نقوس المهدي
كاتب
يقول الكاتب “برونو بونتمپلي” في روايته ، “المداعبة”، نقلاً عن مصادرِه: ” إن القشرةَ أثمنُ من اللُّب، والشجرة الخاوية تعيش أفضل من عيْش الشجرة المسلوخة. إن القلب هو في الغلاف، والمكيال أثمن من القمح الذي يُفرغ فيه!”، إنه – في موضوع الرواية – يعني بشرةَ المرأة، غلافَها، وهي القشرة التي تُداعَب بأنامل الرجل مداعبةً لا يحيط بعلمها غيرُ المصطفين الجادين العالمين المتحكِّمين في أنفسهم ، فتتفتَّح المرأةُ لا كما هو مألوف فحسب، بل كآية.
ما من شيءٍ إلا وله حالة أن يكون نيئاً أو حالة أن يكون ناضجا. وأجساد الرجال والنساء تتلاقى للحب، فتمرح وتنتشي وترضى وتسعد، وقد تُنسل، ولكن قلَّما تقدر هذه الأجسادُ على الوصول إلى المدى والمنتهى؛ إلى النضوج، ذلك أن تأجُّجَ الشهوةِ يقطعُ الطريقَ وذلك أن الوصولَ حدَّها أيضاً هو فنٌ ومعرفةٌ يتطلب حذقهما ونيلهما تمارين وسعة فهم وتركيز، حتى يدرك الطالبُ فنَّه ويتشرَّبه. لا يضير أن تكون رغبةُ رجل وامرأة، رغبةُ جسدٍ في جسدٍ، رغبةً طارئةً وعابرة، وقد يكون زمنُها القصيرُ حتماً هو كذلك زمنَها القصير واقعياً، ولكن قد يكون زمنُها القصير حتماً هو الأبدَ بحالِهِ. جمالُ الأجساد الأنثوية لا متناه ولا حصر لتنوعاته، ولكن جمالَ الجسد فعلياً يكمنُ في استجاباته للمداعبة، حين تأتي تجاوباته تلقائية بغير افتعال، وطبيعية بلا رصد ولا ترصُّد. وتنسجم علاقة الجسدين معاً، الرجل والمرأة، فإذا هي علاقة تفاهم مؤكَّد ومضمون، وبدون سعي ومساعٍ تصير إلى صلةٍ (صلاةٍ) بين الشخصين اللذيْن هما بداخل الجسدين؛ الشخصين المشموليْن ببشْرتيْن هما عالَم كل منهما إزاء الآخر، وينالان استحقاقهما.
تبدو الرواية كمذكرات دوَّنها سلطانُ غرناطة الأخير، منـزوعة الحبكات، يتداخل فيها خطان؛ انهدام عرش السلطنة ودروس فن المداعبة. ويقترن الخطان تماماً في آخر صفحة من الكتاب، وتكون لحظة اقتراب الدمار الحافل بالموت هي لحظة الاحتشاد والاستبصار والاستفاقة إلى مبدأ الحياة، وإدراك أن الموت والحياة ليسا نقيضيْن. لا مجون في هذه الرواية الماجنة التي تعتد بالجسد الإنساني اعتداداً سامقاً حقيقياً حين يتنعَّم بالحب، الذي هو بين الذكر والأنثى، وتُثني على ضرورة تأجيل الشهوة لأجل الوصول إلى المستويات الأوفر والأعمق، وتوفِّر اليقينَ بأنه – بالتمرين الدقيق – يمكن للمُحبِّ بلوغَ إلى هذه المستويات الأوفر والأعمق حيث لُقيات الملذات المخبوءة والمجهولة وحيث يصير جسدُ الأنثى المحبوب والمدغدَّغ بأنامل الذكر هو مورد المعارف التي لا سبيل لها غير السبيل المتعيِّن.
يبدأ زمن الرواية في يوم الثاني عشر من محرم، وينتهي في يوم الثالث عشر من جمادى الآخرة، ولمدة ستة شهور قمرية، وتتناثر يومياتُ الرواية بمثابة سِجل صغير، حي، عن مملكة غرناطة، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وحُكْم المسلمين في الأندلس يشارف نهايته.
من قصر الحمراء – الذي نُقشت وحُفرت على جدرانه، في مواضع عديدة، الأيقونة ” لا غالب إلاَّ الله”؛ الشعار الذي انتقاه، من قبل، الملك ” نصر”، أو أُوعز به إليه – يخرجُ السلطانُ (و يمكن استنتاج أن عمره حوالي 45 عاماً)، وارثُ القصر، إلى بيتٍ في المدينة، ويصلُ إليه عبر منافذٍ في جنائن القصر، حيث يتعلمُ ويتدربُ ويعرفُ أصولَ الملامسة على يد طبيب، شفَّاء، يهودي، اسمه ” عزرا”، ذو سحنة غبراء لا تشي بالمقام العالي لجمال يديه النادر، وذو فنون تحصَّل عليها في بلاد فارس نقلاً عن تراثٍ طبي عريق من الصين القديمة وأبوقراط وقانون ابن سينا وغير ذلك.
عن أفضال ذلك الطبيب اليهودي، يقول السلطانُ: ” ها أنا الآن، أرى بهاءَ الحياة يتفجَّر في راحتيَّ من جديد. لقد اكتشفتُ مجدداً هذه الآلة الإلهية العجيبة، راحةَ يدي، التي تحتوي السماء وهدير البحر والسمسم والورد، هذه العجينة المُختمَرة التي تختزن حرارةَ الفرن وعجيجَه”. إنما، قبل المداعبة، لا بد من إشاعة الطمأنينة في الروح وإرخاء الأعصاب.
