيات القرية.
iii
كلما كان للمرأة الباشتونية صلة مع الموت فإنها تدرك هذه اللحظة بطريقة خاصة. دعنا نلاحظ أولاً أننا لا نجد في مفرداتها أي أثر لكلمة "روح" ولا تعبير بديل مقارب. الكلمة العربية "روح" التي توحي بكينونة روحية مستقلة عن الجسد وتسمو على المادة، توجد في اللانداي فقط على لسان الأدباء والمتدينين. تستخدم المرأة كلمة الباشتو "سا" التي تعني حصرياً "التنفس" . استرجاع السا يعني وقف الشهيق والزفير، نهاية كل تنفس ليس إلا . وعليه' يبدو أن المرأة لا تهتم بروح مستقلة ومنفصلة عن الجسد. فقط تغني مصير الجسد وتميز عنصراً من هذا الواقع الجسدي: القلب. مركز العواطف، الفرح والحزن، الآمال العابرة، واليأس العميق. إلى حد ما، كثيراً ما تستخدم كلمة "القلب" لمنح نفسها صفة الشاهد. عبر هذا المصطلح المصطنع، تقسم المغنية نفسها وتخاطبها وتغني لها. كما ينظر للقلب أحياناً مجسداً، حيث يقارن بالطائر، الخراب، نافورة دم، فرن مقفل يلتهم لهبه.
وعليه بهذا الجسد تحس بالراحة مع نفسها، تتكلم عن نموه الهش، مثل الزهرة البرية في قمم الجبال، ثمالة عينيها الذابلة المتيمة، رحيق شفتيها، ثواب الأبطال، شاماتها الشبيهة بنجوم سماء وجه ندي، شعرها الأسود بلون الليل، نهودها الشامخة مثل رمان قندهار، فخذيها المخمليين …
مع ذلك، كلما فكرت بجسدها وقوة حبها أكثر، كلما ازدادت إدراكاً لتعاقب الأيام وسمات الوجود الزائل.
أسرع يا حبيبي، أريد أن أهبك شفتي !
يجول الموت في القرية ويمكن أن يأخذك.
*
تعال واجلس لحظة بجانبي يا حبيبي.
الحياة سريعة مثل أفول أمسية شتائية ماضية .
*
افتح ضريحي، يا حبيبي، وشاهد
الغبار الذي يغطي النشوة الحلوة لعيني .
*
أيها اللحد الخراب، أيها القرميد المشتت، لم يعد حبيبي سوى رماداً
وريح السهل تذروه بعيداً عني .
يظهر أن امرأة الباشتون، ابنة الأرض المخلصة، تؤمن بان الموت عودة بسيطة إلى المواد الأولية : الريح، الغبار، العشب، الماء، النار . لا تحلم بحياة بعد الموت، إذ ليس هناك قطعة لانداي نسائية واحدة تعبر عن أمل أو خوف من عالم آخر. على النقيض، ما يحكم يأسها العميق أنها لم تعش زمناً كافياً وأنها لم تحس جمالها، شبابها ومسرات الحب ما فيه الكفاية. ما يجعلها تعاني ليس إطلاقاً الخوف من المصير المجهول أو الندم على الأخطاء التي ارتكبتها، بل الندم على الانقراض وبها جوع لم يشبع قط بالقوت الأرضي، والظمأ الذي لن يروى فيها للسعادة الإنسانية الوحيدة.
تسمو المرأة الباشتونية بنفسها عبر أغانيها لتبلغ مرتبة بطلة تراجيدية، دون وهم بحياتها المستقبلية ويقينها أن أي حب أرضي محكوم بالفشل والموت . مصيرها مرسوم في حيز شاسع، لكن قانون الرجال منسوج من الممنوع. كما تغذي صورتها بما هو في متناول يدها : الطبيعة المحيطة بها. هي بسيطة دون تعقيد، مثل رسم هضاب عارية . نقية ، شفافة ومندفعة، مثل سيل الوديان الصخرية. جميلة ، مهيبة وصلبة، مثل الجبل الذي يعكس زرقة الهندوكوش.
1
خفية أكتوي، خفية أبكي
أنا امرأة الباشتون التي لا تقدر الإفصاح عن حبها.
2
اختبأت خلف الباب
وخلسة طالعتني، أدلك نهدي العاريين.
