شنتال توما - الفروج التي تنطق.. صراخ وهمسات - ت: عبدالله كرمون

كان ديدرو قد تزوج منذ خمس سنوات عندما نشر «الفروج التي تنطق» (ترجمة العنوان حرفيا: "الجواهر المهذارة"). فأتيح له الوقت الكافي كي يقف على أن العش الزوجي لا يعني بالضرورة التحقق التام للمتعة. لذلك تفتقت فكرة هذه الفانتازيا الإيروسية الشرقية انطلاقا من العلاقات المحرمة (وقد كان حينئذ عاشقا لمدام دو بويزيو)، وكذا من الألعاب الإباحية والأحاجي. وكان يهدف أيضا إلى كسب المال بشكل سريع. لذلك كان يميل في ما بعد إلى الإصرار على التركيز على الدواعي التجارية، إذ لم يعد راضيا على نص نزق إلى ذلك الحد، بعدما أصبح رجل الموسوعة...غير أن الأعذار لا تهم مهما كانت، ف"الفروج التي تنطق"، الرواية الوحيدة التي نُشرت له وهو لا يزال على قيد الحياة، هي له. فهي توائم بامتياز نوع سجل رغباته وكذا طبيعة قريحته الروائية.
يحكي لنا ديدرو قصة مونغوغيل وهو سلطان استبد به ضجر شديد، واستنفدت محظيته ميرزوزا من أجل تسليته كل مصادرها. استنفدت "المغامرات الغزلية" لعموم الناس، وكان سيسعدها أن تحكي له تلك التي تدور في البلاط. لكنها تجهلها مع الأسف الشديد. وقدّم العبقري كيكيفا، الذي اسْتُدْعِي، اقتراحا: يكفي السلطان أن يدير فص خاتم جهة امرأة وسوف تنطق "عن طريق العضو الأكثر صراحة منها، والذي يدرك الأشياء أفضل"، الأشياء التي يتحرق هو إلى معرفتها.
لقد تعرف معاصرو ديدرو في شخصي مونغوغيل وميرزوزا بسهولة على لويس الخامس عشر ومدام دو بومبادور. تلك العلاقة التي سوف تدوم أكثر من عشرين سنة، ليس بسبب رباط إيروسي ("لم ترق للأمير أولى علاقاته الجنسية معها، كما يوضح الدوق دو ريشليو، ابن حفيد الكاردينال، الذي جسده سليم في "الفروج التي تنطق") ولكن بفضل براعة الماركيزة في فن تسلية الملك.
فهي مستعدة لإتيان كل شيء، سواء بأن تكون بشكل غير مباشر ممونة المنزل، المتواجد ببَّارك أُو سِّير، بالبنات الفتِيات أو بأن تشاركه الهياج التلصصي عن طريق قراءة تقارير الشرطة معه حول دور الدعارة الباريسية. فقد كان الملك قارئا مواظبا لها. إذ تمكنه من أن يتسلل، متخفيا، إلى دور الدعارة حيث يمنعه حرصه على كرامته وكذا منصبه من التردد عليها، وأن يجد فيها أقاربه ومجالسيه وهم في عز انشغالهم.
وهكذا بوسعه أن يقرأ فيها حول عمه دوق شارتر الذي سيصير فيما بعد دوق أورليون ما يلي: "كانت ملامساته جد خشنة، ولا يعرف رقة أبدا، كما يشتم بفظاظة، وقد وصفته فتيات كثيرات بذلك، ويشي كل شيء لديه بإباحية فاجرة"، أو حول الذي يدعى بالسيد موندورج الذي رافق أمين ديوان "التسري الملكي": "أراد أن يأتي تلك البدينة من دبرها، ولم نتمكن من معرفة ما إن كان ذلك قد تم."
خبأ الملك التقرير في غرفته في فرساي وقد خاب ظنه. واتكل السلطان في خيال ديدرو على الخاتم السحري إذ أراد أن يتعرف أكثر إلى تلك الأمور. إلا أن السلطان لن يُزوَّد بالأخبار، في مثل تلك الحال، أفضل من الملك.
يتمتع الخاتم بالقدرة على إثارة صوت الحقيقة الجنسية للنساء. كيف تنطق؟ ماذا تقوله لنا؟ تعمد "قوقأة الفروج" إلى إسكات صوت الفم، لأنه لا يمكنه أن يختلط بها. تلحظ المرأة المعنية بفزعٍ انبجاس ذلك الكلام الذي يخترق أثوابها كي يصدع فاضحا بين الناس. وهي عاجزة عن إسكاته.