في درسِه الأول، يتعلمُ “زبدة الملامسة”، وتعني الملامسة بنظر العينين فقط، ويقول السلطانُ:”في الدرس الأول، طهَّرني اليهوديُّ بالعفة”، وهو – السلطان – الذي لم يعتد سوى الإمساك والعجن والتعانف مع أجسادهن. وبالدرس الأول، يصير النظرُ بمثابة يدٍ بمقدورها تحسُّس جسد المرأة المنظورة والتشكُّل مع تضاريسه. توالت الدروس – العفيفة؛ اللمس بالنظر، إلى أن تكشَّفت جغرافية سرية كامنة في لدن البدن الأنثوي. ولمَّا بدأت دروسُ المداعبة باليدين، غدا السلطانُ يشعرُ بأنه ” متحمسٌ وجديدٌ، مثل فتى لم يعرف النساء”.يرى الطبيبُ، المعلِّمُ، الذوَّاقة، أن من علامات ضعف التلميذ، المتدرِّب، أن يبقى طويلاً يرى في جمال الأجساد ضرورةً، وحسب رأيه؛ فإن ” جاذبية الجسد تضرُّ بالانضباط. والشيء الوحيد الذي يُعوَّلُ عليه هو السعي إلى المعرفة، ومن ينبوع هذه المعرفة، وحدها، يجب أن تنبثق العواطف ويتكون الفكر”.
يبدو لي أن “هنري ميللر” قد حلُمَ وحاولَ كتابةَ كتاباً مثل هذا، ولكنه لم يكن قد اغتنى ولم يكن قد شبَّ بما يكفي لذلك.
ويقولُ السلطانُ عن طبيبه ومعلمه: ” وبما إنه يؤمن بأن ما من فنٍّ عظيم دون تسامٍ، وأن الإنسان لا يمكنه أن يولِّد الهوى متى كان واقعاً تحت سلطانه، فهو ينوي إيصالي إلى الانفصال عن الآلة الموسيقية كي أستخرج منها أرفع الأناشيد”. ويقولُ عن شَعر المرأة: ” إذا شئتَ أن ترى نفسَك داخل النساء، في طحالبهن وطينهن، فليس عندك أفضل من هذه الشلة من الخيوط التي صُنعن منها. إن الشعرَ موضعٌ فاجر لا يكشفنه ولا يسلِّمنه إلا في الفراش، فهو زهرة الخواصر، كما يقول عزرا، ومكمن القوة والإرادة والحُب، وهو يأسرُ ويسحرُ، ويلفُّ برغباته المختمرة منْ يغوصُ فيه”.
“المتعة يمكن أن تُولد في جميع نقاط البشرة. وحيثما يستطيعُ الجسدُ أن يتألم يستطيعُ أيضاً أن يتلذَّذ، مع قدر مماثل من اللهيب”، هكذا يتكلم عزرا.
في يوم 27 من المحرم سقطت مدينةُ ” الكابرا” الثمينة، وكان السلطانُ مقيماً في دارة “زحل” حين وصله نبأُ سقوطها وأسْر القائد ” المنذر” ورفرفة بيارق العدو فوق المدينة. ويقول السلطانُ عن وقْع تلك اللحظات: ” كنتُ قد فرغتُ لتوي من سماع رواية ما جرى؛ وكنتُ في حالة من الإعياء الشديد. فبأية سرعة تجرحُ كلماتٌ بسيطة، وتحرقُ هذه الفلذةَ من اللحم التي هي القلب!، لستُ أدري كيف يمكن أن يتحوَّل نَفَسٌ إلى نصل”، وهذا موقف آخر للجسد الذي قد تؤلمه أو تحبطه أو تتلفه أو تميته كلمةٌ هي أصلاً ليست أكثر من هواء التنفس. وفي اليوم التالي يستقبلُ السلطانُ الشاعرَ ” عبدون” لينشد له قصيدتَه، على وزن بحر الكامل، التي كوفئ عليها بمئتيْ دينار فضيّ؛ “شربتُ من تويجها بعد المطر الدافئ….”، غزلية جديرة بأن تُنقش على جدران القصر لولا مجونها، ثم يحضر أيضاً “جابر النكد”، العرَّاف المنجِّم المولع بالخيمياء الذي يبتغي منها تنويرَ نفسِهِ لا تحويل المعادن إلى الذهب، وفي ختام الاستقبال يسألُ الشاعرُ العرَّافَ:
- هل صحيح، يا معلِّم، أن ثمة أعداداً تملك القدرة على إثارة الشهوة؟
ويجيبُه العرَّافُ بلا مواربة:
- فعلاً. يُقال هذا عن العدد 220 والعدد 284.
في لقاءٍ تالٍ؛ ثمة مَثلٍ يخبر عبدونُ السلطانَ به، وهو أن ” الحكمة التي نزلت على الأرض دخلت دماغَ الإغريق ويدَ الصينيين ولسانَ العرب”.
وفي يوم 2 صفر تتابعت الدروسُ، وكانت امرأةٌ بشعر أسود مستلقيةً على بطنها، ويقولُ السلطانُ: ” رحتُ أداعب الظهرَ، هذا المكان من الجسد الذي كنتُ، من قبل، أجده أقربَ إلى الرجولة ومفرطاً في الاتساع. الجهلُ يحدُّ من الإرادة. صرتُ بعد الآن أعرف آبارَه الخفية ودروبَه ومفترقاتِه، وتعلمتْ يداي الاستمتاعَ به، وقادني ذلك إلى إدراك أن الأصابع تتذوَّق وتعضعض وتشرب وتمصُّ وتلوك”. وحين تحرَّقَ رغبةً في الضغط أكثر وفي العجْن، ترصَّدَه الطبيبُ؛ ” يقول عزرا: إنما بالملامسةِ الخفيفة أنت تلِجُ، القوة باطلة! النورُ وحده والأنفاسُ المنبعثة من راحات أيدينا تعرفُ الولوجَ إلى الأعماق”. وفي ذلك الدرس عن الظَهر، يهتم عزرا بالمنخفض الممتد على طول الظهر، ويُعلِّمُ، ويقول: ” هنا، أنت تلتقي اليمين والشِمال، الذكر والأنثى، المكتمل وغير المكتمل. هنا يسيل النسغُ، تذكَّر. هنا يتوحَّد الكائنُ في مبادئه المزدوجة، ويتخصَّبُ، وتتكونُ فيه بالذات قوةُ تساميه”.
