أبو الفداء بن مسعود
النظر الثاقب فيما يجوز أن ينظر اليه الخاطب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
أما بعد،
فهذه رسالة موجزة في مسألة دقيقة من مسائل فقه النكاح، ألا وهي مسألة نظر الخاطب.. وهي في جزئية دقيقة بالذات من تلك المسألة، ألا وهي حدود نظر الخاطب وما يحل له النظر اليه من المرأة من أجل خطبتها.
وقد دعاني الى البحث في هذه المسألة، ما يراه بعض الاخوة من تمسك بعض الأخوات – هداهن الله – بمواقف متشددة في ذلك الباب بغير فقه ولا حجة ولا بينة، فترى الفتاة من جهلها قد تمتنع ورعا عن الظهور لخاطبها الا بالنقاب والحجاب الكامل، أو بأقل ما يمكن لها اظهاره من وجهها ان هي تنازلت ورضيت بالكشف عن شيء منه!! وقد تتحرى ألا تظهر له الا مرة واحدة وحسب، وتكره أن يطلب منها تكرار ذلك! أو قد تشترط عليه أن تصفها له والدته أو أخته دون أن يراها هو بعينيه! ولو أنه جاء يطلب أن يرى منها ما يزيد عن الوجه والكفين، (كأن يطلب النظر اليها حاسرة الرأس) انقلبت الدنيا عندها ولم تقعد، واحتجت بقول الجمهور في المسألة – تقليدا في أغلب الأحيان - وكأنه اجماع، ثم تراها يسوء ظنها بالرجل وكأنه لا يطلب طلبا كهذا الا رجل فاسق ذاهب المروءة والعدالة، ولا حول ولا قوة الا بالله!
ولعل السبب في ذلك الغلو من قبل بعض الأخوات – من قلة الفقه والنظر – يكمن في حرصهن على مخالفة ما غلب وفشا من المفاسد في أكثر بلاد المسلمين في موضوع الخطبة بين الشاب والفتاة، حتى انك لترى الناس تبيح للخاطب من مخطوبته أمورا لا تباح الا للرجل من امرأته، كالخلوة بها أو الخروج معها للنزهة وغيرها، أو المزاح واللعب والامساك بيدها وما الى ذلك. ولو أنهن تأملن ونظرن في كلام أهل العلم وفي أدلة مسألة نظر الخاطب، لوجدن أنه وان وجد خلاف بين الفقهاء في حدود ما يباح للخاطب النظر اليه منها تفصيلا، الا أنهم مجمعون على أن ذلك النظر بالجملة مباح على خلاف الأصل – لوجود الحاجة أو الضرورة الداعية اليه - ولا حرج فيه وعلى أن مقصده الشرعي هو أن يرى الخاطب من المرأة ما يرغبه في نكاحها. وكذا فلو أنهن تفقهن في المسألة لفهمن أنه لا دخل لها على الاطلاق بتلك المخالفات والتجاوزات التي تقع في كثير من بلاد المسلمين تحت صفة "الخطوبة"!
وكم من فتاة طيبة على دين وخلق، ضيعت على نفسها فرصة الزواج من شاب حسن الديانة والخلق، لا لشيء الا لأنها تأبى عليه – من جهلها - أن يرى منها ما أباح له الشرع أن يراه في حال الخطبة، فتحرمه من أن يرى منها ما يرغبه فيها، وقد أباحه الشرع له أن ينظر اليه، ظنا منها بأنها بذلك تكون على عفاف وخلق، وبأنه اذ يريد منها ذلك فانه لا مروءة فيه ولا حياء، فالله المستعان!
وحتى لا نطيل، فسنمضي بحول الله الى دراسة أقوال أهل العلم والنصوص الثابتة في تلك المسألة، ثم نرجح من بين تلك الأقوال ما يظهر صوابه، والله تعالى أعلم بالصواب وهو المسؤول أن يسدد عملنا لما فيه الخير، وأن يرزقنا الاخلاص في القول والعمل..
آمين.