3
طواعية سأهبك شفتي
لكن لم عليّ أن أهز جرتي؟ فأنا مبتلة تماماً.
4
أيها الربيع! شجر الرمان مزهر
من حديقتي، سأحتفظ لحبيبي البعيد ، برمان صدري .
5
الليل، الشرفة مظلمة، والمضاجع عديدة
خشخشة أساوري ستهديك، يا حبيبي، إلى الطريق.
6
خذني أولاً بين ذراعيك، كن لي
بعدها فقط بإمكانك أن تلتف حول فخذي المخمليين.
7
ضمني برغبة تحت ضوء القمر الوضاء
في تقاليدنا، نهب شفاهنا في النور الساطع.
8
تعال كن زهرة على صدري
لأنعشك كل صباح بضحكة مدوية.
9
فعلت بي كل ما أردت
ضع الآن غطاءً على وجهي: فأنا أريد أن أنام.
10
حذار، تماسك، لا تفقد رباطة جأشك
مثل فنن مزهر مائل فوق الرأس، أنا بقربك.
11
يحرمك الله من كل متعة في السفر
لأنك تركتني هاجعة غير مشبعة.
12
الجبال، يا حبيبي، في الناحية الأخرى، تأمل القمر ملياً
تراني فوق السقف في انتظارك.
13
الليلة الماضية رقدت بين ذراعي
بعيداً عني هذه الليلة، كيف ستجد الراحة ؟
14
من صدري صنعت سريراً
حبيبي المنهك يسير على الدرب الطويل قادماً إلي.
15
سطع نور الفجر الأبيض
وأنا المسكينة، أحاول دوماً أن أثلج صدر حبيبي المستاء.
16
لا يعرف حبيبي المزاح
بضفائري الطويلة ضربته برفق، فغضب فجأة.
17
يود حبيبي أن يقبض على لساني في فمه
ليس متعة، بل ليمارس حقوقه الثابتة عليّ.
18
ألا تخجل بلحيتك البيضاء ؟
أنت تتحسس شعري، فأضحك في قرارة نفسي.
19
لن أتخذ قط عشيقاً مسناً
يبدد الليل في التخطيط، ويدعي أنه متأهب في الصباح .
20
واحد يموت لرؤيتي لحظة
وآخر يلقي بي خارج السرير مدعياً أنه نعسان.
21
ضفرت شعري، لكنه انحل .
لابد أن حبيبي المسافر يصادف الخطر، أحفظه يا ربي.
22
ماذا يعرف غير أن يتصرف كبطل
رغم أني أضع ذراعي البيضاوين وسادة تحت رأسه.
23
الليلة الماضية رأيت في المنام
أني مسافرة في سريري، حيناً مسجية، وبين ذراعي حبيبي حيناً آخر.
24
بسرعة تعال يا حبيبي، لأهبك شفتي
حلمت أنك ميت الليلة الماضية، فأصبت بالجنون.
25
في لحظة ستصبح حفنة من رماد
إذا رمقتك بنظرة ثملة.
26
ثملت لأني ابتسمت لك
إذا وهبتك شفتي، ستصاب بالجنون.
27
أجل صيحتك أيها الديك
فلقد وافيت حبيبي من لحظات وأنا بين ذراعيه.
28
ابعد خصلة الشعر السوداء عن جبيني، قبل شامة حسني
فهي فاكهة الجنة، جالبة الحظ طيلة الحياة .
29
تعلم كيف تلتهم شفتي
أولاً، ضع شفتيك، ثم أضغط على خط أسناني برفق.
30
الليلة الماضية رأيت في المنام حلماً تحقق
حبيبي الوجل ضمني بين ذراعيه في وضح النهار.
31
تنازلت لك فقط عن حظوة شفتي
فلا تبحث دون جدوى عن عقدة حزامي.
32
مر بيدك في تجاويف أرداني برفق
رمان قندهار أزهر، ونضج قبل حين .
33
لون سروالي، المنزلق على فخذي، ناري
قلبي يحدثني أنك آت الليلة هذا المساء أو غداً.
34
يا الهي، ماذا تفعل بي ؟
الآخرون زهور تفتحت وأنت تركتني برعم .
35
تعال، يا حبيبي، بسرعة تعال قربي
" البشع الدميم " نائم وبإمكانك عناقي.
36
من سوء حظه لم يأت ليلة أمس!