يقول عزرا: “إن بعض الأمراء الصينيين كانوا يداعبون طويلاً الأواني المطلية بالمينا لكي يمرِّنوا لمْسَهم”.
ليست اليد تداعبُ وتُمْتعُ وتتمتعُ فحسب، بل يُمكن أن تُوضع فتُشفي إذا ما تعلَّمت وقدرت على أن ترى الحياة في انتظامها وفي اختلالها داخل الجسد الذي الذي تمسّه. ومثلاً، في موضع المعصم، يمكن، عند اثنتي عشرة نقطة، جسّ النبض واستطلاع حالات الجسد وما يسيل فيه وما يخفق. اليدُ تداعب، وجسد المرأة ينتشي، ولكن يحدث أحياناً أن يتظاهر الجسد بالانتشاء، وما من دليل يكشف صدقَ النشوة من زيفها. ومداعبة جسد امرأة مستلقية تختلف عن مداعبة جسد امرأة منتصبة على قدميها، ذلك أن اللحوم تكون مرتبة على نحوٍ آخر في بدنٍ مسكوب بشكلٍ آخر.
فن المداعبة؛ “هذا الفن الذي لا يستلزمُ شيئاً؛ والزيوت ليست من أدواته، لأنها تضرُّ بعُرسِ البشرتيْن. يكفي أن تكون الأصابع مقصوصة الأظافر. وحينئذٍ يستطيع منْ يحسن الإنصات إلى الجسد أن يلِجَهُ ويُسعِده ويُوقِد ناره بالمداعبة لا غير”. ويجب ألا يكون ثمة بلل ولا عرق ولا تكون ثمة رطوبة بين أصابع الرجل وبشرة المرأة، وإن وُجد البلل أو الرطوبة تصير المداعبة مستحيلة. فن المداعبة هو ” الفن الذي يتيح لليد أن ترى، وتشم، وتسمع، وتنفتح، وتتمدَّد، وتغوص. إن هذا الفن ينقل اليد من حال إلى حال، وهي تتمدد كجناحيْ نسر، وما تكشفه آنئذٍ لا يمكن أن يتعرَّف عليه أحدٌ غيرها؛ إنها الريشةُ التي تفك رموزَ السماء؛ إنها الرحلة إلى ما وراء القارات”.
يقول السلطان: “ليس هناك ما يثير الانفعال بقدر ما تثيره مشاهدة الجمال يتجلَّى بينما يتعرَّى الجسد من كل ما زُيِّن به”. مع النضوج يغدو بمقدور الإنسان تقدير قيمة الاستمتاع الهادئ؛ يقول السلطان: ” الاستمتاع الهادئ حيث الحواس ترقُّ بدلاً من أن تهتاج. ليس الوجد هو السبيل الوحيد إلى اللذة، فهناك لذة الشيء الطفيف، والمتبخِّر، والمعلَّق، وهناك لذة التوازن، لذة العنكبوت القابعة في قلب شبكتها. لكن بلوغ اللذة يتطلَّب وحياً وشبعاً. منْ كان بلا وحيٍ فلن يعرف سوى شهوات فقيرة الطبيعة، والجائع لا يأبه لما يمضغ”، ثم يقول: ” البشرات الأوفر طراوة نجدها بين البشرات المختبئة”.
يقول عزرا عن أخمص القدم أي بطن القدم: ” بَصمَة الأخمص تشبه الأذن، وكلتاهما مرآتان للجسد، وكلتاهما تشبهان الكلوة وتخضعان لها. القلب في الراحتين، والكلوة في أخمص القدمين”، وعن الركبة: ” الركبة، التي وظيفتها الالتواء وملامسة الأرض كعلامة وداعة، هي مركز القبول، وهي تقترن بالرأس”. والسرة، هي مركز المركز، وهي التي يسميها عزرا “قلعة الروح”. وعن البطن، يقول السلطان: ” ما من رخاوة أكثر صحة وأنبل وأشهى من رخاوة البطن. إذا شئتَ أن تستريح على جسد امرأة، فهنا تجد المكان الأفضل. هذه ليست مصادفة؛ فهذا العُش هو المكان الذي نأتي منه، ونعلم منذ القِدم كم هو عذب”. ويقول السلطان: ” ما يثير اللُعاب يولِّد ما يثير اللعاب”.
في يوم 20 صفر، يعود “العدو المسيحي” لضرب السلطنة المسلمة المستوطنة في شبه الجزيرة الأيبيرية، يبتغي استعادتها بعد مرور القرون، وتنجز فصائلُ الخيَّالة غارات يومية قصيرة فتَّاكة، وتتوالى الهزائم والخسائر على تاج السلطنة.
الدرس التالي في المداعبة، هو أن تكون العينان مغمضتان أو معصوبتان، أو أن تُمارَس المداعبة في ظلام تام؛ ذلك أن العينين رفيقان سيئان – حسب عزرا – لأن الانفعال الناجم من الرؤية يصرف عن الاستغراق في المداعبة ويضرُّ بأحاسيس اليدين اللتين تداعبان.