قوقآت متعددة هي تنافر أصوات فادح! ولما جرب السلطان خاتمه في دار الأوبرا: "مكثت ثلاثون فتاة في صمتهن، وفغرن، فجأة، أفواههن وحافظن على الوضعيات التي كن فيها من قبل فوق الخشبة. في حين بُحّت جواهرهن (فروجهن) من كثرة ما غنين (...) احتددن كلهن في الأخير في نبرة عالية جدا، باروكية جدا، جد مجنونة، وشكلن جوقة هائلة، صاخبة جدا، وجد مضحكة..."
لا تني هذه الموسيقى الغريبة التي يستطيع إثارتها كل لحظة من التسلية أبدا. على الرغم من أن "الجواهر"، هؤلاء "الخطباء" غريبي الأطوار، ليسوا مطَمئنين تماما. تضمن بهذا المعنى ألا يكشف بوحها عن أي شيء غريب وشاذ حول الحياة الجنسية للنساء. فالجوهرة لا تعبر سوى بواسطة المبني للمجهول - وفي صيغ المذكر!-، معيِّنة درجة التردد عليها وهل هي راضية عن ذلك: "سمعنا وبمختلف النبرات: "أنا كثيرٌ روادي، متلَفة، متروكة، معطرة، منهكة، غير معتنى بي كما يلزم، مضجرة، إلخ." (...) فرطانتها الخافتة تارة والصاخبة تارة أخرى، والتي ترافقها قهقهات مونغوغيل ومجالسيه، كانت نغمة من طينة جديدة."
لا يحسن العضو الجنسي للنساء إلا تعداده للعابرين، مثل الأريكة في الرواية المشهورة لكريبيون الابن، لكن بشكل جد محدود. فالجوهرة تعدد أفضل مضاجعة وأسوأها. وإذ منحت بغتة القدرة على الكلام، فإن ما تصفه هو الحياة السرية لعضو.
تنطلق ضحكة السلطان بشكل أوتوماتيكي في الوقت نفسه و"قوقأة" الفروج. وقد صار السلطان مع ذلك، شيئا فشيئا، عرضة للقلق. لأنه وإن لم يصادف، باستعماله لهذه الوسيلة السمجة، وهذه الطريقة المتمثلة في انتهاك حرمات نساء بلاطه - وحتى نساء البورجوازية- أية غرابة، فإنه لم يكن بمقدوره إلا أن يبتلى بقوة الكتمان الذي تتمتع به النساء. فهو لم يعرف أي شيء عن شبقيتهن وطريقتهن في اختبار اللذة، غير أنه أحيط علما بشكل بالغ بما يحيط بشرههن إلى حصول لذتهن وتكثير مضاجعهن.
تبدو له النساء من خلال اعترافات فروجهن تلك على أنهن كائنات ذوات نهم بلا قرار، ومخلوقات بلا دين ولا شرف. فهذه المتتالية من المشاهد المسلية في البدء سرعان ما تمحقها هذه اللازمة: هل أنا محبوبة؟ الخبر السار هو كون النساء يتمتعن بالشهوة في كل الأحوال ويثرن بذلك شبح الخصم المنافس. فلا توجد هناك إذن امرأة وفية؟ ولا امرأة عفيفة؟ ولا أية جوهرة ليس لديها من تعترف به؟
يمضي السلطان، خلال تحريه إلى زيارة الحسناء فريكامون. وساءل جوهرتها. ولم يفز بجواب منها. أدار وأعاد تقليب خاتمه بلا جدوى. كان يتهيأ لاستخلاص بأن فريكامون عفيفة، حينما شرع فمها بالكلام: "عزيزتي أكاريه...كم أنا سعيدة في هذه اللحظات التي أختلسها من كل من يلازمني كي أركن لك."لم يكن مونغوغيل جراء هذا إلا مهموما بأن يكتشف امرأة عفيفة، أو أن يكتشف أكثر من ذلك بأن ميرزوزا وفية له. فصمتُ هذه الجوهرة مخيف شيئا ما...
فديدرو نفسه مهووس بموضوع العلاقات مابين النساء، ما أوحى له بروايته الراهبة والتي كتبها على لسان امرأة. بلا شك لأن تلك اللامبالاة بذلك الترتيب الذي رصدته الطبيعة يؤيد يقينه الثاقب والعميق: "رمز النساء على العموم هو السوء، وقد خُطت على جبهته كلمة: سر". قوقأة الجواهر، المضحكة، غير الموائمة، المستطردة، متعددة اللغات حسب اللزوم، لا تكشف عن السر.
هذه الرواية الإباحية لا تنتمي إلى صنف تلك الروايات التي لا تقرأ إلا على وجه واحد. إذ يوجد جمالها وجنونها في مكان آخر. فهي تستند على الخيال المرح لكاتبها، وتتعلق بميل ديدرو الهائل إلى إفشاء رؤيته "بكل إباحيتها" وأن يشيع فينا روعتها.

عن جريدة الـ"لوموند"



.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...