وحيدة بقيت طوال الليل واقفة فوق السطح.
37
مستلقية أود أن أعانقه
لكن حبيبي حذر يخشى أن يستيقظ " البشع الدميم ".
38
قرب الزهور يرتاح حبيبي
يغطيه ندى أرق قبلاتي.
39
اجمع الحطب، أضرم ناراً كبيرة
فأنا اعتدت أن أهب نفسي في نور ساطع.
40
أملك أساور لا البسها
منذ أن التحقت بحبيبي، ذراعي عارية دون حلي.
***
iv
ما سبق - هذه الدراسات واختيارات اللانداي - يعيد بعث وجه المرأة الباشتونية قبل ابريل/نيسان 1978، أي قبل الخراب والقتلى والرعب. لم تشهد البلاد دماراً مثل الذي أحدثه الانقلاب الشيوعي، ثم الغزو السوفيتي. الاعتقالات، التعذيب، الإعدام بلا محاكمة، تدمير القرى، حريق الحصاد، كان كله نتيجة إستراتيجية رعب لا يهدف إلا إلى فرض سلام سوفيتي يماثل سلام القبور.
مثال من بين ألف: مذبحة كيرالا. في مطلع الربيع وفي أمسية من مارس/آذار 1979، هاجمت مجموعة من المقاومة مركزاً حكومياً قرب تشاقهاساراي، المركز الإداري لإقليم جنار. في اليوم التالي، قيد كل رجال جنار إلى ساحة القرية. قام آمر الحامية، عضو في حزب الخلق، بفتح النار عليهم وأمر ضباطه بفعل ذلك أيضاً دون تمييز. قتل كل الرجال البالغين، بلغ عددهم ألف وسبع مئة، في دم بارد. الناجون الوحيدون كانوا: الأطفال والنساء. حالياً يشغل المسنون والأيتام من جنار قسماً خاصاً في مخيم لاجئين في باكستان. إنه مكان يخيم عليه الصمت، بين الحداد والجنون، ولا تغني فيه أي امرأة .
كانت مظاهرة ابريل/ نيسان 1980 الحاشدة، بعد غزو أفغانستان من قبل الجيش الأحمر في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1979، من تنظيم النساء. نزلت طالبات المدارس، والمدارس الثانوية في كابول، طالبات المدارس العليا، المدرسات، الموظفات وحتى ربات البيوت إلى الشوارع واتجهن إلى قصر الحكومة. تدخلت الدبابات الروسية وسقطت عشرات من القتلى والجرحى.
شتمت ناهد، إحدى منظمات المظاهرة، مسؤول البارشامي الذي صوب عليها بندقيته:
" أيها النذل الصغير ! حيث أنك عاجز عن حماية شرفك، فإنك لم تعد رجلاً. هيا خذ خماري ضعه على رأسك وأعطني سلاحك. سندافع نحن النساء عن هذه البلاد أفضل منك ".
أطلق عليها النار وأرداها قتيلة. أصبحت منذ ذلك الحين رمزاً للمقاومة النسائية وخلد عديد من اللانداي اسمها.
ناهد الجميلة قامت وصرخت بأعلى صوتها:
انهضن يا أخواتي للدفاع، الوطن بحاجة إلي.
وهكذا تكبدت أفغانستان إبان التسع سنوات الأخيرة من الحرب أفظع دمار وأقسى مجازر دموية. من عدد السكان البالغ ستة عشر مليون، رحل ربعهم إلى البلدان المجاورة، مما يشكل أكبر عدد من المهاجرين في العالم، منهم ثلاثة ملايين مهاجر داخل البلاد نفسها، حيث تم نقلهم إلى مناطق مغايرة لمناطقهم، فجاءوا واستقروا في كابول. أما القتلى فيعدون بالآلاف. كان الباشتون أكثر من تأثر بحركة التنقل الإجبارية بسبب موقع أراضيهم الحدودية، فرحلوا إلى باكستان. أقام معظم الرجال والنساء الذين حفظوا تقاليد الشعر الشفوي، خاصة اللانداي ، في هذه المخيمات. غير أن هذا لم يخمد الإبداع الشعري، بل على النقيض، وفرت الظروف المرعبة للمنفي له دفعة يائسة لا يمكن كبتها.