في يوم 6 ربيع الثاني، ذهب السلطان إلى المدرسة التي تعلَّم فيها وهو صبي، ودخل المكتبة، وتصفَّح كتابَ ” بحث في الفلسفة” لابن رشد، و”كتاب الأغاني” لأبي الفرج، وكتيِّب زرياب ” درس في الموسيقى”. كان شغوفاً بالقراءة وما فيها، وقد أخبره زائرٌ له في المكتبة عن كتاب لم يسمع به قبلاً؛ عنوانه: ” طبلات أذن الكواكب السبعة”. أحبَّ السلطانُ الكتبَ واعتبرها واقتنى النفيسَ منها، وجاءت الحرب لتكبح شغفَه.
في الدرس التالي تكون المرأة مستلقية، ويقول السلطان: ” قال لي عزرا: بدايةً، أرجوك أن تقعد على هذه الوسادة. وبينما كنتُ أقعد، رأيت عزرا يقعد مثلي، ثم قال: أَبعدْ ساقيك عن بعضهما، واطوِ ركبتيك هكذا، وضِعْ مرفقيك عليهما. على هذا النحو، تستطيع أن تضع ثلاثاً من أصابع كل يد على طول أنفك، قرب الأصل، بحيث تكون راحتا اليدين موجهتين صوبي. فعلتُ ما طلب مني، مقتدياً به، ثم قال: تنفسْ ببطء. يجب أن تحسَّ أصابعُك بجناحيْ أنفك يرتفعان ويهبطان على إيقاع نَفَسك”، ولم يستطع السلطانُ الوصولَ إلى ما طُلب منه، إذْ كان يعوزه التركيز، ولكنه تمكَّن من أن يكلِّف فكرَه بمهمة الحلول محل حواسه، وسرعان ما أحسَّ بأنه يصل. يقول السلطان: ” أحسستُ بصورة فجائية تقريباً؛ كان إحساساً طفيفاً وواضحاً: أخذ جناحا أنفي ينفتحان وينغلقان مع تنفسي، فقلتُ: أحسُّ. وردَّ عزرا: حسناً، واصلْ لحظة. إن حواسنا تتعلم بشكل سيء؛ فهي تأبى أن توسِّع إقطاعَها، وأراهن على أن ما تدركه ليس سوى جزء من مئة مما أعدَّه اللهُ لها. قال عزرا: الآن، توقَّفْ عن التنفس. فعلتُ ما طلبه مني، وعلى مدى لحظة فقدتُ الدفقَ الخفيف (ألم أكن أخشى هذا؟)، لكنني فوجئتُ بعودته في الحال، بالوضوح إياه، لكن على وتيرة أبطأ بقليل. كنتُ مذهولاً. كان يسري تحت أصابعي تموُّجٌ غريب ما كان آتياً من قلبي ولا من صدري. كان في جسدي مضخة أخرى أجهلُ مصدرهَا ومكانَها؛ كنتُ أجهلُ وجودَها حتى حينه؛ وإن ما حصل لي اليوم لم يكن بالتأكيد يعرفه إلا حفنة من الرجال. تمتمتُ: يا رحمن!، ابتسم اليهودي، سعيداً برؤية تلميذه على المستوى الذي يريد، وأهلاً لتثمين قدر الاكتشاف. وقال عزرا: للجسد أسرار لا يمكن النفاذ إليها بالتشريح أو فحص الأخلاط، لذا من المستهجن البحث عن أداء الحياة بالتنقيب في الموتى. لقد اكتشفتَ لتوك نبضَ الجمجمة…، لقد باتت أصابعُكَ تسمعها”.
اقترب موعدُ الهزيمة النهائية للسلطنة، والسلطان يتأمل ما يجري، ويرى، بخياله، ما سيأتي، ويقول في نفسه: ” كان النور، وها هو الظلام. كانت حياتنا هنا، وها هو موتنا”.
يقول السلطانُ إنه بعد الدروس بات يفهم أن مداعبة الجسد هي مداعبة الذات أيضاً، وأن حاسة اللمس هي الحاسة الوحيدة القادرة على العطاء قدرتها على الأخذ، وأنه ليس ثمة اتحاد أعمق من اتحاد الأجساد.
كان السلطان قد أفرحَ المرأةَ بمداعبات عليمة، وقال: ” كانت روحي تسبح بين النشوة والأمان، وكنتُ أشعر بأنني ألامس حقائقَ عُليا. لم يسبق لي قط أنْ امتلكتُ قدرةً لها مثل هذا النبل ومثل هذه الصوابية”.
إنْ كانت هذه الرواية عن الجنس فهي عن الجنس كما لا يعرفه ولا يدركه ولا يظنه أغلبيةُ البشر، وهي عن الجنس إنَّما بتشارُك الروح مع الجسد وبتمازُج العرفانية مع الانتشاء. الجسد لا يُنبَذ ولا يُحقَّر ولا يُخجل منه. وما بين جسديْ الرجل والمرأة من توادٍ وحب وانجذاب وانصهار ينبغي ألاَّ يظل عند الأحكام الشائعة عنها كاحتياجٍ غزيزي سُفلي مُظلم موسوم بالنقص والفسوق والابتذال والحيوانية والدنس، خاصةً إذا عُرِفتْ فنونها الأصعب ومفاهيمها الأشمل وحكمتها الأعمق. وكانت الأديان القديمة تعرف أن العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة هي شعيرة طاهرة منيرة وباب الإيمان والورع والرفعة. وفي هذه الرواية نقرأ هذا السطر: ” لا وجود للتحكم بالأفعال دون تحكم بالحواس”. اليدُ التي لم تتعلم الكتابةَ بالقلم لا يمكن تمييزها، ظاهرياً، عن اليد التي تعلمت وأجادت، وما لا يُدرك ظاهرياً يُظَنُّ ظناً أثيماً أنه غير موجود.
راجَ جهلٌ ومراءاةٌ، وتمرَّس معظمُ الناس على احتقار جسد الإنسان أو المتاجرة به أو تجاهله أو إذلاله أو إماتته مثلما ينبغي حصر عدو. ولكن وجه الأرض لا يخلو لحظةً من فطنة.