أقوال الفقهاء في المسألة وحججهم فيما ذهبوا اليه:
أولا: الاقتصار على الوجه والكفين، وهو قول الجمهور (الشافعية والمالكية والحنفية)
المالكية: قال في حاشية الدسوقي "وَقَوْلُهُ وَكَفَّيْهَا أَيْ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا فَالْمُرَادُ يَدَيْهَا لِكُوعَيْهَا وَإِنَّمَا أُذِنَ لِلْخَاطِبِ في نَظَرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِأَنَّ الْوَجْهَ يَدُلُّ على الْجَمَالِ وَعَدَمِهِ وَالْيَدَانِ يَدُلَّانِ على خَصَابَةِ الْبَدَنِ وَطَرَاوَتِهِ وَعَلَى عَدَمِ ذلك" اهـ. (2/215)
الشافعية: قال صاحب حاشية اعانة الطالبين: "( قوله ليعرف جمالها ) علة لنظره وجهها ( قوله وكفيها ) معطوف على وجهها أي وينظر كفيها. وقوله ليعرف خصوبة بدنها علة له والخصوبة النعومة. وفي الخطيب والحكمة في الاقتصار على الوجه والكفين أن في الوجه ما يستدل به على الجمال وفي اليدين ما يستدل به على خصب البدن " اهـ. (3/257)
وقال صاحب حاشية البجيرمي: "ثُمَّ الْمَنْظُورُ مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَلَا يُنْظَرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقِيلَ يُنْظَرُ إلَى الْمَفْصِلِ وَقِيلَ يُنْظَرُ إلَيْهِمَا نَظَرَ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ ا هـ قَوْلُهُ : ( وَالْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ أَيْ مِنْ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَقَدْ يُقَالُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ تُوجَدُ فِي الْأَمَةِ فَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ مِنْ الْأَمَةِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ كَالْحُرَّةِ لِلْحِكْمَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ لَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهَا" (10/88)د
وقال الشربيني الشافعي في مغني المحتاج: "( ولا ينظر ) من الحرة ( غير الوجه والكفين ) ظهرا وبطنا لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المشار إليها في قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } والحكمة في الاقتصار على ذلك أن في الوجه ما يستدل به على الجمال وفي اليدين ما يستدل به على خصب البدن" (3/128)
الحنفية: قال الكاساني في بدائع الصنائع: "إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ كان عن شَهْوَةٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ تَقْدِيمِ النَّظَرِ أَدَلُّ على الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ على ما قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ رضي اللَّهُ عنه حين أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً اذْهَبْ فَانْظُرْ إلَيْهَا فإنه أَحْرَى أَنْ يدوم ( ( ( يؤدم ) ) ) بَيْنَكُمَا" (5/122)
ثانيا: الاقتصار على ما يظهر من المرأة غالبا، (الوجه والكفان والقدمان والرقبة) وهو قول الحنابلة.
قال الحجاوي في زاد المستقنع: "وله نظر ما يظهر غالبا "مرارا" بلا خلوة." (1/161)
وقال البهوتي في الروض المربع: ""و" يباح "له" أي لمن أراد خطبة امرأة وغلب على ظنه إجابته " نظر ما يظهر غالبا" كوجه ورقبة ويد وقدم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" رواه أحمد وأبو داود "مرارا" أي يكرر النظر "بلا خلوة" إن أمن ثوران الشهوة ولا يحتاج إلى إذنها" (1/332)
وقال مجد الدين بن تيمية في المحرر: "ويجوز لمن أراد خطبة امرأة أن ينظر إلى ما يظهر منها غالبا كالرقبة واليد والقدم" (2/13)
وقال ابن قدامة في المغني: "لا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها وقد [ روى جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل قال فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها ] رواه أبو داود وفي هذا أحاديث كثيرة سوى هذا ولأن النكاح عقد يقتضي التمليك فكان للعاقد النظر إلى المعقود عليه كالنظر إلى الأمة المستامة" (7/453)
وقال: "وله أن يردد النظر إليها ويتأمل محاسنها لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك" (7/453)
ثالثا: التوسع فيما شاء النظر اليه منها، عدا العورة المغلظة. وهو قول الظاهرية.
وهو قول داود وابن حزم،
جاء في المحلى: "ومن أراد أن يتزوج امرأة حرة أو أمة، فله أن ينظر منها متغفلاً، وغير متغفل إلى ما بطن منها وما ظهر" (11/219)
قال الشوكاني في نيل الأوطار: "فذهب الأكثر إلى أنه يجوز إلى الوجه والكفين فقط وقال داود يجوز النظر إلى جميع البدن وقال الأوزاعي ينظر إلى مواضع اللحم وظاهر الأحاديث أن يجوز له النظر إليها سواء كان ذلك بإذنها أم لا" (6/170)
فأما النصوص فمنها:
-حديث الواهبة عن سهل بن سعد الساعدي والمتفق عليه، "أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، جئت لأهب لك نفسي ، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد النظر إليها وصوبه ، ثم طأطأ رأسه" واللفظ للبخاري.
-حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما، رواه الخمسة الا أبو داود، وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة 1523)
-حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم وغيره قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم . فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنظرت إليها ؟ " قال : لا . قال : " فاذهب فانظر إليها . فإن في أعين الأنصار شيئا " .
-حديث جابر في سنن أبي داود أن النبي عليه السلام قال: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها (حسنه الألباني، ارواء الغليل 1791)
-حديث أبي حميد عن النبي عليه السلام أنه قال "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته" ، و إن كانت لا تعلم. (أخرجه وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد 4/279 والألباني في الصحيحة رقم 507)
-حديث محمد بن مسلمة عند ابن ماجة وعند البيهقي في السنن الكبرى من طريق سهل بن أبي حثمة أن النبي عليه السلام قال: "إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة ، فلا بأس أن ينظر إليها "، صححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم 1522، وفي الصحيحة رقم 98.
الترجيح..
الذي يظهر لنا والله أعلم هو قوة مذهب الحنابلة في النظر الى ما يظهر من المرأة عادة، كالوجه والرقبة واليد والقدم – وزاد بعضهم الساق - وليس الاقتصار على الوجه والكفين وفقط في كل حالة. وضابط الأمر ما يتحقق به مقصد النظر للخطبة، فان اكتفى الخاطب في ذلك بالوجه والكفين لم يكن له تجاوزهما، وان احتاج الى نظر الرأس والشعر، فلما فعل تحقق المقصود بذلك، لم يكن له أن يزيد عليه، لأن الأمر كله انما شرع بخلاف الأصل (وهو المنع) لقصد تبين حسن المخطوبة، ترغيبا للخاطب في نكاحها، كما سيأتي بيانه بحول الله.
وذلك يتبين بالنظر في النصوص الواردة في الباب، وفي حجج الأئمة والفقهاء رحمهم الله.
ومما يجدر ذكره ابتداءا، أنه قد وقع خلاف بين العلماء رحمهم الله فيما اذا كان هذا النظر عند الخطبة مستحبا أم مباحا، والظاهر والله أعلم أنه مستحب مندوب اليه. فالذين قصروه على الاباحة قالوا أنه جاء بعد عموم النهي والحظر في النظر، واذا جاء الأمر بعد الحظر فانه يكون أمر اباحة وليس للندب أو الاستحباب، والصواب أن هذه القاعدة ليست على اطلاقها، وانما يعتبر في ذلك بدلالة النصوص بمجملها، مع تبين العلة فيها، وعند استقراء النصوص يتبين أن الأمر للندب كما في حديث المغيرة، اذ قرر عليه السلام أن هذا النظر "أحرى لأن يؤدم بينكما".. وهذا مطلب مراد في كل حال وهو مقصد لا يحسن اهماله مع القدرة عليه..
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع على زاد المستقنع: " قوله: «وله نظر ما يظهر غالباً مراراً بلا خلوة» ، «وله» ، اللام للإباحة، والضمير يعود على من أراد خطبة امرأة، ولو قال: للخاطب، لكان أولى وأوضح، أي: ولمن أراد خطبة امرأة نظر... إلى آخره.
وظاهر كلام المؤلف هنا أن النظر للمخطوبة مباح وليس بمطلوب؛ وعلَّلوا كونه مباحاً أنه ورد بعد الحظر، فيكون مباحاً كالأمر بعد الحظر عند أكثر الأصوليين يكون للإباحة، ولكن العلماء ـ رحمهم الله ـ يعبرون بما يفيد الإباحة أحياناً لدفع توهم المنع، لا لإثبات الحكم المباح، مثلاً قالوا في باب الحج: ويجوز للقارن والمفرد أن يتحول إلى عمرة ليصير متمتعاً، مع أن الأمر سنة.
