نقوس المهدي
كاتب
ان القرنين الرابع والخامس الهجريين، يمكن اعتبارهما من اغزر القرون العربية الاسلامية انجازاً في كافة المسارات العلمية والمعرفية والثقافية، ذلك ان هذين القرنين يشكلان حالة من القطاف الحضاري الحقيقي تصل الاندغام العربي بمعطى الحضارات الانسانية كافة، والتي استطاع العرب خلالها من صهر مكتسباتهم الحضارية والمعرفية من المنجز الحضاري الانساني في بوتقتهم - لابل والاضافة على هذا المنجز.
ولعل مجمل المكتسبات المعرفية التي استطاعت ان ترمم حال واحوال القطيعة المعرفية التي عاشها العربي لتلضمه مع تاريخه، ومع المعطى الحضاري العميق لتأريخه، تأتي من هذا القطاف الزخم المنجز في هذين القرنين.
ولعل الكتاب الذي بين يدينا والموسوم ب« مصارع العشاق» من تأليف جعفر السراج وتحقيق الباحثة الاردنية د. بسمة احمد صدقي الدجاني الصادر عن وزارة الثقافة الاردنية هو احد هذه القطافات.
لكن مايجب التوكيد عليه هو ذلك الجهد الدؤوب للباحثة الدجاني في تحقيق هذا الكتاب، الذي اضطرها إلى الذهاب إلى اكثر من عاصمة وإلى العديد من المكتبات التوثيقية والمراسلات والمتابعة الحثيثة لتحقيق هذا الكتاب بالشكل الابهى والاجمل والمكتمل.
وفي تعريفها لشخصية السراج تشير المحققة إلى ان ولادته كانت عام 419ه وعام وفاته هو 500 منوهة إلى ان السراج نشأ في العراق حاضرة الدولة الاسلامية الكبرى آنذاك في بيئة علمية دينية وحظي بوالد واع اتاح له تلقي العلم صغيراً مشيرة إلى ان المصادر التاريخية التي قدمت تعريفاً للسراج انه اخذ عن علي بن شاذان وسمعه وحدث عنه، علماً بأن أبا علي بن شاذان توفي وجعفر دون العاشرة من عمره.
وتكشف الباحثة الدجاني عن الخصوبة المعرفية للقرن الخامس الهجري الذي نشأ فيه السراج منوهة إلى الدور الهام للشيخات في العلوم الدينية وبخاصة في مجال الحديث، وتتطرق الدجاني إلى مسألة مهمة وهي دور التلميذات حيث يسجل التاريخ لواحدة منهن هي الشيخة شهدة بنت المحدث ابي نصر احمد بن الفرج الدنيوري الابري فضل تلقي (كتاب مصارع العشاق) عن السراج ذاته وهي صبية لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، ثم روايتها له في جلسات صالونها الادبي.
وتؤكد محققة كتاب مصارع العشاق على ان الكتاب يمثل حلقة في سلسلة حلقات الكتابات عن الحب في الحضارة العربية الاسلامية موضحة ان تأليف السراج لهذا الكتاب جاء بعد ان عرفت المكتبة العربية حوالي اربعة عشر كتاباً ورسالة في الموضوع قبله.
وحول الدلالة في اسم الكتاب تقول الدجاني: نقف بداية أمام الاسم الذي اختاره جعفر السراج لكتابه فنجده مؤلفاً من كلمتي «مصارع» و«العشاق» والمصارع في لسان العرب من صرع أي طرح ارضا، ويقال صرعته المنية أي مات، ومصارع العشاق حيث قتلوا، والعشاق من العشق وهو فرط المحبة، واللزوم للشيء لايفارقه، وقد ورد في لسان العرب ان العاشق سمي عاشقاً لانه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العشقة اذا قطعت، شجرة تخضر ثم تدق وتصفر.