“المداعبة” ، رواية الكاتب برونو بونتمپللي (Bruno Bontempelli) ، ترجمة ميشال كرم ، إصدار دار الفارابي2006 .
* مجلة الكلمة – العدد 56 ديسمبر 2011
.
وليم أدولف
ما من شيءٍ إلا وله حالة أن يكون نيئاً أو حالة أن يكون ناضجا. وأجساد الرجال والنساء تتلاقى للحب، فتمرح وتنتشي وترضى وتسعد، وقد تُنسل، ولكن قلَّما تقدر هذه الأجسادُ على الوصول إلى المدى والمنتهى؛ إلى النضوج، ذلك أن تأجُّجَ الشهوةِ يقطعُ الطريقَ وذلك أن الوصولَ حدَّها أيضاً هو فنٌ ومعرفةٌ يتطلب حذقهما ونيلهما تمارين وسعة فهم وتركيز، حتى يدرك الطالبُ فنَّه ويتشرَّبه. لا يضير أن تكون رغبةُ رجل وامرأة، رغبةُ جسدٍ في جسدٍ، رغبةً طارئةً وعابرة، وقد يكون زمنُها القصيرُ حتماً هو كذلك زمنَها القصير واقعياً، ولكن قد يكون زمنُها القصير حتماً هو الأبدَ بحالِهِ. جمالُ الأجساد الأنثوية لا متناه ولا حصر لتنوعاته، ولكن جمالَ الجسد فعلياً يكمنُ في استجاباته للمداعبة، حين تأتي تجاوباته تلقائية بغير افتعال، وطبيعية بلا رصد ولا ترصُّد. وتنسجم علاقة الجسدين معاً، الرجل والمرأة، فإذا هي علاقة تفاهم مؤكَّد ومضمون، وبدون سعي ومساعٍ تصير إلى صلةٍ (صلاةٍ) بين الشخصين اللذيْن هما بداخل الجسدين؛ الشخصين المشموليْن ببشْرتيْن هما عالَم كل منهما إزاء الآخر، وينالان استحقاقهما.
تبدو الرواية كمذكرات دوَّنها سلطانُ غرناطة الأخير، منـزوعة الحبكات، يتداخل فيها خطان؛ انهدام عرش السلطنة ودروس فن المداعبة. ويقترن الخطان تماماً في آخر صفحة من الكتاب، وتكون لحظة اقتراب الدمار الحافل بالموت هي لحظة الاحتشاد والاستبصار والاستفاقة إلى مبدأ الحياة، وإدراك أن الموت والحياة ليسا نقيضيْن. لا مجون في هذه الرواية الماجنة التي تعتد بالجسد الإنساني اعتداداً سامقاً حقيقياً حين يتنعَّم بالحب، الذي هو بين الذكر والأنثى، وتُثني على ضرورة تأجيل الشهوة لأجل الوصول إلى المستويات الأوفر والأعمق، وتوفِّر اليقينَ بأنه – بالتمرين الدقيق – يمكن للمُحبِّ بلوغَ إلى هذه المستويات الأوفر والأعمق حيث لُقيات الملذات المخبوءة والمجهولة وحيث يصير جسدُ الأنثى المحبوب والمدغدَّغ بأنامل الذكر هو مورد المعارف التي لا سبيل لها غير السبيل المتعيِّن.
يبدأ زمن الرواية في يوم الثاني عشر من محرم، وينتهي في يوم الثالث عشر من جمادى الآخرة، ولمدة ستة شهور قمرية، وتتناثر يومياتُ الرواية بمثابة سِجل صغير، حي، عن مملكة غرناطة، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وحُكْم المسلمين في الأندلس يشارف نهايته.
من قصر الحمراء – الذي نُقشت وحُفرت على جدرانه، في مواضع عديدة، الأيقونة ” لا غالب إلاَّ الله”؛ الشعار الذي انتقاه، من قبل، الملك ” نصر”، أو أُوعز به إليه – يخرجُ السلطانُ (و يمكن استنتاج أن عمره حوالي 45 عاماً)، وارثُ القصر، إلى بيتٍ في المدينة، ويصلُ إليه عبر منافذٍ في جنائن القصر، حيث يتعلمُ ويتدربُ ويعرفُ أصولَ الملامسة على يد طبيب، شفَّاء، يهودي، اسمه ” عزرا”، ذو سحنة غبراء لا تشي بالمقام العالي لجمال يديه النادر، وذو فنون تحصَّل عليها في بلاد فارس نقلاً عن تراثٍ طبي عريق من الصين القديمة وأبوقراط وقانون ابن سينا وغير ذلك.
عن أفضال ذلك الطبيب اليهودي، يقول السلطانُ: ” ها أنا الآن، أرى بهاءَ الحياة يتفجَّر في راحتيَّ من جديد. لقد اكتشفتُ مجدداً هذه الآلة الإلهية العجيبة، راحةَ يدي، التي تحتوي السماء وهدير البحر والسمسم والورد، هذه العجينة المُختمَرة التي تختزن حرارةَ الفرن وعجيجَه”. إنما، قبل المداعبة، لا بد من إشاعة الطمأنينة في الروح وإرخاء الأعصاب.