قال صاحب الفروع: لعلهم عبروا بالجواز لدفع قول من يقول بالمنع، فلا ينافي أن يكون مستحباً، فهنا قال: «وله نظر» فيحتمل أن المؤلف عبر بما يدل على الإباحة دفعاً لتوهم المنع، فلا ينافي أن يكون مستحباً، ولهذا نقول: يسن لمن أراد أن يخطب امرأة أن ينظر إلى ما يظهر غالباً، فإن كان المؤلف أراد دفع توهم المنع فلا إشكال، وإن كان أراد إثبات حكم الإباحة، فالمسألة فيها قول آخر وهو أنه سنة وهو الصواب، إلا إذا علم الإنسان بصفتها بدون نظر، فلا حاجة، كما لو أرسل امرأة يثق بها تماماً فإنه لا حاجة إلى أن ينظر.
على أنه في الحقيقة نظر الغير لا يغني عن نظر النفس، فقد تكون المرأة جميلة عند شخص وغير جميلة عند شخص آخر، وقد يرى الإنسان ـ مثلاً ـ المرأة على حال غير حالها الطبيعية؛ لأنه أحياناً يكون الإنسان في حال السرور وما أشبه ذلك له حال، وفي حال الحزن له حال، وفي الحال الطبيعية له حال أخرى، ثم إنه ـ أيضاً ـ بعض الأحيان إذا علمت المرأة أنه سينظر إليها أدخلت على نفسها تحسينات، فإذا نظر إليها ظن أنها جميلة جداً، وهي ليست كذلك.
وعلى كل حال نقول: إن ظاهر السنة أن النظر إلى المخطوبة سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر به وقال: «إنه أحرى أن يؤدم بينكما» (1) ، أي: يؤلف بينكما."
اهـ. الشرح الممتع (12/10)
وعند تأمل أحاديث الباب، نقول أن حديث الواهبة، نص على أنه عليه الصلاة والسلام صعد النظر اليها وصوبه، وليس في هذا دليل على أنه حصر نظره في الوجه والكفين وفقط،، فقد يقال أنه عليه السلام لما رأى أنها ليس فيما ظهر له منها – أيا كان – ما يعجبه، لم يتكلف النظر أو السؤال عن أكثر من ذلك.. فلو أن وجه المرأة – مثلا - لم يعجب الخاطب من بادي النظر فانه لن يحتاج الى تطلب ما هو أكثر من ذلك، وقد تحقق المراد في حقه اذ علم أنها لا تعجبه.
وأما حديث المغيرة بن شعبة وقول النبي عليه السلام له: " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، فانه أطلق فيه القول بالنظر، والمقام مقام حاجة الى البيان والضبط كما هو واضح فلا يصح فيه كتمان البيان عن وقت الحاجة، فلو أنه ليس له الا النظر الى الوجه والكفين منها وفقط، لم يسغ أن يكتم النبي عليه السلام بيان ذلك له اذ يأمره بالنظر "اليها" بهذا الاطلاق.
وأما حديث أبي هريرة وقول النبي عليه السلام " فاذهب فانظر إليها . فإن في أعين الأنصار شيئا"
فقد يقول فيه قائل أنه يبين أن المراد من النظر النظر الى الوجه بالذات لأنه تكلم عن شيء في العين.. ونقول أنه لا يلزم من ذلك التخصيص، والا لقيل أن المشروع والمقصود من النظر هو النظر الى العين وفقط دون غيرها، وهذا لا نعلم قائلا به! فلا يؤخذ من الحديث تقييد أو تخصيص، وانما هو تعليل لحالة بعينها.
وأما حديث جابر فهو أقوى ما رأيت دلالة على أن الأمر مناطه تحقق مقصد الترغيب في النكاح.. فان تحقق المقصد من النظر الى الوجه لم يجز مجاوزته لانتفاء العلة حينئذ والتي نقلت الحكم الى خلاف الأصل.. ذلك أن الرسول عليه السلام في رواية جابر يقول: " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " فكان الحد هو تحقق ما يكفي ليدعوه الى نكاحها.. فان لم يكفه الوجه في ذلك، فلينظر الى الرأس، وان لم تكفه اليد، فلينظر الى القدم.. وفي العادة فانه يكفي في ذلك النظر الى المرأة وهي فيما تظهر به بين محارمها، فالذي يظهر منها عادة – بحسب عادة السلف فهي الضابط – في بيتها وبين محارمها هو اليد والقدم وما قد يظهر من الساق، والرأس والشعر والرقبة.. وليس هناك دليل على أن جابرا لما تخبأ لها لينظر اليها عملا بهذا الحديث، كان يتحرى ألا ينظر الا الى وجهها وكفيها وفقط! بل لا يكون من التخبؤ فائدة أصلا لو كان لا يريد الا النظر الى الوجه والكفين!