وتقف الباحثة الدجاني عند الملامح التأسيسية لتأليف السراج لكتابه فتستدل على ان تأليف الكتاب تم في وقت طويل وعلى مراحل، كان السراج خلالها يدون في اوراقه مايتجمع لديه من الاخبار الادبية والابيات الشعرية، وما يعن على باله من نظم خلال اسفاره المتتالية ما بين بغداد ومصر والحجاز ولبنان، وان السراج اعتمد في كتابه على الرواية واخذ اخباره الادبية من مجالس العلم التي كانت تنعقد غالباً في المساجد، وكانت تعنى بألوان الادب من شعر واخبار ذلك ان المسجد هو المكان الذي روى فيه السراج كتابه على تلامذته في حلقاته العلمية.
وتؤكد الباحثة ان السراج اعتمد في كتابه التلقائية في رواية حكاياته موضحة اننا وفيما نتأمل في مادة كتاب «مصارع العشاق» وتولي عناية لقصص الحب العذري، وتحفل باخبار ادبية، وتهتم بأخبار المتصوفين واحوالهم في العشق مشيرة إلى ان مادة الكتاب بمجموعها ذات دلالة على الاحوال الاجتماعية في ذلك العصر.
وبحسب د. محمد حسن عبدالله في كتابه «الحب في الادب العربي» ان قصص مصارع العشاق تسير في اربعة اتجاهات، اولها مايتعلق بشخصيات تاريخية اشتهرت بالعشق مثل قيس وليلى، وجميل وبثينة، وكثير وعزة وثانيها قصص ابطالها من المجانين الذين غلبهم الوله فأفقدهم عقولهم، وهم يعيشون عادة في المارستان او الدير، يجلس احدهم في ظل حائط، او تحت شجرة قد ربط اليها، او ضمت قدماه في قيد، وهذا المجنون عادة من «ملامح المجانين» شاب لم ير أحسن منه وجهاً يستغرق في صمته، او يناجي بالشعر شخصاً غيور منظور، والاتجاه الثالث يتمثل في اخبار وليس في قصص، ابطالها من المتصوفة الذين عشقوا، والاتجاه الرابع: قصة فنية تتحرك بحرية، وتتكامل جوانبها بدوافع الاقناع والامتاع معاً.
وتنوه الدجاني الى ان السراج لم يعمد الى التحليل والتعاليل في تناوله موضوع العشق، وترك للقارئ ان يقوم هو بذلك من خلال قراءة ما في الكتاب مؤكدة ان هذا النهج نجده عند عدد من المؤلفين القدامى الذين اكتفوا بالرواية دون الدخول في فلسفة الموضوع وفقاً لما اعتمده اخرون تأثروا بالفلسفة اليونانية.
وعن الاثر الذي تركه كتاب مصارع العشاق على من الف في العشق بعد السراج في حضارتنا العربية الاسلامية تشير الى اعتماد ابو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي في كتابه «ذم الهوى» على قصص العشاق المأخوذة من كتاب «مصارع العشاق» فقدم كتابه اسواق الاشواق من مصارع العشاق للسراج:
وفي الدخول الى متن الكتاب نجد ان مصارع العشاق، يشكل ببراعة سرده، وسلاسة حكاياته، حالة بحثية عميقة تذهب كي تحفر عميقاً في التاريخ العربي الاسلامي، اذ يبدو السراج الحكاء وكأنه جغرافيا تطير بنطق الكلام وتتنقل بخفة محببة، الى روح القارئ العربي ووجدانه في كل امكنة العواصم والبلدان العربية الاسلامية، وفي كل الامكنة، وهي اذ تحط في اي موقع تؤثثه بالوصف وبحالة العاشق والمعشوق، سرداً وشعراً.
وكتاب «مصارع العشاق» يشير بتنوع ابوابه، وعمق مشاربه الى الروح الشفيفة للعربي وهو في حالة عشق، لا تأخذ احقيتها في التعبير من امكانيات التخيل - بل من قصص صرعت العشاق، وتداولها العلماء والفقهاء عبر التاريخ العربي الاسلامي.
وهو ان شئنا الحفر اكثر يؤكد على شفاهية خاصة لدى العربي ومكنة متميزة لديه على المحافظة على تداول القصة عبر اكثر من قرن بمستوى رفيع وفصيح يتيح لهذه الشفاهية ان تنسخ وان تتحبر، مثلما يؤكد ايضاً على ذاكرة عشقية استحقت هذا الاحتفاء عبر التاريخ في هذا الكتاب الذي يظل يلح علينا في القراءة، ومعاودة قراءة صرعى العشق، ربما لان العشق يظل الحالة الوجدانية للانسان التي ظلت تحمل براءتها وربما سذاجتها تلك السذاجة المعافاة حتى وان ادت للموت.