في درسِه الأول، يتعلمُ “زبدة الملامسة”، وتعني الملامسة بنظر العينين فقط، ويقول السلطانُ:”في الدرس الأول، طهَّرني اليهوديُّ بالعفة”، وهو – السلطان – الذي لم يعتد سوى الإمساك والعجن والتعانف مع أجسادهن. وبالدرس الأول، يصير النظرُ بمثابة يدٍ بمقدورها تحسُّس جسد المرأة المنظورة والتشكُّل مع تضاريسه. توالت الدروس – العفيفة؛ اللمس بالنظر، إلى أن تكشَّفت جغرافية سرية كامنة في لدن البدن الأنثوي. ولمَّا بدأت دروسُ المداعبة باليدين، غدا السلطانُ يشعرُ بأنه ” متحمسٌ وجديدٌ، مثل فتى لم يعرف النساء”.يرى الطبيبُ، المعلِّمُ، الذوَّاقة، أن من علامات ضعف التلميذ، المتدرِّب، أن يبقى طويلاً يرى في جمال الأجساد ضرورةً، وحسب رأيه؛ فإن ” جاذبية الجسد تضرُّ بالانضباط. والشيء الوحيد الذي يُعوَّلُ عليه هو السعي إلى المعرفة، ومن ينبوع هذه المعرفة، وحدها، يجب أن تنبثق العواطف ويتكون الفكر”.
يبدو لي أن “هنري ميللر” قد حلُمَ وحاولَ كتابةَ كتاباً مثل هذا، ولكنه لم يكن قد اغتنى ولم يكن قد شبَّ بما يكفي لذلك.
ويقولُ السلطانُ عن طبيبه ومعلمه: ” وبما إنه يؤمن بأن ما من فنٍّ عظيم دون تسامٍ، وأن الإنسان لا يمكنه أن يولِّد الهوى متى كان واقعاً تحت سلطانه، فهو ينوي إيصالي إلى الانفصال عن الآلة الموسيقية كي أستخرج منها أرفع الأناشيد”. ويقولُ عن شَعر المرأة: ” إذا شئتَ أن ترى نفسَك داخل النساء، في طحالبهن وطينهن، فليس عندك أفضل من هذه الشلة من الخيوط التي صُنعن منها. إن الشعرَ موضعٌ فاجر لا يكشفنه ولا يسلِّمنه إلا في الفراش، فهو زهرة الخواصر، كما يقول عزرا، ومكمن القوة والإرادة والحُب، وهو يأسرُ ويسحرُ، ويلفُّ برغباته المختمرة منْ يغوصُ فيه”.
“المتعة يمكن أن تُولد في جميع نقاط البشرة. وحيثما يستطيعُ الجسدُ أن يتألم يستطيعُ أيضاً أن يتلذَّذ، مع قدر مماثل من اللهيب”، هكذا يتكلم عزرا.
في يوم 27 من المحرم سقطت مدينةُ ” الكابرا” الثمينة، وكان السلطانُ مقيماً في دارة “زحل” حين وصله نبأُ سقوطها وأسْر القائد ” المنذر” ورفرفة بيارق العدو فوق المدينة. ويقول السلطانُ عن وقْع تلك اللحظات: ” كنتُ قد فرغتُ لتوي من سماع رواية ما جرى؛ وكنتُ في حالة من الإعياء الشديد. فبأية سرعة تجرحُ كلماتٌ بسيطة، وتحرقُ هذه الفلذةَ من اللحم التي هي القلب!، لستُ أدري كيف يمكن أن يتحوَّل نَفَسٌ إلى نصل”، وهذا موقف آخر للجسد الذي قد تؤلمه أو تحبطه أو تتلفه أو تميته كلمةٌ هي أصلاً ليست أكثر من هواء التنفس. وفي اليوم التالي يستقبلُ السلطانُ الشاعرَ ” عبدون” لينشد له قصيدتَه، على وزن بحر الكامل، التي كوفئ عليها بمئتيْ دينار فضيّ؛ “شربتُ من تويجها بعد المطر الدافئ….”، غزلية جديرة بأن تُنقش على جدران القصر لولا مجونها، ثم يحضر أيضاً “جابر النكد”، العرَّاف المنجِّم المولع بالخيمياء الذي يبتغي منها تنويرَ نفسِهِ لا تحويل المعادن إلى الذهب، وفي ختام الاستقبال يسألُ الشاعرُ العرَّافَ:
- هل صحيح، يا معلِّم، أن ثمة أعداداً تملك القدرة على إثارة الشهوة؟
ويجيبُه العرَّافُ بلا مواربة:
- فعلاً. يُقال هذا عن العدد 220 والعدد 284.
في لقاءٍ تالٍ؛ ثمة مَثلٍ يخبر عبدونُ السلطانَ به، وهو أن ” الحكمة التي نزلت على الأرض دخلت دماغَ الإغريق ويدَ الصينيين ولسانَ العرب”.
وفي يوم 2 صفر تتابعت الدروسُ، وكانت امرأةٌ بشعر أسود مستلقيةً على بطنها، ويقولُ السلطانُ: ” رحتُ أداعب الظهرَ، هذا المكان من الجسد الذي كنتُ، من قبل، أجده أقربَ إلى الرجولة ومفرطاً في الاتساع. الجهلُ يحدُّ من الإرادة. صرتُ بعد الآن أعرف آبارَه الخفية ودروبَه ومفترقاتِه، وتعلمتْ يداي الاستمتاعَ به، وقادني ذلك إلى إدراك أن الأصابع تتذوَّق وتعضعض وتشرب وتمصُّ وتلوك”. وحين تحرَّقَ رغبةً في الضغط أكثر وفي العجْن، ترصَّدَه الطبيبُ؛ ” يقول عزرا: إنما بالملامسةِ الخفيفة أنت تلِجُ، القوة باطلة! النورُ وحده والأنفاسُ المنبعثة من راحات أيدينا تعرفُ الولوجَ إلى الأعماق”. وفي ذلك الدرس عن الظَهر، يهتم عزرا بالمنخفض الممتد على طول الظهر، ويُعلِّمُ، ويقول: ” هنا، أنت تلتقي اليمين والشِمال، الذكر والأنثى، المكتمل وغير المكتمل. هنا يسيل النسغُ، تذكَّر. هنا يتوحَّد الكائنُ في مبادئه المزدوجة، ويتخصَّبُ، وتتكونُ فيه بالذات قوةُ تساميه”.