ولو أن الخاطب المتخبئ لمخطوبته تمكن من رؤية رأسها حاسرة– مع أمن الفتنة، وربما بالاتفاق مع وليها من غير علمها – فبأي دليل يقال له أنه قد جاوز بذلك ما يبيحه الشرع له وهو الوجه والكفان فقط؟؟ وهل يطالب ان رآها حاسرة وهو مختبئ لها، بغض بصره عن ذلك حتى لا ينظر منها الى ما لا يجوز له النظر اليه؟؟ يحتاج صاحب هذه الدعوى الى دليل يخالف به عموم الحديث!
ومع ذلك فاننا نقول أن مبالغة الظاهرية في اطلاق ما له أن ينظر اليه منها حتى جعلوه جميع جسدها ما ظهر منه وما بطن هكذا باطلاق، انما هي مبالغة مردودة عند أصحاب المروءة والحياء قبل أن تكون مخالفة لما أجمع عليه الفقهاء.. فليس من المتصور بحال من الأحوال أن يذهب الرجل الى ولي المرأة ويطلب منه أن تخرج له عارية، أو أنه يتخبأ لها ليراها وهي تستحم – مثلا!! هذا أمر تأباه الفطرة ولا يتصور أن يبيحه الشرع الحكيم حتى للخاطب الذي يريد أن ينكح تلك المرأة! ونظر الخاطب الى ما يظهر من المرأة عادة – وهو ما تكلم به الحنابلة منها – تتحقق به الكفاية ولا يحتاج الرجل الى الزايدة على ذلك ليرى منها ما يرغبه في نكاحها! أما الصدر والبطن والأرداف والقبل والأفخاذ، وغير ذلك مما لا يظهر منها عادة بل وأكيره ليس لأحد أن يراه منها – اجماعا - الا حليلها.. هذه مواضع يؤدي النظر اليها الى اثارة الشهوة وليس الى تبين ما اذا كانت صورة المرأة تعجب الخاطب أو لا تعجبه! وجميع النساء يشتركن في اثارة الشهوة – بضرورة الخلقة - فيمن ينظر منهن الى تلك المواضع الا أن تكون المرأة مشوهة! والمقصد الشرعي انما هو تبين محاسن المرأة وليس التشهي بها!
قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم في ( باب ندب من أراد نكاح امرأة إلى أن ينظر إلى وجهها ) ( وكفيها قبل خطبتها ): "قوله صلى الله عليه و سلم للمتزوج امرأة من الانصار ( أنظرت اليها قال لا قال فاذهب فانظر اليها فإن في أعين الانصار شيئا ) هكذا الرواية شيئا بالهمز وهو واحد الأشياء قيل المراد صغر وقيل زرقة وفي هذا دلالة لجواز ذكر مثل هذا للنصيحة وفيه استحباب النظر إلى وجه من يريد تزوجها وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبى حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء وحكى القاضي عن قوم كراهته وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث ومخالف لاجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها ثم انه انما يباح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط لأنهما ليسا بعورة ولأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها هذا مذهبنا ومذهب الأكثرين وقال الأوزاعي ينظر إلى مواضع اللحم وقال داود ينظر إلى جميع بدنها وهذا خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والاجماع" اهـ.
قلت يفهم من كلام النووي رحمه الله أن هناك اجماعا على مشروعية النظر للخاطب وعلى وجود حد للناظر لا يجاوزه، أقله من المرأة الوجه والكفان (وهذا القدر لا خلاف في مشروعية النظر اليه)، أما ما زاد على الوجه والكفين في ذلك فهو ما وقع في تقرير حده الخلاف، والله أعلم.