* عن الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
.
ولعل مجمل المكتسبات المعرفية التي استطاعت ان ترمم حال واحوال القطيعة المعرفية التي عاشها العربي لتلضمه مع تاريخه، ومع المعطى الحضاري العميق لتأريخه، تأتي من هذا القطاف الزخم المنجز في هذين القرنين.
ولعل الكتاب الذي بين يدينا والموسوم ب« مصارع العشاق» من تأليف جعفر السراج وتحقيق الباحثة الاردنية د. بسمة احمد صدقي الدجاني الصادر عن وزارة الثقافة الاردنية هو احد هذه القطافات.
لكن مايجب التوكيد عليه هو ذلك الجهد الدؤوب للباحثة الدجاني في تحقيق هذا الكتاب، الذي اضطرها إلى الذهاب إلى اكثر من عاصمة وإلى العديد من المكتبات التوثيقية والمراسلات والمتابعة الحثيثة لتحقيق هذا الكتاب بالشكل الابهى والاجمل والمكتمل.
وفي تعريفها لشخصية السراج تشير المحققة إلى ان ولادته كانت عام 419ه وعام وفاته هو 500 منوهة إلى ان السراج نشأ في العراق حاضرة الدولة الاسلامية الكبرى آنذاك في بيئة علمية دينية وحظي بوالد واع اتاح له تلقي العلم صغيراً مشيرة إلى ان المصادر التاريخية التي قدمت تعريفاً للسراج انه اخذ عن علي بن شاذان وسمعه وحدث عنه، علماً بأن أبا علي بن شاذان توفي وجعفر دون العاشرة من عمره.
وتكشف الباحثة الدجاني عن الخصوبة المعرفية للقرن الخامس الهجري الذي نشأ فيه السراج منوهة إلى الدور الهام للشيخات في العلوم الدينية وبخاصة في مجال الحديث، وتتطرق الدجاني إلى مسألة مهمة وهي دور التلميذات حيث يسجل التاريخ لواحدة منهن هي الشيخة شهدة بنت المحدث ابي نصر احمد بن الفرج الدنيوري الابري فضل تلقي (كتاب مصارع العشاق) عن السراج ذاته وهي صبية لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، ثم روايتها له في جلسات صالونها الادبي.
وتؤكد محققة كتاب مصارع العشاق على ان الكتاب يمثل حلقة في سلسلة حلقات الكتابات عن الحب في الحضارة العربية الاسلامية موضحة ان تأليف السراج لهذا الكتاب جاء بعد ان عرفت المكتبة العربية حوالي اربعة عشر كتاباً ورسالة في الموضوع قبله.
وحول الدلالة في اسم الكتاب تقول الدجاني: نقف بداية أمام الاسم الذي اختاره جعفر السراج لكتابه فنجده مؤلفاً من كلمتي «مصارع» و«العشاق» والمصارع في لسان العرب من صرع أي طرح ارضا، ويقال صرعته المنية أي مات، ومصارع العشاق حيث قتلوا، والعشاق من العشق وهو فرط المحبة، واللزوم للشيء لايفارقه، وقد ورد في لسان العرب ان العاشق سمي عاشقاً لانه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العشقة اذا قطعت، شجرة تخضر ثم تدق وتصفر.
وتقف الباحثة الدجاني عند الملامح التأسيسية لتأليف السراج لكتابه فتستدل على ان تأليف الكتاب تم في وقت طويل وعلى مراحل، كان السراج خلالها يدون في اوراقه مايتجمع لديه من الاخبار الادبية والابيات الشعرية، وما يعن على باله من نظم خلال اسفاره المتتالية ما بين بغداد ومصر والحجاز ولبنان، وان السراج اعتمد في كتابه على الرواية واخذ اخباره الادبية من مجالس العلم التي كانت تنعقد غالباً في المساجد، وكانت تعنى بألوان الادب من شعر واخبار ذلك ان المسجد هو المكان الذي روى فيه السراج كتابه على تلامذته في حلقاته العلمية.