يقول عزرا: “إن بعض الأمراء الصينيين كانوا يداعبون طويلاً الأواني المطلية بالمينا لكي يمرِّنوا لمْسَهم”.
ليست اليد تداعبُ وتُمْتعُ وتتمتعُ فحسب، بل يُمكن أن تُوضع فتُشفي إذا ما تعلَّمت وقدرت على أن ترى الحياة في انتظامها وفي اختلالها داخل الجسد الذي الذي تمسّه. ومثلاً، في موضع المعصم، يمكن، عند اثنتي عشرة نقطة، جسّ النبض واستطلاع حالات الجسد وما يسيل فيه وما يخفق. اليدُ تداعب، وجسد المرأة ينتشي، ولكن يحدث أحياناً أن يتظاهر الجسد بالانتشاء، وما من دليل يكشف صدقَ النشوة من زيفها. ومداعبة جسد امرأة مستلقية تختلف عن مداعبة جسد امرأة منتصبة على قدميها، ذلك أن اللحوم تكون مرتبة على نحوٍ آخر في بدنٍ مسكوب بشكلٍ آخر.
فن المداعبة؛ “هذا الفن الذي لا يستلزمُ شيئاً؛ والزيوت ليست من أدواته، لأنها تضرُّ بعُرسِ البشرتيْن. يكفي أن تكون الأصابع مقصوصة الأظافر. وحينئذٍ يستطيع منْ يحسن الإنصات إلى الجسد أن يلِجَهُ ويُسعِده ويُوقِد ناره بالمداعبة لا غير”. ويجب ألا يكون ثمة بلل ولا عرق ولا تكون ثمة رطوبة بين أصابع الرجل وبشرة المرأة، وإن وُجد البلل أو الرطوبة تصير المداعبة مستحيلة. فن المداعبة هو ” الفن الذي يتيح لليد أن ترى، وتشم، وتسمع، وتنفتح، وتتمدَّد، وتغوص. إن هذا الفن ينقل اليد من حال إلى حال، وهي تتمدد كجناحيْ نسر، وما تكشفه آنئذٍ لا يمكن أن يتعرَّف عليه أحدٌ غيرها؛ إنها الريشةُ التي تفك رموزَ السماء؛ إنها الرحلة إلى ما وراء القارات”.
يقول السلطان: “ليس هناك ما يثير الانفعال بقدر ما تثيره مشاهدة الجمال يتجلَّى بينما يتعرَّى الجسد من كل ما زُيِّن به”. مع النضوج يغدو بمقدور الإنسان تقدير قيمة الاستمتاع الهادئ؛ يقول السلطان: ” الاستمتاع الهادئ حيث الحواس ترقُّ بدلاً من أن تهتاج. ليس الوجد هو السبيل الوحيد إلى اللذة، فهناك لذة الشيء الطفيف، والمتبخِّر، والمعلَّق، وهناك لذة التوازن، لذة العنكبوت القابعة في قلب شبكتها. لكن بلوغ اللذة يتطلَّب وحياً وشبعاً. منْ كان بلا وحيٍ فلن يعرف سوى شهوات فقيرة الطبيعة، والجائع لا يأبه لما يمضغ”، ثم يقول: ” البشرات الأوفر طراوة نجدها بين البشرات المختبئة”.
يقول عزرا عن أخمص القدم أي بطن القدم: ” بَصمَة الأخمص تشبه الأذن، وكلتاهما مرآتان للجسد، وكلتاهما تشبهان الكلوة وتخضعان لها. القلب في الراحتين، والكلوة في أخمص القدمين”، وعن الركبة: ” الركبة، التي وظيفتها الالتواء وملامسة الأرض كعلامة وداعة، هي مركز القبول، وهي تقترن بالرأس”. والسرة، هي مركز المركز، وهي التي يسميها عزرا “قلعة الروح”. وعن البطن، يقول السلطان: ” ما من رخاوة أكثر صحة وأنبل وأشهى من رخاوة البطن. إذا شئتَ أن تستريح على جسد امرأة، فهنا تجد المكان الأفضل. هذه ليست مصادفة؛ فهذا العُش هو المكان الذي نأتي منه، ونعلم منذ القِدم كم هو عذب”. ويقول السلطان: ” ما يثير اللُعاب يولِّد ما يثير اللعاب”.
في يوم 20 صفر، يعود “العدو المسيحي” لضرب السلطنة المسلمة المستوطنة في شبه الجزيرة الأيبيرية، يبتغي استعادتها بعد مرور القرون، وتنجز فصائلُ الخيَّالة غارات يومية قصيرة فتَّاكة، وتتوالى الهزائم والخسائر على تاج السلطنة.
الدرس التالي في المداعبة، هو أن تكون العينان مغمضتان أو معصوبتان، أو أن تُمارَس المداعبة في ظلام تام؛ ذلك أن العينين رفيقان سيئان – حسب عزرا – لأن الانفعال الناجم من الرؤية يصرف عن الاستغراق في المداعبة ويضرُّ بأحاسيس اليدين اللتين تداعبان.
في يوم 6 ربيع الثاني، ذهب السلطان إلى المدرسة التي تعلَّم فيها وهو صبي، ودخل المكتبة، وتصفَّح كتابَ ” بحث في الفلسفة” لابن رشد، و”كتاب الأغاني” لأبي الفرج، وكتيِّب زرياب ” درس في الموسيقى”. كان شغوفاً بالقراءة وما فيها، وقد أخبره زائرٌ له في المكتبة عن كتاب لم يسمع به قبلاً؛ عنوانه: ” طبلات أذن الكواكب السبعة”. أحبَّ السلطانُ الكتبَ واعتبرها واقتنى النفيسَ منها، وجاءت الحرب لتكبح شغفَه.
في الدرس التالي تكون المرأة مستلقية، ويقول السلطان: ” قال لي عزرا: بدايةً، أرجوك أن تقعد على هذه الوسادة. وبينما كنتُ أقعد، رأيت عزرا يقعد مثلي، ثم قال: أَبعدْ ساقيك عن بعضهما، واطوِ ركبتيك هكذا، وضِعْ مرفقيك عليهما. على هذا النحو، تستطيع أن تضع ثلاثاً من أصابع كل يد على طول أنفك، قرب الأصل، بحيث تكون راحتا اليدين موجهتين صوبي. فعلتُ ما طلب مني، مقتدياً به، ثم قال: تنفسْ ببطء. يجب أن تحسَّ أصابعُك بجناحيْ أنفك يرتفعان ويهبطان على إيقاع نَفَسك”، ولم يستطع السلطانُ الوصولَ إلى ما طُلب منه، إذْ كان يعوزه التركيز، ولكنه تمكَّن من أن يكلِّف فكرَه بمهمة الحلول محل حواسه، وسرعان ما أحسَّ بأنه يصل. يقول السلطان: ” أحسستُ بصورة فجائية تقريباً؛ كان إحساساً طفيفاً وواضحاً: أخذ جناحا أنفي ينفتحان وينغلقان مع تنفسي، فقلتُ: أحسُّ. وردَّ عزرا: حسناً، واصلْ لحظة. إن حواسنا تتعلم بشكل سيء؛ فهي تأبى أن توسِّع إقطاعَها، وأراهن على أن ما تدركه ليس سوى جزء من مئة مما أعدَّه اللهُ لها. قال عزرا: الآن، توقَّفْ عن التنفس. فعلتُ ما طلبه مني، وعلى مدى لحظة فقدتُ الدفقَ الخفيف (ألم أكن أخشى هذا؟)، لكنني فوجئتُ بعودته في الحال، بالوضوح إياه، لكن على وتيرة أبطأ بقليل. كنتُ مذهولاً. كان يسري تحت أصابعي تموُّجٌ غريب ما كان آتياً من قلبي ولا من صدري. كان في جسدي مضخة أخرى أجهلُ مصدرهَا ومكانَها؛ كنتُ أجهلُ وجودَها حتى حينه؛ وإن ما حصل لي اليوم لم يكن بالتأكيد يعرفه إلا حفنة من الرجال. تمتمتُ: يا رحمن!، ابتسم اليهودي، سعيداً برؤية تلميذه على المستوى الذي يريد، وأهلاً لتثمين قدر الاكتشاف. وقال عزرا: للجسد أسرار لا يمكن النفاذ إليها بالتشريح أو فحص الأخلاط، لذا من المستهجن البحث عن أداء الحياة بالتنقيب في الموتى. لقد اكتشفتَ لتوك نبضَ الجمجمة…، لقد باتت أصابعُكَ تسمعها”.
اقترب موعدُ الهزيمة النهائية للسلطنة، والسلطان يتأمل ما يجري، ويرى، بخياله، ما سيأتي، ويقول في نفسه: ” كان النور، وها هو الظلام. كانت حياتنا هنا، وها هو موتنا”.
يقول السلطانُ إنه بعد الدروس بات يفهم أن مداعبة الجسد هي مداعبة الذات أيضاً، وأن حاسة اللمس هي الحاسة الوحيدة القادرة على العطاء قدرتها على الأخذ، وأنه ليس ثمة اتحاد أعمق من اتحاد الأجساد.
كان السلطان قد أفرحَ المرأةَ بمداعبات عليمة، وقال: ” كانت روحي تسبح بين النشوة والأمان، وكنتُ أشعر بأنني ألامس حقائقَ عُليا. لم يسبق لي قط أنْ امتلكتُ قدرةً لها مثل هذا النبل ومثل هذه الصوابية”.
إنْ كانت هذه الرواية عن الجنس فهي عن الجنس كما لا يعرفه ولا يدركه ولا يظنه أغلبيةُ البشر، وهي عن الجنس إنَّما بتشارُك الروح مع الجسد وبتمازُج العرفانية مع الانتشاء. الجسد لا يُنبَذ ولا يُحقَّر ولا يُخجل منه. وما بين جسديْ الرجل والمرأة من توادٍ وحب وانجذاب وانصهار ينبغي ألاَّ يظل عند الأحكام الشائعة عنها كاحتياجٍ غزيزي سُفلي مُظلم موسوم بالنقص والفسوق والابتذال والحيوانية والدنس، خاصةً إذا عُرِفتْ فنونها الأصعب ومفاهيمها الأشمل وحكمتها الأعمق. وكانت الأديان القديمة تعرف أن العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة هي شعيرة طاهرة منيرة وباب الإيمان والورع والرفعة. وفي هذه الرواية نقرأ هذا السطر: ” لا وجود للتحكم بالأفعال دون تحكم بالحواس”. اليدُ التي لم تتعلم الكتابةَ بالقلم لا يمكن تمييزها، ظاهرياً، عن اليد التي تعلمت وأجادت، وما لا يُدرك ظاهرياً يُظَنُّ ظناً أثيماً أنه غير موجود.
راجَ جهلٌ ومراءاةٌ، وتمرَّس معظمُ الناس على احتقار جسد الإنسان أو المتاجرة به أو تجاهله أو إذلاله أو إماتته مثلما ينبغي حصر عدو. ولكن وجه الأرض لا يخلو لحظةً من فطنة.
“المداعبة” ، رواية الكاتب برونو بونتمپللي (Bruno Bontempelli) ، ترجمة ميشال كرم ، إصدار دار الفارابي2006 .
* مجلة الكلمة – العدد 56 ديسمبر 2011
.
وليم أدولف