فان قال قائل أن الحد هو العورة، قلنا أي عورة؟ عورة الصلاة؟ أم عورة النظر؟ وان كان فعورة نظر الرجل الى المرأة، أم نظر المرأة الى المرأة، أم عورة نظر المحارم الى المرأة؟ أيما تلك الضوابط والحدود اخترتم فعليكم تقديم البينة على جعلها هي ضابط النظر للخاطب، والنصوص دونكم ليس فيها من ذلك شيء، فليس لكم الى ذلك من سبيل! بل اننا نقول أنه على قول المانعين لكشف الوجه والكفين، والذين يدخلون الوجه والكفين في عورة المرأة، فانه لا فرق بين نظر الخاطب الى شعرها وساقها – مثلا – وبين نظره الى وجهها وكفيها، لأنها عندهم كل جسدها عورة بلا استثناء، والوجه يستوي في ذلك مع سائر الأعضاء! فلا فرق بين الوجه والرقبة، وبين الكف والقدم في ذلك! فان أجازوا له أن ينظر الى وجهها وكفيها، فبأي برهان منعوه من أن ينظر الى شعرها ورقبتها وقدمها وكذا، وهم لا فرق عندهم في الحكم بين أي عضو من أعضائها وما سواه من الأعضاء؟؟
أما قولهم بأن النظر الى الكفين يكفي لتبين نضارة وطراوة الجسد ونعومته وكذا، فهذا أمر ليس على اطلاقه وقد يتفاوت فيه الرجال، وليس فيه نص حتى يجزموا بأنه يكفي لكل ناظر في كل حالة لأن يحكم به على هذا الذي يقولون! كما أنه لا يخفى أن الوصول الى هذا الحكم على جسد المرأة من خلال حال الكف والأصابع انما يحتاج الى خبرة من الناظر في أجساد النساء لن تجدها متوفرة في أكثر الرجال! وهو تكلف لما قد يورث العنت اذ لا يفي بالمراد.
ولو كان النظر الى الوجه والكف يكفي، لما كان هناك من حاجة لأن يتخبأ جابر رضي الله عنه ليرى من مخطوبته ما رأى.. لا نقول بأنه تحرى أن يرى منها كل ما ذهب الظاهرية الى جواز رؤيته من المخطوبة، ولكن نقول بأنه لو كان يكفيه النظر الى الكف والوجه لتحقيق المراد، فلا يحتاج تحقيق ذلك المراد الى التخبؤ أصلا! فالوجه والكفين عند الجمهور ليسا بعورة.. فيمكن للخاطب أن يتحرى النظر اليهما منها دون حاجة الى أن يتخبأ لها، اذ لن يراها خارج بيتها غالبا الا وسيرى منها الوجه والكفين بسهولة ان أراد ذلك!
وقال بعض أهل العلم أن المقصد من التخبؤ لها في حديث جابر هو أن يرى منها محاسن سلوكها ومعاملتها للناس، هل تنظر الى الرجال أم لا، هل تذهب الى مواطن الشبهات، هل تخالط من ليس لها مخالطتهم من الرجال الاجانب، هل تمازحهم، هل كذا، هل كذا؟ ونقول أن ظاهر اللفظ لا يدل على هذا. فليس هو مقصد التخبؤ لها – وان كان من الممكن أن يدخل فيه ولا شك، ففي أي حال لو أنه رأى منها ما يريبه فانه سيدع الأمر كله.. وبما أن هذه المسائل السلوكية تحتاج عادة الى مراقبة طويلة للحكم عليها بانصاف، وفي الغالب فان المتقدم الى فتاة ليخطبها فانه سيكون قد أوفى ما يريد معرفته عن دينها وعن سلوكها من الثقات ممن يعرفونها سؤالا عنها من قبل، فان التخبؤ لهذا الغرض لن يكون له حاجة حينئذ! فكيف يفهم جابر من وصية النبي عليه السلام أنه يحتاج الى الرؤية بعينه لما يكفي فيه خبر الثقة العدل بشأنها؟ لولا أنه فهم أنه يحتاج الى النظر الى ما لا يغني خبر الثقة فيه عن رؤيته بالعين، لما أقدم على ذلك، ولكفاه وصف الواصفين لها ولسلوكها بل ولصورتها! فتعليلهم هذا واهن بعيد، مخالف لما يظهر من النص.
والحاصل أن الذي يظهر والله أعلم بالصواب، أن الضابط الأسلم في ذلك هو على وفق مذهب الحنابلة من عدم تقييد النظر بالوجه والكفين بالذات، بل يجعل حد ذلك هو ما يظهر من المرأة عادة في بيتها بين محارمها – على عادة السلف الصالح - ولا يزاد على ذلك، ولا يطُلب ما يجاوزه، لدلالة العادة على أن النظر الى هذا القدر من المرأة – يعني ما تكشفه في العادة في بيتها - لا يحتاج الخاطب الى تجاوزه لرؤية ما يرغبه في نكاحها..
الخلاصة:
قد تبين بحول الله وقوته أن نظر الخاطب الى المخطوبة طلبة مرغوبة وسنة مستحبة مندوبة، وليس حكمه عند حد الاباحة فحسب..