ازداد، في خضم المقاومة وبين اللاجئين، عدد المساهمين في قرض الشعر بشكل ملحوظ. طبع من يعرف الكتابة والقراءة قصائدهم في مجموعات، والباقون غنوها وسجلوها على أشرطة وحاولوا توزيعها.
يصدق هذا واللانداي الذي انبثق بوفرة، ناتجاً تارة عن الأدباء وأخرى عن الأميين. الفارق لم يكن سوى في نوعية الموضوع. أمست مواضيع الحب والشبق أقل شهرة وذلك لهيمنة الحماسة الدينية، الدعوة للحرب المقدسة، الحنين إلى أرض الأجداد، حس الشرف وتمجيد البطولة…
يتبع اللانداي النسائي في زمن النفي السياق نفسه، مع اختلاف رئيسي يتمثل في غياب اللازمة الدينية الموجودة لقوة وهوس وشكل نمطي عند الرجال. بالمثل، فقد الإلهام خفته، صوته التهكمي والحسي الجسور. بالأحرى، ركز اللانداي النسائي الجديد على البعد كونه اقتلاعاً وجرحاً : بعد الحبيب عن المعركة والبعد عن أرض الوطن .
تخاطب المرأة المنفية الريح :
أيها النسيم الذي يهب من قرب الجبال التي يقاتل فيها حبيبي،
أي رسالة تحمل لي ؟
تجيب الريح :
رسالة حبيبك البعيد رائحة بارود المدفع
وغبار الدمار الذي أجرجره معي .
مهما كانت المواضيع التي تطورت في الأغاني الجديدة، يبقى جناح الحرب المظلم ويأس الرحيل السمة الملازمة للأنغام. وحين يتعلق الأمر بموضوع المنفى بشكل مباشر أو المعركة الوطنية، فإن هذا أمر بديهي لا نقاش فيه، لكن حين يبرز الشكل الشائن " للبشع الدميم " غالباً ما تظهر العلاقة لضرورة الصراع بشكل جلي. يحافظ الحب المتوهج وحده على اللهب القديم دون مساس: حيوية، متمردة، حرة وحتى متحررة.
تمثل قطع اللانداي هذه التي ترتجل اليوم في المخيمات المواضيع الأربعة الرئيسة، إنها الأصداء المحتضرة للصوت النسائي القوي والمجهول.
المنفى
يا حبيبي، يا شمسي، قم في الأفق، اطمس ليالي منفاي.
غياهب ظلمات الوحدة تغطي كل أجزاء جسمي.
العيش في أرض المنفى هذه يدمر القلب،
أرجعني يا الهي إلى سفوح جبالي الشاهقة.
*
حل الربيع، الأوراق تنبت على الغصون
لكن في بلادي فقدت الأشجار أغصانها تحت وابل رصاص الأعداء.
*
الهي، يمكنك أن تعميني من الآن
رحل حبيبي ولا أود رؤية وجوه الآخرين .
*
أصدقائي، من سأختار من الاثنين؟
الحداد والمنفى يأتيان بيتي معاً.
×××
القتال
يا أخوتي، اعقدن حجابكن مثل الأحزمة،
احملن البنادق واذهبن إلى ساحة الوغى.
*
فوق أرض بلادي، مذاق دم الشهداء
هو الزنابق الحمراء لربيع الحرية .
إذا لم تحمل جرحك في صدرك
لن أبالي حتى إذا ثقب ظهرك مثل مصفاة .
*
إن كنت تحبني حقاً، يا حبيبي، غادر وحرر أرضنا
ستصبح شفتاي ملكك بمثل هذه الرقة واللذة إلى الأبد.
×××
البشع الدميم
ينام " البشع الدميم " بجانبي متناسياً المعركة.
لن يحظى بالنوم قربي سوى من كان مستعداً للموت في سبيل الوطن.
*
" البشع الدميم " لا يفعل شيئاً: لا الحب ولا الحرب.
في المساء، حالما يملأ البطن، يرقد ويشخر حتى السحر.
*
قفزت في النهر، فلم تجرفني الأمواج
" البشع الدميم " محظوظ، يلقي بي دوماً مرفوضة على الضفة.
*
لا يود " البشع الدميم " الموت إثر حمى أصابته،
قررت أن أدفنه في الغد حياً.
*
افتح ثغراً في الحائط ، قبلني على الشفة،
" البشع الدميم " بناء وسيتمكن من ترميمه.