وتؤكد الباحثة ان السراج اعتمد في كتابه التلقائية في رواية حكاياته موضحة اننا وفيما نتأمل في مادة كتاب «مصارع العشاق» وتولي عناية لقصص الحب العذري، وتحفل باخبار ادبية، وتهتم بأخبار المتصوفين واحوالهم في العشق مشيرة إلى ان مادة الكتاب بمجموعها ذات دلالة على الاحوال الاجتماعية في ذلك العصر.
وبحسب د. محمد حسن عبدالله في كتابه «الحب في الادب العربي» ان قصص مصارع العشاق تسير في اربعة اتجاهات، اولها مايتعلق بشخصيات تاريخية اشتهرت بالعشق مثل قيس وليلى، وجميل وبثينة، وكثير وعزة وثانيها قصص ابطالها من المجانين الذين غلبهم الوله فأفقدهم عقولهم، وهم يعيشون عادة في المارستان او الدير، يجلس احدهم في ظل حائط، او تحت شجرة قد ربط اليها، او ضمت قدماه في قيد، وهذا المجنون عادة من «ملامح المجانين» شاب لم ير أحسن منه وجهاً يستغرق في صمته، او يناجي بالشعر شخصاً غيور منظور، والاتجاه الثالث يتمثل في اخبار وليس في قصص، ابطالها من المتصوفة الذين عشقوا، والاتجاه الرابع: قصة فنية تتحرك بحرية، وتتكامل جوانبها بدوافع الاقناع والامتاع معاً.
وتنوه الدجاني الى ان السراج لم يعمد الى التحليل والتعاليل في تناوله موضوع العشق، وترك للقارئ ان يقوم هو بذلك من خلال قراءة ما في الكتاب مؤكدة ان هذا النهج نجده عند عدد من المؤلفين القدامى الذين اكتفوا بالرواية دون الدخول في فلسفة الموضوع وفقاً لما اعتمده اخرون تأثروا بالفلسفة اليونانية.
وعن الاثر الذي تركه كتاب مصارع العشاق على من الف في العشق بعد السراج في حضارتنا العربية الاسلامية تشير الى اعتماد ابو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي في كتابه «ذم الهوى» على قصص العشاق المأخوذة من كتاب «مصارع العشاق» فقدم كتابه اسواق الاشواق من مصارع العشاق للسراج:
وفي الدخول الى متن الكتاب نجد ان مصارع العشاق، يشكل ببراعة سرده، وسلاسة حكاياته، حالة بحثية عميقة تذهب كي تحفر عميقاً في التاريخ العربي الاسلامي، اذ يبدو السراج الحكاء وكأنه جغرافيا تطير بنطق الكلام وتتنقل بخفة محببة، الى روح القارئ العربي ووجدانه في كل امكنة العواصم والبلدان العربية الاسلامية، وفي كل الامكنة، وهي اذ تحط في اي موقع تؤثثه بالوصف وبحالة العاشق والمعشوق، سرداً وشعراً.
وكتاب «مصارع العشاق» يشير بتنوع ابوابه، وعمق مشاربه الى الروح الشفيفة للعربي وهو في حالة عشق، لا تأخذ احقيتها في التعبير من امكانيات التخيل - بل من قصص صرعت العشاق، وتداولها العلماء والفقهاء عبر التاريخ العربي الاسلامي.
وهو ان شئنا الحفر اكثر يؤكد على شفاهية خاصة لدى العربي ومكنة متميزة لديه على المحافظة على تداول القصة عبر اكثر من قرن بمستوى رفيع وفصيح يتيح لهذه الشفاهية ان تنسخ وان تتحبر، مثلما يؤكد ايضاً على ذاكرة عشقية استحقت هذا الاحتفاء عبر التاريخ في هذا الكتاب الذي يظل يلح علينا في القراءة، ومعاودة قراءة صرعى العشق، ربما لان العشق يظل الحالة الوجدانية للانسان التي ظلت تحمل براءتها وربما سذاجتها تلك السذاجة المعافاة حتى وان ادت للموت.
* عن الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
.