كما تبين أن قول الجمهور بأن حاجة الخاطب تندفع بمجرد النظر الى الوجه والكفين دون غيرهما، هو قول لا برهان عليه، وان صح في حق رجل بعينه او امرأة بعينها فلن يصح بالضرورة في سائر الناس.. بل قد يحتاج الخاطب الى أكثر من ذلك، تبعا لما يفهم من حديث جابر رضي الله عنه وغيره مما في الباب من الأدلة.. وعند التأمل فمن النساء من لا يظهر جمال وجهها الا بانكشاف شعرها – مثلا – فيكون من الخير لها والأعدل في حقها ألا تحرم الخاطب من رؤية حسن صورتها على نحوها الكامل، فيصد عنها من مجرد رؤية وجهها في الخمار، مع أنها قد تعجبه لو رآها حاسرة الرأس.
فتبين أن المذهب الذي ترتاح اليه النفس في ذلك – والله أعلم - هو جواز نظر الخاطب الى ما يظهر من المرأة على الحال الذي تكون عليه عادة في بيتها وسط محارمها، فينظر الى الوجه والشعر (الرأس) والرقبة والكفين والقدم وان ظهر له شيء من الساق فلا حرج، وهو مفهوم قول الحنابلة بأنه ينظر الى ما يظهر منها عادة، والله أعلى وأعلم بالصواب..
والذي أراه أوسط الطرق في ذلك في ظل أحوالنا وبيتونا في زماننا هذا، فأراه أسد للذرائع وأوفى للمراد والمقصود من النظر في الخطبة باذن الله، أن تحرص الفتاة من نفسها اذا ما علمت أن خاطبا سيأتي لزيارتها في بيتها – منفردا – لرؤيتها، أن تخرج له – في وجود أسرتها – حاسرة الرأس والرقبة، مكشوفة اليدين، برداء فضفاض، ولا تتكلف ستر قدميها بل تكون على ما تلبس في قدميها عادة في بيتها، ولا تزين شعرها بزينة مخصوصة وانما ترسله على طبيعته كما تكون في بيتها بين محارمها، ولا تتكلف أن تتزين في وجهها منعا لوقوع الغرر ولعدم الدليل على مشروعيته في تلك الحال، ولا تتطيب له لعدم الدليل على اباحة ذلك للخاطب تمييزا عن غيره من الرجال الأجانب، فيبقى على الأصل.. فان فعلت ذلك ونظر الخاطب الى هذا منها، فما أظنه سيحتاج الى أكثر من هذا ليتبين ما اذا كانت تعجبه أو لا تعجبه، بل هو كاف جدا – باذن الله – لتحقق المقصود.. ولو أنه احتاج لتكرار تلك الزيارة والنظر فله ذلك كما تقرر في كلام أهل العلم على نحو ما تقدم نقله، وهو فرصة للمخطوبة أيضا لأن تنظر اليه وتتبين المرة تلو المرة ان كان يعجبها.. فان قررت من الزيارة الأولى أنه لا يعجبها، انتهى الأمر ولا تكرار.
فلتدع الأخوات عنهن التشدد بالجهل، فما ظهر غلو ولا تشدد الا من جهل بالسنة المطهرة، وما يؤدي ذلك منهن الا الى فساد مقصد الخطبة نفسها وتعرض الخاطب للغرر بعد الزواج، ولا يخفى ما قد يسببه ذلك بعد الزواج من نفور بين الزوجين.. ونحن في زمان فتن، يحاصر الرجل بصور العري والتهتك في كل مكان، فان لم يجد في امرأته التي اختارها وهو راض بصورتها وخلقتها، ما يعلم أنه يغنيه عن النظر الى غيرها من النساء، ويكفيه لقضاء شهوته، فانه ستكون فتنة في الأرض وفساد عظيم! فلتعن الفتاة خاطبها على أن يرى منها ما يرغبه فيها، في حدود الشرع المطهر، ولا تتحرج من ذلك، فان ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم، أحرى أن يؤدم بينهما، والله نسأل أن يهدي المسلمين والمسلمات، وأن يوفقهم الى الحق والخير والبر في القول والعمل.. انه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه..
وأنهي هذه الرسالة عند هذا الحد، فما أصبت فيها فمن الله الكريم المنان وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وان كان نصيبي الخطأ فيما ذهبت اليه فالله أسأل ان أكون من أهل الأجر الواحد في ذلك،
والحمد لله رب العالمين.
.