×××
الحب
كيف جئت تحت القمر الساطع،
أنت شامخ مثل شجر الدلب، أين سأخفيك ؟
*
تعال، يا حبيبي، كي أضمك إلى صدري،
أنا نبات اللباب الهش الذي سيأخذه الخريف قريباً.
*
أتمنى أن يدعى إلى بيتنا،
لأذيقه طرف شفتاي الندية.
*
إذا لم تعرف كيف تحب،
لماذا أيقظت قلبي النائم ؟
*
ترتبط الفتيات الأخريات بحب جديد،
وأنا أخيط خرق حب قديم .
*
حل منتصف الليل وأنت لا زلت غائباً.
أغطيتي مشتعلة وتحرقني.
تعال، يا حبيبي، أسرع ، أشبعه
فرس قلبي الأشقر أرهقه اللجام .
*
إذا بقيت قوة اللانداي يبدو أن القدرة على الارتجال ستدوم بفضل القفزة القوية التي تكون دوماً فوق القدرة الإنسانية. لأن المرأة الباشتونية في المنفي تجد نفسها محرومة من كل هذه الأدوار والامتيازات. فلقد حجبت، وهي القابعة داخل خيمتها، أكثر وأكثر بفعل ضغوط الآراء الدينية المتعصبة. لم تعد تملك حقولاً تزرعها، لا يسمح لها بالخروج سافرة، ولا حرية الغناء والرقص في الأعراس. أصبحت مثل سمكة ألقي بها خارج النهر وانتهت، كنبتة مقلوعة تجف تحت الشمس اللاهبة.
أما الرجال، فقلما يفهمون المرأة، يعتبرونها مساعد نافع يسوقونها مثل النوق، الخراف أو الخيول التي تمثل أملاكهم. رغم ذلك، ودون أن يعلموا لا تعد النساء تابعات لهم، إذ لا تزال قلوبهن ضائعة وأرواحهن تائهة في سهول أفغانستان. ينجحن ثانية، بسبب الألم المتزايد والتشويه المضاعف، في خداع أترابهن وانتزاع ما يملكن، لأنهن مخلوقات مهجورة.
تمثل المرأة البشتونية ، القاسية والحنونة، العنيفة واللطيفة، الماكرة والساذجة ، ذروة فكرة المرأة المنفية. فهي تقبع في منأى عن روحها وتعيش في قطعية مع قلبها وتبقى لامبالية - باستثناء ما يتعلق بالمعركة الوطنية - بمطالب الرجال كما هو الحال وألعاب الأطفال. أمنيتها الوحيدة هي الرجوع إلى القرية وجلب المياه من النبع في سفح الجبال الشاهقة الثلجية.
تموت هذه المرأة المنفية كل لحظة
تدير وجهها نحو مسقط رأسها،
كي تتحرر من شهيقها الأخير.
* اغتيل سعيد بهو الدين مجروح - مواليد 12 فبراير شباط 1928، في 11 فبراير شباط 1988 في بشاور.
حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة مونبلليه،
عميد كلية الآداب في جامعة كابول، وحاكم مقاطعة كابيشا.
بعد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، نفي إلى بيشاور حيث أسس مركز المعلومات الأفغاني الذي نشر في العالم تقارير كاملة وتحاليل حول المقاومة.
كاتب ملحمة صغيرة "الوحش الأناني"، التي تجمع الأعمال الشعرية الأفغانية الرئيسة في القرن العشرين.
يؤكد سعيد بهو الدين مجروح، وريث عمر الخيام، الصناعي، الرومي، وكذلك مونتان وديدرويت أيضاً، بقوة على جانب إنساني لا يختزل. جانب أغرى أندريه فيلتير بنقله في ملحقه المعنونة "كشاف منتصف الليل".
***
(عند وصوله، كان كل شيء قد انتهى. الصخب انتهى والجمهور تفرق ببطء.
غير بعيد من المكان، افتخر بعض المتدينين الوقورين بلحاهم المخيفة، عمامتهم وجلابيبهم السوداء التي سربلتهم بثوب جنائزي أكثر من تقاليدهم.
بلغ المسافر وسط المكان.
هناك، نصف مختفين تحت أكمة حجارة، كانت شابة وشاب يرقدان مغطيين بالوحل والدم.
سعيد بهو الدين مجروح
" ضحك العشاق "
.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: