سليم البيك - الرقيب يبطش بالحلمات الثلاث

لا أذكر في أي مكتبة، ولا تحديداً أي ملحق ذلك الذي تصفحته إلى أن ارتطمتُ بالصورة، فقط أني كنت في مكتبة أتردد عليها، هذا ما أذكره، إضافة إلى أن الملحق كان لإحدى الصحف الإنجليزية. إلا أن كل ذلك تفاصيل بائسة بالنظر إلى الصورة، إلى الطريقة التي عوملت بها، وفُهمت على أساسها، وأُوصلت بها إلى القراء، ليس أي نوع من القراء، بل من سيخطر له أساساً أن يتصفح ملحقاً ثقافياً، ويتجرأ فعلاً على تصفّحه، ليصل إلى صورة مرفقة بموضوع فني (هو موضوع الغلاف على ما أذكر) للرسام النرويجي إدوارد مونك، صاحب لوحة «الصرخة» الأغلى في العالم.

أتكلم هنا عن لوحته التي قد لا تقل عن «الصرخة» شهرة، وهي «مادونا». على صفحات الملحق الإنجليزي ظهرت اللوحة كما هي، دون توصيات رقابية أخلاقية، إلا أن الصفحة واللوحة قد خضعتا إلى إعادة تأهيل بما يتناسب مع الكبت المسعور في مجتمعاتنا العربية (كبت جنسي كفيل بإشعال ثورات؟! حسبما قرأت مرة). سطحية فهم اللوحة وسطحية تنفيذ هذه الرقابة على الصورة قد أظهرتا وبشكل لا يخلو من سخرية استغباء موظف الرقابة لقارئ الملحق، أو متلقي الصورة تحديداً. ذلك لأني شعرت أنه فعلاً يسخر مني وأنا أنظر إلى الصورة.

ثلاث نقاط تُشخط بالأسود على حلمتَي «مادونا» وسرّتها. حسناً يا وصي الأخلاق علينا، ماذا بعد؟ الفحش ينحصر في هذه النقاط الثلاث؟ ماذا عن الجسد الأنثوي، عن بطن مادونا، عن رقبتها، شفاهها، صدرها، ماذا عن ثدييها يا شيخنا؟

ثم، ولماذا السرة؟ ضحكت حينما رأيت الصورة بشخطاتها الثلاث، وفكّرت: قد تكون السرة حلمة ثالثة عند الرقيب. لكني رجعت إلي البيت (بعد أن صوّرت الصفحة بهاتفي تحسباً لأي مقالة قد تطرأ) تركت الموضوع برأسي والصورة مكانها أسابيع. الآن لسبب أجهله رجعت إلى الصورة أكتب عنها، أبحث عن لوحة مونك في «غوغل»، أجده ومادوناه، وأجدها بثلاث حلمات، اثنتان على ثدييها وواحدة مكان السرة، مونك رسمها هكذا، ثلاث نقط برتقالية خفيفة نقرها بطرف الفرشاة على ما يبدو، برقة ورهافة الفنان، ثلاث نقط متماثلة، ما التبس الأمر على موظف الرقابة ليظنها فعلاً حلمة ثالثة، فيبطش بـ «الحلمات الثلاث» مشرعاً قلمه الأسود الغليظ القاتم هاوياً به على ثلاثتها. وأؤكد، لست أسخر، أنا فعلاً على يقين باعتقاده أن لامرأة اللوحة ثلاث حلمات تستحق البطش ولا شفيع لها.

ألم يكن موظف الرقابة أكثر رأفة بقارئي بالملحق، وقد يهتمون ولو قليلاً بالفنون، لو أنه شخط مادونا كلها عن بكرة أبيها من أن يستغبينا؟ ألم يكن أكثر إقناعاً لو شخط بطنها وصدرها وأفرج عن زنديها المغبّشين، وشعرها (رغم أنهما عورة في دينه) فجنب نفسه مساءلة الضمير والحساب كونه اكتفى بالحلمات الثلاث، وجنبني شعوراً بأن أحدهم نجح باستغبائي ومتعمّداً، وبشكل شخصي جداً؟

عند كثيرين، وأنا منهم، خلاف مبدئي مع الرقابة، يرفضون منطقه ومبرراته، في الدين والجنس والسياسة، يرفضون فكرة الوصاية الأخلاقية على المجتمعات، يرفضون هذه السيطرة البطريركية الفوقية، يرفضون المساومة على الحريات، الإبداعية والفكرية قبل غيرها، هنالك أنظمة أعمق من السياسيّة يتوجب (كذلك) إسقاطها، أكثر توغلاً في مجتمعاتنا، بل تماهت مع (أو: هي) مجتمعاتنا التي ستحتجّ إن ظهرت مادونا دون الشخطات الغليظة. هنالك ربما من فعلاً احتج أن الصورة أظهرت عورة مادونا في بطنها وصدرها.

هنالك مجتمعات لا بد من إسقاطها، عند كثيرين.




.
* ادوارد مونك
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...